الكبير
كلمة (كبير) في اللغة صفة مشبهة باسم الفاعل، وهي من الكِبَر الذي...
العربية
المؤلف | داود بن أحمد العلواني |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الحياة الآخرة |
يا عبد الله: اتق الله، وتذكر حالتك عند حلول الأجل، ومن حولك الأهل والعيال يبكون، وأنت ضعيف مسكين مطروح على فراش الموت، لا تستطيع أن تمدّ يدًا، أو تحرك رجلاً، أو ترفع طرفًا، أو تفصح بلسان، كيف ذاك وقد أغمضت العينان، وأخرس اللسان، والتفت الساقان، وخرجت الروح إلى الملك الديان. تخيّل -يا عبد الله-: الزوجةَ والأولاد ينظرون إلى وجهِك، وكلّ منهم يناديك بصوت يقطع نياط القلوب: أبتِ، زوجِي.ثم تخيل نفسك، وقد...
الخطبة الأولى:
الحمد لله: (الَّذِى خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ)[الملك: 2].
أحمده سبحانه وتعالى القائم على كل نفس بما كسبت، المجازي لها بما عملت، المحصي عليها ما قدمت وأخرت.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، وأخرج الناس من الظلمات إلى النور.
اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين، ومن اقتفى أثرهم، وسلك سبيلهم إلى يوم الدين.
أما بعد:
فيا عباد الله: اتقوا الله -تعالى-.
واعلموا: أن هذه الحياة الدنيا ما هي إلا محطة وممر إلى الدار الآخرة، كما وصفها رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-: "ما لي وللدنيا! إنما مثلي ومثل الدنيا كراكب استظل تحت شجرة، ثم راح وتركها".
فإياكم -عباد الله-: أن تغتروا بهذه الحياة الدنيا الفانية الزائلة، وتأهبوا لما أنتم قادمون عليه لا محالة، ألا وهو: الموت الذي ينغص المضاجع، ويؤرق المنام، ييتّم الأولاد، ويرمّل النساء!.
وليس هو نهاية المطاف فحسب، فذوق الموت شيء رهيب لا بد منه، واذكروا قول الله -تبارك وتعالى-: (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ) [آل عمران: 185].
فلا تشغلنكم -أيها الناس-: هذه الدنيا عن الآخرة، ولا يصرفنكم العاجل عن الآجل، فإن ذلك لا ينبغي لعاقل، وهو يرى أن الموت حتم على كل الخلائق، ففي كل يوم نشاهد، أو نسمع؛ بموت صغير وكبير، وغني وفقير، ومملوك وملك، وأمير ووزير.
بل أين الآباء والأجداد؟! أين الأولون ومن مضى من الآخرين؟! فإلى متى الاغترار بصفاء العيش؟! وإلى متى هذه الغفلة وقد عرف المصير؟! وإلى متى الآمال والعمر قصير؟!
فيا عباد الله: إياكم والتسويف والتواني عن صالح الأعمال، فقد قرب الرحيل إلى دار لا ينفع فيها مال ولا بنون، يقول الله -تبارك وتعالى-: (يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمْ وَاخْشَوْاْ يَوْمًا لاَّ يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلاَ مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلاَ يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ) [لقمان: 33].
فيا عبد الله: اتق الله، وتذكر حالتك عند حلول الأجل، ومن حولك الأهل والعيال يبكون، وأنت ضعيف مسكين مطروح على فراش الموت، لا تستطيع أن تمدّ يدًا، أو تحرك رجلاً، أو ترفع طرفًا، أو تفصح بلسان، كيف ذاك وقد أغمضت العينان، وأخرس اللسان، والتفت الساقان، وخرجت الروح إلى الملك الديان.
تخيّل -يا عبد الله-: الزوجةَ والأولاد ينظرون إلى وجهِك، وكلّ منهم يناديك بصوت يقطع نياط القلوب: أبتِ، زوجِي.
ثم تخيل نفسك، وقد حملت على الرقاب إلى القبور، وانفردت هناك عن الأهل والأموال والأولاد والقصور، حيث لا أنيس ولا جليس، إلا ما قدّمت يداك من الأعمال، فإن كانت خيرًا تسَرّ بها إلى يوم القيامة، وإن كانت شرًا تجد بها من الحسرة والندامة، قال تعالى: (وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاء ظُهُورِكُمْ) [الأنعام: 94].
