العليم
كلمة (عليم) في اللغة صيغة مبالغة من الفعل (عَلِمَ يَعلَمُ) والعلم...
العربية
المؤلف | إبراهيم بن محمد الحقيل |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | أعلام الدعاة |
إِنَّ شَبَابَ الْيَوْمِ يَحْتَاجُونَ مَنْهَجًا فِي طَلَبِ الْعِلْمِ كَمَنْهَجِ مَالِكٍ؛ لِئَلَّا تَتَمَارَى بِهِمُ الْأَهْوَاءُ، وَلِكَيْلَا تَفْتِكَ بِهِمُ الْفِتَنُ.. ولِئَلَّا يُعْجَبَ كُلُّ ذِي رَأْيٍ بِرَأْيِهِ.. وَمَا دَاءُ كَثِيرٍ مِنَ الشَّبَابِ الْيَوْمَ إِلَّا الْإِعْجَابُ بِالرَّأْيِ، وَالتَّصَدُّرُ قَبْلَ الْأَوَانِ، وَالتَّكَبُّرُ عَنْ قَبُولِ التَّوْجِيهِ وَالْإِرْشَادِ. وَمَنْ أَرَادَ الْفَلَاحَ جَمَعَ بَيْنَ الْعِلْمِ وَالْخَشْيَةِ، وَصَبَرَ عَلَى مَشَقَّةِ الْعِلْمِ وَالْمَعْرِفَةِ، وَجَانَبَ السَّفَهَ وَالْغَفْلَةَ.
الخطبة الأولى:
الْحَمْدُ للهِ الْخَلَّاقِ الْعَلِيمِ، اللَّطِيفِ الْخَبِيرِ؛ خَلَقَ الْخَلْقَ لِعِبَادَتِهِ، وَأَرَاهُمْ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ مِنْ آيَاتِهِ، فَآمَنَ بِهِ أُولُو الْأَلْبَابِ، وَاسْتَكْبَرَ عَنْ عِبَادِتِهِ أَهْلُ الْعِنَادِ (أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا) [الفرقان: 44] نَحْمَدُهُ حَمْدًا كَثِيرًا، وَنَشْكُرُهُ شُكْرًا مَزِيدًا.
وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ؛ جَعَلَ الْقُلُوبَ أَوْعِيَةَ الْعِلْمِ وَالْجَهْلِ، وَمَقَرَّ الْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ، وَمَحَلَّ السَّعَادَةِ وَالشَّقَاءِ؛ فَيَسْعَدُ الْمَرْءُ بِسَعَادَةِ قَلْبِهِ، وَيَشْقَى بِشَقَائِهِ، (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ المَرْءِ وَقَلْبِهِ) [الأنفال: 24]، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَصَفِيُّهُ وَخَلِيلُهُ؛ بَعَثَهُ اللهُ تَعَالَى بِالْعِلْمِ وَالنُّورِ وَالْهُدَى، فَمَنْ تَزَوَّدَ مِنْهُ عَلِمَ وَاهْتَدَى، وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ جَهِلَ فَرَدَى، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ، وَتَعَلَّمُوا مِنْ دِينِكُمْ مَا تَعْرِفُونَ بِهِ رَبَّكُمْ، وَتُقِيمُونَ بِهِ شَرِيعَتَكُمْ، وَتُنْجُونَ بِهِ أَنْفُسَكُمْ؛ فَإِنَّ الْجَهْلَ بِشَيْءٍ سَبَبٌ لِلْإِعْرَاضِ عَنْهُ، وَلَا خَسَارَةَ أَعْظَمُ مِنْ خَسَارَةِ الْمُعْرِضِ عَنْ دِينِ اللهِ تَعَالَى (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ) [الأنبياء: 24].
أَيُّهَا النَّاسُ: فِي الْعِلْمِ وَالْمَعْرِفَةِ حَيَاةُ الْإِنْسَانِ وَوُجُودُهُ الْحَقِيقِيُّ، وَكَفَى بِالْمَعْرِفَةِ شَرَفًا أَنَّهُ يَدَّعِيهَا مَنْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهَا، وَلَا يَدَّعِي أَحَدٌ الْجَهْلَ مَهْمَا كَانَ جَهْلُهُ. وَأَشْرَفُ الْعُلُومِ وَالْمَعَارِفِ مَعْرِفَةُ اللهِ -تَعَالَى-، وَالْعِلْمُ بِمَا يَجِبُ لَهُ –سُبْحَانَهُ-، وَأَسْوَأُ الْعُلُومِ مَا يُبَاعِدُ عَنْهُ -عَزَّ وَجَلَّ-.
وَفَتْرَةُ الطُّفُولَةِ ثُمَّ الشَّبَابِ هِيَ الْفَتْرَةُ الذَّهَبِيَّةُ لِلتَّعَلُّمِ؛ حَيْثُ سُرْعَةُ الْحِفْظِ، وَاتِّقَادُ الذِّهْنِ، وَصَفَاءُ الذَّاكِرَةِ، وَحِدَّةُ الذَّكَاءِ، وَنَشَاطُ الْأَعْضَاءِ، وَقُوَّةُ وَسَائِلِ تَحْصِيلِ الْمَعَارِفِ مِنَ الْأَسْمَاعِ وَالْأَبْصَارِ وَالْأَفْئِدَةِ. وَلَيْسَ مَنْ تَعَلَّمَ صَغِيرًا كَمَنْ تَعَلَّمَ كَبِيرًا، بَيْدَ أَنَّ الْعُلُومَ وَالْمَعَارِفَ يَجِبُ أَنْ تُلَازِمَ الْعَبْدَ إِلَى قَبْرِهِ؛ وَكُلُّ سَاعَةٍ تَمُرُّ بِالْإِنْسَانِ لَا يَتَعَلَّمُ فِيهَا شَيْئًا فَهِيَ خَسَارَةٌ عَلَيْهِ، وَمَنْ فَاتَهُ شَرَفُ الْعِلْمِ بِالْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ فِي صِغَرِهِ فَلَا يُضَيِّعْهُ فِي كِبَرِهِ؛ فَإِنَّهُ عِبَادَةٌ مِنْ أَجَلِّ الْعِبَادَاتِ، وَكَانَ الشَّيْخُ الْكَبِيرُ مِنَ الصَّحَابَةِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- يَأْتِي النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَيَسْأَلُهُ لِيَتَعَلَّمَ أُمُورَ دِينِهِ، فَلَا سِنَّ يَتَوَقَّفُ عِنْدَهَا التَّزَوُّدُ مِنْ مَعْرِفَةِ اللهِ -تَعَالَى-، وَمَعْرِفَةِ مَا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ.
وَمَنْ هُدِيَ فِي صِغَرِهِ إِلَى الْعُلُومِ وَالْمَعَارِفِ، وَلَازَمَ الدُّرُوسَ وَالْمَشَايِخَ، وَأَدْمَنَ الْقِرَاءَةَ وَالْمُطَالَعَةَ؛ صَارَ فِي كِبَرِهِ عَالِمًا، وَرُبَّمَا بَلَغَ رُتْبَةَ الْإِمَامَةِ فِي الدِّينِ، كَمَا وَقَعَ لِشَبَابِ الصَّحَابَةِ الَّذِينَ تَعَلَّمُوا فِي صِغَرِهِمْ؛ كَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-. وَوَقَعَ لِمَنْ بَعْدَهُمْ مِنَ التَّابِعِينَ وَأَتْبَاعِهِمْ، وَلَا يَزَالُ يَقَعُ إِلَى يَوْمِنَا هَذَا.
وَمِنْ أَوْعِيَةِ الْعِلْمِ الْكِبَارِ، وَأَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ الْأَعْلَامِ: الْإِمَامُ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ، إِمَامُ الْمَدِينَةِ فِي زَمَنِهِ وَعَالِمُهَا وَمُفْتِيهَا، حَتَّى ضُرِبَ بِهِ الْمَثَلُ فِي الْفُتْيَا، فَقِيلَ: "لَا يُفْتَى وَمَالِكٌ فِي الْمَدِينَةِ"، وَلَمْ تُشَدَّ الرِّحَالُ لِعَالِمٍ بِهَا كَمَا شُدَّتْ لَهُ حَتَّى يُحْمَلَ الْعِلْمُ عَنْهُ. وَلَمْ يَبْلُغْ مَالِكٌ مَنْزِلَةَ الْإِمَامَةِ إِلَّا لِأَنَّهُ اسْتَثْمَرَ شَبَابَهُ فِي الْعِلْمِ وَالْمَعْرِفَةِ، وَأُوتِيَ عَقْلًا وَحِكْمَةً. وَحَفَّزَهُ لِذَلِكَ تَنْبِيهٌ وَاسْتِفْزَازٌ وَقَعَ لَهُ مِنْ أَبِيهِ بِسَبَبِ لَهْوِهِ بِالْحَمَامِ وَتَرْبِيَتِهِ وَتَطْيِيرِهِ، وَغَفْلَتِهِ عَنِ الْعِلْمِ وَالْمَعْرِفَةِ فِي صِبَاهُ.
وَلَكِنَّ هَذَا التَّنْبِيهَ مِنْ أَبِيهِ وَقَرَ فِي قَلْبِهِ، وَأَوْجَدَ التَّحَدِّيَ فِي نَفْسِهِ، فَاعْتَزَلَ كُلَّ لَهْوٍ، وَانْقَطَعَ لِلطَّلَبِ، حَتَّى لَازَمَ كِبَارَ الْأَئِمَّةِ فِي زَمَنِهِ، فَنَهَلَ مَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ، وَجَمَعَهُ وَوَعَاهُ.
قَالَ مَالِكٌ -رَحِمَهُ اللهُ -تَعَالَى--: «كَانَ لِي أَخٌ فِي سِنِّ ابْنِ شِهَابٍ فَأَلْقَى أَبِي يَوْمًا عَلَيْنَا مَسْأَلَةً، فَأَصَابَ أَخِي وَأَخْطَأْتُ، فَقَالَ لِي أَبِي: أَلْهَتْكَ الْحَمَامُ عَنْ طَلَبِ الْعِلْمِ، فَغَضِبْتُ، وَانْقَطَعْتُ إِلَى ابْنِ هُرْمُزَ سَبْعَ سِنِينَ لَمْ أَخْلِطْهُ بِغَيْرِهِ، وَكُنْتُ أَجْعَلُ فِي كُمِّي تَمْرًا وَأُنَاوِلُهُ صِبْيَانَهُ وَأَقُولُ لَهُمْ: إِنْ سَأَلَكُمْ أَحَدٌ عَنِ الشَّيِخْ فَقُولُوا: مَشْغُولٌ». وَكَانَ قَدِ اتَّخَذَ تُبَّانًا مَحْشُوًّا لِلْجُلُوسِ عَلَى بَابِ ابْنِ هُرْمُزَ يَتَّقِي بِهِ الْبَرْدَ.
وَلَمْ يَمَلَّ مِنَ الطَّلَبِ، وَلَا تَطَاوُلِ السِّنِينَ فِيهِ، حَتَّى قَالَ: «إِنْ كَانَ الرَّجُلُ لَيَخْتَلِفُ لِلرَّجُلِ ثَلَاثِينَ سَنَةً يَتَعَلَّمُ مِنْهُ»، فَكَانُوا يَظُنُّونَ أَنَّهُ -يَعْنِي نَفْسَهُ- مَعَ ابْنِ هُرْمُزَ.
فَمَا حَازَ مَالِكٌ الْعِلْمَ الْكَثِيرَ إِلَّا بِجِدٍّ فِي الطَّلَبِ، وَانْقِطَاعٍ لِلْعِلْمِ، وَمُلَازَمَةٍ لِلشُّيوخِ، حَتَّى فَاقَ أَقْرَانَهُ.
قَالَ مَالِكٌ: «كُنْتُ آتِي نَافِعًا نِصْفَ النَّهَارِ وَمَا تُظِلُّنِي الشَّجَرَةُ مِنَ الشَّمْسِ، أَتَحَيَّنُ خُرُوجَهُ، فَإِذَا خَرَجَ أَدَعُهُ سَاعَةً كَأَنِّي لَمْ أُرِدْهُ، ثُمَّ أَتَعَرَّضُ لَهُ فَأُسَلِّمُ عَلَيْهِ، وَأَدَعُهُ حَتَّى إِذَا دَخَلَ الْبَلَاطَ، أَقُولُ لَهُ: كَيْفَ قَالَ ابْنُ عُمَرَ فِي كَذَا وَكَذَا؟ فَيُجِيبُنِي ثُمَّ أَحْبِسُ عَنْهُ، وَكَانَ فِيهِ حِدَّةٌ، وَكُنْتُ آتِي ابْنَ هُرْمُزَ مِنْ بُكْرَةٍ فَمَا أَخْرُجُ مِنْ بَيْتِهِ حَتَّى اللَّيْلِ».
وَرَغْمَ أَنَّ مَالِكًا أُوتِيَ حَافِظَةً قَوِيَّةً جِدًّا؛ فَإِنَّهُ كَانَ يَكْتُبُ مَا يَتَعَلَّمُ زِيَادَةً فِي تَوْثِيقِهِ وَتَرْسِيخِهِ، قَالَ: «حَدَّثَنِي ابْنُ شِهَابٍ بِأَرْبَعِينَ حَدِيثًا وَنَيِّفٍ فَحَفِظْتُ ثُمَّ قُلْتُ: أَعِدْهَا عَلَيَّ فَإِنِّي أُنْسِيتُ النَّيِّفَ عَلَى الْأَرْبَعِينَ، فَأَبَى، فَقُلْتُ: أَمَا كُنْتَ تُحِبُّ أَنْ يُعَادَ عَلَيْكَ؟ قَالَ: بَلَى، فَأَعَادَ، فَإِذَا هُوَ كَمَا حَفِظْتُ».
وَكَانَ يَقُولُ: «كَتَبْتُ بِيَدِي مِائَةَ أَلْفِ حَدِيثٍ».
وَهَكَذَا يَنْبَغِي لِلشَّابِّ أَنْ يُقَيِّدَ مَا يَتَعَلَّمُ مِنْ شُيُوخِهِ وَأَسَاتِذَتِهِ، فَمَا يُقَيِّدُهُ يَبْقَى، وَمَا يَحْفَظُهُ فَقَدْ يَنْسَى.
وَمِمَّا مَيَّزَ مَالِكًا فِي طَلَبِ الْعِلْمِ وَهُوَ شَابٌّ، أَنَّهُ كَانَ يُمَيِّزُ شُيُوخَهُ، فَيَعْرِفُ عَمَّنْ يَأْخُذُ، وَمَنْ لَا يَسْتَحِقُّ أَنْ يَأْخُذَ عَنْهُ، وَمَا تَاهَ كَثِيرٌ مِمَّنْ أَكْثَرُوا الطَّلَبَ، وَلَمْ يَظْفَرُوا بِشَيْءٍ ذِي بَالٍ إِلَّا لِأَنَّهُمْ لَمْ يُرَاعُوا مَسْأَلَةَ التَّخَصُّصِ، وَلَمْ يَأْخُذُوا عَنْ كُلِّ عَالِمٍ مَا بَرَعَ فِيهِ، وَصَارَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ مُقَلِّدَةً، أَوْ نُسَخًا مَكْرُورَةً مِنْ شُيُوخِهِمْ بِصَوَابِهِمْ وَخَطَئِهِمْ.
قَالَ ابْنُ أَبِي أُوَيْسٍ: «سَمِعْتُ مَالِكًا يَقُولُ: إِنَّ هَذَا الْعِلْمَ دِينٌ فَانْظُرُوا عَمَّنْ تَأْخُذُونَهُ، لَقَدْ أَدْرَكْتُ سَبْعِينَ مِمَّنْ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، عِنْدَ هَذِهِ الْأَسَاطِينِ -وَأَشَارَ إِلَى الْمَسْجِدِ- فَمَا أَخَذْتُ عَنْهُمْ شَيْئًا، وَإِنَّ أَحَدَهُمْ لَوِ ائْتُمِنَ عَلَى بَيْتِ مَالٍ كَانَ أَمِينًا، إِلَّا أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا مِنْ أَهْلِ هَذَا الشَّأْنِ».
لَقَدْ كَانَ مَالِكٌ فِي شَبَابِهِ يَنْتَقِي مِنَ الْعُلَمَاءِ الْبُحُورَ فِي الْعِلْمِ، وَالْأَعْلَامَ فِي الْخَشْيَةِ؛ لِيَتَعَلَّمَ الْعِلْمَ وَالْخَشْيَةَ مَعًا، فَيَحِقُّ فِيهِ قَوْلُ اللهِ -تَعَالَى-: (إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ العُلَمَاءُ) [فاطر: 28]، وَمَا قِيمَةُ الْعِلْمِ بِلَا خَشْيَةٍ إِلَّا أَنَّ حَامِلَهُ يُسَخِّرُهُ لِحُظُوظِ دُنْيَاهُ، وَيَهْدِمُ بِهِ دِينَهُ.
قَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ -رَحِمَهُ اللهُ -تَعَالَى-: «مَا رَأَيْتُ أَحَدًا أَجْوَدَ أَخْذًا لِلْعِلْمِ مِنْ مَالِكٍ، وَمَا كَانَ أَشَدَّ انْتِقَادِهِ لِلرِّجَالِ وَالْعُلَمَاءِ».
وَفِي تَجْرِبَةٍ فَرِيدَةٍ فِي ذَلِكَ قَالَ مَالِكٌ: «رَأَيْتُ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيَّ بِمَكَّةَ حَجَّتَيْنِ فَمَا كَتَبْتُ عَنْهُ، وَرَأَيْتُهُ فِي الثَّالِثَةِ قَاعِدًا فِي فِنَاءِ زَمْزَمَ، فَكَانَ إِذَا ذُكِرَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عِنْدَهُ يَبْكِي حَتَّى أَرْحَمَهُ، فَلَمَّا رَأَيْتُ ذَلِكَ كَتَبْتُ عَنْهُ».
وَقِيلَ لِمَالِكٍ: «لِمَ لَمْ تَأْخُذْ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ؟ قَالَ: أَتَيْتُهُ، فَوَجَدْتُهُ يَأْخُذُونَ عَنْهُ قِيَامًا، فَأَجْلَلْتُ حَدِيثَ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنْ آخُذَهُ قَائِمًا».
وَكَانَ لِتَوْجِيهِ وَالِدَتِهِ لَهُ بِذَلِكَ أَثَرٌ فِي نَفْسِهِ، قَالَ مَالِكٌ: «قُلْتُ لِأُمِّي: أَذْهَبُ فَأَكْتُبُ الْعِلْمَ؟ فَقَالَتْ: تَعَالَ فَالْبَسْ ثِيَابَ الْعِلْمِ، فَأَلْبَسَتْنِي ثِيَابًا مُشَمَّرَةً، وَوَضَعَتِ الطَّوِيلَةَ عَلَى رَأْسِي، وَعَمَّمَتْنِي فَوَقْهَا ثُمَّ قَالَتْ: اذْهَبْ فَاكْتُبِ الْآنَ. وَكَانَتْ تَقُولُ: اذْهَبْ إِلَى رَبِيعَةَ فَتَعَلَّمْ مِنْ أَدَبِهِ قَبْلَ عِلْمِهِ».
وَتَمْيِيزُ مَالِكٍ بَيْنَ شُيُوخِهِ، وَحِرْصُهُ عَلَى مَنْ جَمَعَ بَيْنَ الْعِلْمِ وَالْخَشْيَةِ جَعَلَهُ يَتَلَقَّى الْعِلْمَ وَالْخَشْيَةَ مَعًا، فَظَهَرَ ذَلِكَ عَلَى سَمْتِهِ وَهَدْيِهِ.
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ الْمُبَارَكِ: «كُنْتُ عِنْدَ مَالِكٍ وَهُوَ يُحَدِّثُنَا حَدِيثَ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَلَدَغَتْهُ عَقْرَبٌ سِتَّ عَشْرَةَ مَرَّةً، وَمَالِكٌ يَتَغَيَّرُ لَوْنُهُ وَيَصْفَرُّ وَلَا يَقْطَعُ حَدِيثَ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. فَلَمَّا فَرَغَ مِنَ الْمَجْلِسِ وَتَفَرَّقَ النَّاسُ قُلْتُ: يَا أَبَا عَبْدِ اللهِ، لَقَدْ رَأَيْتُ الْيَوْمَ مِنْكَ عَجَبًا؟ فَقَالَ: نَعَمْ، إِنَّمَا صَبَرْتُ إِجْلَالًا لِحَدِيثِ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-».
وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: «كَانَ مَجْلِسُهُ مَجْلِسَ وِقَارٍ وَحِلْمٍ، وَكَانَ رَجُلًا مَهِيبًا نَبِيلًا لَيْسَ فِي مَجْلِسِهِ شَيْءٌ مِنَ الْمِرَاءِ وَاللَّغَطِ وَلَا رَفْعِ صَوْتٍ».
كَثُرَ عِلْمُ الشَّابِّ مَالِكٍ فَصَارَ عَالِمًا، وَفِي الْمَدِينَةِ كِبَارُ الْعُلَمَاءِ مِنْ شُيُوخِهِ، وَلَكِنَّهُ أَدْرَكَهُمْ بِعِلْمِهِ وَعَقْلِهِ، بَلْ سَبَقَ بَعْضَهُمْ، ثُمَّ تَقَدَّمَ فِي عِلْمِهِ فَكَانَ لَهُ حَلْقَةُ عِلْمٍ فِي حَيَاةِ شَيْخِهِ نَافِعٍ، وَحَلْقَتُهُ أَكْبَرُ مِنْ حَلْقَةِ نَافِعٍ. قَالَ الذَّهَبِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: «وَطَلَبَ مَالِكٌ الْعِلْمَ وَهُوَ ابْنُ بِضْعَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَتَأَهَّلَ لِلْفُتْيَا، وَجَلَسَ لِلْإِفَادَةِ وَلَهُ إِحْدَى وَعِشْرُونَ سَنَةً، وَحَدَّثَ عَنْهُ جَمَاعَةٌ وَهُوَ حَيٌّ شَابٌّ طَرِيٌّ، وَقَصَدَهُ طَلَبَةُ الْعِلْمِ مِنَ الْآفَاقِ فِي آخِرِ دَوْلَةِ أَبِي جَعْفَرٍ الْمَنْصُورِ، وَمَا بَعْدَ ذَلِكَ، وَازْدَحَمُوا عَلَيْهِ فِي خِلَافَةِ الرَّشِيدِ، وَإِلَى أَنْ مَاتَ».
وَمَا جَلَسَ مَالِكٌ لِلتَّحْدِيثِ وَالتَّعْلِيمِ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ، وَلَا صَدَّرَ نَفْسَهُ عَلَى شُيُوخِهِ وَأَقْرَانِهِ، حَتَّى شَهِدَ لَهُ فُحُولُ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ أَهْلٌ لِلْفُتْيَا وَالتَّدْرِيسِ. قَالَ مَالِكٌ: «وَلَيْسَ كُلُّ مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَجْلِسَ فِي الْمَسْجِدِ لِلْحَدِيثِ وَالْفُتْيَا جَلَسَ، حَتَّى يُشَاوِرَ فِيهِ أَهْلَ الصَّلَاحِ وَالْفَضْلِ، وَأَهْلَ الْجِهَةِ مِنَ الْمَسْجِدِ؛ فَإِنْ رَأَوْهُ أَهْلًا لِذَلِكَ جَلَسَ، وَمَا جَلَسْتُ حَتَّى شَهِدَ لِي سَبْعُونَ شَيْخًا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنِّي مَوْضِعٌ لِذَلِكَ».
رَحِمَ اللهُ -تَعَالَى- إِمَامَ دَارِ الْهِجْرَةِ، وَجَمَعَنَا بِهِ فِي مُسْتَقَرِّ الرَّحْمَةِ.
وَأَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ..
الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
الْحَمْدُ للهِ حَمْدًا طَيِّبًا كَثِيرًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنِ اهْتَدَى بِهُدَاهُمْ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ -تَعَالَى- وَأَطِيعُوهُ (وَاتَّقُوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) [البقرة: 282].
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: مِنْ أَعْظَمِ مَا تَمَيَّزَ بِهِ مَالِكٌ فِي شَبَابِهِ أَنَّهُ صَانَ نَفْسَهُ عَنْ مُجَالَسَةِ السُّفَهَاءِ، وَالاشْتِغَالِ بِمُمَارَاتِهِمْ وَالْجِدَالِ مَعَهُمْ، فَلَمْ يَتَلَوَّثْ بِسَفَهِهِمْ، وَهَكَذَا يَنْبَغِي لِلشَّابِّ فِي طَلَبِهِ لِلْعُلُومِ وَالْمَعَارِفِ أَنْ يُصَاحِبَ الْعُقَلَاءَ، وَيَجْتَنِبَ السُّفَهَاءَ. وَكَانَ رَبِيعَةُ الرَّأْيِ إِذَا جَاءَ مَالِكٌ يَقُولُ: جَاءَ الْعَاقِلُ. وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ كَانَ أَعْقَلَ أَهْلِ زِمَانِهِ. وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: «قَالَ مَالِكٌ: مَا جَالَسْتُ سَفِيهًا قَطُّ».
وَهَذَا أَمْرٌ لَمْ يَسْلَمْ مِنْهُ غَيْرُهُ، وَلَا فِي فَضَائِلِ الْعُلَمَاءِ أَجَلُّ مِنْ هَذَا. وَذَكَرَ يَوْمًا شَيْئًا، فَقِيلَ لَهُ: مَنْ حَدَّثَكَ بِهَذَا؟ فَقَالَ: إِنَّا لَمْ نُجَالِسِ السُّفَهَاءَ.
وَلَمْ يَكُنْ مُتَسَرِّعًا فِي الْفُتْيَا، بَلْ كَانَ شَدِيدَ التَّحَرُّزِ وَالِاحْتِيَاطِ فِيهَا، وَهَذَا مِنْ كَمَالِ عَقْلِهِ، قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: «سَمِعْتُ مَالِكًا يَقُولُ: إِنِّي لَأُفَكِّرُ فِي مَسْأَلَةٍ مُنْذُ بِضْعَ عَشْرَةَ سَنَةً فَمَا اتَّفَقَ لِي فِيهَا رَأْيٌ إِلَى الْآنَ. وَكَانَ يَقُولُ: رُبَّمَا وَرَدَتْ عَلَيَّ الْمَسْأَلَةُ فَأَسْهَرُ فِيهَا عَامَّةَ لَيْلَتِي».
وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ: «كَانَ مَالِكٌ إِذَا سُئِلَ عَنِ الْمَسْأَلَةِ قَالَ لِلسَّائِلِ: انْصَرِفْ حَتَّى أَنْظُرَ، فَيَنْصَرِفُ وَيَتَرَدَّدُ فِيهَا، فَقُلْنَا لَهُ فِي ذَلِكَ، فَبَكَى وَقَالَ: إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَكُونَ لِي مِنَ الْمَسَائِلِ يَوْمٌ، وَأَيُّ يَوْمٍ؟ وَكَانَ يَقُولُ: مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُجِيبَ عَنْ مَسْأَلَةٍ فَلْيَعْرِضْ نَفْسَهُ عَلَى الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، وَكَيْفَ يَكُونُ خَلَاصُهُ فِي الْآخِرَةِ ثُمَّ يُجِيبُ».
وَقَالَ الْهَيْثَمُ بْنُ جَمِيلٍ: «شَهِدْتُ مَالِكًا سُئِلَ عَنْ ثَمَانٍ وَأَرْبَعِينَ مَسْأَلَةً، فَقَالَ فِي اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ مِنْهَا: لَا أَدْرِي».
إِنَّ عَلَى الشَّبَابِ أَنْ يَأْخُذُوا مِنْ سِيرَةِ مَالِكٍ فِي شَبَابِهِ ثُمَّ فِي إِمَامَتِهِ عِبْرَةً لَهُمْ فِي طَلَبِ الْعُلُومِ وَالْمَعَارِفِ، فَمَالِكٌ كَانَ صَبِيًّا يَلْهُو بِالْحَمَامِ، ثُمَّ لَمَّا أَرَادَ اللهُ -تَعَالَى- بِهِ خَيْرًا سَخَّرَ أَبَاهُ لِزَجْرِهِ فِي ذَلِكَ، فَهُدِيَ إِلَى طَرِيقِ الْعِلْمِ، وَسَهِرَ فِي جَمْعِهِ، وَتَعِبَ فِي تَحْصِيلِهِ، وَوَضَعَ لَهُ مَنْهَجًا فِي انْتِقَاءِ الشُّيُوخِ، وَمُجَانَبَةِ مَجَالِسِ السُّفَهَاءِ، وَجَمَعَ الْخَشْيَةَ مَعَ الْعِلْمِ، وَظَهَرَ ذَلِكَ عَلَيْهِ فِي تَنَسُّكِهِ وَتَخَشُّعِهِ، وَتَعْظِيمِهِ حَدِيثَ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَمَهَابَةِ الْفُتْيَا وَالِاحْتِرَازِ فِيهَا.
إِنَّ شَبَابَ الْيَوْمِ يَحْتَاجُونَ مَنْهَجًا فِي طَلَبِ الْعِلْمِ كَمَنْهَجِ مَالِكٍ؛ لِئَلَّا تَتَمَارَى بِهِمُ الْأَهْوَاءُ، وَلِكَيْلَا تَفْتِكَ بِهِمُ الْفِتَنُ؛ فَالْعِلْمُ بِلَا خَشْيَةٍ يُورِثُ تَحَلُلاً مِنَ الدِّينِ، وَاسْتِخْدَامًا لِلرُّخَصِ فِي غَيْرِ مَحَلِّهَا، وَإِفْسَادِ الْعَامَّةِ بِهَا. وَالتَّسَارُعُ فِي الْقَوْلِ عَلَى اللهِ -تَعَالَى- بِلَا عِلْمٍ يُرَسِّخُ أَدْوَاءَ الْهَوَى فِي الشَّبَابِ، حَتَّى يُعْجَبَ كُلُّ ذِي رَأْيٍ بِرَأْيِهِ، فَيَفْتَحُ عَلَيْهِمْ أَبْوَابًا مِنَ الْفِتَنِ كَانُوا فِي مَنْجَاةٍ مِنْهَا. وَمَا دَاءُ كَثِيرٍ مِنَ الشَّبَابِ الْيَوْمَ إِلَّا الْإِعْجَابُ بِالرَّأْيِ، وَالتَّصَدُّرُ قَبْلَ الْأَوَانِ، وَالتَّكَبُّرُ عَنْ قَبُولِ التَّوْجِيهِ وَالْإِرْشَادِ. وَمَنْ أَرَادَ الْفَلَاحَ جَمَعَ بَيْنَ الْعِلْمِ وَالْخَشْيَةِ، وَصَبَرَ عَلَى مَشَقَّةِ الْعِلْمِ وَالْمَعْرِفَةِ، وَجَانَبَ السَّفَهَ وَالْغَفْلَةَ.
جَعَلَنَا اللهُ -تَعَالَى- مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْمَعْرِفَةِ، وَمَنَّ عَلَيْنَا بِالتَّقْوَى وَالْخَشْيَةِ.
وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُمْ...