العربية
المؤلف | عمر القزابري |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - الدعوة والاحتساب |
إن الكتاب -أي القرآن- قد تقرر أنه كلية الشريعة، وعمدة الملة، وينبوع الحكمة، وآية الرسالة، ونور الأبصار والبصائر، وأنه لا طريق إلى الله سواه، ولا نجاة بغيره، ولا تمسك بشيء يخالفه، وهذا كله لا يحتاج إلى تقرير واستدلال عليه؛ لأنه معلوم من دين الأمة، وإذا كان كذلك لزم ضرورة لمن رام الإطلاع على كليات الشريعة، وطمع فيس...
الخطبة الأولى:
الحمد لله المتفرد باسمه الأسمى، المختص بالملك الأعز الأحمى، الذي ليس دونه منتهى، ولا وراءه مرمى، الظاهر لا تخيلا ووهما، الباطن تقدسا لا عدماً، وسع كل شيء رحمةً و علماً، وأسبغ على أوليائه نعما عماً، وبعث فيهم رسولاً من أنفسهم عرباً وعجماً، وأزكاهم محتداً ومنمى، وأرجحهم عقلاً وحلماً، وأوفرهم علماً وفهماً، وأقواهم يقيناً وعزماً، وأشدهم بهم رأفة ورحمى، وزكاه روحاً وجسماً، وحاشاه عيباً ووصماً، وآتاه حكمة وحكماً، وفتح به أعيناً عمياً، وقلوباً غلفاً، وآذاناً صماً، فآمن به وعزره، ونصره من جعل الله له في مغنم السعادة قسماً، وكذب به وصدف عن آياته من كتب الله عليه الشقاء حتماً، ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى، صلى الله عليه وسلم صلاةً تنمو وتنمى، وعلى آله وسلم تسليماً كثيراً.
معاشر الصالحين:إن الاحتراس والاحتياط من الشيطان مطلب قرآني، يقول ربنا: (إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا)[فاطر: 6].
ويقول ربنا: (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لَّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ * وَأَنْ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ * وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ)[يس: 60-62].
إذاً فهو عدو لنا، متربص بنا، غايته إغوائنا وإضلالنا، وصرفنا عن كل ما فيه نجاتنا وسلامتنا.
وهذا من المحنة التي اقتضتها مشيئة الله؛ للتمحيص والتخليص والاختبار، حتى يخلص الصادقون، ويظهر المحبون، ويتبين الكاذبون.
فعلى كل راغب في النجاة أن يعرف عدوه، ويعرف مداخله ومخارجه، ومذاهبه ومناهجه، وقديما قيل: "إذا كان عدوك نملة فلا تنام له".
فكيف إذا كان عدوك له قدرة على أن يجري منك مجرى الدم.
يقول صلى الله عليه وسلم: "إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم".
وإن الذي يريد أن يسلم من الشيطان يجب عليه: أن يكون له صلة بالقرآن، فلا يتصور أبداً سلامة من الشيطان، دون أن تكون هناك علاقة قوية متينة بالقرآن.
وإن من أعظم صور وألوان مكر الشيطان: صرف الناس عن القرآن، بشتى الوسائل، فهو لا يقطعهم عنه ألبتة، ولكن يجعل علاقتهم به علاقة سطحية صورية، تختزل في المناسبات والولائم والجنائز والتبرك.
وهذه العلاقة السطحية ركزها ورسخها الإعلام في بلاد الإسلام اليوم، يفتتح بالقرآن، وبعده مباشرة يأتي ما يناقض القرآن؛ من شرك وبدع، وميوعة وفساد وإفساد.
ثم ركزها كذلك بصناعة نجوم وهمية، ينشغل بها الناس، وخصوصا الشباب، لينصرفوا بذلك عن القرآن الذي هو أساس النهضة، وأس البناء والنماء، وسبب النقاء والاتقاء، وهذا شاع مؤخرا في الكثير من منابر الإعلام، ما يسمى بصناعة المواهب، التي هي في الحقيقة صناعة المصائب، وإطلاق لفظ النجم على فلان وعلان، وإذا تأملت لم تجد فيه أي شيء يمت إلى النجم بصلة.
فمن سمات النجم: العلو والهداية إلى الطريق، قال تعالى: (وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ)[النحل: 16].
والإضاءة، وغير ذلك من سمات النور والسرور.
إذا فهو أمر دبر بليل، ومكر بيت لإنشاء جيل ضال، تائه عن قرآنه، وسنة نبيه -صلى الله عليه وسلم-.
وهذا كله ابتداءً وانتهاءً من مكر الشيطان وكيده.
إذاً، وفي غمرة هذا الواقع من الانفراط؛ لا بد من تشديد العلاقة بكتاب الله.
علاقة تكون شديدة الوثاق اتصالا، والوثوق بكل ما وعد الله من اتصل بالكتاب قراءة وتدبرا، وطاعة وانقيادا.
إننا -أيها الأحباب الكرام-: في أشد الحاجة إلى تشديد العلاقة بالقرآن، والتعامل معه على أنه دستور وحكم رباني المصدر: (وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا) [الرعد: 37].
وأن أي انصراف عنه -بلا شك- وقوع في العمى والضلال والغي.
يجب أن يكون تعاملنا معه بعيدا عن التحريف الطارئ عليه، والهادف إلى جعله موطن السخرية والاستهزاء، من طرف فئة ضالة، ومحاولة إقصائه من الحياة العلمية العامة، وحصره ضمن دائرة الولائم والشعوذة والمناسبات.
إن علاقتنا بالقرآن -أيها الأحباب-: قد ضعفت ووهت إلى درجة تستدعي التدارك، فليس المراد من القرآن مجرد تكرار الختمات، ولا إتقان الحروف، والإتيان بالنغمات، ولكن الهدف الأسمى للقرآن: أن تعرف من خلاله ربك، وأن تعرف ما طلب منك، فتنفذ، وما نهيت عنه فتقف، وإذا ما صدر منك خطأ تداركته، ورجعت وأنبت، قال تعالى: (وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ) لماذا؟ (لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا)[طه: 113].
ونبادر إلى ذكر نبذة ترمي إلى إيضاح المفهوم الصحيح للقرآن عند المسلمين، فهو دستورهم الحقيقي، به -أي بالقرآن- تتحدد علاقة الحاكم بالمحكوم، ومهمات كل منهما، ومنه يستمد القضاء أحكامه في كل دوائره، وعلى مبادئه تعتمد المخططات الرشيدة للتنمية في كل المجالات؛ الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والإعلامية.
وأخلاق القرآن هي الأخلاق، وبواسطة المداومة على قراءته، والتأمل فيه؛ ينمو الذوق الجمالي، ويرهف الحث والارتباط.
الواعي به يعطي حصانة ومناعة؛ ضد عوامل التبعية العمياء، ويعصم الشخصية الفردية والجماعية من الذوبان في الغير، ويحقق لها معاني التميز والخصوصية.
ومن غير شك: أن كل مسلم ملزم بأن يعتقد أن الحق المطلق المجرد التام الواضح في القرآن، إنه لن يقر للإنسان قرار، ولن يعرف معنى للعيش والتعايش، ما لم يصغ للخطاب القرآني، ويعتبره الحل الصحيح لمشاكله، والدواء الناجع لأدوائه.
والمشكلة الوحيدة عند القرآن اليوم أنه لأسباب وعوامل ابتلي بأبناء عاقين، وأهل جاهلين به في العموم، وذوي أطماع يحرفونه لبلوغ أطماعهم، ومعقدين مرضى بعقدة المغلوب إزاء الغالب.
ويوم يُهيأ الله لهذا القرآن من الرجال الأحرار، والنساء الحرائر، من يفهمون مراميه، وينصرون قضاياه، ويعتزون به، فذلك يوم الانتصار لا محالة.
ووقتها ستحدد العلاقة بين الإنسان وربه، وبين الإنسان وأخيه، وبين الإنسان وبين الكون، وتجري العبادات والمعاملات والتصرفات على ضوء المفاهيم الصحيحة للقرآن الكريم.
ولترسيخ هذا المفهوم العملي الحركي الحضاري المصيري لكتاب الله؛ نكتفي بما أثبته أبو إسحاق الشاطبي -رحمه الله- في كتابه القيم: "الموافقات في أصول الشريعة" يقول في الجزء الثالث: "إن الكتاب -أي القرآن- قد تقرر أنه كلية الشريعة، وعمدة الملة، وينبوع الحكمة، وآية الرسالة، ونور الأبصار والبصائر، وأنه لا طريق إلى الله سواه، ولا نجاة بغيره، ولا تمسك بشيء يخالفه، وهذا كله لا يحتاج إلى تقرير واستدلال عليه؛ لأنه معلوم من دين الأمة، وإذا كان كذلك لزم ضرورة لمن رام الإطلاع على كليات الشريعة، وطمع في إدراك مقاصدها، واللاحق بأهلها، أن يتخذه سميره وأنيسه، وأن يجعله جليسه على مر الأيام والليالي، نظرا وعملا، لا اقتصارا على أحدهما، فيوشك أن يفوز بالبغية، وأن يظفر بالطلبة، ويجد نفسه من السابقين، وفي الرعيل الأول، فإذا كان قادرا على ذلك ولا يقدر عليه إلا من زاول ما يعينه على ذلك من السنة المبينة للكتاب، وإلا فكلام الأئمة السابقين والسلف المتقدمين، آخذ بيده في هذا المقصد الشريف، والمرتبة المنيفة" ا. هـ رحمه الله.
بناء على ما سبق، أين نحن من القرآن؟ أين نحن منه قراءة ونظراً؟ أين نحن منه تدبرا وعملا؟ أين نحن منه دعوة ونشرا لحقيقته، وجوهر دعوته؟! ماذا نوصل اليوم إلى العالم من حقيقة القرآن سواء في حالنا أو في مقالنا؟
فأما حالنا، فشيء يؤلم ويدمي القلب في الغالب، صراعات وتطاحنات، ومشاحنات وخلافات، وخرافات وتقديس للذات، وتمكين للذات.
وأما مقالنا، ففي الغالب مقال لا يعبر، ولا يتناسب مع جوهر ما يريده القرآن، فمن أين ستأتينا العزة إذاً؟ ومن أين يمكننا أن نرفع رأسا، أو نحقق مجدا، مع مراعاة التهديد والوعيد الشديد الوارد في قول ربنا، والمتعلق بكتابه: (وَإِنَّهُ -أي القرآن- لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ)[الزخرف: 44].
نعم، سوف نسأل بين يدي ربنا عن هذا القرآن، ماذا قدمنا له؟ كيف كانت علاقتنا به؟ ما اجتنينا من ثمراته؟ وماذا نشرنا في العالمين من بيناته؟ فماذا نحن لربنا قائلون؟
جعلني الله وإياكم ممن ذكر فنفعته الذكرى، وأخلص لله عمله سرا وجهرا، آمين، آمين، والحمد لله رب العالمين.
الخطبة الثانية:
الحمد لله الذي أكرم عباده بالقرآن، وجعله سبيلا موصلا إليه، فهو حبله الممدود للإسعاد والإرشاد، والإعداد والإمداد، والإسناد، وصلاة ربي وسلامه على من تلقى الوحي من ربه قرآنا، وتنزل إليه فرقانا، وبين بسنته وسيرته فجاء تبيانا، ووفى بحقوقه حتى استوى على سوقه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وتبعهم على الدوام إلى يوم الاجتماع بين يدي الرحمن.
معاشر الصالحين: حسبي مما ذكرت آنفا أن يتم التركيز بقوة على ثلاثة نصوص من القرآن الكريم، تتضمن جوهر ما نبتغي، وتقلب الموازين، وتعيد الأمر إلى نصابه، وتكشف عن الحقيقة التي تكالبت كل قوى الشر على طمسها، وإخفاء معالمها، بالتحريف والتشويه، والزور طورا، والترويج للبدائل الكاسدة الكسيحة طورا آخر، ومحاربة أهل الحق، ومطاردتهم وإقصائهم، والتحذير منهم، والسعي إلى استرقاق واستعباد بعضهم، وإلزام البعض، وخنق الباقين؛ طورا ثالثا.
ويأبى الله إلا أن يظل القرآن يلقف ما يؤفكون.
وهذه النصوص الثلاثة، هي قول الله -تعالى-: (لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ)[الأنبياء: 10].
وقوله تعالى: (وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُم بِذِكْرِهِمْ -أي القرآن- فَهُمْ عَن ذِكْرِهِم مُّعْرِضُونَ)[المؤمنون: 71].
وقوله تعالى: (فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ * وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ)[الزخرف: 43-44].
