الرزاق
كلمة (الرزاق) في اللغة صيغة مبالغة من الرزق على وزن (فعّال)، تدل...
العربية
المؤلف | عبد العزيز بن عبد الله السويدان |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الدعوة والاحتساب - الصيام |
من المغرورين من يظن: أن طاعاته أكبر من معاصيه؛ لأنه لا يحاسب نفسه على سيئاته، ولا يتفقد ذنوبه، وإذا عمل طاعة حفظها، واعتز بها، كالذي يستغفر الله بلسانه، أو يسبح الله في اليوم مائة مرة، ثم يغتاب المسلمين، ويمزق أعراضهم، ويتكلم بما لا يرضاه الله، طول النهار. فهذا أبدا يتأمل في فضائل التسبيحات والتهليلات، ولا يلتفت إلى ما ورد من عقوبة المغتابين، والكذابين والنمامين، إلى غير ذلك من آفات اللسان، وذلك ...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ به من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلَّى الله عليه وعلى آله وسلم.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران: 102].
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء: 1].
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب: 70-71].
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
فقد جعل الله فاتحة العام شهرا مباركا، ثم يشرع فيه الطاعة والعبادة، وكأنه يعلم عباده أن يستفتحوا كل أمر بطاعته وتقواه؛ ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرم، وأفضل الفريضة صلاة الليل".
وهذا الحديث صحيح الدلالة على تفضيل الصوم في هذا الشهر المحرم، غير أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يصوم من شعبان أكثر ما يصوم من المحرم.
ومما أجاب العلماء عن ذلك: أن المقصود بالفضل في المحرم الفضل المطلق، فأفضل الصيام المطلق صيام المحرم، وأما صوم شعبان فهو متصل برمضان، فهو منه كالراتبة من الفريضة وكذلك شوال.
ومعلوم أن الرواتب أعظم قدرا من النافلة المطلقة.
أيها الإخوة: إن من عظيم فضل الله أن جعل آخر شهر في العام، شهر عبادة وطاعة، وأول شهر في العام شهر عبادة وطاعة، ليفتتح المرء عامه بإقبال، ويختتمه بإقبال.
قال ابن رجب: "من صام من ذي الحجة ومن المحرم، فقد ختم السنة بالطاعة، وافتتحها بالطاعة، فيرجو أن تكتب له السنة كلها طاعة، فهو في حكم من استغرق في الطاعة بين العملين".
ومما اختص به شهر المحرم: يومه العاشر، وهو يوم عاشوراء، وهو يوم مبارك معظم منذ القدم، فاليهود أتباع موسى -عليه السلام- كانوا يعظمون يوم عاشوراء، ويصمونه ويتخذونه عيدا لهم، ويلبس نساءهم الحلي، والحسن والجميل.
والسر عندهم: أنه اليوم الذي نجى الله فيه موسى -عليه السلام- من فرعون.
في صحيح مسلم عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- قدم المدينة فوجد اليهود صياما يوم عاشوراء، فقال لهم النبي -صلى الله عليه وسلم-: ما هذا اليوم الذي تصومونه؟ قالوا: هذا يوم عظيم أنجى فيه موسى وقومه، وأغرق فيه فرعون وقومه، فصامه موسى شكرا، فنحن نصومه، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: فنحن أحق وأولى بموسى منكم، فصامه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وأمر بصيامه.
وكان ذلك في أول السنة الثانية، فكان صيامه واجب، فلما فرض رمضان، فوض الأمر في صومه إلى التطوع.
وإذا علمنا أن صوم رمضان في السنة الثانية للهجرة، فبين لنا أن الأمر بصوم عاشوراء لم يقع إلا في عام واحد، تقول أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها-: "كان يوم عاشوراء تصومه قريش في الجاهلية، وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصومه، فلما قدم المدينة صامه، وأمر بصيامه، فلما فرض رمضان، ترك يوم عاشوراء -أي وجوبا- فمن شاء صامه، ومن شاء تركه".
لكن النبي -صلى الله عليه وسلم- كعادته يحرص على أن لا يفوت أمته شيء من الخير، ففضل صيام عاشوراء كبير عند الله.
ولذلك حث النبي -صلى الله عليه وسلم- على صيامه كثيرا، كما في الحديث الذي رواه مسلم: "صيام يوم عاشوراء أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبلها".
وفي الصحيح عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "ما علمت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- صام يوما يتحرى فضله على الأيام، غير يوم عاشوراء - وقال سفيان مرة أخرى: إلا هذا اليوم -يعني عاشوراء- وهذا الشهر شهر رمضان".
