العربية
المؤلف | عبد الرحمن بن الصادق القايدي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المنجيات |
إنه ضيق الصدر، الذي تبدأ فيه اليدان بالاضطراب، ويضيق الصدر؛ يريد الخلاص من النفس التي بين جنبيه، هذه النفس التي يوجد بها فراغ كبير لا يدري كيف يملؤه، بها وحشة لا يدري كيف يزيلها، بها هموم وآلام لا يدري كيف يبعدها، فيمضي المسكين وقته بالبكاء الحار والنحيب المر، ويحاول أن يبعد هذا الضيق بالسفر والترحال والهروب والتمرّد على الأهل والمجتمع، وينتهي به المطاف بعد فترة من الضياع والتمزق إلى الأرصفة والدخان والمخدرات...
الخطبة الأولى:
حديثنا اليوم -أيها الإخوة- حول مرض من الأمراض ومشكلة من المشاكل ووباء من الأوبئة تجعل الحياة موتًا، والدنيا نكدًا وهمًا، واللذة تعاسة، وتصبح الأرض الواسعة ضيقة بما رحبت على أهلها.
أما أعراضه الظاهرة: فالهم والغم، آهات وأنات، كدر وملل، تَفَجُّر وصخب، تعاسة وقلق، كره وبغضاء للنفس ومن حولها. ترى ما هذا المرض الذي هذه أعراضه؟!
إنه ضيق الصدر، إنه مرض ضيق الصدر عند بعض الناس، الذي تبدأ فيه اليدان بالاضطراب، ويضيق الصدر؛ يريد الخلاص من النفس التي بين جنبيه، هذه النفس التي يوجد بها فراغ كبير لا يدري كيف يملؤه، بها وحشة لا يدري كيف يزيلها، بها هموم وآلام لا يدري كيف يبعدها، فيمضي المسكين وقته بالبكاء الحار والنحيب المر، ويحاول أن يبعد هذا الضيق بالسفر والترحال والهروب والتمرّد على الأهل والمجتمع، وينتهي به المطاف بعد فترة من الضياع والتمزق إلى الأرصفة والدخان والمخدرات، والضيق يزداد حتى يصل إلى آخر مرحلة له وهي الانتحار والتخلص من هذا الضيق، وكل هذا باتباعه واستعانته بشياطين الجن والإنس ظنًا أنه يجد لديهم المتعة والعلاج لهذه المشكلة التي أصبحت مستعصية عليه.
إن المتأمل -يا عباد الله- في حال مثل هؤلاء يجد أن هذا المرض يبدأ بانقطاع الصلة بين العبد وربه، فهو لا يصلي، وإن صلى ففي الجمع والأعياد هائم على وجهه في هذه الأرض، فرح بشبابه، متسكع مع أصحابه، تناسى آخرته، يغني للدنيا أعذب الألحان وأجمل الكلمات، يدخل بيته كالذئب المفترس، ويخرج منه والشياطين تطير أمام عينه، بعيد عن منهج الله ورسوله، معرض عن ذكر الرحمن، مقبل على ذكر الشياطين.
ومن هنا -أحبتي في الله- تبدأ المشكلة؛ لأن الله -سبحانه وتعالى- أخبرنا بقوله تعالى: (فَمَن يُرِدِ اللّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ).
لا إله إلا الله، ما أعظم هذه الآية لمن تدبرها وتأمل فيها مليًا! أين الجبارون؟! أين التائهون؟! أين الذين معهم اكتئاب كما يسميه الأطباء النفسيون؟! أين هم عن هذه الآيات العظيمة ليعلموا سبب مرضهم واكتئابهم؟! ثلاث صفات وصف الله بها الصدر البعيد عن هداية الله والعائش في ضيق الدنيا:
(يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً) أي: مغلقًا مطموسًا لا يتسع لشيء من الهدى.
