البحث

عبارات مقترحة:

السلام

كلمة (السلام) في اللغة مصدر من الفعل (سَلِمَ يَسْلَمُ) وهي...

الكبير

كلمة (كبير) في اللغة صفة مشبهة باسم الفاعل، وهي من الكِبَر الذي...

العظيم

كلمة (عظيم) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فعيل) وتعني اتصاف الشيء...

التقاعد والعمل للإسلام

العربية

المؤلف صالح بن عبد الله بن حميد
القسم خطب الجمعة
النوع نصي
اللغة العربية
المفردات التربية والسلوك - نوازل الأحوال الشخصية وقضايا المرأة
عناصر الخطبة
  1. بركةُ العمر حُسن العمل .
  2. ضرورة إدراك المعنى الحقيقي للحياة .
  3. نظرة الإسلام لحياة الإنسان .
  4. الحكمة من إيجاد سن معين للتقاعد .
  5. فائدة التقاعد للمسنين .
  6. العمل للإسلام في سن التقاعد .
  7. تطلع الإنسان إلى الأفضل في حياته .
  8. ضرورة تقدير المسنين بعد تقاعدهم .

اقتباس

وفي النظرة العاقِلة حياةُ المرء حياةٌ واحدةٌ ممتدَّةٌ منذ الولادة حتى الممات، ما بين طفولةٍ وفتُوَّة، وكهولةٍ وشيخوخة، وكلُّها تعلُّمٌ وعلمٌ وعملٌ وعبادةٌ وإنتاجٌ. ومن لطائِف خلقِ الله وصُنعه، وآياته وحكمته: أن ضعفَ البدن يُقابِلُه قوةُ العقل، ووهن العظم يُقابِلُه قوةُ الفهم، واشتِعالَ الشَّيب يُقابِلُه ظهورُ الحكمة، فالإنسانُ مُكلَّفٌ ومُنتِجٌ ما دام مُتمتِّعًا بقوَّته وعقلِه، يجمعُ ذلك: قولُ الله -عز وجل-: (وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) [التوبة: 105].

الخطبة الأولى:

الحمد لله، الحمد لله تعالى في كماله عن الأشباه والنظائر، وتقدَّس في جلاله أن تُدرِكَه الأبصار أو تُحيط به الضمائر، العظمةُ رداؤُه، والكبرياءُ إزارُه، فمن نازعَه فهو الخاسرُ البائرُ، أحمده -سبحانه- وأشكرُه على خيرِه العَميم وفضلِه المُتكاثِر، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةَ حقٍّ ويقينٍ تُنجِي صاحبَها يوم تُبلَى السرائر، وأشهد أن سيِّدَنا ونبيَّنا محمدًا عبدُ الله ورسولُه، صاحبُ المقام المحمود، والحوض المورود، والشافع المُشفَّع في الصغائِر والكبائِر، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه، وعلى آله الطيبين، وأصحابِه الغُرِّ الميامين أُولي الألباب والبصائِر، والتابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وسلَّم تسليمًا كثيرًا مزيدًا ذُخرًا في القيامة من أعظم الذخائِر.

أما بعد:

فأُوصيكم -أيها الناس- ونفسي بتقوى الله، فاتقوا الله -رحمكم الله-؛ فتقوى الله عزٌّ من غير عشيرة، وعلمٌ من غير طلب، وغِنًى من غير مال، وأُنسٌ من غير جماعة.

يا عبد الله: بركةُ العمر حُسن العمل، والندمُ طريقُ التوبة، وآفةُ الرأي الهوى، وأشدُّ البلاء شماتةُ الأعداء، وكثرةُ العِتاب تُورِثُ الضَّغينة، والتودُّد نصفُ العقل، والغِيبةُ جُهدُ العاجِز، ومن أراد إصلاحَ أهله والناس فليُصلِح نفسَه: (وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا) [الفرقان: 31].

أيها المسلمون: لا تطيبُ الحياةُ إلا بسمُوِّ معناها، ولا يسمُو معناها إلا حين يُدرِكُ العبدُ عظمةَ الخالق -عزَّ شأنُه-، ثم ينظرُ بعد ذلك في الغاية من الخلق وثمرة السعي والعمل، وحينئذٍ لا تضطرب عنده الأولويات، ولا تتشتَّتُ به الهموم، ولا يتسلَّلُ به القلق، ولا تستبِدُّ به الحيرة.

