المليك
كلمة (المَليك) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فَعيل) بمعنى (فاعل)...
العربية
المؤلف | أسامة بن عبدالله خياط |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الأديان والفرق |
إن للظلم ألواناً وصوراً تربو على الحصر، غير أن أبشع أنواع الظلم وأقبح صوره وأشدها نكراً وأعظمها خطراً البغيُ في الأرض بغير الحق، والاستطالة على الخلق، في دينهم أو أنفسهم أو أموالهم أو أعراضهم أو عقولهم، بمختلف سبل العدوان، التي يتفق أولو الألباب على استعظامها والنفرة منها والحذر من التردي في وهدتها والتلوث بأرجاسها.
أما بعد:
فيا عباد الله، اتقوا الله وأنيبوا إليه من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلال.
أيها المسلمون، إن من تمام عدله سبحانه وكمال رحمته وجميل بره وإحسانه أن حرم الظلم على نفسه وجعله بين عباده محرما، كما جاء في الحديث القدسي الذي يرويه النبي صلى الله عليه وسلم عن ربه فيقول: "قال الله عز وجل: يا عبادي إني حرمة الظلم على نفسي، وجعلته محرماً بينكم، فلا تظالموا" الحديث أخرجه مسلم في صحيحه.
وإن للظلم ألواناً وصوراً تربو على الحصر، غير أن أبشع أنواع الظلم وأقبح صوره وأشدها نكراً وأعظمها خطراً البغيُ في الأرض بغير الحق، والاستطالة على الخلق، في دينهم أو أنفسهم أو أموالهم أو أعراضهم أو عقولهم، بمختلف سبل العدوان، التي يتفق أولو الألباب على استعظامها والنفرة منها والحذر من التردي في وهدتها والتلوث بأرجاسها.
ولذا جاء تحريم البغي في الأرض منصوصاً عليه في سياق جملةٍ من أصول المحرمات، إعلاماً بشدة الوزر وثقل التبعة وسوء المصير، وذلك في قوله سبحانه: (قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبّيَ الْفَوحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلإِثْمَ والْبَغْىَ بِغَيْرِ الْحَقّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزّلْ بِهِ سُلْطَـاناً وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ) [الأعراف:33]، كما توعد سبحانه كل من سلك سبيل البغي بأليم العذاب فقال تعالى ذكره: (إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِى الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقّ أُوْلَـئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) [الشورى:42].
وهذا العذاب الأليم ـ يا عباد الله ـ إنما هو الجزء المؤجَّل من العقوبة، لكن للغبي أيضاً عقوبةً يعجلها الله للباغي في حياته الدنيا، كما جاء في الحديث الذي أخرجه الإمام أحمد في مسنده وأبو داود والترمذي وابن ماجه في سننهم بإسناد صحيح عن أبي بكرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما من ذنب أجدر أن يعجِّل الله تعالى لصاحبه العقوبة في الدنيا مع ما يدّخره له في الآخرة من البغي وقطيعة الرحم"، وعاجل هذه العقوبة أن على الباغي تدور الدوائر، فإذا هو يبوء بالخزي ويتجرّع مرارة الهزيمة وينقلب خاسئاً، لم يبلغ ما أراد، ولم يظفر بما رجا، كما قال تعالى ذكره: (فَلَمَّا أَنجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِى الأرْضِ بِغَيْرِ الْحَقّ ياأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنفُسِكُمْ) [يونس:23].
ولكم ـ يا عباد الله ـ في سِيَر الماضين وأنباء من قد سبق من الذين بغوا في الأرض فأكثروا فيها الفساد، لكم فيهم أوضح الدلائل وأصدق البراهين وأظهر الآيات، فماذا كانت عاقبة بغي فرعون حين (عَلاَ فِى الأرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مّنْهُمْ يُذَبّحُ أَبْنَاءهُمْ وَيَسْتَحْىِ نِسَاءهُمْ) [القصص:4]؟! ألم تكن: (فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الآخِرَةِ وَلأُوْلَى) [النازعات:25]؟! وكيف كانت عاقبة بغي قارون الذي بغى على قومه حين آتاه الله من الكنوز ما تنوء بثقله العصبة أولو القوة؟! ألم تكن: (فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنتَصِرِينَ) [القصص: 81] ؟! وإلى أي منتهى كان أمر أبي جهل بن هشام وأمية بن خلف والملأ من قومهما الذين بغوا في الأرض فاشتدت وطأتهم على المستضعفين من المؤمنين الأولين، فساموهم سوء العذاب وأليم النكال؟! ألم تكن بهلاك الظالمين وقطع دابرهم أجمعين، وبالنصر والغلبة والتمكين للمؤمنين الصادقين الصابرين؟!
وكذلك كانت عاقبة كل من بغى في الأرض، وعلا فيها بغير الحق، واستضعف أهلها فعلى الباغي تدور الدوائر مهما تجبر واستكبر، وغرته قوته، وأسكرته صولته، وإن هذه السنة الربانية ـ يا عباد الله ـ عامة شاملة، لا يشذ عنها بغي اليهود الآن في الأرض المقدسة وفي كل أرجاء فلسطين المسلمة الصابرة، بما يجترحون من قتل وتشريد واغتيالات وحصار وتجويع وعدوان جائر، تقضّ له المضاجع، وتتفطر منه الأكباد، وتهتز الأفئدة حيث لم يستثن امرأة ولا طفلاً صغيراً ولا شيخاً كبيراً، وبلغ السيل الزبا فنال حتى من الجرحى الذين تُركوا في الطرقات، يكابدون آلام الجراح التي أثخنتهم، ويستغيثون ولا مغيث لهم إلا الله، بعد أن منع هؤلاء اليهود الطغاة البغاة رجال الإسعاف والإنقاذ من الوصول إليهم لأداء واجبهم المشروع في كل الشرائع الربانية وفي القوانين والاتفاقيات الدولية، التي أقرها العقلاء لمعالجة أوضاع وحالات الحروب.
وإن ما لا ينقضي منه العجب ـ يا عباد الله ـ تبجُّحَ هؤلاء اليهود الطاغين ـ لعنهم الله ـ بأن كل ما يقترفون من جرائم يندى لها الجبين، وتتمعر منها الوجوه، إنما هو دفاعٌ عن النفس باعتباره حقاً مشروعاً لهم، وهل شُرع حق الدفاع عن النفس ـ يا أولي الألباب ـ للظالم الباغي، والغاصب السارق، أم هو حق لا يختلف في أنه للمظلوم المعتدى عليه الذي سُلب حقَّه وأرضه وأمانه وحريتَه؟!
عباد الله، إن مما لا بد منه أمام هذه النازلة أن يكون كل مسلم على ذكر من أمرين:
أما أولهما: فهو أن من حكمة الله تعالى ومن بديع تدبيره أنه يمهل للظالم ويملي له، لكنه يأخذه في النهاية أخذاً أليماً شديداً، لا نجاة له منه، كما جاء في الحديث الذي أخرجه الشيخان في صحيحيهما عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله تعالى ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته" ثم قرأ النبي صلى الله عليه وسلم: (وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِىَ ظَـالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ) [هود:102]، فهو إمهال ليزداد الباغي من أسباب بغيه وعدوانه، فتعظم عقوبته، ويشتد عذابه.
أما الثاني: فهو أن سنة الله في الابتلاء ماضية في عباده المؤمنين تمحيصاً وتعليماً، ورفعةً وتكريماً، وفي الكافرين محقاً وقطعاً وعذاباً أليماً، كما قال سبحانه: (إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مّثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّـالِمِينَ وَلِيُمَحّصَ اللَّهُ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَيَمْحَقَ الْكَـافِرِينَ أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَـاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّـابِرِينَ) [آل عمران:140-142].
فالعاقبة ـ يا عباد الله ـ دائماً للمتقين، والنصر والتمكين والغلبة للصابرين الصامدين، الذين يستيقنون أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسراً.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَلَّذِينَ ءامَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ) [البقرة:214]، (أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ)، (أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ).
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه، وبسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك سيدنا محمد وعلى آله وصحبه.
أما بعد:
فيا عباد الله، لقد دلت عظات التاريخ وعبر الأيام ومحفوظ التجارب ومدخور المعارف أنه كلما اشتدت وطأة البغي وتعاظم خطره وتفاقم أمره واستفحل شره كان ذلك إيذاناً بانحسار مدِّه وخمود جذوته وتقهقر جنده. وإن من تمام اليقين بالله وصحة التوكل عليه وصدق اللجوء إليه مع كمال الصبر واحتساب الأجر ومعونة الإخوة في كل ديار الإسلام بكل ألوان المعونة والنصرة والمؤازرة ما يبعث على قوة الرجاء في كشف الغمة، وصد العدوان، وهزيمة البغي، والفرح بنصر الله الذي ينصر به من يشاء وهو العزيز الرحيم.
ألا وصلوا وسلموا على الحبيب رسول الله، فقد أمرتم بذلك في كتاب الله، حيث قال سبحانه: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَـتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِىّ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً) [الأحزاب:56].
اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك سيدنا محمد، وارض اللهم عن خلفائه الأربعة...