وأن يجعله حرجًا أي: لا ينفذ فيه الإيمان والخير، فهو يجد العُسرة والمشقة في قبولهما، فلا يتدبر القرآن، ولا يتلذذ بتلاوته ولا أي خير.
(كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء) أي: أن حال هذا الصدر كأنما يصعد بصعوبة في طبقات السماء، فينتقص عنه الهواء، ويضيق فيزداد ضيقًا، حتى لكأنه يختنق ويشرف على الموت، وهذا هو نفس الشعور الذي يشعر به الشخص ضيق الصدر، وهذا هو الإحساس الذي يحسه الإنسان الذي تتخطفه الهموم والآلام والقلق والحيرة، فهو يشعر بأن روحه تصعد وتكاد أن تخرج من بين صدره، ويحس أنه في سجن ضيق خانق.
إذًا نعود ونقول: إن السبب في كل هذا البعد عن الهداية الربانية، يقول تعالى موضحًا ذلك: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا).
إن الذي يعرض عن ذكر الله ويخالف أمر رسول الله تصبح عيشته وحياته ضنكًا ضيقة مليئة بالهموم والآلام وضيق الصدر حتى لو كان في عنفوان شبابه، ويملك من الأموال الشيء الكثير ومن الضياع الكثير ومن الأصدقاء والمعارف الكثير، ثم أعرض عن ذكر الله فسيصيبه الكدر والضيق، وتتحول حياته ومعيشته ودنياه ضنكًا، ستضيق به الأرض على كبرها واتساعها، ولن تنفعه أمواله، ولن يحمل أصدقاؤه ومحبوه هذا الهم من قلبه وصدره، ولن يخففوا عنه، لن تسعه أرض وإن كبرت وامتدت.
وقد يقاوم هذا المريض الضيق لفترة ما، ولكنه في النهاية ينهار ويسقط بسبب هذا الضيق، كيف يحدث هذا له وهو شاب وغني؟! كيف حدث له ضنك العيش هذا؟! لأنه أعرض عن ذكر الله وأهمل أوامر الله فعاقبه الله بالضنك وضيّق عليه الدنيا على اتساعها؛ لأنه قاسي القلب، لا يتأثر بالآيات والمواعظ، منكب على الدنيا، يجري خلف الشهوات ويلهث وراء المنكر، وكل همه اللذة حيثما كانت، يبحث ويجري وراءها، لا يقر له قرار، فمن ذنب إلى معصية، ومن صغيرة إلى كبيرة، يمل من لذة فيتنقل إلى غيرها، يبحث عن السعادة بمشاهدة فيلم فاحش أو أغنية ماجنة أو في قراءة مجلة داعرة أو نكتة أو طرفة، يعيش في تعاسة، لا يخاف من الموت وأهوال الحساب وكرب القيامة، غافل عن الله، متقاعس عن الخير، في وجهه ظلمة وكآبة عكستها ذنوبه وأفعاله الخسيسة.
وبعد:
أيها الإخوة المؤمنون: ما العلاج لهذا المرض الفتاك الخطير على النفس المسلمة؟! يقول تعالى: (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَارًا). فما الطريق إلى شرح الصدر وإبعاد الملل والكآبة عن النفس، يجيب على هذه الأسئلة الذي خلق هذه النفس ويعلم ما يصلحها ويفسدها:
أولاً: اتباع أوامر الله ورسوله: (فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَى)، من اتبع الله فلن يضلّ ولن يشقى ولن يتخبط في القلق والاكتئاب والحيرة والفراغ، ولن يشعر بالكدر وضيق الصدر أبدًا، وكيف يضيق صدره وهو يسير على منهج الله وسنة رسوله؟!
ثانيًا: ذكر الله على كلّ حال، يقول تعالى: (الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ). فعلى الإنسان أن يعلّق قلبه بالله، فتسبحه وتذكره في كل وقت، فبذكر الله تدفع الآفات وتكشف الكربات وتغفر الخطايا، وبذكر الله تطمئنّ القلوب الخائفة وتأنس وتذهب عنها الوحشة ويبتعد ذلك القلق وتفرج تلك الهموم ويزيل ذلك الضيق، يقول تعالى: (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ). إذا ضاق صدرك فعلاجك ذكر الله بالتسبيح والسجود في الصلاة، هذا هو العلاج الفعال.
