السبوح
كلمة (سُبُّوح) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فُعُّول) من التسبيح،...
العربية
المؤلف | ياسر بن محمد بابطين |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الدعوة والاحتساب |
ما أعظمه من أجر! وما أجزله من ثواب! تعين على حفظ آية من كتاب الله، فيكون في ميزانك أجر تلاوتها كلما تليت، ربما تكون، أو تكونين بين المغرب والعشاء في البيت، أو في السوق، أو في أودية الدنيا، تستمتع من حلالها الفاني، وعداد حسناتك يعمل كما لو كنت في المسجد تقرأ القرآن، فكيف لو كان لك أجر عشرة حفاظ أو عشرين؟! إنهما النعمتان اللتان لا يحسد إلا من ظفر بهما، ذاك يتلوه، وهذا له مثل أجره، وصدق...
الخطبة الأولى:
أما بعد:
فاتقوا الله -عباد الله-: عضّوا بالنواجذ على حبله المتين، ونوره المبين، استمسكوا بكتابه، واستنّوا بهدي حبيبه.
أيها المؤمنون: أخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : "إن لله ملائكة يطوفون في الطرق يلتمسون أهل الذكر، فإذا وجدوا قوما يذكرون الله تنادَوا: هلمّوا إلى حاجتكم، فيحفونهم بأجنحتهم إلى السماء الدنيا، فيسألهم ربهم وهو أعلم منهم: ما يقول عبادي؟ فيقولون: يسبحونك ويكبرونك ويحمدونك ويمجدونك، فيقول: هل رأوني؟ فيقولون: لا والله ما رأوك.
فيقول: وكيف لو رأوني؟ فيقولون: لو رأوك كانوا أشد لك عبادة وأشد لك تمجيدا وأكثر لك تسبيحا، فيقول: فما يسألونني؟ فيقولون: يسألونك الجنة، فيقول: وهل رأوها؟ فيقولون: لا والله يا رب ما رأوها، فيقول: فكيف لو أنهم رأوها؟ فيقولون: لو أنهم رأوها كانوا أشد عليها حرصا وأشد لها طلبا وأعظم فيها رغبة، فيقول: فمِمَّ يتعوَّذون؟ فيقولون: منَ النار، فيقول: وهل رأوها؟ فيقولون: لا والله يا رب ما رأوها، فيقول: فكيف لو رأوها؟ فيقولون: لو رأوها كانوا أشدَّ منها فرارا وأشدَّ لها مخافة، فيقول: فأشهدكم أني قد غفرت لهم".
هذه رحمة من الرحمات التي تغشى حلقات تحفيظ القرآن كل ليلة بين المغرب والعشاء، كلما اجتمعوا يتكرر هذا الحوار الجليل، ويُختتم بفيض الإحسان وعطاء المنان: "أشهدكم أني قد غفرت لهم".
كلما اجتمعوا على مأدبة الله: "وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده"[رواه مسلم].
إنهم العاكفون على كتاب ربهم، يردّدون آياته فيحفظونها، ويتعلمون تلاوته ويتقنونها، يتغنون بخير الكلام يوم تشاغل غيرهم بغيره، و"ليس منا من لم يتغن بالقرآن"[رواه البخاري].
ألسنتهم رطبة بذكر الله، أفواههم معطرةٌ بكلام الله، جلودهم في مأمن من عذاب الله، فقد روى الإمام أحمد عن عقبة بن عامر أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "لو جعل القرآن في إهاب، ثم ألقي في النار ما احترق"[حسنه الألباني].
قال أبو أمامة: "إن الله لا يعذب بالنار قلبًا وعى القرآن".
إنهم أسعد الناس بصحبة القرآن، يقرؤونه في كلّ أحوالهم، قياما وقعودا وعلى جنوبهم، أنى كانوا وحيث توجهوا، في البيت والسيارة، وفي أوقات الانتظار، وحين يزدحم الطريق، أو يطول المشوار، في الليل والنهار.
إن مثلهم ومثلَ من لا يحفظ القرآن كمثل مسافرين:
الأول: زاده التمر، والآخر زاده الدقيق، فالأول متى ما جاع أخذ التمر وأكل.
والثاني: لا بد له من النزول والعجن وإيقاد النار والخبز والانتظار، ولربما استثقل هذه الأعباء، فآثر الجوع، فحافظ القرآن متى اشتاق ترنم، ومتى ضاق تنسّم، خير ما في الدنيا مجموع في صدره، نعيم الحياة ولذتها بين جنبيه، علمه وسعادته وهداه ولذته وأنسه بين عطفيه.
إنهم الذين أوتوا العلم: (بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) [العنكبوت: 49].
