الواسع
كلمة (الواسع) في اللغة اسم فاعل من الفعل (وَسِعَ يَسَع) والمصدر...
العربية
المؤلف | خالد القرعاوي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | أعلام الدعاة |
فهذا شابٌ فارسيُّ الأصلِ والْمَنْشَأِ, عاشَ في مَنْزِلٍ مَجُوسيِّ العبادةِ والدِّيانةِ, بل كانَ أبوهُ من سَدَنَةِ النَّارِ التي لا يَدَعُها تَخبُو ساعةً لِيسْجُدَ النَّاسُ إليها, وكان الشَّابُّ أَحَبَّ خَلْقِ اللهِ إلى أبيهِ، فلمْ يزلْ حُبُّه بهِ حتى خَافَ عليه وحَبَسَهُ في بَيتِهِ كما تُحبَسُ الجَارِيةُ، قال الشَّابُّ عن نفسِهِ: واجتهدتُ في المجوسيَّةِ حتى كنتُ قَطِنَ النَّارِ الذي يُوقِدُها فَلا أَترُكُها تَخبُو ساعةً.
الخطبة الأولى:
الحمدُ لله رَفَعَ بهذا الدِّينِ أقواماً وَوَضَعَ به آخرينَ، نشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريكَ له وليُّ الصالحينَ، قضى أنَّ العاقبةَ للمتقينَ، ونشهدُ أنَّ محمداً عبدُ الله ورسولُه بعثهُ اللهُ رحمةً للعالمين، اللهم صلِّ وسلِّم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابِه, والتَّابعينَ لهم بإحسانٍ وإيمانٍ إلى يوم الدِّينِ.
أمَّا بعدُ:
فاتَّقُوا اللهَ ربَّكُم وأَصلِحوا قلوبَكم وأعمالَكم: (ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ).
حقَّاً مَنْ أرادَ الهدايةَ وَسَعَى لها وُفِّقَ وهُديَ! فهذا شابٌ فارسيُّ الأصلِ والْمَنْشَأِ, عاشَ في مَنْزِلٍ مَجُوسيِّ العبادةِ والدِّيانةِ, بل كانَ أبوهُ من سَدَنَةِ النَّارِ التي لا يَدَعُها تَخبُو ساعةً لِيسْجُدَ النَّاسُ إليها, وكان الشَّابُّ أَحَبَّ خَلْقِ اللهِ إلى أبيهِ، فلمْ يزلْ حُبُّه بهِ حتى خَافَ عليه وحَبَسَهُ في بَيتِهِ كما تُحبَسُ الجَارِيةُ، قال الشَّابُّ عن نفسِهِ: واجتهدتُ في المجوسيَّةِ حتى كنتُ قَطِنَ النَّارِ الذي يُوقِدُها فَلا أَترُكُها تَخبُو ساعةً.
تصوِّروا -يا كرامُ- هذا الشَّابُّ من بلادِ فارسٍ لم يَعْرِفْ من الدُّنيا والدِّينِ غيرَ عبادةِ النَّار، ومع ذلكَ فَفُؤادُهُ قَلِقٌ وحيرانٌ! وَصَدَقَ اللهُ: (وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ).
في يومٍ من الأيامِ انْشَغَلَ أَبوهُ عن مَزرعتِهِ فأمَرَهُ أنْ يَذْهَبَ إليها لِيَتفقَّدَ أحوالَهَا! فَمَرَّ هذا الشَّابُّ بِكنيسَةٍ لِنصارَى، فَدَخَلَ عليهم فَأَعجَبَتْهُ صَلاتُهم وقالَ: هذا واللهِ خيرٌ من الذي نحنُ عليه من عبادةِ النَّار, فَمَا تَرَكهَم حتى غربتِ الشَّمسُ وَتَرَكَ ضيعةَ أَبِيهِ، فَسَأَلَهم عن أَصْلِ دِينِهم قالوا: بالشَّامِ، فلمَّا عادَ قال أَبوهُ: أيْ بُنَيَّ: أينَ كنتَ؟! قال: مَرَرْتُ بِأُنَاسٍ يُصَلُّونَ في كَنِيسَةٍ فَأَعجَبَنِي دِينُهم! قال: أيْ بُنَي: ليس في ذلكَ الدِّينِ خيرٌ، دِينُكَ ودِينُ آبائِكَ خيرٌ منهُ، قالَ: كلاَّ -يا أبي- إنَّهُ لَخَيرٌ من دِينِنِا، فخافَ عليه أبوه فَجَعَلَ قَيداً في رِجْلَيهِ ثُمَّ حَبَسهُ في بيتِهِ، قال: فَبَعثْتُ إلى النَّصارى إذا قَدِمَ عليكم رَكْبٌ من الشَّامِ فَأَخبِرُونِي بهم، حتى إذا أَرَادُوا الرَّجعَةَ إلى بلادِهِم ألقيتُ الحَدِيدَ مِنْ رِجْلِي ثُمَّ خَرَجْتُ معهم هَارباً من أبي ودِينِهِ!