ولذلك كان بعض السلف يصومون يوم عاشوراء، حتى في سفرهم، ومنهم ابن عباس وأبو إسحاق والزهري، وكان الزهري يقول: "رمضان له عدة من أيام أخر، وعاشوراء يفوت.
فنص الإمام أحمد على أن عاشوراء يصام في السفر.
والسنة أن يصوم المسلم يوما قبله، فقد صح في مسلم عن عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لئن بقيت إلى قابل لأصومن التاسع".
وفي رواية أخرى في مسلم قال: "فإذا كان العام المقبل إن شاء الله صمنا اليوم التاسع".
قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: "فلم يأت العام المقبل حتى توفي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-".
والسبب في إضافة يوم معه، مخالفة اليهود في عبادتهم وعادتهم، وهو مقصد شرعي معلوم.
وللعلماء أقوال في ترتيب الصوم حيث الأفضلية، فللمسلم: أن يصوم يوماً قبله ويوماً بعده، وهذا أفضلها.
أو أن يصوم التاسع مع العاشر.
أو أن يصوم العاشر وحده، وهذا فيه صيام العاشر، لكن إفراده مكروه؛ كما نص على ذلك شيخ الإسلام -رحمه الله-.
وبذكر إفراد صومه، فإن يوم عاشوراء من هذا العام يوافق يوم الجمعة، وليس في ذلك التوافق منقبة، بل قد ورد النهي عن إفراد صوم يوم الجمعة، ففي صحيح ابن حبان عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: "نهى النبي -صلى الله عليه وسلم- عن صوم يوم الجمعة إلا بيوم قبله، أو يوم بعده".
لكن قال أهل العلم: إذا كان هناك سبب شرعي للصوم؛ كعرفة أو عاشوراء، فوافق ذلك يوم الجمعة أو يوم السبت، فلا يمنع ذلك في فضيلة صيامه.
أما عن مسألة تكفير الذنوب، فينبغي للمسلم أن ينظر إليها بتوازن، فلا إفراط ولا تفريط، فقد قال اهل العلم كالنووي وابن تيمية -رحمهم الله-: أن صوم عاشوراء يكفر صغائر الذنوب فقط، أما الكبائر فلا تكفرها إلا التوبة النصوح.
وحذر الإمام ابن القيِّم رحمه - مَن يتصوَّر أن صيام عرفة وعاشوراء كافٍ في النجاة والمغفرة، يقول رحمه الله: لَم يَدرِ هذا المغترُّ أن صوم رمضان والصلوات الخمس، أعظمُ وأجَلُّ من صيام يوم عرفة ويوم عاشوراء، وهي إنما تكفِّر ما بينهما إذا اجْتُنِبت الكبائر، فرمضان إلى رمضان، والجمعة إلى الجمعة، لا يَقويان على تكفير الصغائر، إلاَّ مع انضمام تَرْك الكبائر إليها، فيَقوى مجموع الأمرين على تكفير الصغائر.
ومن المغرورين مَن يظنُّ أن طاعاته أكثرُ من معاصيه؛ لأنه لا يُحاسب نفسه على سيِّئاته، ولا يتفقَّد ذنوبه، وإذا عَمِل طاعة حَفِظها واعتدَّ بها، كالذي يستغفر الله بلسانه، أو يُسبِّح الله في اليوم مائة مرة، ثم يَغتاب المسلمين، ويُمزِّق أعراضهم، ويتكلَّم بما لا يرضاه الله طول نهاره.
فهذا أبدًا يتأمَّل في فضائل التسبيحات والتهليلات، ولا يَلتفت إلى ما ورَد من عقوبة المغتابين والكذَّابين والنمَّامين، إلى غير ذلك من آفات اللسان، وذلك مَحض غرور".
أيها المسلمون: يكثر السؤال: ما العمل إذا اشتبه أول الشهر فلم يدرَ أي يوم هو العاشر أو التاسع؟
فيقال: ما ذكره الإمام أحمد: فإن اشتبه عليه أول الشهر؛ صام ثلاثة أيام، وإنما يفعل ذلك ليتيقن صوم التاسع والعاشر.
أيها الإخوة: لا يخفى أن هناك من يعظم عاشوراء لغير الأسباب الشرعية التي يعظمها بسببها سائر المسلمين، ويفعلون فيها من الأفاعيل، ما لم يأمر به الله، ولا رسوله.
وقد سئل شيخ الإسلام عما يفعله الناس في يوم عاشوراء من الكحل والاغتسال والحناء والمصافحة وطبخ الحبوب وإظهار السرور وغير ذلك إلى الشارع: فهل ورد في ذلك عن النبي -صلى الله عليه وسلم- حديث صحيح أم لا؟
وإذا م يرد حديث صحيح في شيء من ذلك فهل يكون فعل ذلك بدعة أم لا؟
وما تفعله الطائفة الأخرى من المأتم والحزن والعطش، وغير ذلك من الندب والنياحة وقراءة المصروع وشق الجيوب؛ هل لذلك أصل أم لا؟
فأجاب رحمه الله: "لم يرد في شيء من ذلك حديث صحيح عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولا عن أصحابه، ولا استحب ذلك أحد من أئمة المسلمين، لا الأئمة الأربعة ولا غيرهم، ولا روى أهل الكتب المعتمدة في ذلك شيئا، لا عن النبي -صلى الله عليه وسلم- ولا الصحابة ولا التابعين, لا صحيحا ولا ضعيفا، لا في كتب الصحيح، ولا في السنن ولا المسانيد، ولا يعرف شيء من هذه الأحاديث على عهد القرون الفاضلة".
ثم ذكر -رحمه الله- ملخصا لما مر بأول هذه الأمة من الفتن والأحداث، ومقتل الحسين، يوم عاشوراء، وماذا فعلت الطوائف بسبب ذلك، فقال: فصارت طائفة ظالمة جاهلة تظهر موالاته وموالاة أهل بيته، يوم مأتم وحزن ونياحة، وتظهر فيه شعار الجاهلية من لطم الخدود، وشق الجيوب، والتعزي بعزاء الجاهلية، وإنشاد قصائد الحزن، ورواية الأخبار التي فيها كذب كثير، والصدق فيها ليس فيه إلا تجديد الحزن والتعصب، وإثارة الشحناء والحرب، وإلقاء الفتن بين أهل الإسلام، والتوصل بذلك إلى سب السابقين الأولين، وشر هؤلاء وضررهم على أهل الإسلام لا يحصيه الرجل الفصيح في الكلام.
أسأل الله -تعالى- أن يحينا على سنة نبيه -صلى الله عليه وسلم-، وأن يمتنا عليها، وأن يقبل منا، إنه هو الجواد الكريم.
وأستغفر الله، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى من اهتدى بهداه إلى يوم الدين.
أما بعد:
فلماذا نصوم عاشوراء؟
نصومه؛ تقربا إلى الله -تعالى-، وحبا في سنة نبينا -صلى الله عليه وسلم-، واتباعا لها، ورغبة في الأجر، والدرجات العلى، واحتسابا لتكفير ما أسرفنا به على أنفسنا من خطايا وزلات، وإظهاراً لصلتنا بنبي الله موسى -عليه السلام-، وحبنا له، ونجاته من فرعون.
أيها الإخوة الكرام: إن الزمان فراغ؛ من ملئه بالخير، واغتنمه، فهو الموفق.
وقد أقسم الله في آيات عديدة بأجزاء من الوقت؛ كالليل والنهار، والفجر والعصر، والضحى، فهي مستودعات الأعمال في اليوم والليلة.
ونحن قد ودعنا عاما حافلا من أعمارنا واستودعنا فيه أعمالنا تنشر يوم الحشر أمامنا، فما أسرع ما مضى وانقضى، وما أعظم ما جمع وحوى.
وانظروا في أكثر من عام مضى؟ كما من حديث فيه فرقنا؟ وكم من بلاء فيه واجهنا؟ وكم من سيئات فيه اقترحنا؟
والليالي والأيام خزائن الأعمال، ومراحل الأعمار، أيام تمر، وأعوام تقر، وأجيال تتعاقب، على درب الآخرة، فهذا مقبل، وذاك مدبر، والكل إلى الله يسير: (يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ)[الانفطار 6].
الكل يغدو، ولكن الطرق شتى، والهموم شتى، والمقاصد شتى: "كل الناس يغدو؛ فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها".
والناس همهم الحياة ولا أرى | طول الحياة يزيد غير خبال |
وإذا افتقرت إلى الذخائر لم تجد | ذخراً يكون كصالح الأعمال |
أسأل الله -تعالى- أن يوفقنا إلى ما يحبه ويرضا.
وأسأله أن يعيننا على ذكره وشكره، وحسن عبادته، وأن يتقبل منا أجمعين.