هذه الآيات هي ذات محور ونسق، وموضوع واحد، فعند التدبر يظهر أنها صريحة في أن المجد والشرف والعز والرفعة والنباهة، والصيت والريادة، والقيادة والسيادة، هذه كلها لا يمكن أن تتحقق لأي مجموعة بشرية كيفما كان جنسها، إلا أن تكون متمسكة بهذا القرآن، وقافة عند أوامره ونواهيه، عاملة بتوجيهاته وهديه، وإرشاده، متصرفة وفق مبادئه وقيمه، معتبرة إياه المنهج الذي لا ينبغي الحيدة عنه، في أي جانب من جوانب الحياة.
(لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ) [الأنبياء: 10].
الخطاب لي ولك ولكي وللأمة جمعاء وللعالمين: (لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ)[الأنبياء: 10].
فلو كنتم ترغبون في الشرف والسؤدد والمجد، فهاهو الكتاب الذي يحقق لكم ذلك.
ثم يقول الحق -سبحانه-: (أَفَلَا تَعْقِلُونَ).
وهذا استفهام استنكاري توبيخي، فكأنما يقول لهم: أنتم تطلبون المكانة والذكر وعلو الشأن، وتتركون هذا الكتاب الذي فيه ذكركم وشرفكم وعزكم، وهذا مناف لتصرف العقلاء؟ بل هو أولى بمن فقد وعيه، فصار لا يميز بين ما ينفعه وما يضره، وانتكست وارتكست فطرته، فأصبح أميل إلى الشر منه إلى الخير، وهذا فيه شبه من اليهود -عياذا بالله- الذين قال الله فيهم: (وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الرُّشْدِ لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً) [الأعراف:146].
وفي النص الثاني يقول الباري -عز وجل-: (وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُم بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَن ذِكْرِهِم مُّعْرِضُونَ)[المؤمنون: 71].
لو أن الأمر صار على مقتضى ما يرون ويقترحون، ويبرمجون ويخططون، وما ينهجون ويدبرون؛ لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن من المخلوقات، ولاختل نظام هذا الكون واضطرب، وتجاذبته وتنازعته ملايين الاقتراحات والنظريات، والأفكار والمذاهب، والنِّحَل، والأيدلوجيات: (بَلْ أَتَيْنَاهُم بِذِكْرِهِمْ)[المؤمنون: 71].
بل إننا وضعنا بين أيديهم ما به يشرفون، ويعلو ذكرهم، وتحقق مطالبهم في جميع الميادين: (فَهُمْ عَن ذِكْرِهِم مُّعْرِضُونَ)[المؤمنون: 71].
فهم يرفضون ما فيه مجدهم، وما فيه حل مشاكلهم العقدية والأخلاقية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية، فهم يتركونه إلى حلول أخرى، تفرض عليهم يأخذونها من أعدائهم، أو توافق نوازعهم المنحرفة.
ويقع الحسم في النص التالي، وتبطل أنصاف الحلول، وتتمايز الصفوف، ويعرف كل ما بيده، ويعلن عن النذارة صراحة، بأن كل جزئية من جزئيات هذا القرآن، سيتم الحساب والمراجعة، والسؤال عنها دقت أو جلت، صغرت أو عظمت، يقول ربنا مخاطبا نبيه -صلى الله عليه - ومن على منهجه، ويدين بدينه: (فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ)[الزخرف: 43].
فالسين والتاء هنا: (فَاسْتَمْسِكْ) تدل على الشدة، وما ينبغي أن يكون عليه الموقف من حزم وقوة.
فقوله تعالى: (فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ) يدل على أن هناك بدائل أخرى موجودة في كل زمان ومكان، ولها دعاة، وعليك أن تستمسك بالقرآن، حتى لا تسقط فريسة لها، فتصبح آلة مسخرة في أيدي أصحابها: (إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ)[الزخرف: 43].
المنهج الذي بين يديك، وهو القرآن كفيل بأن يلبي كل الطلبات، ويواجه كل التحديات، ويجيب عن جميع التساؤلات الفردية والجماعية، والدولية والأممية، في أقصر وقت، وأيسر جهد، وأقل تكلفة.
(وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ).
هذا الذي أوحي إليك، ذكر وشرف ومجد لك ولمن اتبعك: (وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ)[الزخرف: 44].
بين يدي الله، تعلن النتائج سلبا أو إيجابا، بالنظر إلى الالتزام بالقرآن، أو الإعراض عنه، ورده.
وعلى كل منا -معاشر الأحباب-: أن يعد العدة لهذا المشهد، ويعمل أنه مسئول عنه، ويعد الجواب حاكما كان أو محكوما، كل حسب مسئوليته، فمن استمسك بهذا القرآن، فله المجد والشرف والعزة، ومن تخلى وحاد عنه، أو حرفه، واشترى به ثمنا قليلا.
والثمن القليل هنا هو الدنيا بكاملها؛ كما ذكر المفسرون، أو أقر بعضه بدافع، وأهمل البعض الآخر، فله الخسار والبوار والفشل.
وبناء على ما سبق من ذكر ما للقرآن من المكانة، وما يجب أن يكون عليه المنتسبون إليه من عزة وكرامة.
بناءً على ذلك، نقول ونتساءل: هل ما نرى في هذه الأيام من استعدادات الكثير من المسلمين، وعلى جميع الأصعدة؛ لمشاركة النصارى في احتفالاتهم، هل هذا يتناسب مع دعوة القرآن؟! هل هذا يتناسب مع صدق الانتساب لسيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم-؟!
لا والله، لا والله، لا والله-، فالمسألة ليست مسألة هوى، ولا مسألة تطرف، ولا شذوذ في التوجه أبداً، بل هي مسألة من صميم القرآن.
كيف تحتفل مع أناس أبطل القرآن زيف معتقداتهم، ودحض شبهاتهم؟! كيف تحتفل مع أناس يكرهون سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم-؟! كيف تحتفل مع أناس دعا الرسول الكريم إلى مخالفتهم وعدم الاقتداء بهم؟! كيف يطيب للمسلم الصادق أن يضرب بكل هذه المبادئ عرض الحائط، ويشارك الاحتفال مع من يزعمون أن لله الولد، وأن الله ثالث ثلاثة؟!
ألا يكفي هذا دليلا على أن الأمة لم تعد للقرآن وزنا، ولم تعد تتخذه مرجعا وحكما، وهذا هو صلب الإشكال.
أيها الأحباب: إن سلفنا الكرام -رحمهم الله- وأجدادنا الأفداذ، قد بنوا لنا مجدا رفيعا، بسبب علاقتهم مع القرآن، وللأسف جئنا نحن فضيعنا هذا المجد، وهذا الشرف، وارتمينا في أحضان الشرق والغرب، نبحث عن أنفسنا التي نسينا القرآن وهجرناه.
وإذا ما ذكر المجد اليوم، فإنه ينصرف مباشرة إلى الأسلاف والأجداد.
فأين نحن؟ أين نحن -أيها الأحباب- وماذا قدمنا؟ وماذا صنعنا؟ أين نحن من ميادين الإنتاج والبحث والعلم والعطاء؟.
وأختم بهذه القصيدة الرائعة للشاعر "معروف الرصافي" العراقي التي تبين أنه يجب على المسلم أن يصنع مجده، لا أن يتكل على مجد أسلافه فقط، يقول:
أرى مستقبل الأيام أولى | بمَطْمَح من يحاول أن يسودا |
فما بلغ المقاصد غيرُ ساع | يردّد في غدٍ نظراً سديدا |
فَوَجِّه وجه عزمك نحو آت | ولا تَلفِت إلى الماضين جيدا |
وهل أن كان حاضرنا شقيّاً | نسود بكون ماضينا سعيدا |
تقدّم أيها العربيّ شوطاً | فإن أمامك العيش الرغيدا |
وأسّس في بنائك كل مجدٍ | طريف واترك المجد التليدا |
فشرّ العالمين ذوو خُمول | إذا فاخرتهم ذكروا الجدودا |
وخير الناس ذو حسب قديمٍ | أقام لنفسه حسباً جديدا |
تراه إذا ادعى في الناس فخراً | تقيم له مكارمُه الشهودا |
فدعني والفخارَ بمجد قوم | مضى الزمن القديم بهم حميدا |
قد ابتسمت وجوه الدهر بيضاً | لهم ورأيننا فعبسن سودا |
وقد عهدوا لنا بتراث ملك | أضعنا في رعايته العهودا |
وعاشوا سادة في كل أرض | وعشنا في مواطننا عبيدا |
إذا ما الجهل خيّم في بلاد | رأيت اسودها مُسِخَت قرودا |
اللهم أصلح أحوالنا...