البحث

عبارات مقترحة:

الملك

كلمة (المَلِك) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فَعِل) وهي مشتقة من...

الولي

كلمة (الولي) في اللغة صفة مشبهة على وزن (فعيل) من الفعل (وَلِيَ)،...

الودود

كلمة (الودود) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فَعول) من الودّ وهو...

خير يوم طلعت عليه الشمس

العربية

المؤلف هلال الهاجري
القسم خطب الجمعة
النوع نصي
اللغة العربية
المفردات الصلاة
عناصر الخطبة
  1. فضائل يوم الجمعة .
  2. عناية الشرع بصلاة الجمعة وخطبتها .
  3. من آداب وأحكام الجمعة .
  4. خصائص يوم الجمعة .

اقتباس

حديثُنا اليومَ عن خَيْرِ الأيامِ، وهو الذي قالَ عنه النبيُّ -صلى اللهُ عليه وسلمَ-: "‏خَيْرُ يَوْمٍ طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ يَوْمُ الْجُمُعَةِ، فِيهِ خُلِقَ ‏‏آدَمُ، ‏‏وَفِيهِ أُدْخِلَ الْجَنَّةَ، وَفِيهِ أُخْرِجَ مِنْهَا"، والذي يبدأُ بأحبِّ الصلواتِ عندَ اللهِ -عزَّ وجلَّ- كما في الحديثِ: "أَفضَلُ الصَّلَواتِ عِندَ الله -عَزَّ وجَلَّ- صَلاةُ الصُّبحِ يَومَ الجُمُعَةِ فِي جَماعَةٍ".

الخطبة الأولى:

الحمدُ للهِ مُقلِّبِ الأيامِ والشهورِ والسنينِ والدهورِ، كريم ودود غفور شكور، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهَ وحدَه لا شريكَ له، يعلمُ خائنةَ الأعينِ وما تُخفِي الصدورُ، وأشهد أنَّ محمَّدًا عبدُ اللهِ ورسولُه التقيّ الصّبور، دعا فأبلغْ، وبشَّر وأنذَر، وبلَّغَ رسالةَ ربِّه في جميعِ الأمورِ، فصلواتُ اللهِ وسلامُه عليه وعلى آلِه الميامينَ البُدورِ، وعلى أصحابِه أهلِ البرِّ والأجورِ، ومن تبِعهم بإحسانٍ ما سطَع ضياءٌ ولاحَ نورُ.

أما بعد:

(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ).

حديثُنا اليومَ عن خَيْرِ الأيامِ، وهو الذي قالَ عنه النبيُّ -صلى اللهُ عليه وسلمَ-: "‏خَيْرُ يَوْمٍ طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ يَوْمُ الْجُمُعَةِ، فِيهِ خُلِقَ ‏‏آدَمُ، ‏‏وَفِيهِ أُدْخِلَ الْجَنَّةَ، وَفِيهِ أُخْرِجَ مِنْهَا"، والذي يبدأُ بأحبِّ الصلواتِ عندَ اللهِ -عزَّ وجلَّ- كما في الحديثِ: "أَفضَلُ الصَّلَواتِ عِندَ الله -عَزَّ وجَلَّ- صَلاةُ الصُّبحِ يَومَ الجُمُعَةِ فِي جَماعَةٍ".

وفي صباحِ كلِّ جمعةٍ يكونُ للمخلوقاتٍ شأنٌ غَريبٌ، وتَرَقُّبٌ عجيبٌ، يقولُ -عليه الصلاةُ والسلامُ-: "وما من دابةٍ إلَّا وهيَ مُصيخةٌ -مُستَمعةٌ مُصغيةٌ- يومَ الجمُعةِ من حينِ تُصبحُ، حتَّى تطلعَ الشَّمسُ، إلَّا الإنسَ والجنَّ"، لماذا؟! "شفَقًا من السَّاعةِ"؛ لأنه قد جاءَ في الحديثِ: "وَلاَ تَقُومُ السَّاعَةُ إِلاَّ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ"، يترقبونَ النفخَ في الصُّورِ خوفاً من ذلك اليومُ الذي سيُحشرونَ فيه إلى خالِقِهم ومولاهم: (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ)، ثم يفصلُ بينَهم بالحقِّ، "حَتَّى يُقَادَ لِلشَّاةِ الْجَلْحَاءِ -أي التي ليسَ لها قرنٌ- مِنْ الشَّاةِ الْقَرْنَاءِ"، فإذا كانَ هذا الخوفُ وهذا القضاءُ ممن لم يُكلَّفْ، فكيفَ بك يا من حملتَ الأمانةَ، وسَتُسألُ عن مثقالِ الذَّرِّةِ في أيامِ زمانِه؟!

إن يومَ الجمعةِ هو عيدُ الأسبوعِ، فقد قالَ -عليه الصلاةُ والسلامُ-: "إِنَّ هَذَا يَوْمُ عِيدٍ جَعَلَهُ اللَّهُ لِلْمُسْلِمِينَ، فَمَنْ جَاءَ إِلَى الْجُمُعَةِ فَلْيَغْتَسِلْ، وَإِنْ كَانَ طِيبٌ فَلْيَمَسَّ مِنْهُ، وَعَلَيْكُمْ بِالسِّوَاكِ"، لذلك جاءَ الأجرُ الوفيرِ على من استعدَّ له بالاغتسالِ والطيبِ ولبسِ أحسنِ الثيابِ، كما قالَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "مَنِ اغْتَسَلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَمَسَّ مِنْ طِيبٍ إِنْ كَانَ عِنْدَهُ، وَلَبِسَ مِنْ أَحْسَنِ ثِيَابِهِ، ثُمَّ خَرَجَ حَتَّى يَأْتِيَ الْمَسْجِدَ، فَيَرْكَعَ إِنْ بَدَا لَهُ، وَلَمْ يُؤْذِ أَحَدًا، ثُمَّ أَنْصَتَ إِذَا خَرَجَ إِمَامُهُ، حَتَّى يُصَلِّيَ، كَانَتْ كَفَّارَةً لِمَا بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْجُمُعَةِ الأُخْرَى".

وقد يُزادُ له في الأجرِ لكمالِ إنصاتِه، وعدمِ تخطيِه لرقابِ المسلمينَ، كما جاءَ في الحديثِ: "وَرَجُلٌ حَضَرَهَا بِإِنْصَاتٍ وَسُكُوتٍ، وَلَمْ يَتَخَطَّ رَقَبَةَ مُسْلِمٍ، وَلَمْ يُؤْذِ أَحَدًا فَهِيَ كَفَّارَةٌ إِلَى الجُمُعَةِ الَّتِي تَلِيهَا، وَزِيَادَةِ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ، وَذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- يَقُولُ: "مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا".

في يومِ الجمعةِ، وعندَ بابِ كلِ جامعٍ تُقامُ فيه صلاةُ الجمعةِ، يقفُ ملائكةٌ كِرامٌ معَهم صُحُفٌ يكتبونَ فيها، فيا تُرى ماذا يكتبونَ؟! عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضيَ اللهُ عنه- قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إِذَا كَانَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ وَقَفَتْ الْمَلَائِكَةُ عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ يَكْتُبُونَ الْأَوَّلَ فَالْأَوَّلَ وَمَثَلُ الْمُهَجِّرِ -أي المُبَكِّرِ- كَمَثَلِ الَّذِي يُهْدِي بَدَنَةً، ثُمَّ كَالَّذِي يُهْدِي بَقَرَةً، ثُمَّ كَبْشًا، ثُمَّ دَجَاجَةً، ثُمَّ بَيْضَةً، فَإِذَا خَرَجَ الْإِمَامُ طَوَوْا صُحُفَهُمْ وَيَسْتَمِعُونَ الذِّكْرَ". فهل قدمتَ اليومَ بدنةً أم بيضةً؟! أم أن الملائكةَ طَوتْ صُحُفَها قبل أن تأتي ولم تُقدِّمْ شيئاً؟! بل قد جاءَ في أجرِ التبكيرِ إلى الجمعةِ ما لم يأتِ في غيرِه من الأعمالِ، اسمع إلى قولِه -عليه الصلاةُ والسلامُ-: "مَنْ غَسَّلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَاغْتَسَلَ، ثُمَّ بَكَّرَ وَابْتَكَرَ، وَمَشَى وَلَمْ يَرْكَبْ، وَدَنَا مِنْ الإِمَامِ فَاسْتَمَعَ وَلَمْ يَلْغُ؛ كَانَ لَهُ بِكُلِّ خُطْوَةٍ عَمَلُ سَنَةٍ أَجْرُ صِيَامِهَا وَقِيَامِهَا"، (ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ).

عبادَ اللهِ: لقد اعتنى الشرعُ بصلاةِ الجمعةِ عنايةً عظيمةً، فأمرَ اللهُ تعالى بالسعيِ لها وتركَ الدُنيا إذا أذَّنَ المؤذنُ، كما في قولِه سبحانَه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ)، وجاءَ الوعيدُ الشديدُ على مَن فرَّطَ فيها، فعنِ الْحَكَمِ بْنِ مِينَاءَ أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسٍ وَابْنَ عُمَرَ يُحَدِّثَانِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ وَهُوَ عَلَى أَعْوَادِ مِنْبَرِهِ: "لَيَنْتَهِيَنَّ أَقْوَامٌ عَنْ وَدْعِهِمُ -أي تَركِهم- الْجُمُعَاتِ أَوْ لَيَخْتِمَنَّ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَلَيَكُونُنَّ مِنَ الْغَافِلِينَ"، وجاءَ في الحديثِ الآخرِ أن هذه العقوبةَ فيمن تركَ ثلاثَ جُمَعٍ، كما في قولِه -عليه الصلاةُ والسلامُ-: "مَنْ تَرَكَ ثَلَاثَ جُمَعٍ تَهَاوُنًا بِهَا طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قَلْبِهِ"، فالحذارِ الحذارِ، (كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ).

فإذا جاءَ المسجدَ، صلى ما شاءَ اللهُ أن يصليَ، وليسَ للجمعةِ سُنةٌ قَبْليِّةٌ، بل كما جاءَ في الحديثِ: "ثُمَّ يُصَلِّي مَا كُتِبَ لَهُ"، ثم يقرأُ سورةَ الكهفِ، فقد جاءَ في فضلِ قراءتِها يومَ الجمعةِ قولُه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "مَنْ قَرَأَ سُوَرَةَ الْكَهْفِ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ أَضَاءَ لَهُ مِنَ النُّورِ مَا بَيْنَ الْجُمُعَتَيْنِ"، فيضيءُ له نورُ الهدايةِ والتوفيقِ من ربِّه حتى الجمعةِ القادمةِ، وكلنا يحتاجُ إلى حفظِ اللهِ تعالى وتوفيقِه في زمانٍ كَثُرتْ فيه الفِتنُ، وعظُمتْ فيه المِحَنُ.

فإذا جاءَ المُصلّي والمؤذِّنُ يؤذِّنُ بعد دخولِ الإمامِ، فإنه يُصلي ركعتينِ ولا ينتظرُ انتهاءَ المؤذِّنِ، وذلك لينتهيَ من صلاتِه قبلَ الخُطبَةِ؛ لأن الترديدَ خلفَ المؤذِّنِ سُنَّةٌ، وسماعَ الخُطبَةِ واجبٌ، وإن دخلَ والإمامُ يخطبُ، فإنه يُصلي ركعتينِ خفيفتينِ، جَاءَ سُلَيْكٌ الْغَطَفَانِيُّ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَرَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَخْطُبُ، فَجَلَسَ فَقَالَ لَهُ: "يَا سُلَيْكُ: قُمْ فَارْكَعْ رَكْعَتَيْنِ وَتَجَوَّزْ فِيهِمَا، ثُمَّ قَالَ: إِذَا جَاءَ أَحَدُكُمْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ وَلْيَتَجَوَّزْ فِيهِمَا". أي يُخفِّفْهما.

ومن آدابِ الجُمُعةِ: الإنصاتُ لخُطبةِ الإمامِ وعدمِ الكلامِ، فعن سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ أَخْبَرَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "إِذَا قُلْتَ لِصَاحِبِكَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ: أَنْصِتْ، وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ، فَقَدْ لَغَوْتَ"، وهذا في الأمرِ بالمعروفِ والنهيِ عن المنكرِ وحتى في ردِّ السلامِ وتشميتِ العاطسِ، فكيفَ بغيرِه من الكلامِ؟! عن أبي الدرداءِ -رضيَ اللهُ عنه- قالَ: جلسَ النبيُّ -صلى اللهُ عليه وسلمَ- على المنبرِ وخطبَ الناسَ وتلا آيةً وإلى جَنبي أُبيُّ بنُ كعبٍ فقلتُ له: يا أُبيُّ: متى أُنزلتْ هذه الآيةُ؟! فأبى أن يكلمَني، ثم سألتُه فأبى أن يكلمَني، حتى نزلَ رسولُ اللهِ -صلى اللهُ عليه وسلمَ-، فقالَ لي أبيٌّ: ما لَكَ من جُمعَتِك إلا ما لغوتَ، فلما انصرفَ رسولُ اللهِ -صلى اللهُ عليه وسلمَ- جئتُه فأخبرتُه، فقالَ: "صَدَقَ أُبيٌّ؛ إذا سمعتَ إمامَك يتكلمُ فأنصتْ حتى يَفرغَ".

بل ولا يجوزُ حتى الانشغال بما يصرفُ تركيزَ المُستمعِ عن الاستفادةِ من الخُطبةِ من اللَّعبِ بالسُبْحةِ أو الجوَّالِ ونحوه، كما جاءَ في الحديثِ: "وَمَنْ مَسَّ الْحَصَى فَقَدْ لَغَا".

وأما من جاءَ مُتأخراً، فإن أدركَ ركعةً مع الإمامِ فقد أدركَ الجُمُعةَ فيضيفُ إليها ركعةً واحدةً، كما قالَ -عليه الصلاةُ والسلامُ-: "من أدركَ ركعةً من الجُمُعةِ أو غيرها فلْيُضفْ إليها أخرى وقد تمتْ صلاتُه"، ومن جاءَ بعد الركعةِ الثانيةِ فإنه لم يُدركْ الجُمُعةَ، فيدخلُ مع الإمامِ ويُتِمُّها أربعاً بنيةِ صلاةِ الظُهرِ.

وإذا دعا الإمامُ في خُطبتِه فلا يُشرعُ له ولا للمستمعينَ أن يرفعوا الْيَدَيْنِ، فعَنْ عُمَارَةَ بْنِ رُؤَيْبَةَ -رضيَ اللهُ عنه-: أنه رَأَى بِشْرَ بْنَ مَرْوَانَ عَلَى الْمِنْبَرِ رَافِعًا يَدَيْهِ وَهُوَ يَدْعُو فِي يَوْمِ جُمُعَةٍ، فَقَالَ: "قَبَّحَ اللَّهُ هَاتَيْنِ الْيَدَيْنِ؛ لَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَا يَزِيدُ عَلَى أَنْ يَقُولَ بِيَدِهِ هَكَذَا". وَأَشَارَ بِإِصْبَعِهِ الْمُسَبِّحَةِ. وإنما يُشيرُ بأصبعِه فقط، وأما إذا استسقى الإمامُ في خُطبةِ الجمعةِ، شُرعَ له وللمأمومينَ رفعُ اليدينِ، فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رضيَ اللهُ عنه- قَالَ: "أَصَابَتْ النَّاسَ سَنَةٌ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَبَيْنَا النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَخْطُبُ فِي يَوْمِ جُمُعَةٍ قَامَ أَعْرَابِيٌّ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: هَلَكَ الْمَالُ، وَجَاعَ الْعِيَالُ، فَادْعُ اللَّهَ لَنَا، فَرَفَعَ يَدَيْهِ، وَرَفَعَ النَّاسُ أَيْدِيهمْ مَعَ رَسُول اللَّه -صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَدْعُونَ".

ثم إذا انتهى من صلاةِ الجمعةِ فإنه يصلي سُنَّةَ الجمعةِ أربعاً إذا صلاها في المسجدِ، لحديثِ: "إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ الْجُمُعَةَ فَلْيُصَلِّ بَعْدَهَا أَرْبَعًا"، ويُصليها اثنتينِ إذا صلاها في بيتِه، كما في حديثِ ابْنِ عُمَرَ -رضيَ اللهُ عنهما- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللهُ عليه وسلمَ- "كَانَ لاَ يُصَلِّى بَعْدَ الْجُمُعَةِ حَتَّى يَنْصَرِفَ، فَيُصَلِّى رَكْعَتَيْنِ".

أقولُ قولي هذا وأستغفرُ اللهَ العظيمَ لي ولكم من كلِ ذنبٍ فاستغفروه، إنه هو الغفورُ الرحيمُ.

الخطبة الثانية:

الحمدُ للهِ الذي خلقَ الزمانَ وفضَّلَ بعضَه على بعضٍ: (وربُّكَ يخلقُ ما يشاءُ ويختارُ)، والصلاةُ على المصطفى المختارِ وعلى آلِه وصحبِه الأخيارِ.

أما بعد:

ومن خصائصِ يومِ الجمعةِ، أنه لا يُخصُّ بصيامٍ لقولِه -عليه الصلاةُ والسلامُ-: "لا يَصومنَّ أحدُكم يومَ الجمعةِ إلا أن يصومَ يَومًا قبلَهُ أو يومًا بعدهُ"، ودخلَ يوماً على جُوَيريةَ بنتِ الحارثِ -رضيَ اللهُ عنها- يومَ الجمعةِ وهي صائمةٌ فقال: "أَصُمْتِ أَمْسِ؟!"، قالت: لا، قال: "فتُرِيدِينَ أَنْ تَصُومِي غَدًا؟!"، يعني: يومَ السبتِ، قالتْ: لا، قال: "فَأَفْطِرِي".

ولكن إن صامَه من غيرِ تخصيصٍ له -كالذي يَصومُ يومًا ويُفطرُ يومًا فيصادفُ صومُه يومَ الجمعةِ أو أن تكونَ الجمعةُ يومَ عرفةَ أو يومَ عاشوراءَ- فإن هذا لا بأسَ به، لقولِ النبيِّ -صلى اللهُ عليه وسلمَ- حين نهى عن صومِه: "إلا أن يكونَ في صومٍ يصومُه أحدُكُم".

وفِي الْجُمُعَةِ سَاعَةٌ لَا يُوَافِقُهَا عَبْدٌ مُسْلِمٌ قَائِمٌ يُصَلِّي فَسَأَلَ اللَّهَ خَيْرًا إِلَّا أَعْطَاهُ، وقد جاءَ فيها حديثُ ابنِ عمرَ -رضيَ اللهُ عنهما- أنها: "‏مَا بَيْنَ أَنْ يَجْلِسَ الْإِمَامُ إِلَى أَنْ تُقْضَى الصَّلَاةُ"، وجاءَ في حديثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ -رضيَ اللهُ عنه-: "هِيَ آخِرُ سَاعَةٍ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ"، فَقالَ له أَبُو هُرَيْرَةَ -رضيَ اللهُ عنه-: كَيْفَ هِيَ آخِرُ سَاعَةٍ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "لَا يُصَادِفُهَا عَبْدٌ مُسْلِمٌ وَهُوَ يُصَلِّي"، وَتِلْكَ السَّاعَةُ لَا يُصَلِّي فِيهَا؟! فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ: أَلَمْ يَقُلْ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "مَنْ جَلَسَ مَجْلِسًا يَنْتَظِرُ الصَّلَاةَ فَهُوَ فِي صَلَاةٍ حَتَّى يُصَلِّيَ؟!"، فَقُلْتُ: بَلَى، قَالَ: هُوَ ذَاكَ، فمن دعا بينَ الخُطبتينِ وفي صلاةِ الجمعةِ، ثم توضأَ قبلَ المغربِ ودخلَ المسجدَ في آخرِ ساعةٍ من يومِ الجمعةِ ودعا حتى يُؤذِّنَ للمغربِ فإنه يُصيبُ هذه الساعةِ التي يٌستجابُ فيها الدعاءُ، كذلك المرأةُ في بيتها إذا جلستْ تنتظرُ صلاةَ المغربِ في مُصلاها.

حتى الموت في يومِ الجمعةِ له مَزيَّةٌ على غيرِه من الأيامِ، كما قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَمُوتُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ أَوْ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ إِلا وَقَاهُ اللَّهُ فِتْنَةَ الْقَبْرِ".

وفي الجمعةِ موعظةٌ، يقولُ ابنُ رجبٍ -رحمَه اللهُ-: "كانَ بعضُهم إذا رجعَ من الجمعةِ في حرِّ الظهيرةِ يَذكرُ انصرافَ الناسِ من مَوقفِ الحسابِ إلى الجنةِ أو النارِ، فإن الساعةَ تقومُ في يومِ الجمعةِ ولا ينتصفُ ذلك النهارُ حتى يَقيلَ أهلُ الجنةِ في الجنةِ، وأهلُ النارِ في النارِ، قالَه ابنُ مسعودٍ وتلا قولَه: (أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا)".

وأكثروا من الصلاةِ والسلامِ على نبيِّكم محمدٍ -صلى اللهُ عليه وسلمَ- ولا سيما في يومِ الجمعةِ، ابتغوا بذلك فضلَ اللهِ -عزَّ وجلَّ-، وامتثالَ أمرِه في قولِه: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا).

اللهم صلِّ وسلم على عبدِك ورسولِك محمدٍ، اللهم ارزقنا محبتَه واتباعَه ظاهراً وباطناً، اللهم توَّفنا على ملتِه واحشرنا في زمرتِه، اللهم اسقنا من حوضِه، اللهم أدخلنا في شفاعتِه يا ربَّ العالمينَ.