حفظ الله بهم كتابه، وثبت حجته، فقال في الحديث القدسي: "إنما بعثتك لأبتليك، وأبتلي بك، وأنزلت عليك كتابًا لا يغسله الماء، تقرؤه نائمًا ويقظان"[رواه مسلم].
قال النووي: "معناه محفوظ في الصدور لا يتطرق إليه الذهاب، بل يبقى على مرّ الزمان".
إنهم الرجال حقًّا وإن كانوا صغارا : (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ * رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأبْصَارُ * لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ)[النــور: 36-38].
إنهم المقتفون أثر سيد المرسلين الذي كان يحفظ القرآن عن ظهر قلب، ويراجعه مع جبريل -عليه السلام-، ويترنم به آناء الليل، وأطراف النهار.
يصلون المغرب ثم يجلسون ينتظرون العشاء، فتصلي عليهم الملائكة، فعن أبي هريرة مرفوعا: "فإذا صلى لم تزل الملائكة تصلي عليه: اللهم صل عليه اللهم ارحمه، ولا يزال أحدكم في صلاة ما انتظر الصلاة"[رواه البخاري].
إنهم أحق الناس بالإمامة، فقد روى الإمام مسلم عن أبي مسعود الأنصاري قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : "يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله".
المقدّمون حتى على من هو أكبر سنا، وأكثر فقها، وأشرف نسبا، وأوجه مكانة، فعن عمرو بن سلمة قال: كان أبي وافدا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- -صلى الله عليه وسلم- في نفر من قومه، فعلمهم الصلاة، فقال: "يؤمكم أقرؤكم".
"وكنت أقرأهم لما كنت أحفظ، فقدموني فكنت أؤمهم، وأنا ابن سبع سنين أو ثمان سنين"[رواه أحمد وأبو داود والنسائي وصححه الألباني].
وروى البخاري عن ابن عمر قال: "لما قدم المهاجرون الأولون العصبة ـ موضع بقباء ـ قبل مقدم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يؤمّهم سالم مولى أبي حذيفة، وكان أكثرهم قرآنا".
وهم المقدَّمون في الدفن أيضا، فعن هشام بن عامر، قال: لما كان يوم أحد أصاب الناس جهد شديد، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم- : "احفروا وأوسعوا وادفنوا الاثنين والثلاثة في قبر" قالوا: يا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ، فمن نقدم؟ قال: "قدِّموا أكثرهم قرآنا"[رواه أبو داود والنسائي وصححه الألباني].
وهم الذين جعل الله إكرامهم من إجلاله -جل في علاه-؛ فعن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : "إن من إجلال الله إكرامَ ذي الشيبة المسلم، وحاملِ القرآن، غير الغالي فيه، والجافي عنه، وإكرامَ ذي السلطان المقسط"[رواه داود وحسنه الألباني].
وصدق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : "إن الله يرفع بهذا الكتاب أقوامًا، ويضع به آخرين"[رواه مسلم].
ولكنهم في الآخرة أعظم رفعة، وأكثر حظوة عند الله: (وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً)[الإسراء: 21].
عن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "يقال لصاحب القرآن: اقرأ وارق ورتل كما كنت ترتل في الدنيا، فإن منزلتك عند آخر آية تقرؤها"[رواه أحمد وأبو داود والترمذي وصححه الألباني].
قال ابن حجر الهيتمي: "الخبر خاص بمن يحفظه عن ظهر قلب؛ لأن مجرد القراءة في الخط لا يختلف الناس فيها".
وعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : "الذي يقرأ القرآن وهو ماهر به مع السفرة الكرام البررة، والذي يقرأ القرآن ويتتعتع فيه وهو عليه شاق فله أجران"[متفق عليه].
وعن أبي هريرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "يجيء القرآن يوم القيامة فيقول: يا ربِّ حلّه، فيلبس تاج الكرامة، ثم يقول: يا ربِّ زده، فيلبس حُلة الكرامة، ثم يقول: يا ربِّ ارض عنه، فيرضى عنه، فيقال له: اقرأ وارق وتزاد بكلِّ آية حسنة"[رواه الترمذي وحسنه الألباني].
ولك أن تتأمل هذا المشهد العجيب، وتتأمل تلك الحفاوة العظيمة التي تتلقى حافظ القرآن، ووالديه معه يوم القيامة، عن أبي هريرة عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- -صلى الله عليه وسلم- قال: "يجيء القرآن يوم القيامة كالرجل الشاحب يقول لصاحبه: هل تعرفني؟ أنا الذي كنت أسهر ليلك و أظمئ هواجرك، وإن كلَّ تاجرٍ من وراء تجارته، وأنا لك اليوم من وراء كل تاجر، فيعطى الملك بيمينه والخلد بشماله، ويوضع على رأسه تاج الوقار، ويكسى والداه حلتين لا تقوم لهم الدنيا وما فيها، فيقولان: يا رب، أنّى لنا هذا؟ فيقال: بتعليم ولدكما القرآن"[رواه الطبراني وصححه الألباني].
وفي رواية أحمدَ عن بريدة: "ثم يقال: اقرأ واصعد في درج الجنة وغرفها، فهو في صعود ما دام يقرأ".
إنهم أولى الناس بشفاعة القرآن؛ لأنهم أكثر الناس تلاوة له، عن أبي أمامة قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "اقرؤوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعًا لأصحابه"[رواه مسلم].
ويكفيهم من كل ذلك أنهم أهل الله وخاصته، فعن أنس بن مالك قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : "إن لله أهلين من الناس" فقيل: من هم يا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ؟ قال: "أهل القرآن هم أهل الله وخاصته"[رواه الإمام أحمد وابن ماجة وصححه الألباني].
كل هذا يجنونه بعمل مُيسّرٍ، قد أعين صاحبه عليه، حتى إننا لنرى مِن الأعاجم مَن لا يقيم من العربية جملة واحدة، ولكنه يقرأ القرآن غضا طريا كما أُنزل، وصدق الله: (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ).
الخطبة الثانية:
أما بعد:
أيها المؤمنون: فإنه لمن المحال أن نحيط بفضائل حفظ القرآن أو نحصيها، فهي فوق ما تحتمل أذهاننا، أو تعي عقولنا، أو تدرك أسماعنا، كم مرة يردّد أحدُهم الآية ليحفظها وله بكل حرف منه حسنة، والحسنة بعشر إلى سبعمائة ضعف، والله يضاعف لمن يشاء.
إن جلسة ما بين المغرب والعشاء وحدها تعود عليه بما لا يحصى من الحسنات، فوق المغفرة والرحمة والسكينة وشهود الملائكة،
وإن الله -جل في علاه- يذكرهم، ثم إذا وفدوا عليه يوم القيامة أكرمهم أيما إكرام، كيف لا وهم أهله وخاصته؟! جعل إكرامهم من إجلاله -تعالى-، ووعدهم بالمزيد.
إنه -والله- خير لهم من كل ما في هذه الدنيا، من متاعها الزائل، ونعيمها الراحل، وزينتها الخداعة، وتجارتها الكاسدة: (إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ * لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ)[فاطر: 29-30].
يقول النبي -صلى الله عليه وسلم- : "لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله القرآن فهو يتلوه آناء الليل وآناء النهار، ورجل آتاه الله مالا فهو ينفقه آناء الليل وآناء النهار"[رواه البخاري ومسلم].
فيا من يريد أن يجني مثل جنى الحفاظ، ويفوز بما فازوا به يوم المعاد، بادر بحفظ ما تستطيع، وادفع بنيك وشجعهم ليكونوا في ركاب الفائزين، وأعن على حفظ القرآن بمالك تجده عند الله غدا؛ فعن أبي مالك الأشجعي عن أبيه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : "من علم آية من كتاب الله -عز وجل- كان له ثوابها ما تليت"[أخرجه أبو سهل القطان وصححه الألباني].
من علمها بنفسه أو علمها بماله فله أجرها ما تليت، كلما رددها حافظها وتغنى بها، كلما راجعها، أو سمعها، كلما رتلها، أو قام يصلي بها، كلما تلاها عاد إلى صحيفتك مثل أجرها، الحرف بحسنةٍ، والحسنة بعشرٍ إلى سبعمائة ضعف، والله يضاعف لمن يشاء.
ما أعظمه من أجر! وما أجزله من ثواب! تعين على حفظ آية من كتاب الله، فيكون في ميزانك أجر تلاوتها كلما تليت، ربما تكون أو تكونين بين المغرب والعشاء في البيت، أو في السوق، أو في أودية الدنيا، تستمتع من حلالها الفاني، وعداد حسناتك يعمل كما لو كنت في المسجد تقرأ القرآن، فكيف لو كان لك أجر عشرة حفاظ أو عشرين؟!
إنهما النعمتان اللتان لا يحسد إلا من ظفر بهما، ذاك يتلوه، وهذا له مثل أجره، وصدق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : "نعم المال الصالح مع الرجل الصالح"[رواه البخاري في الأدب المفرد وصححه الألباني].
إن مسيرة حفظ القرآن، وتربية الأجيال على هديه في هذا المسجد المبارك؛ تنتظر دعمكم، فلا تبخلوا على أنفسكم بخير تحمدوه غدا...