إن إدراك معنى الحياة مما فطَرَ الله الناسَ عليه، فمنحَ -سبحانه- عبادَه قُدراتٍ وعلومًا ومواهِب، وهداهم النجدَين، وجعلَ كلاًّ مُيسَّرًا لما خُلِق له: (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ) [الروم: 54].

حياةُ الإنسان مراحِل، وعُمرهُ منازِل، يحياها ويتنقَّلُ فيها، ويعيشُها، ويعملُ فيها، يتَّعِظُ من مُتغيِّراتها، ويعتبِرُ من تقلُّباتها؛ بل إن لكل مرحلةٍ من مراحِل عُمره أعمالاً تليقُ بها، إن لم يُحسِن الاستفادةَ منها مضَت في ضياع، وانقَضَت في إهمال.

ولهذا جاء في الحديث: "اغتنِم خمسًا قبل خمس: صحَّتَك قبل مرضِك، وشبابَك قبل هرمِك، وغِناكَ قبل فقرِك، وفراغَك قبل شُغلك، وحياتَك قبل موتِك".

وفي الحديث الآخر: "لن تزولَ قدمَا عبدٍ يوم القيامة حتى يُسألَ عن أربع: عن عُمره فيما أبلاه، وعن مالِه من أين اكتسَبَه وفيمَ أنفقَه، وعن شبابِه فيما أفناه، وعن علمِه ماذا عمِلَ به".

وفي النظرة العاقِلة حياةُ المرء حياةٌ واحدةٌ ممتدَّةٌ منذ الولادة حتى الممات، ما بين طفولةٍ وفتُوَّة، وكهولةٍ وشيخوخة، وكلُّها تعلُّمٌ وعلمٌ وعملٌ وعبادةٌ وإنتاجٌ.

ومن لطائِف خلقِ الله وصُنعه، وآياته وحكمته: أن ضعفَ البدن يُقابِلُه قوةُ العقل، ووهن العظم يُقابِلُه قوةُ الفهم، واشتِعالَ الشَّيب يُقابِلُه ظهورُ الحكمة، فالإنسانُ مُكلَّفٌ ومُنتِجٌ ما دام مُتمتِّعًا بقوَّته وعقلِه، يجمعُ ذلك: قولُ الله -عز وجل-: (وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) [التوبة: 105].

هذه هي حياةُ الإنسان في الإسلام، وهذه هي نظرةُ المُسلمين للحياة.

معاشر المسلمين: يُقال ذلك كلُّه والإنسانُ في هذا العصر تربِطُه بالأعمال نُظُمٌ وتنظيمات، تجعلُ كثيرًا من الأعمال والوظائِف محدودةً بسنٍّ مُعيَّن، وبمُؤهِّلاتٍ وخبراتٍ، وبدايةٍ ونهايةٍ. وكل ذلك جاءَت به الحياةُ المُعاصِرة، وهو تنظيمٌ له مُسوِّغاتُه المقبولة، فهو يُسهِمُ في استِمرار حركة المُجتمع، ومُراعاة تزايُد العاملين، وإتاحة الفُرص للمُتنافِسين، وهو تنظيمٌ له مُلاءَمته، وواقعيَّته في مسارِ حياة الإنسان، ومراحِل عُمره، ولو دامَت لغيرك ما وصلَت إليك.

فأخوك ينتظِرُ الفُرصةَ بعدك، كما كنتَ تنتظِرُ الفرُصةَ ممن قبلَك؛ فمُوظَّفُ اليوم مُتقاعِدُ الغد، ومُتقاعِدُ اليوم مُوظَّفُ الأمس، وهذه هي مراحِلُ الحياة في تنقُّلاتها وتقلُّباتها وغِيَرها وعِبَرها: (أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ) [فاطر: 37].

وإذا كان ذلك كذلك فينبغي لهذا الموظَّف الكريم، والعامِل النبيل الذي انتهَت فترةُ عمله ألا يكون أسيرَ حياةٍ ماضِية، ووظيفةٍ انتهَت مُدَّتُها، وليس بالحكمة أن يُلقِيَ باللائِمة على غيرِه من الأهل وأرباب العمل والمُجتمع والأنظمة وغيرها.

ومن الطريف المعلوم: أن موعِد انتهاء الخدمة معروفٌ ومحسوبٌ بالشهور والأيام. فلماذا المُفاجأة، ولماذا الاضطراب؟!

نعم، إن من الحكمة ألا يتشبَّث المرءُ بمرحلةٍ مُعيَّنةٍ من حياته؛ بل ينبغي أن يُحسِن الظنَّ، فإن القادمَ -بإذن الله- أفضل، وليعلمَ العاقلُ أن مصدرَ السعادة ليست في الراتب، ولا في الدخل المادِّي وحدَه، ولا في وظيفةٍ بعينِها؛ بل السعادةُ -بعد توفيق الله وحُسن عبادتِه- في العمل، والعملُ لا ينتهي.

فالعمل هو عامرُ الحياة المُمتدة، وهو بانِي العلاقات الاجتماعية، وهو الذي يُبرِزُ للإنسان قيمتَه ومكانتَه، وهذا مُستمرٌّ لا ينتهِي، فهو مع المرء ما دام حيًّا قادرًا؛ فالموظَّف ترك الوظيفة ولم يترُك العمل، والوظيفة مُدَّةٌ نظاميَّةٌ تنتهي، أما العملُ والحاجةُ والكفاءةُ فتلك باقياتٌ ما بقِيَت القدرةُ والحياة.

حكيمٌ من ينظر إلى التقاعُد على أنه بوابةٌ يُطلُّ منها على ميادين الحياة الفَسيحة، تلك الميادين الواسِعة التي صرَفَتها أو شغلَتها عنه وظيفتُه.

التقاعُد بوابةٌ تتفتَّحُ على بيئةِ عملٍ جديدٍ، ومجالاتٍ واسِعة. فالمرءُ يملِك الوقت حتى آخر لحظةٍ من عُمره.

وقد علِم النابِهون أن الإبداعَ والجديَّة والهمَّة لا تسألُ الإنسانَ عن عُمره، ولا يمنع المرءَ عن الجدِّ والعمل إلا العجزُ والكسلُ.

التقاعُد نقلةٌ وتجربةٌ وتغييرٌ، وليس تعطيلَ قُدرات، ولا نبذَ خبرات؛ بل هو فُرصةٌ لإطلاقِ طاقاتٍ كامِنةٍ، ورغَباتٍ دفينةٍ كانت الوظيفةُ قد قيَّدَتها أو طمَرَتها.

وجميلٌ ما فهِمَه بعضُ أصحاب الهِمَم من العبارة المُتداوَلَة: "فُلانٌ طُوِيَ قيدُه". فقال هذا العارِفُ: لقد طُوِيَ القيدُ من الارتباط، فأصبحَ المرءُ حرًّا في ميادين أرحَب، ومجالاتٍ أوسع، في مجالاتٍ لا تُقيِّدُها الأنظمة.

طيُّ القيد وطيُّ الملف كطيِّ الفِراش، من أجل مزيدٍ من العطاء والتشمير والعمل، والخدمة لم تنتهِ؛ فالجدُّ مُتواصِل، والهمَّةُ دافعةٌ دافقةٌ.

ومن تجارِبُ المُتقاعِدين: من لم تكن له بدايةٌ مُورِقة لا تكون له نهايةٌ مُشرِقة، حياةُ المرء وحيويَّته ليست مربوطةً أو متوقفةً على عملٍ نظاميٍّ، أو وظيفةٍ مُؤقَّتةٍ. الحياةُ ملأى بأنواع الفُرص وميادين الإمكانات للراغِب الصادِق، والباحِث الجادِّ.

كيف وقد أصبحَ المرءُ بعد هذا العمل الطويل مصدرًا لا ينضَب من الخبرة؟! وكنزًا لا يُعوَّضُ من التجربة؟!

يُؤكِّدُ ذلك -معشر الأحبَّة- أن مفهومَ العباد في الإسلام واسِعٌ، وقد قال ربُّ العزَّة: (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) [الحجر: 99].

والعملُ في دينِنا من أهمِّ أنواع العبادات لمن صلُحَت نيَّتُه، وحسُنَ عملُه. إنه كسبٌ واستِغناءٌ وعفَّةٌ ومثوبةٌ، إنه العملُ الصالحُ بأوسع معانِيه: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [النحل: 97].

وفي الحديث عند الحاكم عن جابر -رضي الله عنه- قال: قال رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: "ألا أُخبِرُكم بخِيارِكم؟!"، قالوا: بلى يا رسول الله. قال: "خيارُكم أطولُكم أعمارًا وأحسنُكم أعمالاً".

وعند أحمد والترمذي من حديث عبد الله بن بُسر قال: قال رسولُ الله -صلى الله عليه وآله وسلم-: "خيرُ الناس من طالَ عُمره وحسُن عملُه".

الحياة في الإسلام عملٌ وجدٌّ وكِفاحٌ، وجهادٌ ومُجاهدةٌ، وبذلٌ وعطاءٌ، تُجسِّدُ ذلك: سيرةُ نبيِّنا محمدٍ -صلى الله عليه وسلم- وسِيَرُ أصحابه -رضوان الله عليهم- وأتباعهم بإحسان.

وهل وقفتُم -وفقكم الله- عند هذه الأدعية التي يُردِّدها المسلمُ في أورادِه؟! فهو يقول ويدعُو ويسألُ ربَّه: اللهم اجعل خيرَ عُمري آخرَه، وخيرَ أعمالي خواتِيمَها.

ويقول: وأحسِن اللهم عاقبَتي في الأمور كلِّها.

ويقول: وأصلِح لي دُنياي التي فيها معاشِي، واجعل الحياةَ زيادةً لكل خير.

كلُّها أدعيةٌ تُطالِبُ بالأفضل والأحسن والأجود والأنفع والأصلَح. فالمُسلمُ يُؤكِّدُ بهذه الأدعية وأمثالِها أنه ذو همَّة، وأنه مُتطلِّعٌ من ربِّه إلى الأعلى والأجوَد والأنفَع والأصلَح.

ألم يقُل نبيُّنا محمدٌ -صلى الله عليه وسلم-: "وإن قامَت الساعةُ وفي يدِ أحدِكم فسِيلةٌ، فإن استطاعَ ألا تقومَ حتى يغرِسَها فليفعَل".

وابن مسعودٍ -رضي الله عنه- يقول: "إني لأمقُتُ الرجلَ أن أراه فارِغًا ليس في شيءٍ من عمل الدنيا ولا عمل الآخرة".

فيا عبد الله: لا تكُن أسيرَ حياةٍ ماضِية؛ فإن من الدين والعقل والحكمة والحَزم ألا ينظُر الإنسانُ إلى الخلف، بل يسعَى في بناء حياةٍ جديدةٍ، أو فُرصٍ جديدةٍ. فكُن فعَّالاً ذا عزيمة، واعلَم أنك إذا حزِنتَ حزِنتَ وحدَك، وإذا ابتسَمتَ ابتسَمَت لك الحياة، وابتسَمَ معك الجميع.

أيها الإخوة: وقد يكون من نِعَم الله في هذا العصر أنه عصرُ التقنيات، قد تكفِيه الحاجةُ للأعمال اليدوية والعضلية، وتوسَّعَت وسائلُ العمل التقنِيِّ والآليِّ عن بُعدٍ وعن قُربٍ في معينٍ من الفُرص لا ينضَب.

وبعد:

عباد الله: فليس في حياة المُسلم فراغٌ، فهو يُحسُّ بإحساس أمَّته، يعيشُ همومَها، ويفرحُ فرحَها، ويحزَنُ لمآسِيها، ويأملُ في آمالها، ويتألَّم لآلامِها، وهو من جانِبٍ آخر في علمٍ وعملٍ وعبادةٍ، في زياراتٍ وصِلةِ رحِمٍ وتواصُلٍ وأعمالٍ خيرية وخدماتٍ اجتماعيَّة، وسدِّ ثَغَراتٍ، وأمرٍ بمعروفٍ، ونهيٍ عن مُنكر، وإرشادٍ وتوجيهٍ واحتِسابٍ.

إن لربِّك عليك حقًّا، وإن لنفسِك عليك حقًّا، وإن لأهلِك عليك حقًّا، فأعطِ كلَّ ذي حقٍّ حقًّا.

وهل في مثلِ هذا تقاعُد!! وهل يصحُّ أن يكون في المُسلمين قاعِد؟!

