الرقيب
كلمة (الرقيب) في اللغة صفة مشبهة على وزن (فعيل) بمعنى (فاعل) أي:...
العربية
المؤلف | خالد بن سعد الخشلان |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الدعوة والاحتساب |
أيها الإخوة المسلمون: يحزن المسلم لما أصاب المسلمين وأصابهم في بقاع شتى من الأرض، في سوريا الجريحة، وفي بورما، وأخيرا في أفريقيا الوسطى، حيث المآسي المتتابعة، والدماء النازفة، والأشلاء المتناثرة، والجثث المحروقة. إن ذلك كله وغيره يصور حالة الضعف والهوان والهزيمة التي يعيشها المسلمون اليوم، ليس في تلك البلدان وحدها فحسب، بل في...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، وصفيه وخليله، وأمينه على وحيه، وخيرته من خلقه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أئمة الهدى، ومصابيح الدجى، ومن تبعهم واكتفى، وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران: 102].
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء: 1].
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب: 70-71].
أما بعد:
فيا أيها الناس: أوصيكم ونفسي بتقوى الله -عز وجل-، والاستعداد لما أمامنا بالأعمال الصالحة، والإكثار من الطاعات، وسائر أنواع القربات.
واعلموا: أن الإنسان بعد مفارقة الدنيا لا ينفعه ماله ولا جاهه ولا سلطانه، وإنما ينفعه عمله الصالح، فنسأل الله -عز وجل- أن يوفقنا للأعمال الصالحة، نسأل الله -عز وجل- أن يوفقنا للأعمال الصالحة، نسأل الله -عز وجل- أن يوفقنا للاستزادة من القربات النافعة، وأن يختم لنا بخير ما ختم به لعباده وأوليائه الصالحين، إن ربي رحيم ودود.
أيها الإخوة المسلمون: يحزن المسلم لما أصاب المسلمين وأصابهم في بقاع شتى من الأرض، في سوريا الجريحة، وفي بورما، وأخيرا في أفريقيا الوسطى، حيث المآسي المتتابعة، والدماء النازفة، والأشلاء المتناثرة، والجثث المحروقة.
إن ذلك كله وغيره يصور حالة الضعف والهوان والهزيمة التي يعيشها المسلمون اليوم، ليس في تلك البلدان وحدها فحسب، بل في العالم بأسره.
والمسلمون كالجسد الواحد، قوة بعضهم قوة لجميعهم، وهزيمة بعضهم هزيمة لهم جميعا: (إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً) [الأنبياء: 92].
"مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالحمى والسهر".
هكذا يريدنا إسلامنا، هكذا يريد منا ديننا وعقيدتنا وكتاب ربنا -سبحانه وتعالى-، لا ما يريده منافقو الإعلام، ومحللو السياسة، ومتقنو الضجيج والصخب، هذا ما يريده ديننا وعقيدتنا وكتاب ربنا -عز وجل- أن نكون أمة واحدة: (إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً) [الأنبياء: 92].
المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها كالجسد الواحد، يتألم بعضهم لمصاب بعض، ويحزن بعضهم لمآسي بعض، ويسعى بعضهم لنصرة أخيه المسلم في كل مكان، بالدعم المادي والمعنوي، هذه هي عقيدة المسلمين: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ) [التوبة: 71].
إننا -أيها الإخوة المسلمون-: ونحن نتجرع قصص ما يصيب المسلمين اليوم من مصائب ومآسي وآلام تتقطع لها الأفئدة، وتتقرح لها العيون، إننا ونحن نشاهد على القنوات الفضائية، وشاشات التلفزة، وصفحات الجرائد، ما يتعرض له المسلمون في بقاع كثيرة من ظلم واعتداء صارخ من قبل أعدائهم؛ ينبغي لنا أن نعي أمورا كثيرة.
أن يعلم المسلم أولا: أن ما يقضيه الله -عز وجل- في خلقه، فإنه صادر عن مقتضى حكمته سبحانه، ورحمته عز وجل، لا يخلق ربنا -سبحانه وتعالى- شيئا سدى، ولا يقدم شيئا إلا رحمة بالعباد، فإن رحمته سبقت غضبه، ولا يقضي لعباده المؤمنين إلا ما هو خيرا لهم في دنياهم وآخراهم، فإن المؤمن إما أن يصاب بسراء ونعمة فيقوم بالشكر لله -تعالى-، فيكون ذلك خيرا له، وإما أن يصاب بضراء ونقمة، فيصبر على ذلك ويحتسب الأجر من الله -عز وجل-، ويعلم يقينا أن لله في ذلك من الحكمة ما لا تدركه العقول، ويكون بالصبر على المصائب به خيرا له في دنياه وآخره.
وقد يقدر الله الأمر يكرهه الناس، فينتج عن ذلك من المصالح ما تتبين به حكمة الله -تعالى- ورحمته: (وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ) [البقرة: 216].
فالمقاتل مثلا يحب الانتصار على عدوه، والظهور عليه، ولكن قد تأبى حكمة الله، فيغلب ويهزم، وينتصر عليه عدوه، فيكره ذلك، ولكن قد يكون في هذه الهزيمة في طياتها ومآلاتها ونهاياتها، قد يكون خيرا كثير تظهر نتائجه إما عاجلا وإما آجلا، وذلك أن الهزيمة تمحيص وابتلاء ليس لمن ابتلي بذلك التسلط من الأعداء وحده، بل لعامة المسلمين.
قد يكون المهزوم ومن وراءه من إخوانه المسلمين مسرفا على نفسه، مقصرا في حق ربه، فتكون الهزيمة تأديبا له، وتكفيرا لسيئاته، وقد يكون المهزوم ومن وراءه من إخوانه المسلمين مفتخرا بنفسه، معجبا بقوته الداخلية والخارجية، فيكتب الله عليه الهزيمة؛ ليعرف بذلك قدر نفسه، وأنه ضعيف لا حول ولا قوة له إلا بالله الذي بيده أّزِمة الأمور، ونواصي الخلق.
وقد يهزم الجنود بسبب تفرقهم واختلاف كلمتهم، فتكون الهزيمة سببا لمعرفة الداء الذي أصيبوا منه، فيسعون في إزالة هذا الداء، ويجمعون كلمتهم، ويوحدون صفوفهم، وقد بين الله -عز وجل- في كتابه الكريم في آيات تتلى إلى يوم القيامة في مواضع عديدة من كتابه بين هذه الأسباب الثلاثة للهزيمة؛ ليحذر المؤمنين منها إلى قيام الساعة.
في غزوة أحد حصل من بعض المسلمين مخالفة فيما أمروا أن يكونوا عليه، فحصلت الهزيمة عليهم، وأنزل الله -عز وجل- قرآنا يتلى إلى يوم القيامة: (أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ * وَلْيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُواْ وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ قَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَوِ ادْفَعُواْ قَالُواْ لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَّتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ)[آل عمران: 165-167].
وفي حنين أعجب المسلمون بكثرتهم، وكانوا اثني عشر ألفا، فقال قائلهم: "لن نغلب اليوم من قلة".
فقال تعالى مخبرا عن ذلك: (وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ * ثُمَّ أَنَزلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا وَعذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَذَلِكَ جَزَاء الْكَافِرِينَ * ثُمَّ يَتُوبُ اللّهُ مِن بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَن يَشَاء وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ)[التوبة: 25-27].
والحكمة في ذلك -أيها الإخوة المسلمون-: أن يعلم العباد أن النصر من عند الله وحده، لا يطلب النصر من غير الله -عز وجل-، وأن الأسباب ليست وحدها هي الكافية في الانتصار، ودفع الأعداء، خصوصا إذا افتخر العبد بها، ونسي أن الأمور كلها بإذن الله -تعالى-، وأن العبد إذا وكل إلى قوته، فإنما يوكل في الحقيقة إلى ضعف وعجز وعورة.
أما التنازع والتفرق والاختلاف، فهو أيضا من أعظم أسباب الهزيمة، يقول الله -عز وجل-: (وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ) [الأنفال: 46]
فإذا كانت هذه الأمور الثلاثة من أسباب الهزيمة؛ كما ذكر الله -عز وجل-، وحذر منها خير المؤمنين بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهم الصحابة الكرام فكيف بغيرهم؟!
إن الجنود المخلصين لابد أن يتأملوا الأسباب، ومن أين حصلت هزيمتهم، ثم يسعون في القضاء على الداء، فتكون النتيجة خيرا، ويكون المهزوم أوعى وأبعد نظرا مما كان قبل هزيمته، ويكون في الهزيمة من المصالح أضعاف أضعاف النصر.؛ يقول الله -تعالى-: (وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ)[البقرة: 216].
