البحث

عبارات مقترحة:

التواب

التوبةُ هي الرجوع عن الذَّنب، و(التَّوَّاب) اسمٌ من أسماء الله...

الرقيب

كلمة (الرقيب) في اللغة صفة مشبهة على وزن (فعيل) بمعنى (فاعل) أي:...

البصير

(البصير): اسمٌ من أسماء الله الحسنى، يدل على إثباتِ صفة...

قاتل العفة

العربية

المؤلف محمد ابراهيم السبر
القسم خطب الجمعة
النوع نصي
اللغة العربية
المفردات نوازل الأحوال الشخصية وقضايا المرأة - الحكمة وتعليل أفعال الله
عناصر الخطبة
  1. آفة الغناء والموسيقى والمعازف وخطورة ذلك .
  2. أدلة تحريم الغناء والموسيقى والمعازف .
  3. مضار ومفاسد الغناء والموسيقى والمعازف .
  4. نداء لأولياء الأمور ومنتجي الغناء ومصدريه وسامعيه .
  5. الغناء وأحوال المسلمين .

اقتباس

لعمرو الله، كم من حُرّةٍ صارت به من البَغَايا، وكم من حُرٍّ أصبح به عبدًا للصبيان والصبايا، وكم من غيورٍ تبدّل به اسمًا قبيحًا بين البرايا، وكم من ذي غنى وثروة أصبح بسببه على الأرض بعد المَطَارِف والحَشَايا، وكم أهدى للمشغوف به أشجانًا وأحزانًا، وكم جَرّ من غُصّةٍ، وأزال من نعمةٍ، وجلب من نقمةٍ، وكم...

الخطبة الأولى:

وبعد:

آفة من الآفات، وبليّة من البليّات، ومرض من أمراض القلوب المفسدة لها، يقول عنها العلامة ابن القيم -رحمه الله تعالى-: "فلعمرو الله، كم من حُرّةٍ صارت به من البَغَايا، وكم من حُرٍّ أصبح به عبدًا للصبيان والصبايا، وكم من غيورٍ تبدّل به اسمًا قبيحًا بين البرايا، وكم من ذي غنى وثروة أصبح بسببه على الأرض بعد المَطَارِف والحَشَايا، وكم أهدى للمشغوف به أشجانًا وأحزانًا، وكم جَرّ من غُصّةٍ، وأزال من نعمةٍ، وجلب من نقمةٍ، وكم خَبأ لأهله من آلام منتظرةٍ، وغموم متوقّعة، وهموم مستقبلة".

أتدرون -يا رعاكم الله- ما هذه الآفة والمشكلة التي ذكرها الإمام ابن القيم -رحمه الله-؟!

إنها استماع الأغاني والمعازِف، إنها الغناء والطرب ولواحقه من الحفلات والمهرجانات والمناسبات التي عمودها الغناء وآلات المعازف، وخيمتها الغفلة عن ذكر الله -جل وعلا-.

الغناء -يا عباد الله- من أعظم الأسباب التي تصدّ عن ذكر الله، وعن الصلاة، وتُشغل عن فعل الطاعات والخيرات.

الأغاني والمعازف وآلاتهما على اختلاف أنواعها، وتعدّد أشكالها، تلكم الجراثيم والأوبئة التي احتلت غالب بيوت المسلمين اليوم -إلا من رحم الله-، وقليلٌ ما هُم، بل وحاصرت البيوتَ التي لم تستطع دخولها حصارًا شديدًا، تحاول الدخول فيها والتغلغل إلى ساكنيها بالّتِي واللُّتَيَّا.

الأغاني وما أدراكم ما الأغاني؟!

التي فُتن بها كثيرٌ من الرجال والنساء الذين ضعف إيمانهم، وخفّت عقولهم، واقتدى بهم شبابُ الأمة من بنينَ وبناتٍ، فشغلوا أوقاتهم، وملؤوا أرجاء بيوتهم وسياراتهم بأصوات المغنين والمغنيات التي تبثّها الإذاعات، وتصوّرها القنوات، بل وخصّصت لها المتاجر والمحلات.

وإن من عظم البليّة -يا عباد الله- أن وُضِعت جمعيات، بل وزارات لما يُسمّى تضليلاً: الثقافة والفنون والمسرح -ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم-.

