القدير
كلمة (القدير) في اللغة صيغة مبالغة من القدرة، أو من التقدير،...
العربية
المؤلف | مراد كرامة سعيد باخريصة |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - نوازل الأحوال الشخصية وقضايا المرأة |
ثم هناك مخارج أخرى بيد الناس، وأقرب جواب نسمعه أن المخرج هو الحوار، أقرب جواب نسمعه من كل من يفكر في حل الأزمة -أي أزمة كانت هذه أو غيرها- أن الحوار هو الكفيل لحل هذه الأزمة، وأقول: نعم، إن الحوار هو أرقى وسيلة وأسلمها للخروج من الأزمات، ولكن ما قبل الحوار أهم: على ماذا يؤسس الحوار؟! على ماذا يبنى الحوار؟! ما هي أهدافه؟! ما هي أسسه؟! ما هي مرجعيته؟! هذا هو المهم، وليس مجرد أن نقول: تعالوا نتحاور.
الخطبة الأولى:
أما بعد :
أيها الإخوة: إن الأزمة الطاحنة، والفتنة العمياء التي تمر بها البلاد، لا يمكن أن يتجاهلها أحد أو أن ينكرها أحد، وأبرز مظاهرها الفوضى العارمة التي يلمسها الجميع، والانفلات الأمني الذي لم يشهد له مثيل، وانقسام الناس إلى شيع وأحزاب متناحرة متخاصمة (كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ).
ظهر الشح المطاع، والهوى المتبع، وإعجاب كل ذي رأي برأيه، وأكبر من هذا أن نصبح تحت الوصاية، وأن يتحكم فينا أعداؤنا، وأن يحكمنا السفراء والمندوبون، نعم هذه حقائق ملموسة لا يكاد ينكرها أحد.. فما المخرج منها؟!
لا شك أن كل مصيبة لها سبب، وقد حكى الله وقرر السبب: (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ)، ورفع المحنة والمصيبة يكون بالتوبة والرجوع إلى الله -سبحانه وتعالى-: (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ).
ثم هناك مخارج أخرى بيد الناس، وأقرب جواب نسمعه أن المخرج هو الحوار، أقرب جواب نسمعه من كل من يفكر في حل الأزمة -أي أزمة كانت هذه أو غيرها- أن الحوار هو الكفيل لحل هذه الأزمة، وأقول: نعم، إن الحوار هو أرقى وسيلة وأسلمها للخروج من الأزمات، ولكن ما قبل الحوار أهم: على ماذا يؤسس الحوار؟! على ماذا يبنى الحوار؟! ما هي أهدافه؟! ما هي أسسه؟! ما هي مرجعيته؟! هذا هو المهم، وليس مجرد أن نقول: تعالوا نتحاور.
وقبل الحوار أسس وأمور يجب مراعاتها، بل يجب أن تتوفر، ولست محصياً كل ذلك، ولكن هذه أهمها وأبرزها:
الأول: الإرادة الصادقة للوصول إلى الحل من جميع المتحاورين، أما أن يدخل كل واحد وله أجندة يريد أن يحققها، وله هوى يريد أن يمشيه، وله غاية خاصة به يريد أن يفرضها على الناس، فهذا لا يمكن أن يثمر، ولا يمكن أن يؤدي إلى خروج الناس من الأزمة، بل سوف يؤجج الأزمة ويعمقها، وربما جرّ إلى ما نهرب منه وهو الحرب -والعياذ بالله- وقد قال الله -عز وجل- في إطار حوار يسير في الإصلاح بين الزوجين في أمر يسير محصور في أسرة أو أسرتين: (إِن يُرِيدَا إِصْلاَحاً يُوَفِّقِ اللّهُ بَيْنَهُمَا)، مفهوم المخالفة أن الذي يدخل في الحوار ولا يريد الإصلاح أنه لن يوفق ولن يصل إلى حل.
أما الأمر الثاني فهو: الحرية الكاملة في الحوار، وأن لا يكون علينا سلطة إلا لله الواحد القهار، فنحن عبيد لله، وسلطته وحده هي الحاكمة لنا، فمتى التزمنا بعبوديتنا لله وتحررنا من العبودية لغيره أفلحنا ونجحنا، ومتى دخلنا ونحن غير أحرار، ونحن مقيدون مكبلون بشروط يمليها علينا فلان أو علان أو الجهة الفلانية أو المنظمة الفلانية؛ فإننا لن نفلح ولن نصل إلى شيء، وللأسف الشديد اليوم الحوار فكرته غربية وتصميمه غربي وأهدافه كذلك، وربما نتائجه لمصلحة من وضعهم، فكيف يفلح وينجح حوار بهذه الصفة وقد قال الله -عز وجل-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاء مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وجب َمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ)، إذًا فيجب أن نتحرر من هذه الوصاية، وأن نكون أحرارًا فيما نريد، لا يحكمنا غير شرع الله -سبحانه وتعالى-.
أما الأمر الثالث فهو: إشراك الجميع، كل من تعنيه القضية أن يُشرك ولا يهمش أحد، والتهميش حينًا يكون بالتهميش الواضح وبالرفض الصريح، كما فعلوا مع العلماء؛ فإنهم رفضوهم رفضًا صريحًا وقالوا: لا يصلح أن يكون العلماء من ضمن المتحاورين؛ ولهذا دلالته ومعانيه، وستترتب عليه نتائج وخيمة، وبعض الناس ربما توضع له شروط يتعذر القبول بها، وبالتالي يهمشون بوجه أو بآخر، والذي يجب أن يشرك الجميع، وأن يتفاهم الجميع، وأن يتوافق الجميع؛ لأن الأمر يهم الجميع، والمخرج يجب أن يكون للجميع.
أما الأمر الرابع فهو: أن تحدد قضايا الحوار بدقة، وأن تكون مما يجوز الحوار عليه، أولًا: أن تكون القضايا مما يجوز الحوار عليها، أما أمـرٌ حرمه رب العالمين -سبحانه وتعالى- وقطع بحرمته فنتحاور: هل نبيحه أوْ لا نبيحه؛ فهذا أمر لا يكون، أو أمر أوجبه الله -عز وجل- علينا وتعبدنا به ونصوص كتابه صريحة فيه مثل: تحكيم شرع الله -عز وجل-، ووجوب التحاكم إليه، فلا يجوز أبدًا أن نتحاور: هل نفعل ما أمر الله به؟! أو نرفض ما أمرنا الله به؟! هذا أمر لا يكون، ولا يمكن أن يُقبَل به، ثم أن تكون تلك القضايا مما هي مصلحة للجميع ومخرج للجميع.
الأمر الخامس: أن تكون تلك القضايا مما تهم الجميع، تهم البلاد وتصب في مصلحة العباد، تحافظ على الكيان وعلى الأمة وعلى قيمها وأخلاقها ومصالحها ومكانتها وعزها ومجدها، وأن لا تكون فيما هو عكس ذلك، لا يجوز أن نتحاور على أمور هي من مصلحة أعدائنا، والإقرار بها هو تأكيد لتبعيتنا أو تعميق لاستغلال أعدائنا لنا، وترسيخ لمصالحهم في أنفسنا وفي أموالنا وفي بلادنا وفي قيمنا وفي ثرواتنا، لا يجوز أن نتحاور على أمر نخدم به أعداءنا أيًا كان.
الأمر السادس: أن تكون لدى المتحاورين القناعة التامة بالحوار وبأسسه وقضاياه وآلياته، ولديهم التسليم الكامل بنتائجه، أما من يدخل فقط لأجل الدخول أو لأجل المائة دولار التي تصرف له يوميًا أو لغير ذلك؛ فهذا لن يسهم في إنجاح شيء ولن يوصلنا إلى بر ولا إلى نتيجة.
أيضًا -وهذا مهم جدًا-: أن تحدد المرجعية التي نحتكم إليها، ونرجع إليها فيما نختلف فيه، وكما هو معلوم في هذا البلاد أننا مسلمون -عباد الله-، كتابنا هو القرآن، ونبينا هو محمد -صلى الله عليه وسلم-، ومرجعيتنا هي كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-، قال الله -تبارك وتعالى-: (وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللهِ)، لا إلى الأمم المتحدة، ولا إلى منظمة العفو، ولا منظمة حقوق الإنسان، ولا منظمات الشرق والغرب، ولا سفارات الشرق والغرب، ولا اتفاقيات ومبادرات أيًا كانت، المرجع الحق للمسلمين كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-: (وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللهِ)، وقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا).
ثامنًا: لا يجوز أن يُجبر أحد على الحوار، أو يهدد بالعقوبات المحلية أو الدولية ما دام اعتراضه مبنيًا على إخلال في ذات الحوار، أو في أسس الحوار، أو في آليات الحوار، من كان يرفض الحوار من الأصل فهذا جدير به أن يعاقب لأنه يريد الفتنة، لكن من يقول: أنا أحاور لكن على الأسس الصحيحة وعلى الضوابط الصحيحة وعلى المرجعية الصحيحة فكيف يقال لهذا: أنت متمرد!! وأنت يجب عقابك! لا يجوز، فإذا كان هذا الحوار بهذه الصفة وبهذه الأسس التي ذكرتها -ربما كان غيرها مهمًا لم يسعفنا الوقت لذكره- مادامت بهذه الصفة وبهذه الأسس فإنها لا غبار عليها، ولا يجوز التمرد عليها، ولا يجوز رفض مخرجاتها ولا رفض نتائجها، إنما الإشكال أن يؤتى أحيانًا بأمر مبهم لا يدرى ما حقيقته، أو ظاهر الانحراف، أو مختلط أو على أسس غير صحيحة، ثم يقال: هذا هو، خذه وإلا عاقبناك.
فنسأل الله -سبحانه وتعالى- أن يأخذ بيد الجميع لما فيه رضاه، وأن يسلك بنا سبيل الرشاد، إنه سميع مجيب، أقول قولي هذا وأستغفر الله فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
أيها الإخوة الكرام: أوصيكم ونفسي بتقوى الله...
ذكرنا أهم الأسس التي يجب أن يقوم عليها الحوار، ومتى ما توفر فإنه حوار مؤدٍّ إلى نتائج ومخرج من الفتنة، لكن حينما لا يكون هذا الحوار كذلك، حينما لا يقوم على الأسس التي سبقت، فمن حق أي فريق أن يرفض المشاركة فيه، وأن يرفض نتائجه أيضًا، نعم مادام أنه بُني على أمر غير صحيح فمن حق كل أحد أن يرفض بسبب الاختلال في أسسه، لا للهوى والشهوة، وكذلك لو فرض أنه استمر هذا الحوار وخرج بنتائج وهو على غير الأسس، هو مصر على تهميش الناس وعدم إشراكهم؛ فإن نتائجه لن تكون ملزمة، ولن يرضخ لها من هُمشوا، يجب على القائمين على الحوار أن يدركوا هذا، لكن -أيها الإخوة- كيف يكون الرفض؟! كيف يُعبر عن هذا الرفض؟! يجب أن تكون آلية من يرفض الحوار شرعية كما طالبنا أن يكون الحوار أصله على أسس شرعية وواقعية صحيحة تجعله يؤدي غرضه ويخرج الناس به من الفتنة، كذلك يجب أن لا تكون المعارضة له إلا على أسس شرعية وعلى ضوابط شرعية، وأن لا يتجاوز المنكرون له الحدود، أو يأتوا بما لم يأذن به الله، أو بما فيه الإضرار والتخريب وظلم الناس والتعدي على حقوقهم العامة أو الخاصة، يجب أن يكون التعبير عن الرفض بضوابطه الشرعية وبما يجيزه الشرع أو بما يتعارف عليه الناس، ويتفقون من خلال دساتيرهم وأنظمتهم المنظمة لذلك، هناك دستور ونظم تنظم كيفية الاعتراض لمن يرفض أي شيء، فيجب التقيد أولًا وقبل كل شيء بشرع الله، وأن لا نفعل منكرًا ونحن ننكر المنكر، بل يجب أن يكون أمرنا بالمعروف بالمعروف، ونهيُنا عن المنكر غير منكر، وأن يكون من يتصدى للإنكار يريد بذلك وجه الله ويريد بذلك المصلحة وليس لمجرد هوى، وليس لمجرد عصبية، وليس لمجرد موالاة لفلان أو معاداة لفلان، وإنما موالاةٌ ومعاداةٌ في الله، وغضب في الله، وغيرةٌ على حرمات الله، هذا في أي منكرٍ ينكره أي إنسان، فيجب التقيد والانضباط بهذه الضوابط.
أيضًا لا يجوز لأحد أن يجبر أحدًا على أن يعبر بتعبيره أو على أن يمثله فيما يريد أو يتابعه على ما يريد، فتعلمون أننا في هذا الزمن ليس لأحدٍ سلطة على أحد، والسلطة كما قلت: يجب علينا جميعًا أن تكون لله، وبالتالي يجب أن يكون لكل إنسان حريته، من أراد أن يشارك، من لم يرد المشاركة، كلٌ يقول ويريد ويعبر عما يريد، المهم أن يكون على إطار شرع الله -سبحانه وتعالى-، فلا يجوز أن نجبر الناس ولا أن نؤذيهم ولا أن ندخل معهم في صراع، ولا أن نعتدي على أحد، أقصد من يريد أن ينكر ويعبر عن إنكاره لا يجوز له أن يجبر الآخرين على السير وراءه، ولا أن يعتدي على أحد، لا في نفسه، ولا في ماله، ولا في عرضه، لا بالكلام ولا باللمز والهمز والطعن والقذف والتشهير، وإنما يكون الأمر كما ذكرنا بالأسس والضوابط الشرعية، وبالهدف العظيم، أن يكون مرادًا من ذلك وجه الله -سبحانه وتعالى- لا الأهواء ولا الشهوات ولا العصبيات، ولا أي شيء كان.
أسأل الله أن يرزقنا التعبد له حق العبادة، والتوقف عند حدوده كما يحب ويرضى ويأمر -سبحانه وتعالى-، وأن يأخذ بأيدينا لإصلاح أمرنا على ما فيه سعادة ديننا ودنيانا وآخرتنا.