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ) [الأنعام: 162، 163].

نفعني الله وإياكم بالقرآن العزيز، وبهدي محمدٍ -صلى الله عليه وسلم-، وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ وخطيئةٍ؛ فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله، الحمد لله المُتفرِّد بكبريائِه وعظمتِه، أحمدُه -سبحانه- وأشكرُه وأسألُه المزيدَ من فضلِه ونعمتِه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في أسمائِه وصفاتِه، وفي ربوبيَّته وألوهيَّته، وأشهد أن سيِّدَنا ونبيَّنا محمدًا عبدُ الله ورسولُه الرؤوفُ بالمؤمنين الرحيمُ بأمَّتِه، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه، وعلى آلِهِ وأزواجِه وعِترتِه، والتابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ وسارَ على نهجِه وطريقتِه، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.

أما بعد:

معاشر المسلمين: من حقِّ هذه النفوس الكريمة التي انتهَى عملُها النظاميُّ أن تطمئنَّ بعدما جاهَدَت بصحَّتها ووقتها وفِكرِها، وأفنَت أيام حياتها لتبنِيَ أُسرة، وتعمُر مُؤسَّسة، وتخدمَ أمَّةً، فأضاءَت للمُجتمع دُروبَ الخير، وأجرَت ينابيعَ النفع، لا ينبغي أن يتوقَّفَ هذا النفع، أو ينتهي عند أبوابِ التقاعُد.

ليس من الوفاء أن من قدَّم لأمَّته زهرةَ عُمره وأيام جدِّه وحيويَّته أن يُفرَّط فيه آخرَ عُمره، من حقِّه أن يُقدَّر له عملُه، ويُحفَظ له ما قدَّم، وأن يُنظَر فيما يمكن أن يُفيدَ فيه من الفُرص والمجالات، في غير مِنَّةٍ ولا شفقةٍ؛ بل ثقةً به واعتِرافًا بحقِّه وقُدراته.

بل لعلَّ في لفتِ القرآن الكريم إلى تذكُّر حقِّ الوالدين في وقت عطائِهما وكريمِ عملِهما ما يدلُّ على ما ينبغي من امتِداد الوفاء لكل عاملٍ، والاعتِرافِ بالجميل لكل ذي جميل: (وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا) [الإسراء: 24].

من حقِّ هذه الفئة العزيزة الغالية أن يُقدَّم لها ما يُؤكِّدُ الاعتِرافَ بفضلِها وكريمِ صُنعِها.

ألا فاتقوا الله -رحمكم الله-، واعلموا أن المُجتمع لم يستغنِ البتَّةَ عن عملِ هؤلاء وكفاءاتهم وخِبراتهم، ولكنها المُدَّةُ النظاميَّةُ انتهَت وليس إلا، أما العملُ والكفاءةُ والقُدرةُ والحاجةُ فباقيةٌ مُمتدَّة، والدليلُ الظاهرُ أن كثيرًا من الدول والمُؤسَّسات تستعينُ بخبراتٍ تجاوَزَت السنَّ النظاميَّة المحدودة في داخِلِ الدول وخارجِها.

وإن السنَّة العُمَريَّة الراشِدة هي أولُ من خصَّصَ المُخصَّصات للعاجِزين عن الكسبِ من المُسلمين والمُعاهَدين وأهل الذمَّة.

هذا، وصلُّوا وسلِّموا على الرحمة المُهداة، والنعمة المُسداة: نبيِّكم محمدٍ رسول الله؛ فقد أمركم بذلك ربُّكم في مُحكم تنزيلِه، فقال -وهو الصادقُ في قِيله- قال قولاً كريمًا: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب: 56].

اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدك ورسولك نبيِّنا محمدٍ الحبيب المُصطفى، والنبي المُجتبى، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى أزواجه أمهات المؤمنين، وارضَ اللهم عن الخلفاء الأربعة الراشدين: أبي بكر، وعُمر، وعُثمان، وعليٍّ، وعن الصحابة أجمعين، والتابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بعفوك وجُودك وإحسانك يا أكرم الأكرمين.

اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وأذِلَّ الشرك والمشركين، واخذُل الطغاة والملاحدة وسائر أعداء الملَّة والدين.