اللهُ أكبرُ -عبادَ اللهِ- إنَّها غايةُ المعاناةِ بالبحثِ عن الحقيقةِ وعن الطمأنينةِ التي لم تَجِدْ إلى قلبهِ سبيلاً! قَدِمَ معهمُ الشَّامَ فسألَ عن أَفْضَلِ أهلِ الدِّينِ فيها، قالوا: الأَسْقُفُ في الكنيسةِ, قال: فجئتُهُ فقلتُ: إنِّي رَغِبْتُ في دِينِكَ وأحببتُ أنْ أَخْدِمَكَ وَأَتَعَلَّمَ مِنْكَ، قال: فَادْخُلْ فَدَخَلْتُ مَعَهُ فكانَ رَجُلَ سُوءٍ؛ يَأْمُرُهم بالصَّدَقَةِ وَيُرَغِّبُهُمْ فِيها، فإذَا جَمَعُوا إليهِ شيئًا اكْتَنَزَ لِنَفْسِهِ ولَمْ يُعطِ المَسَاكِينِ شيئاً، فَأَبغَضتُهُ بُغْضاً شَدِيداً لِمَا رَأَيتُهُ يَصْنَعُ، فلمَّا مات اجتمعوا لِيدفنُوهُ فقلتُ لهم: إنَّه رَجُلُ سُوءٍ, قالوا: وما عِلمُكَ بذلك؟! قلتُ: أنا أدُلُّكُم على كَنْزِهِ، فاستخرجوا ذَهَبَاً وَوَرِقاً، فقالوا: والله لا ندفِنُه أبدًا، فَصَلُبُوهُ ثُمَّ رَجَمُوهُ بالحجارةِ! ثُمَّ جاؤوا بآخرَ فجعلُوهُ مكانَهُ، فما رأيتُ رَجُلاً أَفْضَلَ منه ولا أَزْهَدَ، فأحببتُه حبًّا شَديداً, فَأَقَمْتُ مَعَهُ زَماَنًا ثم حَضَرَتْهُ الوَفَاةُ, فأوصاني لِرَجلٌ بالموصلِ هناكَ بالعراقِ فلَحَقتُ به، فوجدتُهُ خيرَ رجلٍ, ثُمَّ إلى عَمُّورِيَّةَ بالشَّامِ, فَلَحِقْتُ به وأخبرتُه خَبَرِي فقال: أَقِمْ عندي، فأقمتُ عندَ رجلٍ على هَدْيِ أصحابِه وأمرِهم، وكنتُ قد اكتَسَبْتُ لي بَقَراتٍ وغُنَيمَاتٍ، فلما نَزَلَ به أمرُ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-, قال: أيْ بُنَيَّ: لقد أظلَّكَ زَمَانُ نَبِيٍّ مَبعوثٍ بِدِينِ إبْرَاهيمَ، يَخْرُجُ بأرضِ العربِ مُهَاجِرًا إلى أرضٍ بينَ حَرَّتَينِ بينهمَا نَخْلٌ، يقصِدُ المدينةَ النَّبويَّةَ!