ثم تذكر نفسك -عبد الله-: إذا نفخ في الصور فصعق من في السماوات والأرض إلا من شاء الله، ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون، فيقومون من قبورهم لرب العالمين حفاة عراة غرلاً: (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْء مِنْ أَخِيهِ * وَأُمّهِ وَأَبِيهِ * وَصَـاحِبَتِهُ وَبَنِيهِ * لِكُلّ امْرِىء مّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ) [عبس: 34-37].
في هذا اليوم العظيم -أيها الناس-: يتمنى المرء الذي أجرم بحقّ نفسه في الحياة الدنيا أن يفدي نفسه بكل شيء لتكتب له النجاة، ولكن أنى له هذا ورب العزة يقول: (يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ * وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤيهِ * وَمَن فِي الأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنجِيهِ * كَلاَّ إِنَّهَا لَظَى * نَزَّاعَةً لّلشَّوَى * تَدْعُواْ مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى * وَجَمَعَ فَأَوْعَى) [المعارج: 11-18]؟!
فيا من آمن بالله واليوم الآخر: هل يليق بمن عرف مصير الأوائل والأواخر ورأى الموت يأخذ الأصاغر والأكابر أن يركن أو أن يطمئن إلى هذه الدنيا الفانية الغرارة؟! (فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلاَ يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ) [لقمان: 33]؟!.
فيا عباد الله: اعملوا بوصية نبيكم –صلى الله عليه وسلم- الذي يقول: "أكثروا من ذكر هادم اللذات" [أخرجه الترمذي في الزهد، باب: ما جاء في ذكر الموت (2308)، والنسائي في الجنائز، باب: كثرة ذكر هادم اللذات (4/4)، وهو في صحيح الجامع (1210)] يعني الموت، فكفى به من واعظ.
فانتبهوا -عباد الله-: من رقدتكم، واستدركوا بقية عمركم قبل أن يدرككم الموت، واحذروا الانهماك في دار الغرور، وإياكم أن تؤثروها على الآخرة، فتخسروا الخسران المبين: (يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ)[الشعراء: 88-89].
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (فَإِذَا جَاءتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى * يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الإِنسَانُ مَا سَعَى * وَبُرّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَن يَرَى * فَأَمَّا مَن طَغَى * وَءاثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى * وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى)[النازعات: 34-41].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
وأقول هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، ومن يهده الله فلا مضلّ له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
اللهم صل على محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليمًا.
أما بعد:
عباد الله: لقد صح عن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "إن العبد المؤمن إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال على الآخرة نزل إليه من السماء ملائكة بيض الوجوه كأن وجوههم الشمس، معهم كفن من أكفان الجنة وحنوط من حنوط الجنة، حتى يجلسوا منه مدّ البصر، ثم يجيء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه فيقول: أيتها النفس الطيبة، اخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان، فتخرج فتسيل كما تسيل القطرة من في السقاء، فيأخذها فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين حتى يأخذوها، فيجعلوها في ذلك الكفن، وفي ذلك الحنوط، ويخرج منها كأطيب نفحة مسك وجدت على وجه الأرض فيصعدون بها، فلا يمرون على ملأ من الملائكة إلا قالوا: ما هذا الروح الطيب؟
فيقولون: فلان بن فلان، بأحسن أسمائه التي كانوا يسمونه بها في الدنيا، حتى ينتهوا به إلى سماء الدنيا فيستفتحون له فيفتح له، فيشيعه من كل سماء مقربوها إلى السماء التي تليها حتى ينتهي إلى السماء السابعة.
فيقول الله -عز وجل-: اكتبوا كتاب عبدي في عليين، وأعيدوا عبدي إلى الأرض، فإني منها خلقتهم، وفيها أعيدهم، ومنها أخرجهم تارةً أخرى، فتعاد روحه فيأتيه ملكان فيجلسانه، فيقولان له: من ربك؟ فيقول: ربي الله، فيقولان له: ما دينك؟ فيقول: ديني الإسلام، فيقولان له: ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول: هو رسول الله، فيقولان له: وما علمك؟ فيقول: قرأت كتاب الله، فآمنت به وصدقت.
فينادي مناد من السماء: أن صدق عبدي، فأفرشوه من الجنة، وألبسوه من الجنة، وافتحوا له بابًا إلى الجنة، فيأتيه من روحها وطيبها، ويفسح له في قبره مد بصره، ويأتيه رجل حَسن الوجه، حسن الثياب، طيب الريح، فيقول: أبشر بالذي يسرّك، هذا يومك الذي كنت توعد، فيقول له: من أنت فوجهك الوجه يجيء بالخير؟ فيقول: أنا عملك الصالح، فيقول: رب أقم الساعة، رب أقم الساعة، حتى أرجع إلى أهلي ومالي.
وإن العبد الكافر: إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال على الآخرة نزل إليه من السماء ملائكة سود الوجوه، معهم المسوح، فيجلسون منه مد البصر، ثم يجيء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه، فيقول: أيتها النفس الخبيثة، اخرجي إلى سخط من الله وغضب، فتفرق في جسده فينتزعها كما ينتزع السفود من الصوف المبلول، فيأخذها فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين حتى يجعلوها في تلك المسوح، ويخرج منها كأنتن ريح جيفة وجدت على وجه الأرض، فيصعدون بها، فلا يمرون بها على ملأ من الملائكة إلا قالوا: ما هذا الروح الخبيث؟ فيقولون: فلان بن فلان بأقبح أسمائه التي كان يسمى بها في الدنيا، فيستفتح له فلا يفتح له، ثم قرأ: (لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّمَاءِ) [الأعراف: 40].
فيقول الله -عز وجل-: "اكتبوا كتابه في سجين، في الأرض السفلى، فتطرح روحه طرحًا، فتعاد روحه في جسده، ويأتيه ملكان فيجلسانه فيقولان له: من ربك؟ فيقول: هاه هاه لا أدري، فيقولان له: ما دينك؟ فيقول: هاه هاه لا أدري، فيقولان له: ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول: هاه هاه لا أدري، فينادي مناد من السماء: أن كذب عبدي، فأفرشوه من النار، وافتحوا له بابًا إلى النار، فيأتيه من حرها وسمومها ويضيق عليه قبره، حتى تختلف أضلاعه، ويأتيه رجل قبيح الوجه قبيح الثياب منتن الريح، فيقول: أبشر بالذي يسؤوك، هذا يومك الذي كنت توعد، فيقول: من أنت فوجهك الوجه يجيء بالشر؟ فيقول: أنا عملك الخبيث، فيقول: رب لا تقم الساعة".
عباد الله: فاتقوا الله، واجتهدوا أن تكونوا لأهل الإيمان سلفًا صالحًا وقدوة حسنة، واحذروا أن تكونوا من أهل الكفر والنفاق.
أسأل الله العظيم بأسمائه الحسنى وصفاته العلا أن يجعلني، وإياكم ممن رضي بالله ربًا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد نبيًا ورسولاً.
وصلى الله وسلم على محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
فعلينا معشر المسلمين: أن نقر فنقول: رضينا بالله ربًا، وبالإسلام ،دينًا وبمحمد -صلى الله عليه وآله وسلم- نبيًا ورسولاً، وأن نصدق في قولنا هذا، وذلك بالاعتقاد الجازم الذي لا يخالجه شك ولا ريب، فنصدق مع الله –تعالى- في عباداتنا، ومع رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- في متابعتنا له واقتدائنا به، ثم نلتزم الصدق في حديثنا وكتاباتنا، ومعاملاتنا وتصريحاتنا، وإعلامنا وصحفنا ومقالاتنا، فالالتزام بالصدق نعمة، قال الله -تعالى-: (فَلَوْ صَدَقُواْ اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ) [محمد: 21].
ويقول جل وعلا: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ) [التوبة: 119].
فالصدق كله خير وبركة.
نسأل الله -تعالى- أن يرزقنا الصدق والالتزام به؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه.