النصير
كلمة (النصير) في اللغة (فعيل) بمعنى (فاعل) أي الناصر، ومعناه العون...
العربية
المؤلف | الخضر سالم بن حليس اليافعي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | فقه النوازل |
الحكمة هي أبرز ما نحتاجه اليوم، فأين أهل الإيمان والحكمة؟ أين الحكماء في أقوالهم؟ أين الحكماء في فعالهم؟ أين الحكماء في تصرفاتهم؟ (لاَ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتَغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا) [النساء:114].
الخطبة الأولى:
أيها الإخوة: تعلمون الوضع الذي نعيشه اليوم، وصورة الحال أبلغ من كل مقال: أحداث تتسارع، وأحوال تتبدل، انقلاب في الأفكار والأقوال والأفعال. أخرجت الأرض أثقالها.
نعيش اليوم حياة غير مستقرة، يسودها الخلاف، وينعدم فيها الائتلاف، ويعمها الاستخفاف، ويكتنفها الإسفاف.
وإن من أعظم النوازل أثرًا، وأخطرها تهديدًا لاستقرار المجتمعات: النوازل الفكرية، والحراك السياسي، الذي نشهده اليوم، ونعيش تتابعاته، وفوضى آثاره ونتائجه.
كلٌّ يدعي الوطنية، كل يدعي الصراحة والأمانة والغيرة على مصالح الأمة، كل يدعي الصواب والحق الذي لا ريب فيه، كلٌّ يُدلِي بدعواه، ويرى أنها الحق، في ظل تشويشٍ وتهميش، وما الظنُّ بخصومةٍ تفتقِدُ قاضيها؟!.
إن أبرز ما نحتاجه اليوم وننتدب إليه كلّ يمنيٍّ غيور صادق: الحكمة. نعم؛ إنها البدر الذي سيمحُو ظلمة التحارُش والتهارُش، واللَّمزِ والغَمْزِ، إنها العلاج الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي.
إنها الحل الوحيد، والقرار الأكيد، إنها الأمر الرشيد، والرحمة المنزلة التي سألها فتية الكهف ربهم في شدة العسر وتقلبات الأحداث: (رَبَّنَا آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا) [الكهف:10].
الحكمة التي أصبحت غائبةً في ظل الخلافات المُتفتِّقة، الحكمة التي تقود الرَّكب إلى برِّ الأمان والنجاة من الهلَكَة، الحكمة التي يفتقِرُ إليها كلُّ مجتمعٍ ينشُدُ الفلاح لتُرتِّب لهم قائمة الأولويات ودرجات المصالح ودرَكَات المفاسِد، الحكمة التي لا تُوجَد إلا في مُستودَع المرء الصفيّ النقيّ الصادق العامل، والعالِم الواعي، والسياسيّ المُحنَّك العارف بواقعه وحال مجتمعه، المُخلِص لربِّه، المُتَّبِع لنبيه -صلى الله عليه وسلم-، الحريصِ على استقرار مجتمعه ووطنه.
الحكمةُ مأخوذةٌ من الحكم -وهو المنع-، فكأن الحكمة تمنع المرءَ من الشَّيْن، وتقودُه إلى الزَّيْن، والحكمةُ كلُّها خيرٌ، ولا تأتي إلا بخيرٍ.
والناس ثلاثة: حكيمٌ، ونزِقٌ، وجاهلٌ؛ فالحكيم: الدينُ شريعتُه، والرأيُ الحسن سجيَّتُه، وأما النَّزِق: فإن تكلَّم عجِل، وإن حدَّثَ أخطأ، وأما الجاهل: فإن حدَّثتَه شانَك، وإن وثِقتَ به خانك.
والحكمة ورد لفظُها في القرآن عشرين مرة، وقد سمَّى الله نفسَه الحكيم، ومن صفاته -جل وعلا- الحكمة.
الحكمة: وضعُ الشيء في موضعه اللائق به، هي فعلُ ما ينبغي، كما ينبغي، في الوقت الذي ينبغي.
أثنى الله على نبيه سليمان -عليه السلام- حين آتاه هذه المنَّة، فقال -سبحانه-: (فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا) [الأنبياء:79]، ووهبَ لقمانَ الحكمةَ منَّةً منه -سبحانه- وفضلاً: (وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ) [لقمان:12].
ما أُعطِي العبدُ شيئًا بعد الإيمان بالله والخُلُق الحسن أغلى من الحكمة، كيف لا؟ وهي منحةٌ اختصَّ الله بها من يشاء من عباده؛ فقد قال -سبحانه-: (يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ) [البقرة:269]، وما أُعطي أحد عطاء مثل الحكمة، (وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ) [البقرة:269].
فكم هو مُفرِّطٌ من لم يسعَ للحكمة؟ وكم هو أحمق من لم يُرِد الحكمة؟ وكم هو عبدٌ لمصالحه وشهواته من استنكَفَ عنها؟. فيا لله! ماذا يصنع فاقِد الحكمة؟! ويا لله! ماذا يخشى من أُوتِيَها؟!.
عند المُدلهِمَّات يُعرفُ الحكماء الذين لا تحكمُهم المصالحُ الشخصية والأهواءُ، عندما يكون الحَدَثُ مُشوَّشًا مُتنازَع الهويَّة، غامِضَ المآلات، فإن البُسطاء هم أول من يتَّبِعه، ويسيرُ في رِكابه، ويلهَثُ وراءه، فيسيرون كأسراب طيرٍ يتبَع بعضُهم بعضًا، يفتقِرون إلى الحكمة التي يتبلور من خلالها الرأيُ السديد، والأسلوبُ العملي الذي يتلاءَمُ مع الذهنية العامة للمجتمع بكافة مسؤولياته.
ومن هنا تبرزُ الشخصيةُ الحكيمة التي تُفكِّرُ بحسابٍ، وتعمل بحسابٍ، وتلجُم الانفعال والحماسَ والخمولَ والاستكانة بلجامٍ من عقلٍ وفكرٍ واتِّزان.
فالحكمةُ -إذن- هي ضالَّةُ المؤمن؛ أنَّى وجَدَها أخَذَ بها، ولن يجِدَها من لم يكن كتابُ الله وسنةُ نبيِّه -صلى الله عليه وسلم- هما من يقُودان فؤادَه؛ لأنها ذُكِرت في القرآن تاليةً لكتاب الله، كما قال -تعالى-: (فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ) [النساء:54]، إشارةً إلى أن الحكمة لا تكون بمفاهيمها في معزلٍ عن كتاب الله وسنة نبيِّه -صلى الله عليه وسلم- كي لا تفتقِد قيمَتَها؛ لأن العقل البشري وحدَه غيرُ كافٍ في تحصيلِ لُباب الحكمة والظَّفَر بها.
فما ظنُّكم بمجتمعٍ ترتفعُ فيه أصواتُ الحكماء؟ أترونَه سيُعاني من خلاف بني مجتمعه؟ أترونه يضِلُّ طريقَه؟ أترَونَه يكثُر فيه الخلاف والغِشُّ والظلم والأَثَرة والنِّزاع؟ كلا، وألف كلا!.
وأنتم -يا أهل اليمن- توجكم نبيكم -عليه الصلاة والسلام- بتاج الحكمة التي تجلت في أقوالكم وفعالكم عبر التأريخ.
أرسل عمر بن عبد العزيز إلى محمد بن كعب القرظي يوما، وهو أمير المدينة، يسأله عن قول الله -تعالى-: (فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ) [المائدة:54]، من هم؟ فقال محمد: هم أهل اليمن! قال عمر: يا ليتني منهم!.
أهل اليمن هم من علّم الدنيا السلام، هم من لقّن العالم المحبة، هم من نشر ثقافة الرفق، ورفع لواء اللين، وتجلت الحكمة في فعالهم في أحلك الظروف والملمات.
لغة القوة دخيلة عليهم، أحاديث العنف ليست من سماتهم، ثقافة الدم لا يؤمنون بها. ألم يسلموا برسالة وجذبهم إلى الإسلام كلمة؟ فلم ترق قطرة دم واحدة وقد دخلوا في دين الله أفواجا؟!.
هم أول من جاء بالمصافحة، شهد بذلك أنس بن مالك وهو يروي عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "يقدم عليكم غدا أقوام هم أرق قلوبا للإسلام منكم"، قال أنس: فقدم الأشعريون من أهل اليمن، فيهم أبو موسى الأشعري، فما إن قدموا تصافحوا، فكانوا هم أول من جاء بالمصافحة. رواه أحمد وهو في السلسلة الصحيحة.
يقال هذا -يا أهل اليمن- لتعرفوا من أنتم، وأي رداء ألبستم، وبأي لغة تتحدثون؟ عندما كانت البشرية، تعيش حياة غير مستقرة، يسودها الخلاف، وينعدم فيها الائتلاف، ويعمها الاستخفاف، ويكتنفها الإسفاف، كنتم أنتم في حينها تعلّمون العالم مد الأيادي، وترفعون راية التفاهم والتآخي.
فالحكمة قد تجلت فيكم عبر الأزمان، تجلت الحكمة فيكم يوم احتكمتم إلى العقل لحل مشكلاتكم، وستتجلى حكمتكم عندما تهبون لبناء دولتكم الجديدة، دولة المؤسسات والقانون.
وستتجلى حكمة اليمنيين عندما يعملون جميعاً لتأسيس جيش وأمن وطني وظيفته حماية الوطن والمواطن، ويسعى لبسط الأمن والاستقرار في كل مكان.
ستتجلى حكمة اليمنيين اليوم عندما يعززون اقتصادهم، ويوفرون عيشة كريمة للمواطن, تغنيه عن ذل السؤال, وتضمن له حياه عزيزة.
فغلِّبوا اليوم لغة الحكمة على لغة التحريض، غلبوا لغة الحكمة على لغة التحريش، غلبوا لغة الحكمة على لغة النزاع، غلبوا لغة الحكمة على لغة الفتنة وبث روح الفرقة وإذكاء نيران الصراع والخلاف.
الحكمة هي أبرز ما نحتاجه اليوم، فأين أهل الإيمان والحكمة؟ أين الحكماء في أقوالهم؟ أين الحكماء في فعالهم؟ أين الحكماء في تصرفاتهم؟ (لاَ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتَغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا) [النساء:114].