اللهُ أكبرُ!! سينطلِقُ من عَمُّورِيَّةَ من الشَّامِ إلى المدينةِ النَّبويَّةِ, نعم! ولكن ما هي علاماتُ هذا النَّبيِّ؟! فقالَ صاحبُ عَمُّورِيَّةَ: إنَّهُ يأكلُ الهديَّةَ ولا يأكلُ الصَّدَقَةَ, وبينَ كَتِفَيهِ خَاتَمُ النُّبوَّةِ، فإنْ استطعتَ أنْ تَلْحَقَ بِتِلكَ البِلادِ فَافعَلْ، فَمَرَّ نَفَرٌ من التُجَّارِ فقلتُ لهم: تَحمِلُونِي إلى أرضِ العَرَبِ وأعطِيكم بَقَرَاتِي هذهِ وغُنَيمَتِي, قالوا: نعم، فأعطيتُهم إيَّاها وَحَمَلُونِي، حتى إذا قَدِمُوا بي وادِي القُرَى ظَلَمُونِي فَبَاعُونِي لِرَجلٍ من يهودَ، فكنتُ عندَه ورأيتُ النَّخلَ فَرَجَوتُ أنْ يكونَ البلد الذي وُصِفَ لي, وبينما أنا عندَه قَدِمَ عليه ابنُ عَمٍّ لهُ من بني قُرَيظَةَ فابتَاعَنِي فَاحتَمَلَنِي معهُ إلى المدينةِ، فوالله ما إنْ رأيتُها حتى عَرفْتُها! فأقمتُ بها وَبَعثَ اللهُ رَسُولَهُ بِمَكَّةَ حتى هاجرَ إلى المدينةِ، فواللهِ إنِّي لَفِي رأسِ عَذْقٍ من نَخلٍ لِسَيِّدِي, لأنَّهُ يعملُ فلاَّحًا, إذْ أَقبَلَ ابنُ عَمِّه فقال: قاتلَ اللهُ بني قِيلَةَ -يعني بهمُ الأنصارَ- والله إنَّهم الآنَ لَمُجتَمِعُونَ بِقُبَاءٍ على رَجُلٍ قَدِمَ عليهم من مَكَّةَ يَزعُمُ أنَّهُ نَبِيٌّ، فَلَمَّا سَمِعتُها أخذتني رِعْدَةً حتى ظننتُ أَنِّي سَاقِطٌ على سَيِّديِ، فنَزَلْتُ عن النَّخلةِ فجعلتُ أقولُ لابنِ عَمِّهِ: ماذا تَقُولُ؟! فَغَضِبَ سَيِّدِي فَلَكَمَنِي لَكْمَةً شَدِيدَةً وقالَ: ما لَكَ ولِهَذا؟! أقبلْ على عَمَلِكَ، قلتُ: لا شيءَ، إنَّما أردتُّ أنْ أستَثْبِتَهُ عمَّا قالَ!
أتدرونَ -يا كرامُ- مَنْ صاحِبُنا البَاحثُ عن الحقيقةِ والإسلامِ؟! إنَّهُ أبو عبدِ اللهِ سلمانُ الفارسيُّ -رضي اللهُ عنهُ وأرضاهُ-، فكيفَ تعرَّفَ على رسولِ الله؟! وما الشَّعورُ الذي خالَجَهُ عندما رأى صِدْقَ نُبُوَّتهِ؟! هذا ما نتعرَّفُ عليهِ قريباً -بإذنِ اللهِ تعالى-.
وَصَدَقَ اللهُ: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ).
أقولُ ما سَمعتم وأستغفرُ اللهَ لي ولكم ولسائرِ المسلمينَ من كلِّ ذنبٍ، فاستغفروه إنَّهُ هو الغَفُورُ الرَّحيمُ.
الخطبة الثانية:
الحمدُ لله رفعَ قدرَ أولي الأقدارِ، نشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الواحدُ القهارُ، ونشهدُ أنَّ محمداً عبدُ الله ورسولُه المصطفى الْمُختارُ، صلَّى الله وسلَّم وباركَ عليه وعلى آله الأطهار وأصحابِه المهاجرينَ والأنصارِ، والتَّابعين ومن تبعهم بإحسانٍ وإيمانٍ إلى يومِ القرارِ.
أمَّا بعدُ:
فيا عبادَ اللهِ: اتَّقوا اللهَ تعالى حقَّ تُقاتِه، ولا تَمُوتُنَّ إلاَّ وأنتم مُسلِمونَ.