وقال تعالى: (فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا)[النساء: 19].
إن الإنسان قد يحب أن ينال شيئا من المال، ويطمع في ذلك ثم يصرف عنه، ولا يحصل له، فيندم على ذلك، ولكن عندما يراجع نفسه، يقول: "لعل الله صرفه عني لخير أراده لي ربي!".
فيزول ندمه، ويطمئن قلبه، ففوات المحبوب أين كان -أيها المسلم- قد يكون خيرا لك.
كما أن حصول المكروه قد تكون عاقبته خيرا ورشدا، والله -تعالى- يقدر هذا، ويقدر هذا، فمن وفق للرضا بقضاء الله وقدره نال الخير والطمأنينة، وراحة البدل، ومن فكر وكدر واعترض على القضاء، ولم يرض؛ أصابه القلق والهم.
وهذا كله -أيها الإخوة المسلمون-: لا ينافي البتة بذل الأسباب الشرعية، وبذل الأسباب المادية، لتحقيق المقصود، والوصول إلى الغايات والنتائج، وتحقيق الأهداف، وتأمل مواقع الخلل، ومواضع الانحراف لتلافيها، حتى يتحقق موعود الله بالنصر والظفر، وهو حاصل لا محالة لعباد الله المؤمنين، حاصل لا محالة، لا شك في ذلك ولا ارتياب، طال الزمان أم قصر: (وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَن يَكُونَ قَرِيبًا) [الإسراء: 51].
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا)[الطلاق: 12].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة، فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله القوي القهار، العزيز الجبار، يعلم ما في السماوات والأرض، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه، وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين.
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد رسول الله، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
وعليكم بجماعة المسلمين، فإن يد الله مع جماعة المسلمين، ومن شذ عنهم شذ في النار.
أيها الإخوة في الله: إن لله -سبحانه وتعالى- سنن ثابتة في الكون، سنن ثابتة في الخلق، من تمسك بها فاز فوزا عظيما، ومن أعرض عنها، ولم يعمل بموجبها ضل وأضل، وإن من سنن الله -عز وجل-: أن انهزام المسلمين أمام أعدائهم، إنما سبب ذلك الرئيس المسلمين أنفسهم، فعليهم أن يتهموا أنفسهم، ويقوموا مسيرتهم، ويزنوا أعمالهم بميزان الحق، وقد أخبر الله -عز وجل- المسلمين أن سبب هزيمتهم في أحد مع أن قائدهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هو أنفسهم
ومن سنن الله -عز وجل-: أنه سبحانه لا يسلب قوما نعمة أنعم بها عليهم، إلا إذا غيروا ما من الله به عليهم من إيمان وهداية وخير، قال الله -تعالى-: (ذَلِكَ بِأَنَّ اللّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ وَأَنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)[الأنفال: 53].
فسلفنا الصالح حين تمسكوا بنعم الله عليهم، وأهم هذه النعم: العقيدة الصحيحة، والأخلاق الفاضلة، والأعمال الصالحة، والحكم بما أنزل الله، ونبذ الفرقة والاختلاف، وأخذوا بكافة الأسباب الشرعية، التي جعلتهم خير أمة أخرجت للناس.
عند ذاك استحقوا بذلك نصر الله وتمكينه لهم في الأرض، ودانت لهم الأمم الشعوب شرقها وغربها، ثم جاء من بعدهم أقوام استبدلوا بما كان عليه الرسول -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه عقائد ومذاهب ضالة منحرفة، وتفرقوا شيعا وأحزابا، ورفعوا رايات الجاهلية، فأذلهم الله، وسلط عليهم حثالة الأمم، فاستباحوا بيضتهم، ونهبوا خيراتهم، ومسخوا عقول أبنائهم، غثاء كغثاء السيل، ولا يزال الأعداء يخططون، ويدبرون المؤامرات والمكائد، لإضعاف المسلمين، وتفريق كلمتهم، وشق صفهم، واستلاب أراضيهم، واستعمال خيراتهم ومواردهم.
لا يكل الأعداء ولا يملون في الوصول إلى هذه الغايات، يعملون بجد ونشاط، وإذا أراد المسلمون الخير والوحدة والتمكين والنصر على الأعداء، وصد هجومهم وعدوانهم، فعليهم أن يرجعوا إلى دينهم، عليهم أن يرجعوا إلى دينهم، وأن يراجعوا أنفسهم، عليهم أن يتخلقوا بأخلاق من سلف من هذه الأمة، ويبدؤوا بتغيير أنفسهم، ويربوا أنفسهم وشعوبهم على العقيدة الصحيحة، على الأخلاق الفاضلة، على الالتزام الحقيقي بالإسلام إلتزاما كاملا.
عليهم أن يطهروا مجتمعاتهم من المنكرات والموبقات، وعندها يحصل لهم ما وعد ربهم -عز وجل-: (وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ) [الروم: 47].
لا تستطيع قوة مهما عظمت، ومهما كثر عددها وعتادها، لن تستطيع هزيمة المسلمين متى ما كانوا أقوياء في دينهم، صحيحي العقيدة.
أيها الإخوة في الله: إن التغيير يبدأ من الأنفس، ولن يكون بكثرة الأنصار، وقوة الإعلام، وضجيج المصفقين، وامتلاء الساحات والشوارع بالجموع الغفيرة.
لقد كان قادة أمتنا الذين أعز الله بهم دينه، إذا تأخر عليهم فتح مصر من الأمصار، جمعوا جندهم، ووجهوا إليهم سؤالا لا ثالث لهما: ما السنن التي قصرتم في تطبيقها؟ وما المعاصي التي ارتكبها الجند؟
فكانوا يحاسبون أنفسهم، وكانوا يخشون من انتشار المعاصي بينهم أشد من خشيتهم من أعدائهم، وكان القائد أسوة حسنة لجنده في طاعة الله وخشيته ومراقبته والتزام دينه.
ولهذا كان النصر حليفهم في معظم المعارك التي خاضوها على الرغم من قلة عددهم وعتادهم، ما خاض المسلمون في تاريخهم المجيد معركة مع أعدائهم، وكانوا أكثر من أعدائهم عددا وعدة، بل كانوا أقل من أعدائهم عددا وعدة، ولكنهم يحملون ما هو أقوى وأفتك، إنه سلاح الإيمان، إنه سلاح العقيدة الصحيحة!.
اليوم يقرؤون قول الله -تعالى-: (ذَلِكَ بِأَنَّ اللّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ وَأَنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)[الأنفال: 53].
يقرؤون قول الله -تعالى-: (إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ)[الرعد: 11].
يقرؤون هذه الآيات وغيرها من آيات النصر والهزيمة والتغيير، ومع ذلك فلا تخالط هذه الآيات العظيمة شغاف قلوبهم، ولذلك يسندون ما أحل بهم من مصائب وبلايا بغيرهم، ويلقون بالمسئولية واللائمة على غيرهم، وينسى الجميع أن السبب الرئيس وراء كل مصيبة وبلية تحل بالمسلمين، إنما هو نفوسنا المريضة، وواقعنا المؤلم، وعلاقتنا الضعيفة بخالقنا وربنا -عز وجل-.
وصدق الله -عز وجل- إذ يقول: (وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ)[الشورى: 30].
أيها الإخوة المسلمون: إن مسئولية السعي لتحقيق النصر على الأعداء، ورد كيد المعتدين، وعدوان الظالمين، تقع على المسلمين جميعا في مشارق الأرض ومغاربها، تقع على الرعية كما تقع على الرعاة، تقع على الأفراد والشعوب كما تقع على القادة والحكومات.
إن المعادلة الحقة للنصر لا تخضع بالمعايير المادية، والتفوق في العدد والعتاد، وإن كان ذلك مطلوبا شرعا، ولكن لب المعادلة وجوهرها؛ يكمن في قوة الإيمان، وصحة العقيدة.
متى ما صحت العقيدة، وقوي الإيمان؛ تحقق نصر الله لا محالة: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ)[النور: 55].
فنسأل الله -عز وجل- أن يرحم ضعفنا وضعف المسلمين.
اللهم ارحم ضعفنا، وضعف المسلمين، وردنا إلى دينك ردا حميدا كريما، إنك على كل شيء قدير.
هذا وصلوا وسلموا على نبيكم محمد بن عبد الله، فقد أمركم ربكم بهذا في كتابه، فقال عز من قائل: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب: 56].
وقال عليه الصلاة والسلام: "من صلى علي صلاة صلى الله عليه بها عشرا".
اللهم صل وسلم وبارك...