ومن وراء ذلكم: الصحف والمجلات، والقنوات الماجنة التي تنوّه بشأن هؤلاء المطربين والمطربات، وتنشر أسماءَهم وصورَهم على صفحاتها مُعرّفةً الناس بهم، ومُصدّرةً لهم، ومُروّجةً لبضاعتهم المنتنة الخبيثة، حتى لقد أصبح بعض شباب الأمة الإسلامية في هذه الأعصار المتأخّرة يعرف عن هؤلاء المغنين والمغنيات وأغنياتِهم كُلَّ دقيق وجليل، ويعرف مواقيت بثّها آناء الليل وأطراف النهار، ولو سألته عن مواقيت الصلاة، لقال: لا أدري، ولو سألته عن أمور دينه، لقال: هاه، هاه، لا أدري.

وكيف يدري، ومن أين له أن يدري وهمته متجهة لضد ذلك؟! وكيف له بالهداية وبعض وسائل الإعلام تلقّنه أغنيةَ فلانٍ وفلانة، وتعلن مواعيدَ بثها في كل ساعة؟! وأنّى له بالسلامة والنجاة وبعض الإذاعات والقنوات -لا حيّاها الله- همّها تصدير الأغاني، وتطوير الفساد على نحو ما يسمونه: فيديو كليب؟! وله من اسمه نصيب.

أيها المسلمون: من كان في شك من تحريم الأغاني والموسيقى والمعازف، فليُزِل الشك باليقين من قول رب العالمين، وهدي الرسول الأمين في تحريمها، وبيان أضرارها.

فهناك النصوص الكثيرة من الكتاب والسنة تدل على تحريم الأغاني، والوعيدِ الشديد لمن استحلّ ذلك، أو أصرّ عليه.

والمؤمنُ العاقلُ المستجيبُ لربه المطيعُ لرسوله، يكفيه دليل واحدٌ من كتاب الله، أو صحيح سنة رسول الله.

فكيف إذا تكاثرت الأدلة على تحريم ذلك، وأجمع العقلاء على تسفيه فاعل ذلك؟!

قال الله -جل وعلا-: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِينًا)[الأحزاب: 36].

فاقرؤوا -وفّقكم الله- قولَ ربكم -جلّ في علاه- في تحريم الأغاني، وتحذِيركم منها، ووعيد من استعملها، أو استمع إليها، يقول ربنا -جل وعلا-: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ)[لقمان: 6 - 7].

قال الواحدي وغيره: "أكثر المفسرين على أن المراد بلهو الحديث الغناءُ، قاله ابن عباس وعبد الله بن مسعود -رضي الله عنهما-".

وقال أبو الصَّهْبَاء: سألت ابنَ مسعود عن قوله تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ) فقال: "والله الذي لا إله غيره، هو الغناء" يردّدها ثلاث مرات.

وذكر ابنُ كثير عن الحسن البصري: "نزلت هذه الآية في الغناء والمزامير".

أما الغناء مع الموسيقى، فأمرُه أشدُّ وأنكى؛ فقد روى الإمام البخاري في صحيحه معلّقًا بصيغة الجزم عن أبي مالك الأشعري قولَه: "لَيَكُونَنَّ من أمتي أقوامٌ يستَحِلّون الحِرَ والحَرِيرَ والخَمرَ والمَعازفَ".

وقد حاول قومٌ أن يطعنوا في هذا الحديث، فقالوا: إنه معلّقٌ لا يُحتَجّ به، ولكن البخاري -رحمه الله- رواه معلّقًا بصيغة الجزم، وهو في اصطلاحه صحيحٌ ثابتٌ، وقد رُويَ متصلاً صحيحًا في كتب أخرى من كتب السنة، فرواه أبو داودَ وابنُ ماجة والترمذيُ وأحمدُ وغيرهم.

ولو لم يكنْ في تحريم الأغاني إلا هذا الحديثُ لكفى.

وعن أبي مالك الأشعري أنه عليه الصلاة والسلام قال: "لَيَشْرَبَنّ ناسٌ من أمتي الخمر، ويسمّونها بغير اسمها، يُعزَف على رؤوسهم بالمعازِف والقَيْنَات، يخسف الله بهم الأرض، ويجعل منهم القردة والخنازير"[رواه أحمدُ وابنُ حبان وصحّحه وابنُ ماجة واللفظ له وصححه ابنُ القيم والألباني].

وعن عمرانَ بنِ حُصينٍ أن رسول الله قال: "في هذه الأمة خَسْفٌ ومَسْخٌ وقَذْفٌ" فقال رجل من المسلمين: يا رسول الله، ومتى ذاك؟ قال: "إذا ظهرت القَيْنَات -أي: المغنيّات- والمعازِف وشُرِبت الخمور"[رواه الترمذي وصححه الألباني].

قال ابن القيم -رحمه الله تعالى-: "ومن لم يُمسَخ منهم في حياته مُسِخ في قبره".

وقال: "إنَّ الله حرّم على أمتي الخمر والميسر والكوبَة والغُبَيْراء"[رواه أحمدُ وأبو داودَ وصححه الألباني في صحيح الجامع].

والكَوْبَة، هي: الطبْل.

وعن أنس قال: قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: "صوتانِ ملعونانِ في الدنيا والآخرة: مزمارٌ عند نعمة، ورَنّةٌ عند مصيبة"[رواه البزار بإسنادٍ جيد وصححه الحافظُ الضياء المقدسي وغيرُه].

عبادَ الله: لقد حرم الله الغناء في مكة قبل الهجرة، وقبل أن تُفرضَ كثيرٌ من الفرائض، وقبل أن تحرّمَ سائر المحرمات كالخمرة وغيرها، وذلك لخطورته على الأخلاق والسلوك، ولكي يشُبَّ القلبُ ويُبنى على الطهارة والفضيلة من البداية.

أيها الأحبة في الله: إن مفاسدَ استماع الأغاني كثيرة، وآفاتها خطيرة، ولعل من أهمها: أنه يُفسدُ القلب، قال الضحاك بنُ مُزاحِم: "الغناءُ مَفْسَدَة للقلب مَسْخَطَة للرب".

ومن مضارّه: أنه يُنبِت النفاق في القلب، كما يُنبِت الماءُ البقلَ والزرعَ، كما قال غير واحدٍ من السلف.

قال الإمام أحمد: "الغناء يُنبِت النفاق في القلب، فلا يعجبني".

ومنها: أنه عدّةٌ وعَتَاد للشيطان يُغري بهما عباد الله على الفسوق والعصيان، ويفتنهم به عن عبادته، ويصدهم عن سبيله، قال تعالى: (وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلا غُرُورًا)[الإسراء: 64].

قال ترْجُمَانُ القرآن عبد الله ابنُ عباس: "صوت الشيطان الغناءُ والمزاميرُ واللهو".

وكذا قال مجاهدٌ والضحاك.

ومن مفاسد الأغاني: أنها تمحو من القلب محبة القرآن الكريم، فإنه لا يجتمع في القلب محبة القرآن ومحبة الألحان؛ لأن القرآن وحيُ الرحمن، والغناءَ والمعازف وحيُ الشيطان، وهما ضدّان لا يجتمعان أبدًا، فهو خيارٌ فردٌ وطريقٌ واحدٌ، فاختر لنفسك أحد الطريقين، قال ابنُ القيم -رحمه الله-:

حُبّ الكتابِ وحُبّ ألحان الغِنَا

فِي قلب عبدٍ ليس يجتمعانِ

ثقُلَ الكتابُ عليهمُ لَمـا رأوا  

تقييـده بشرائـع الإيمانِ

واللهوُ خفَّ عليهمُ لَمـا رأوا ما  

فيه من طَرَب ومن ألحانِ

يا لذّةَ الفُسّاقِ لستِ كلذّةِ الْـ  

أَبرارِ في عَقْـلٍ ولا قُـرآنِ

ومن مضار استماع الأغاني: أنها مَجْلَبةٌ للشياطين، فهم للمغنين والمستمعين قرناء، وما كان مَجْلَبَة للشياطين فهو مَطْرَدَة للملائكة، فالملائكة تحبُ الذكر وتحضره، فماذا يكون حالُ أهل بيت يخالطون الشياطين؟!

فيا أسفًا على بيوت خلت من ذكر الله، وخلت من ملائكة الرحمن، وعُمِرَت بالأغاني، وامتلأت بالشياطين.

ومن المفاسد العظيمة بل الشنيعة للغناء: أنه رُقْيَة الزنا، وداعية الفحشاء، قال الفُضَيل بن عِيَاض: "الغناء رُقْيَة الزنا".

فالغناء دعوةٌ صريحةٌ إلى الفحشاء، ولهذا يحرص المغنون في أغنياتهم على ذكر محاسن النساء، وقَصص الغرام والعشق، والمجون والغزل، والهِيَام ووصف القُدُود، والخدود والثغور والنحور، وما في معنى ذلك؛ مما يثير لدى السامعين الوَجْدَ والهوى، ويحرّك الغرائز، ويُشعِلُ نارَ الشهوات.

قال يزيدُ بنُ الوليد: "يا بني أمية، إياكم والغناء؛ فإنه يُنقِص الحياء، ويزيد في الشهوة، ويهدم المروءة، وإنه لينوب عن الخمر، ويفعل ما يفعل السُّكْر، فإن كنتم لا بد فاعلين فجنبوه النساء؛ فإن الغناء داعية الزنا".

وذلك؛ لأن غناء الرجل ذو أثر كبير على عواطف المرأة ومشاعرها.

ونزلَ الحُطَيْئةُ الشاعرُ المشهورُ برجلٍ من العرب ومعه ابنته مُلَيْكَة، فلما جنَّ عليه الليل سمعَ غناءً، فقال لصاحب المنزل: "كُفَّ عني هذا، فقال: وما تكره من ذلك؟! فقال: إنَّ الغناء رائدٌ من رادَة الفجور، ولا أحبُ أن تسمعه هذه، فإن كففتَه وإلا خرجت عنك".

وقال العلامة ابن القيم -رحمه الله-: "فإنه رُقْيَة الزنا، ومُنبِت النفاق، وشَرَك الشيطان، وخمرة العقل، وصَدُّه عن القرآن أعظم من صدِّ غيره من الكلام الباطل؛ لشدة ميل النفوس ورغبتها فيه".

ومن مضار استماع الأغاني والاشتغال بها وجعلها دَيْدَنًا وعادةً ومُفْتَخَرًا: أنها سبب لأنواع العقوبات في الدنيا والآخرة، قال ابنُ القيم: "والذي شاهدناه نحن وغيرنا وعرفناه بالتجارب أنه ما ظهرت المعازِف وآلات اللهو في قوم وفشت فيهم، واشتغلوا بها إلا سلّط الله عليهم العدو، وبُلُوا بالقحط والجدب وولاة السوء".

ولقد ارتكبت أمة الإسلام في الأندلس ما حذّر منه النبي -صلى الله عليه وسلم-، فاتخذت القَيْنَات والمعازف، وأسرفت في ذلك إسرافًا شديدًا، وصرفت الأموال الطائلة في الأغاني والمعازف، فالدور والبساتين تُوقَف على الموسيقى، وأصبح المرضى يعالجون في المستشفيات بالموسيقى، فكان الغناء من جملة ما عصوا الله به، فحل بهم بلاء استأصل شَأْفَتَهم ودمّر دولتهم: (وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ)[البقرة: 57].

ومن مضار الأغاني ومفاسدها التي نراها في عصرنا هذا: ما فيها من تدمير للغة العربية لغة القرآن، ونشرٍ للعامية، ونشرٍ لكلمات الفساد، وتجريء الناس على الجهر بالسوء من القول، فكلمات وعبارات لا تُقَال إلا في المَخَادِع أصبحت تملأ المسامِع، ويردّدها الشباب عَلَنًا بلا حياء ولا رادِع، والله -جل وعلا- لا يحب الجهر بالسوء من القول.

ناهيكم عن الكلمات التي تحمل الكفر والاعتراض على القضاء والقدر، وسب الدهر، والتأفّف والتضايق من والأوامر الشرعية، والقيود الاجتماعية، والأعراف النبيلة، مما يشجع السامع على التمرد على فطرته والثَّوَرَان على قيمه الإسلامية.

ومن مضارها السيئة: أنها تغير معنى القدوة، فيُصدّرُ هؤلاء السَّفَلة من المغنين على أنهم نجومٌ وأبطال، وإذا ماتوا سُمّوا شهداء -ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم-.

وإن تَعْجَب فَعَجَبٌ فعلُ صحافةٍ وشاشاتٍ وموجات أثير لا هم لها إلا المغني المشهور، ولا صوت لها إلا المطرب المغرور، ولا رصيد لها إلا الحفلات والمهرجانات والجلسات، مما يضل شباب الأمة ويفتنهم، بل ويعلّقهم بالفَسَقَة والسَّبَهْلَل من المغنين والمغنيات، وقد تكون المغنية نصرانيةً أو يهوديةً، بل لربما كان اسم المغني يُفصح عن نصرانيته وفسقه، والقدوة محمد وصحبُهُ، قال تعالى: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا)[الأحزاب: 21].

القدوة، هم العلماء الربانيون، والدعاة الصالحون، وأبطال الجهاد في الماضي والحاضر، قال  تعالى: (أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ)[الأنعام: 90].

إن في تصدير هؤلاء المطربين والمطربات، وتلميعهم، إشغال لشباب الأمة عن الجهاد، والعمل لدينهم.

إن أعداءَنا يريدون شباب الأمة أن يعيشوا على الآهات والنغمات، ويحيوا على الفسق والغرام، يريدونهم أن يناموا في أحضان البغايا، لا أن يناموا في أحضان المنايا والجهاد، والعمل لهذا الدين، إذ لو فعلوا لدمروهم، واستأصلوا شَأْفَتهم.

عباد الله: إن من أعظم أسباب سوء الخاتمة -والعياذ بالله- الإصرار على المعاصي وإلفها، كالغناء وغيره، فإن الإنسان إذا ألف شيئًا مدة حياته وأحبه، وتعلق به، يعود ذكره إليه عند الموت، ويردده حال الاحتضار في كثير من الأحيان.

وفي هذا يقول الحافظ ابن كثير -رحمه الله-: "إن الذنوب والمعاصي والشهوات تخذل صاحبها عند الموت، مع خذلان الشيطان له، فيجتمع عليه الخذلان مع ضعف الإيمان، فيقع في سوء الخاتمة، قال تعالى: (وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنْسَانِ خَذُولاً)[الفرقان: 29]".

فينبغي علينا جميعًا: أن نحذر من سوء الخاتمة، وليكن من رأيناه يسقط ميتًا وهو يدندن بالأغاني عبرةً لنا وعظةً في المبادرة إلى التوبة والرجوع إلى الله -تعالى-، وقد أخبر النبي –صلى الله عليه وسلم-: "إن المرء يبعث على مات عليه".

وقال أيضًا: "إنما الأعمال بالخواتيم".

وإنه لا بد لكل من أراد حسن الختام أن يعمل بالتوبة النصوح قبل فوات الأوان، إن كان ممن يزاول مهنة الغناء، أو يستمع إلى الغناء، أو يُصدّره، فعليه أن يسارع بالتوبة والإنابة إلى الله -تعالى-، حتى لا يُقبَض وتأتيه منيته، وهو على تلك المعصية، حينها لا ينفع الندم.

الخطبة الثانية:

عباد الله: هذا هو الغناء -يا عباد الله- وهذه هي أضراره ومفاسده، ووالله ما أكثرها وما أشدَ خطرها، وإن الغناء حرام، حرّمه الله ورسوله، وهذا حكمٌ صريحٌ واضحٌ في منع الغناء وتحريمه، وتفسيقِ فاعِله، والمستمعِ إليه، يقول ابنُ القيم -رحمه الله تعالى-: "ولا ينبغي لمن شمّ رائحة العلم أن يتوقّف في تحريم ذلك، فأقلُ ما فيه أنه شعارُ الفُسّاق وشاربي الخمور".

وقال مالك -رحمه الله تعالى- لما سئل عن الغناء: "إنما يفعله عندنا الفُسّاق".

نعم -عباد الله- هو حرام لا يجوز فعله، ولا استماعه ألبتة، عن نافع قال: سمع ابنُ عمر مزمارًا، قال: "فوضع أصبعيه على أذنيه، ونأى عن الطريق، وقال لي: يا نافع، هل تسمع شيئًا؟ قال: فقلت: لا، قال: فرفع أصبعيه من أذنيه، وقال: كنت مع النبي فسمع مثل هذا فصنع مثل هذا"[رواه أبو داودَ وصححه الألباني].

أيها الشِّيب والشباب: إن مجالس الغناء وحفلاته ومهرجاناته وأشرطته لغوٌ ولهوٌ، فلنبتعد عنها، ولنطهر أسماعنا منها.

ومن صفات أهل الإيمان: أنهم بعيدون عن اللهو واللغو، قال تعالى: (وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ)[المؤمنون: 3].

أيها الآباء، أيها الأولياء، يا من أنتم مؤتمنون على بيوتكم ومؤتمنون على نسائكم ومؤتمنون على ذَرَارِيكم: طهّروا بيوتكم من هذا الغناء، وهذه المعازف، ومن هذه الأنجاس، واقطعوا عنها هذه الأصوات الملعونة، والمزامير الشيطانية.

إنَّ الرجلَ الغيورَ ذا الشهامة والعزة والكرامة لا يرضى بحالٍ لامرأته، أو بنته أن تسمع غناءَ رجلٍ فاجرٍ يُطرِب بصوته، ويفتنُ بصورته، ويصفُ في غنائه العشقَ والحبَ والغرام.

أينَ الغيرة -يا عباد الله-؟! بل أين الحمية؟!

وبعض الفحول من الرجال لا يرى غضاضةً ولا بأسًا في أن تتلذذ ابنته بآهات المغنين من العرب والغرب، وتتسلّى بها، حاملةً في الجيب صورَهم، متتبّعةً أخبارَهم، ناهيكم عمن يسافرون ويبذلون الأموالَ لحضورها، وبذلُ المال فيها حرام، وقد نهى النبي عن إضاعة المال.

فاتقوا الله -أيها الآباء والأولياء- في أسركم وبناتكم وأولادكم، فإنهم أمانةٌ عندكم ستسألون عنها، فالله -جل وعلا- يقول: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ)[التحريم: 6].

ويقول النبيُ –صلى الله عليه وسلم-: "إن الله سائل كل راع عما استرعاه: أحفظ ذلك أم ضيعه؟ حتى يسأل الرجل عن أهل بيته"[رواه ابن حبان وإسناده حسن].

ويقول أيضًا: "كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته، فالإمام راع وهو مسؤول عن رعيته، والرجل راع في أهله وهو مسؤول عن رعيته"[متفق عليه].

و"كفى بالمرء إثمًا أن يُضيع من يقوت".

واعلم -أيها الولي- أنك سوف تسأل عن نفسك وعن ذريتك في: (يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلبٍ سَليمٍ)[الشعراء: 88-89].

في يوم رهيب: (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ)[عبس: 34-37].

وإنني أوجهه نداءً إلى طائفةٍ عَلّها أن تعي ندائي، إنها طائفةٌ استُعملت فيما يغضب الله -عز وجل-، إنها طائفة تُصدر الفساد وترعاه، وتتفنّن في إضلال الشباب، إنهم أصحاب محلات الأغاني الذين ينتجونها ويسجلونها ويبيعونها على الشباب وعلى الناس.

إننا نقول لهؤلاء الذين يبيعون الأغاني: إنها محرمة وثمنها حرام، عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن الله -تعالى- إذا حرم شيئًا حرم ثمنه"[رواه أحمدُ والدارقطني بأسانيدَ جيدة].

اتقوا الله: واعلموا أنكم تبيعون حرامًا، وتنشرون فسادًا، وكسبكم خبيث: "وما نَبَتَ من سُحْت فالنار أولى به".

"وإن الله طيب لا يقبل إلا طيبًا".

ألا تخشى -يا صاحبَ المحل- من عقوبة الله وسخطه وأليم أخذه وعذابه؟!

فتب إلى ربك، واستبدل بيعَ هذه الأشرطة ببيع أشرطةٍ قد سُجّل عليها الكلم الطيب النافع من القرآن والسنة، والمواعظ النافعة، والخطب والمحاضرات المفيدة، قال تعالى: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا)[الطلاق: 2].

وقال النبي –صلى الله عليه وسلم-: "من ترك شيئًا لله عَوّضه الله خيرًا منه".

وأنت يا من تسمع الأغاني وهي هِجِّيرَاك صباحًا ومساءً، تدندن عليك في كل مكان، تشتريها وتدير مفتاح الراديو في السيارة على موجاتها، ألا تخاف من رب العالمين الذي سوف يحاسبك ويسألك عن هذا السماع الحرام؟!

(إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً)[الإسراء: 36].

عبدَ الله: السمعُ أمانةٌ عظمى، ومِنةٌ كبرى، امتن الله على عباده بها، وأمرهم بحفظها، وأخبرهم بأنهم مسؤولون عنها، وإن استماع المزامير والطنابير جحودٌ لهذه النعمة، واستخدامٌ لها في معصية الله؛ فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: "العينان زناهما النظر، والأذنان زناهما الاستماع، واللسان زناه الكلام، واليد زناها البطش، والرجل زناها الخُطَى، والقلب يهوى ويتمنى، ويصدق ذلك الفرج ويكذبه"[رواه مسلم].

أيها المسلمون: إنه واجبٌ علينا أن نقاطع الأغانيَ قنواتٍ ومحلاتٍ وشركاتٍ، وفنانينَ وفناناتٍ، وشعراءَ وشاعراتٍ، وأن لا نُمكّنَ لهم، فلا نؤجّرهم، ولا ندعمهم بأي وسيلة كانت، وأن نُبرِئ الذمة وننصح الأمة ببيان الحكم الشرعي لهم، وأنها حرام، وأن ما يفعلونه بنا وبالأمة من مهرجانات وحفلات وأشرطة هي إفساد في الأرض وإضلال، وأن نتعاهدهم بالبيان والنصح بالتي هي أحسن حتى يرجعوا ويتوبوا، وإلا هجرناهم، وحذّرنا منهم، فإنهم من العُدَاة على الفضيلة والأخلاق.

وعلينا أن نُوجِدَ وندعمَ ونعمّمَ البديل الشرعي المباح الحلال، من قراءة قرآن، وطلب علم وسماعٍ لإذاعة القرآن، والأشرطة المفيدة، النافعة واللهو البريء، والشعر الجيد، والحِدَاء الطيب، الذي يُشعِل هِمَم الشباب للعلياء.

وفي ذلك -والله- غنيةٌ عن صوت فاسقٍ وفاسقة، وكفايةٌ عن شاشةٍ ماجنة، وإذاعةٍ فاسدةٍ، ومجلة هابطة، ولنحفظ أولادنا ونساءنا، ومَنْ هم تحت ولايتنا منها.

عباد الله: إننا لا نُلحِق اللوم، ونحمل المسؤولية بالقنوات والإذاعات التي تبث من دول كافرة؛ لأنه ليس بعد الكفر ذنب، ولا يُرجَى من كافر خير، لكننا نحمل المسؤولية في ذلك المسلمين الذين يغارون على دينهم، وأخلاقهم ونسائهم وذرياتهم، فكيف يليق بهؤلاء أن يرتكبوا ما حرم الله من الغناء واللهو والغفلة عن ذكر الله؟!

وكيف يليق بالمسلمين الذين اعتُدِي على دينهم وبلادهم وشُرّد إخوانهم في أقطار الأرض في فلسطين والعراق وغيرهما من البقاع والأصقاع؟

كيف يليق بهم مع ذلك أن يلهوا بالمهرجانات والحفلات وهم جرحى مهددون بالأخطار؟!

كيف لهم أن يغنوا وهم يسمعون مآسي إخوانهم في القوقاز والبلقان؟! كيف لهم أن يطربوا وهم يرون أرضهم في فلسطين تُغتصَب وأعراضهم تنتهك؟!

إن اللائق بأمة الإسلام، أمةِ لا إله إلا الله، أمةِ العزة والعزيمة والكرامة: إن اللائق والواجب بها أن تجدّ وتجتهد في حماية دينها وبلادها، وتجاهد الكفار، وتدفع الأخطار، وأن تحفظ مُقَدَّرَاتها وطاقاتها فيما ينفع ويفيد أبناء الأمة من علم وتعليم ودعوة إلى الله، وبناء مرافق، وإعداد للعدة في سبيل الله، لا أن تذهب سدى في اللهو الباطل والغناء الحرام.

ولتتذكر الأمة رعاةً ورعيةً رجالاً ونساءً أن عزتنا ونصرتنا لا تكون إلا بالإسلام والتمسك بالدين والعمل بسنة النبي الأمين، وأنها إذا تخلت عن الدين تخلى ربها عنها، قال تعالى: (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ)[محمد: 38].

وقال سبحانه: (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)[الأنفال: 53].

يا أمة الحق: عزتنا ليست بالأغاني والموسيقى والملاهي، فهذه لا تعيد حقًا مسلوبًا، ولا تردع ظالمًا، عزتنا بالقرآن والسنة، قال تعالى: (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلونَ)[الزخرف: 44].

وقال النبي –صلى الله عليه وسلم-: "إن الله يرفع بهذا الكتاب أقوامًا، ويضع به آخرين".

اللهم أصلح الراعي والرعية، والأمة الإسلامية.

اللهم آمنا في الأوطان والدور، وأصلح الأئمة وولاة الأمور، واعصمنا من الفتن والشرور، وانصر إخواننا المجاهدين في الثغور، واغفر لنا ولوالدينا ومشايخنا وأمواتنا يا عزيز يا غفور.