لم يزلْ صحابِيُّنا الجليلُ سلمانُ الفارسيُّ -رضي اللهُ عنهُ وأرضاهُ- يتنقَّلُ منِ المشرقِ إلى المغربِ باحثاً عن نبيِّ هذهِ الأمَّةِ، فما أنْ سَمِعَ بِمَقدَمِهِ إلى المدينةِ النبوِّيَّةِ, حتى جَمَعَ ما عندهُ من طعامٍ ثُمَّ ذهبَ إلى رسول الله وهو بِقُبَاءٍ؛ لِيستَبينَ ما قالهُ صاحِبُ عَمُّورِيَّةَ من أنَّ نبيَّ اللهِ يأكلُ الهديَّةَ ولا يأكلُ الصَّدَقَةَ, وأنَّ بينَ كَتِفَيهِ خَاتَمَ النُّبوَّةِ, دَخَلَ على رسُولِ اللهِ فقالَ: بَلَغَنِي أنَّكَ رجلٌ صالحٌ ومعكَ أصحابٌ لكَ غُرباءَ ذَوُو حَاجَةٍ، وهذا شيءٌ عندي للصَّدَقَةِ، فَرَأيتُكم أحَقَّ به مِن غَيرِكُم، فَقَرَّبْتُهُ إليه فقالَ رسولُ الله –صلى الله عليه وسلم- لأصحابِه: "كُلُوا"، وأَمْسَكَ يَدَه فلم يأكلْ، فقلتُ في نفسي: هذه واحدةٌ، ثُمَّ انصرفتُ عنه, فَجمَعتُ شيئًا من طعامٍ وقد تَحَوَّلَ رسولُ الله إلى المدينةِ، فقلتُ: هذه هديةٌ أكرمتُكَ بها، فأكلَ رسولُ اللهِ منها وأَمَرَ أصحَابَهُ فَأَكَلُوا معه، فقلتُ في نفسي: هاتَانِ اثنَتَانِ، ثُمَّ جئتُه وهو بِبَقِيعِ الغَرْقَدِ قد تَبِعَ جَنَازَةً وعليه شَمْلَتَانِ التَحَفَ بهما، فَسَلَّمتُ عليه ثُمَّ استدرتُ أنظرُ إلى ظهرِهِ لِأَرَى الخَاتَمَ الذي وُصِفَ لي، فَلَمَّا رآني رسولُ الله عَرَفَ أَنِّي أسْتَثْبِتُ عن شيءٍ, فألقى رداءَه عن ظَهْرِهِ فنظرتُ إلى الخَاتَمِ، فانْكَبَبْتُ عليه أُقَبِّلُهُ وَأبْكِي، وأمُسِكُ ظَهرهُ! فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "تَحَوَّل"، تعالَ من الأمَام، فَقَصَصْتُ عليه حَدِيثي.
أيُّها المؤمنونَ: فهل صفا الدَّهرُ لِسلمَانَ؟! كلاَّ فلقد كانَ عبداً رَقِيقًا لِيهوديٍّ لا يَستَرِيحُ مِن العَنَاءِ والعَمَلِ! حَتَّى إنَّهُ فَاتَهُ مَعَ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- بَدْرٌ، وَأُحُدٌ! فأَشارَ عليه رسولُ اللهِ أن يُكاتِبَ سيَّدهُ حتى يُعتَق, فَكَاتَبَ صَاحِبَهُ عَلَى ثَلَاثِمِائَةِ نَخْلَةٍ يُحْيِيهَا لَهُ، وَأَرْبَعِينَ أُوقِيَّةً، فَقَالَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم- لِأَصْحَابِهِ: "أَعِينُوا أَخَاكُمْ". فَأَعَانُونِي بِالنَّخْلِ: الرَّجُلُ بِثَلَاثِينَ وَدِيَّةً -يعني فَسِيلَةً-، وَالرَّجُلُ بِعِشْرِينَ، حَتَّى اجْتَمَعَتْ لِي ثَلَاثُمِائَةِ وَدِيَّةٍ، فَقَالَ لِي رَسُولُ اللهِ: "اذْهَبْ -يَا سَلْمَانُ- فَفَقِّرْ لَهَا -يعني احفر لها-، فَإِذَا فَرَغْتَ فَائْتِنِي أَكُونُ أَنَا أَضَعُهَا بِيَدَيَّ".
فَفَقَّرْتُ لَهَا، وَأَعَانَنِي أَصْحَابِي، حَتَّى إِذَا فَرَغْتُ مِنْهَا خَرَجَ رَسُولُ اللهِ مَعِي فَجَعَلْنَا نُقَرِّبُ لَهُ الْوَدِيَّ وَيَضَعُهُ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- بِيَدِهِ، فَوَالَّذِي نَفْسُ سَلْمَانَ بِيَدِهِ، مَا مَاتَتْ مِنْهَا وَدِيَّةٌ وَاحِدَةٌ، َفأَدَّيْتُ النَّخْلَ، وَبَقِيَ عَلَيَّ الْمَالُ، فَأُتِيَ رَسُولُ اللهِ بِمِثْلِ بَيْضَةِ الدَّجَاجَةِ مِنْ ذَهَبٍ مِنْ بَعْضِ الْمَغَازِي، فَقَالَ: "مَا فَعَلَ الْفَارِسِيُّ الْمُكَاتَبُ؟!، فَدُعِيتُ لَهُ، فَقَالَ: "خُذْ هَذِهِ فَأَدِّ بِهَا مَا عَلَيْكَ يَا سَلْمَانُ"، فَقُلْتُ: وَأَيْنَ تَقَعُ هَذِهِ يَا رَسُولَ اللهِ مِمَّا عَلَيَّ؟! قَالَ: "خُذْهَا، فَإِنَّ اللهَ سَيُؤَدِّي بِهَا عَنْكَ"، فَأَخَذْتُهَا فَوَزَنْتُ لَهُمْ مِنْهَا، فوَالَّذِي نَفْسُ سَلْمَانَ بِيَدِهِ، أَوْفَيْتُهُمْ حَقَّهُمْ، وَعَتَقْتُ، فَشَهِدْتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- الْخَنْدَقَ، ثُمَّ لَمْ يَفُتْنِي مَعَهُ مَشْهَدٌ".
عبادَ اللهِ: لم يكنُ سلمانُ مُجاهداً فحسبُ، بل كانَ يَعرِفُ فُنُونَ الحربِ، فهو الذي أَنْقَذَ اللهُ بهِ المسلمينَ حين أشارَ عليهم بحفرِ الخندقِ الذي أدْهَشَ قُريشاً وجندَها، فكانَ فارسَ غَزوَةِ الخندقِ ومُهندِسَهَا، لذا تَخاصَمَ الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ فِي سَلْمَانَ، كُلٌّ يُريدُهُ، فَقَالَ الْمُهَاجِرُونَ: سَلْمَانُ مِنَّا، وَقَالَتِ الْأَنْصَارُ: بل سَلْمَانُ مِنَّا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "سَلْمَانُ مِنَّا أَهْلَ الْبَيْتِ".
سلمانُ هو مَنْ أنشدَ:
أَبِي الإسلامُ لا أبَ لي سِواهُ | إذا افتَخَرُوا بِقَيسٍ أو تَمِيمٍ |
معاشرَ الشَّبابِ: سلمانُ الفارسيُّ مَدرَسةٌ في التَّضحيةِ والفِدَاءِ والبحثِ عن الدِّينِ والسَّعادَةِ، فأينَ منَ يَتَخَبَّطُونَ في الظُّلمِ وَيَتِيهونَ في أوحالِ الشَّهواتِ؟! ويتأثَّرونَ بأفكارِ الكُفرِ والإلحادِ وهم في مَهبطِ الوحي وأرضِ الرِّسالَةِ! وصدَقَ اللهُ: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى).
فدُونَكُمُ النُّور والهِدَاية، وعندَّكم السُّنَّةُ والسَّعادَةُ، واحذروا فمن: (لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ).
سلمانُ أعطى المُسلِمينَ وغيرَهم درساً أنَّ التَّديُنَ ليسَ مَظهراً إنَّما هو مَخبرٌ كذلكَ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ).
في قِصَّةِ سلمانَ تَجَلَّى التَّواضُعُ من المُربِّي الأولِ بِأحلى وأَبهى مَنَاظِرهِ, تَجَلَّى الحرصُ والتَّكاتُفُ والأخُوَّةُ الإيمانِيَّةُ من الصَّحابَةِ الكرامِ بِأعلى مَعانِيها, في قِصَّةِ سلمانَ نعلم أنَّهُ لا شيءَ يجمعُنا غيرُ الدِّينِ، فلا أرضَ ولا نسبَ ولا قبيلَةَ: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ).
فاللهمَّ بَصِّرنا من العَمَى, واهدنا من الضَلالةِ, وأرِنَا الحَقَّ حَقًّا وارزقنا اتباعه، والباطلَ باطلاً وارزقنا اجتنَابَهُ, اللهمَّ اجعل القرآن العظيمَ ربيعَ قلوبنا, ونورَ صدورِنا وجلاءَ أحزانِنا.
اللهمَّ إنَّا نعوذُ بك من الهمِّ والْحَزَنِ, ونعوذُ بك من العجزِ والكسلِ.
اللهمَّ أصلح لنا دينَنَا الذي هو عصمةُ أمرِنا، وأصلح لنا دُنيانا التي فيها مَعَاشُنَا، وأصلحْ لنا آخرَتَنَا التي إليها معادنا، اللهمَّ زيِّنَّا بزينةِ الإيمانِ والتَّقوى.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً، وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.
عباد الله: اذكروا الله العظيمَ يذكركم، واشكروه على عمومِ نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.