اللطيف
كلمة (اللطيف) في اللغة صفة مشبهة مشتقة من اللُّطف، وهو الرفق،...
العربية
المؤلف | ملتقى الخطباء - الفريق العلمي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - الزهد |
وأقل ما في حب الدنيا أنه يلهي العبد عن ذكر الله وطاعته، ويوقعه في الشبهات, ثم في المكروهات, ثم في المحرمات, وطالما أوقع في الكفر والهلاك، لذلك نبّه النبي -صلى الله عليه وسلم- أصحابه أنه لا يخاف عليهم من الفقر، بل من الدنيا والتعلق بشهواتها...
الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي بفضله اهتدى المهتدون، وبعدله ضل الضالون، لا يُسأل عما يفعل وهم يسألون، لا رادّ لأمره، ولا معقّب لحكمه، وإذا قضى شيئًا فإنما يقول له كن فيكون. أحمده وأشكره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة أنزّهه بها عن ما يقول المبطلون، وأعظّمه بها عن ما يقول المشركون. وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن اتبع سنته واهتدى بهداه.
أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله حق التقوى، واحذروا من الميل إلى الدنيا ومحبتها وإيثارها على الآخرة، واعلموا أن حب الدنيا رأس كل خطيئة، وما سكنت الدنيا في قلب عبد إلا ابتلي بشغل لا ينفك عناؤه، وأمل لا يدرك منتهاه.
أيها الإخوة: إن العاقل من رضي بيسير الدنيا مع سلامة الدين، كما رضي أهل الدنيا بيسير الدين مع سلامة الدنيا, ومن لم يفعل ذلك طغى حب الدنيا عليه، وأدى به إلى أن يقع في حبائلها، وينال من شرورها، وإذا استولى حب الدنيا على قلب المرء أنساه ذكر ربه, وإذا نسي المرء ذِكر ربه أنساه تعالى نفسه؛ حتى يورده موارد العطب والهلاك. وعندها لا يكون له همّ إلا البحث عن الجاه العريض، والشهرة الواسعة، وإن كان على حساب الدين والفضيلة. وآخرون ليس لهم همّ سوى جمع الأموال، وتضخيم الثروات؛ حتى سلكوا في تحصيل ذلك مسالك مشبوهة، وسبلاً محرمة.
أيها المسلمون: حب الدنيا رأس كل خطيئة، والافتتان بها سبب لكل مصيبة، وموجب للإفلاس والخسارة في الدنيا والآخرة. وكم من الناس من جرّهم حب الدنيا والافتتان بها إلى ظلم الناس بالشتم، والقذف، وشهادة الزور، والضرب، والقتل؛ ليحصلوا على شيء من حطام الدنيا، ويعدون تحصيل ذلك شرفاً وربحاً، وهو في الحقيقة خسة وإفلاس وخزي وندامة يوم القيامة!!.
وإن كل خطيئة في العالم أصلها حب الدنيا، فجميع الأمم المكذبة للرسل والأنبياء إنما حملهم على كفرهم، وتسبب في هلاكهم حب الدنيا, فإن الرسل لما دعوهم إلى الإيمان، ونهوهم عن الشرك والمعاصي التي كانوا يكسبون بها الدنيا، حملهم حبّها على مخالفتهم وتكذيبهم.
وما سبب خطيئة آدم -صلى الله عليه وسلم- إلا حب الخلود في الدنيا، وذنب إبليس سببه الكبر وحب الرئاسة التي محبتها شر من محبة الدنيا وشهواتها، وبسببها كفر فرعون وهامان وجنودهما، وأبو جهل وقومه، واليهود وغيرهم.
أيها الإخوة: وأقل ما في حب الدنيا أنه يلهي العبد عن ذكر الله وطاعته، ويوقعه في الشبهات, ثم في المكروهات, ثم في المحرمات, وطالما أوقع في الكفر والهلاك، لذلك نبّه النبي -صلى الله عليه وسلم- أصحابه أنه لا يخاف عليهم من الفقر، بل من الدنيا والتعلق بشهواتها، فقال -صلى الله عليه وسلم-: "أبْشِرُوا وَأمِّلُوا مَا يَسُرُّكُمْ، فَوَالله لا الْفَقْرَ أخْشَى عَلَيْكُمْ، وَلَكِنْ أخَشَى عَلَيْكُمْ أنْ تُبْسَطَ عَلَيْكُمُ الدُّنْيَا، كَمَا بُسِطَتْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، فَتَنَافَسُوهَا كَمَا تَنَافَسُوهَا، وَتُهْلِكَكُمْ كَمَا أهْلَكَتْهُمْ" [متفق عليه: أخرجه البخاري].
أيها الإخوة: إن الذم الوارد في الكتاب والسنة للدنيا ليس راجعاً إلى زمانها الذي هو الليل والنهار، وليس الذم راجعاً إلى مكان الدنيا، الذي هو الأرض التي جعلها الله لبني آدم مهاداً وسكناً، وليس الذم راجعاً إلى ما أودع الله فيها من الجبال والبحار، والزروع والأشجار، والمعادن والبهائم، فهذه كلها خلقها الله لمنافع العباد. وليس الذم راجعاً إلى ما في الدنيا من تغير الأحوال من حر وبرد، وصيف وشتاء، وليل ونهار، ونور وظلام. فذلك كله نعمة من نعم الله على عباده، ينتفعون به، ويعتبرون به، ويستدلون به على وحدانية الله وقدرته. وإنما الذم راجع إلى أفعال بني آدم الواقعة على غير منهج الله ورسوله من كفر وشرك، وبدع وضلال، وسرقة وظلم، وقتل وفساد ونحو ذلك مما لا يحبه الله ولا رسوله.
فالدنيا لها حالتان: تارة تكون فتنة تلهي صاحبها عن الله والدار الآخرة فهي مذمومة. وتارة تكون زاداً إلى الآخرة، وعوناً للإنسان للاستقامة على الدين، فهي بهذا نعمة محمودة، ونعم المال الصالح للرجل الصالح.
أيها المسلمون: لا شك أن الله -سبحانه- حكيم عليم خلق الدنيا وزيَّنها, وأسكننا فيها وحذرنا منها، وخلق الآخرة وزينها بكل شيء ودعانا إليها, ورغَّبنا فيها كما قال -سبحانه-: (قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآَخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا) [النساء: 77]. فالدنيا وقتها قصير، وأمرها حقير، وكبيرها صغير، وغاية أمرها يعود إلى الرياسة والمال. وغاية ذي الرياسة أن يكون كفرعون الذي أغرقه الله في اليم انتقاماً منه. وغاية ذي المال أن يكون كقارون الذي خسف الله به الأرض لما آذى نبي الله موسى -صلى الله عليه وسلم-، وجحد فضل مَنْ رزقه.
عباد الله: إن من الحمق أن يملك الإنسان التطلع إلى الدنيا والآخرة معاً، وإلى ثواب الدنيا وثواب الآخرة معاً، ثم يكتفي بطلب الدنيا، ويضع فيها همه، ويعيش كالحيوانات والدواب والشياطين، بينما هو يملك أن يعيش كالإنسان، قدم يدب على الأرض، وروح ترفّ في السماء، وكيان يتحرك وفق أمر الله في هذه الأرض: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا) [النساء: 134].
وقد نهى الله -عزَّ وجلَّ- نبيه -صلى الله عليه وسلم- أن يمد عينيه إلى ما متع به أهل الدنيا فيها؛ فتنة لهم واختباراً، وأخبره أن رزقه الذي أُعد له في الآخرة خير وأبقى من هذا الذي مُتعوا به فقال -سبحانه-: (وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى) [طه: 131].
وأخبر -سبحانه- أنه آتى رسوله -صلى الله عليه وسلم- السبع المثاني والقرآن العظيم، وذلك خير وأفضل مما متع به أهل الدنيا في دنياهم, كما قال –سبحانه-: (وَلَقَدْ آَتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ * لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ) [الحجر: 87-88]، وإذا كان هذا الأمر موجهًا إلى سيد العالمين، وأفضل الزاهدين في الدنيا فما بالنا بنا وقد طغت علينا الدنيا.
نسأل الله السلامة والعافية، نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه وتوبوا إليه.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على ترادف آلائه ونعمائه، والشكر له على سابغ فضله وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشانه، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فيا عباد الله: اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون، ولا تكونوا ممن استولت عليهم الغفلة، واستحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله والدار الآخرة، وغرتهم الأماني الباطلة، والآمال الخادعة؛ حتى غدوا وليس لهم همّ إلا في لذات الدنيا وشهواتها، فكيف حصلت حصّلوها، ومن أي وجه لاحت أخذوها، وإذا عرض لهم عاجل من الدنيا لم يؤثروا عليه ثواباً من الله ورضواناً، (يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ) [الروم: 7].
أيها الإخوة: إن حب الدنيا رأس الخطايا ومفسد للدين من وجوه عديدة، ومن ذلك:
أن الله لعنها وأبغضها ومقتها إلا ما كان له فيها، ومن أحب ما لعنه الله ومقته وأبغضه فقد تعرض لغضبه ومقته ولعنته.
ومنها: أن حب الدنيا يقتضي تعظيمها وهي حقيرة عند الله، ومن أكبر الذنوب تعظيم ما حقّر الله.
ومنها: أن العبد إذا أحب الدنيا صيرها غايته، وتوسل إليها بالأعمال والطاقات التي جعلها الله وسائل إليه وإلى الدار الآخرة. فهذا عَكَس الأمر، وقَلَب الحكمة، وتردى في السفول، وهذا الذي قال الله عنه: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [هود: 15-16]، فيا بؤس من حمله حبه للدنيا على إيثارها على الآخرة.
ومنها: ما أصاب المجتمعات المسلمة -يا عباد الله- من جراء طغيان حب الدنيا عليهم, فاستجابوا لداعي الهوى، والنفس الأمارة بالسوء والفحشاء؛ حتى أدى بهم ذلك إلى شرب المسكرات، وتعاطي المخدرات، واقتراف الفواحش والمنكرات. وما أوقعهم في ذلك إلا طغيان حب الدنيا على نفوسهم حتى آثروها على الآخرة.
أيها المسلمون: ولا يعني هذا الكلام ذم الدنيا مطلقا؛ فالدنيا في الحقيقة لا تُذم لذاتها، وإنما يتوجه الذم إلى فعل العبد فيها، وهي قنطرة أو معبر إلى الجنة أو إلى النار. ولكن لما غلبت عليها الشهوات والحظوظ والغفلة، والإعراض عن الله والدار الآخرة، فصار هذا هو الغالب على أهلها وما فيها، وهو الغالب على اسمها، صار لها اسم الذم عند الإطلاق وإلا فالدنيا مبنى الآخرة ومزرعتها, ومنها زاد الجنة, وفيها اكتسبت النفوس الإيمان ومعرفة الله, ومحبة الله وذكره وابتغاء مرضاته.
وإن خير عيش يناله أهل الجنة في الجنة إنما كان بما زرعوه فيها, وفيها مساجد أنبياء الله, ومهبط وحيه, وبيوت عبادته, ومصلى ملائكته, ومتجر أوليائه, وفيها اكتسبوا رحمة الله, وربحوا فيها العافية, وفيها قرة العيون، وسرور القلوب، وبهجة النفوس، ولذة الأرواح بذكر الله ومعرفته، وعبادته ومحبته، والتوكل عليه، والإنابة إليه، والأنس به، ولذة مناجاته، والإقبال عليه, وفيها كلام الله ووحيه وهداه.
فالإيمان بالله، والطاعة لله ورسوله، وعبادة الله وحده لا شريك له، أفضل ما في هذه الدار، ودخول الجنة، والنظر إلى وجه الله -جل جلاله-، وسماع كلامه، والفوز برضاه، أفضل ما في الآخرة، ففي الدنيا أفضل الأسباب، وفي الآخرة أفضل الغايات. فهذا أفضل ما في هذه الدار, وهذا أفضل ما في الدار الآخرة.
أيها المسلمون: إن امتلاء القلب بحب الدنيا ينافي الشكر لله، ورأس الشكر تفريغ القلب لله منها ومن غيرها، فسبحان الغفور الشكور، يُطاع فيشكر، وطاعته من توفيقه وفضله، ويُعصى فيحلم، ومعصية العبد من ظلمه وجهله، يتوب إليه فاعل القبيح فيغفر له، حتى كأنه لم يكن قط من أهله.
وإن السعادة كلها في طاعته، والأرباح كلها في معاملته، والمحن والبلايا كلها في معصيته ومخالفته، فليس للعبد أنفع من شكره، والتوبة إليه.
وإذا أصبح العبد وأمسى وليس همه إلا الله وحده تحمّل الله -سبحانه- حوائجه كلها, وحمل عنه كل ما أهمه, وفرّغ قلبه لمحبته, واستعمل لسانه لذكره, واستخدم جوارحه لطاعته, وعمر أوقاته بامتثال أوامره.
وإن أصبح وأمسى والدنيا همه, حمّله الله همومها وغمومها, ووكله إلى نفسه, فشغل قلبه عن محبته بمحبة الخلق, ولسانه عن ذكره بذكرهم, وجوارحه عن طاعته بخدمتهم وقضاء أشغالهم, فهو يكدح كدح الوحش في خدمة غيره، نسأل الله السلامة والعافية.
اللهم إنا نسألك الجنة وما قرب إليها من قول أو عمل. اللهم ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار.
اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا, ولا مبلغ علمنا, ولا إلى النار مصيرنا, واجعل الجنة هي دارنا وقرارنا.