ثالثًا: الإكثار من النوافل بعد الفرائض، فهي تجعل روحك متصلة بالله تعالى، وتجعل قلبك ذاكرًا له -سبحانه وتعالى-، صل الصلوات الخمس مع سننها، صم النوافل كالأيام البيض والاثنين والخميس، قم شيئًا من الليل وناج ربك وخالقك؛ ففي الليل ساعة لا يُرد فيها الدعاء، أكثر من قراءة القرآن، احفظ منه ما استطعت لا سيما سورة يوسف؛ لأنه لا يسمع سورة يوسف محزون إلا استراح إليها كما جاء عن بعض السلف، وهذا يفسّر لك نزول هذه السورة على النبي -صلى الله عليه وسلم- في عام الحزن حينما فقد عمه وزوجته خديجة -رضي الله عنها-، فكانت السورة بلسمًا شافيًا للنبي -صلى الله عليه وسلم-.
لذا فعلى المحزون أو المكروب أن يقرأها لكي يُسرّى عنه؛ لأنها تُعَلِّم الصبر على المحن والمصائب، فيوسف -عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام- حُسد من إخوانه وفارق أمه وأباه وغُيِّب في البئر، ومن ثم بيع كعبد مملوك، ومن ثم عاش خادمًا عند العزيز وتعرّض لفتنة امرأة العزيز وصبر، ثم سجن ظلمًا وأصبح متهمًا بشرفه... إلى آخر الفتن المذكورة مفصلاً في السورة، فقراءتها ضرورية.
ونأخذ من هدي المصطفى -صلى الله عليه وسلم- شفاءً ودواءً لمرض ضيق الصدر والحزن، كما قال: "ما أصاب عبدًا هم ولا حزن فقال: اللهم إني عبدك وابن عبدك وابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماضٍٍ فيّ حكمك، عدلٌ فيّ قضاؤك، أسألك بكل اسمٍ هو لك، سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحدًا من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن ربيع قلبي، ونور صدري، وجلاء حزني، وذهاب همي، إلا أذهب الله همه وحزنه، وأبدله مكانه فرحًا". فنسأل الله أن يذهب عنا الهم والحزن، ويوفقنا لاتباع نبيه محمد -صلى الله عليه وسلم-.
نفعني الله وإياكم بالقرآن والسنة، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العلي العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله ولي المتقين، والصلاة والسلام على قائد الغر الميامين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
أخي المؤمن: ارفع يدك إلى الله مولاك كلما شعرت بضيق، ارفع يديك وادع بما شئت، اشك بثك وحزنك إلى الله، اترك دموعك تسيل على خدك لتخرج ما في نفسك من ضيق وهم وألم؛ فإن ربك رحيم، لا يردك خائبًا إذا لجأت إليه واستعنت به.
آخر علاج لهذا المرض هو اختيار الرفقة الصالحة الطيبة الذين يسيرون على منهج الله ورسوله، اترك رفاقك السابقين، ابتعد عنهم ولا تقترب منهم، وعش مع هذه الرفقة الصالحة، وسوف تشعر بطعم الحياة حقًا وتحس بحلاوة الإيمان صدقًا.
ثم انظر إلى نفسك وإلى حالك بعد فترة، تجد بأن صدرك قد اتسع بعد الضيق، واستقر بعدما كان يصعد في السماء، تجده قد غُسل تمامًا عند ذلك، ستجد للطاعة لذة وللقرآن متعة وللحياة هدفًا، قال تعالى: (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ).
ثم صلوا على الرحمة المهداة نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين كما أمركم بذلك رب العالمين حيث قال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا).