البحث

عبارات مقترحة:

القاهر

كلمة (القاهر) في اللغة اسم فاعل من القهر، ومعناه الإجبار،...

الباسط

كلمة (الباسط) في اللغة اسم فاعل من البسط، وهو النشر والمدّ، وهو...

الملك

كلمة (المَلِك) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فَعِل) وهي مشتقة من...

علاج مشكلة الفقر (2) دور الفرد في علاج الفقر

العربية

المؤلف علي باوزير
القسم خطب الجمعة
النوع نصي
اللغة العربية
المفردات الدعوة والاحتساب - نوازل الأحوال الشخصية وقضايا المرأة
عناصر الخطبة
  1. مفاسد الفقر وعواقبه الوخيمة .
  2. أهمية العمل والاكتساب والسعي .
  3. وجوب الاقتصاد في النفقة وعدم الإسراف والتبذير .
  4. الحث على حسن التدبير في الوقاية من الفقر .
  5. من أعظم صلة الأرحام إنفاق الميسورين على أقاربهم المحتاجين .
  6. تحريم المعاملات التي تؤدي إلى زيادة الفقر. .

اقتباس

إن الإنسان ينبغي له أن يعيش حياته بحسب قدرته، وبحسب ما أعطاه الله -سبحانه وتعالى- من المال لا أن يتجاوز حدوده، ويحاول أن يكون مثل غيره، فيؤدي ذلك إلى زيادة فقره وحاجاته. وأسوأ من ذلك أن تجد مثل هذه النفقات تُصرَف على ما لا فائدة منه، ولا نفع كالقات والسيجارة. كثير من الناس يشتكون من الفقر، يشتكون من ضيق الحال، يشتكون من قلة المال، وإذا نظرت إلى حال الواحد منهم تجده يشتري يوميًّا من السجائر بمبالغ لو جُمعت في آخر الشهر لكانت راتبًا شهريًّا يعادل راتبًا يأخذه كل شخص.

الخطبة الأولى:

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له؛ وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلَّى الله عليه وعلى آله وسلم.

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70-71].

أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

وبعد أيها المسلمون عباد الله: تحدثنا في الخطبة الماضية عن الفقر، وعن أنه مشكلة كبيرة وخطر عظيم جسيم، خطر على العقيدة والدين وخطر على السلوك والأخلاق وخطر على الأسرة والمجتمع وخطر على العقل والفكر.

تحدثنا -أيها الأحباب- عن أن الفقر مشكلة كبيرة تواجه العالم كله عمومًا، وتواجه المسلمين منهم على وجه الخصوص، وفي كل يوم يزداد خطر وضرر هذه المشكلة ويظهر آثرها بازديادها وانتشارها واتساع دائرة الفقراء.

على سبيل المثال في اليمن في عام 2008م كانت التقارير تشير إلى أن نسبة الفقراء 45%، وهذا عدد كبير، ولكن الأدهى من ذلك أنه في آخر التقارير الإحصائية لعام 2012م ارتفعت هذه النسبة إلى 75%، وهذا عدد مهول ونسبة كبيرة جدًّا لا تبشر بخير.

ولهذا -أيها الأحباب- نحتاج أن نعرف كيف تُعالج هذه المشكلة، وكيف تُحل هذه المعضلة، فأمرها خطير عظيم، وقد جاء الإسلام بكثير من الحلول المتعددة المتنوعة التي تعالج هذه المشكلة.

من هذه الحلول ما يتعلق بالفرد ومنها ما يتعلق بالمجتمع، ومنها ما يتعلق بالدولة والحكومة.

نستعرض جملة هذه الحلول التي جاءت في دين الله -تبارك وتعالى- لنسترشد بالنصوص الربانية والأحاديث النبوية التي عالجت هذه المشكلة.

من هذه الحلول -أيها الأحباب- ومن أهمها "العمل والاكتساب والسعي" الذي يطالب به كل فرد مسلم، والذي رغَّب فيه الإسلام وحثَّ عليه، ولم يرضَ بأن يكون المسلمون عالة على غيرهم يستجدون الناس ويسألونهم.

الله تبارك وتعالى يقول في كتابه الكريم (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ) [الملك:15]، فأمر بالسعي، وأمر بالحركة والعمل.

النبي -صلى الله عليه وسلم- جعل خير طعام وأفضل طعام يأكله الإنسان ما أكله بكسب يده، في الصحيح عنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَا أَكَلَ أَحَدٌ طَعَامًا قَطُّ خَيْرًا مِنْ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ، وَإِنَّ نَبِيَّ اللَّهِ دَاوُدَ -عَلَيْهِ السَّلَام- كَانَ يَأْكُلُ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ"، مع نبوته ومع مقامه العظيم إلا أنه كان يأكل من عمل يده.

بل إن ربنا -تبارك وتعالى- جعل العامل والمكتسب بمنزلة المجاهد في سبيله في سورة المزمل يقول الله -تبارك وتعالى-: (عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُم مَّرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) [المزمل: 20].

يقول الإمام القرطبي -رحمه الله- معلقًا على هذه الآية: "يقول سوى الله –تعالى- في هذه الآية بين درجة المجاهدين والمكتسبين المال الحلال للنفقة على نفسه وعياله، فكان هذا دليلاً على أن كسب المال بمنزلة الجهاد"، يعفّ الإنسان نفسه بمنزلة الجهاد في سبيل الله.

في زمن النبي -صلى الله عليه وسلم- عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ، أَنَّ رَجُلا مَرَّ عَلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-، فَرَأَى أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- مِنْ جَلَدِهِ وَنَشَاطِهِ مَا أَعْجَبَهُمْ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! لَوْ كَانَ هَذَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: "إِنْ كَانَ يَسْعَى عَلَى وَلَدِهِ صِغَارًا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَإِنْ كَانَ خَرَجَ يَسْعَى عَلَى أَبَوَيْنِ شَيْخَيْنِ كَبِيرَيْنِ فَفِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَإِنْ كَانَ خَرَجَ يَسْعَى عَلَى نَفْسِهِ لِيَعِفَّهَا فَفِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَإِنْ كَانَ خَرَجَ يَسْعَى عَلَى أَهْلِهِ فَفِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَإِنْ كَانَ خَرَجَ يَسْعَى تَفَاخُرًا وَتَكَاثُرًا فَفِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ".

صحَّح النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- هذا المفهومَ، وبيَّن أن الخروج في سبيل الله ليس فقط بمجرد حمل السلام والقتال، بل الذي يخرج ليعمل ويكتسب ويأتي بنفقته ونفقة عياله، ويكفّ نفسه عن سؤال الناس هذا في سبيل الله وأيّ حث أعظم من هذا الحث على العمل والاكتساب.

النبي -صلى الله عليه وسلم- فضَّل اليد العلي عن اليد السفلى، وقال: "اليد العليا خير من اليد السفلى"، اليد العليا هي اليد المعطية، واليد السفلية هي اليد الآخذة.

وما أجمل تلك القصة التي تروى عن أحد الصالحين أنه جاءه رجل قد عزم على الخروج للتجارة فجاءه ليودعه فما لبث أيامًا قليلة إلا ورأى هذا المسافر في المسجد يتعبد فقال له: ما أسرع ما رجعت؟! فقال هذا المسافر الذي خرج للتجارة: "لقد رأيت في سفري عجبًا فرجعت من سفري"، قالت: انطلقت مسافرًا فأويت إلى مكان خراب لأستريح فيه فوجدت فيه طائرًا كسيحًا أعمى. فقلت في نفسي: كيف يعيش هذا الطائر في هذا المكان النائي وهو أعمى لا يتحرك؟! قال: فما لبث إلا أن جاءه طائر آخر بطعام مرات حتى أطعمه، قال: فقلت في نفسي الله الذي رزق هذا الطير في هذا المكان قادر على أن يرزقني وأنا في مكاني، فرجعت من ساعتي.

فقال له هذا الرجل الصالح: عجبًا لأمرك! أرضيتَ أن تكون مثل هذا الطائر الكسيح الأعمى الذي يعيش على معونة غيره ولم ترضَ لنفسك أن تكون بمنزلة الطائر الآخر الذي يسعى على نفسه، ويعين الفقراء ويعين المحتاجين؟!

 فكانت هذه لفتة جميلةً تصحِّح أيضًا هذا المفهوم المغلوط الذي وقع في نفس هذا الرجل حين ظن أن التوكل على الله معناه أن يجلس في مكانه ويأتيه رزقه إليه، ولم يكن هذا في يوم من الأيام منهجًا إسلاميًّا ولا مفهومًا صحيحًا.

عمر -رضي الله عنه وأرضاه- الخليفة الراشد جاء فوجد أناسًا جالسين في المسجد، فقال لهم: ماذا معكم هنا؟ قالوا: نحن متوكلون على الله، فأخذ درته –عصاه- وضربهم، وقال لهم: لا يقعدن أحدكم عن طلب الرزق، يقول: اللهم ارزقني، وقد علم أن السماء لا تُمطِر ذهبًا ولا فضة، وقد قال الله -تبارك وتعالى-: (فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ) [الجمعة: 10].

ومهما كان العمل الذي سيعمله الإنسان مهما كان حقيرًا مهينًا يزدريه الناس؛ إلا أنه خير له من أن يمد يده للناس.

في الصحيح عن النبي -صلى الله عليه وسلم- من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه وأرضاه- قال -صلى الله عليه وسلم-: "لأن يأخذ أحدكم حبله فيأتي الجبل فيجيء بحزمة الحطب على ظهره فيبيعها فيكفُّ الله بها وجهه خير له من أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه"، مع أن الاحتطاب مهنة شاقة يزدريها كثير من الناس، لكن النبي -صلى الله عليه وسلم- فضَّلها على أن لا يَمُدَّ يدَه للناس.

ما من نبي بعثه الله إلا ورعى الغنم، قالوا: وأنت يا رسول الله؟ قال: "نَعَمْ كُنْتُ أَرْعَاهَا عَلَى قَرَارِيطَ لِأَهْلِ مَكَّةَ"، أي: على شيء بسيط يعطوني إياه.

أنبياء الله ورسله على علو مكانتهم وشرفهم، وعلى عِظم الرسالة التي يحملونها والمهمة التي أوكلوا بها إلا أنهم كانوا أصحاب حرف، وكانوا أصحاب مهن، كان آدم عليه السلام حراثًا، وكان نوحًا نجارًا، وكان إدريس خياطًا، وكان داود يصنع الدروع وكان موسى راعيًا يرعى الغنم، وكانوا أنبياء الله وصفوته من خلقه، ليس هذا عيبًا في حقهم.

أئمة الإسلام وأعلامه الكبار كثير منهم عُرِفُوا بمهنهم، ولم ينسبوا لأجدادهم ولا لآبائهم، منهم مَن لُقِّب بالزجاج؛ لأنه كان يصنع الزجاج، وهو من العلماء الكبار، ومنهم مَن لُقِّبَ بالحذّاء؛ لأنه كان يصنع الأحذية، ومنهم من لُقِّبَ بالقفال؛ لأنه كان يصنع الأقفال، ومنهم من لُقِّبَ بالصبَّان والقطان، ونحو ذلك من الإلقاء التي نسبوا فيها إلى حرفهم ومهنهم، ولم يجد أحد منهم في ذلك حرجًا لم يقل: أنا عالم كبير أنسب إلى أجدادي وآبائي، وأنسب إلى نسبي الشريف الرفيع، بل قبلوا بمثل هذا الأمر؛ لأن هذا ليس عيبًا في حقهم، وإنما العيب أن يمدَّ الإنسان يده للناس.

والإنسان إذا كان جادًّا، وكان حريصًا على أن يكفَّ وجهه عن الناس؛ فإنه لن يعدم أن يجد عملاً إذا بحَث واجتهد في ذلك.

وهنا يأتي الواجب على الناس جميعًا أن يعينوا مثل هذا، أن يساعدوه ماديًّا، وأن يساعدوه معنويًّا حتى يجد عملاً يكفُّ به وجهه عن الناس.

ومن أفضل المشاريع التي يُدْعَى إليها التجار، وأصحاب الأموال، والمؤسسات الخيرية، أن يقيموا مشاريع التدريب والتأهيل التي تؤهِّل العاطلين عن العمل ليجدوا عملاً يستغنوا به عن الناس، وكما قالوا: "لا تعطني سمكة، ولكن علِّمني الصيد، فإنك إن أعطيتني سمكة أطعمتني يومًا واحدًا، وإن علمتني الصيد أطعمتني كل يوم".

فمثل هذه المشاريع ينبغي أن تُدعَم، وأن تُساعَد، وأن تُمَدَّ بالمال، وأن يتفاعل الناس فيها حتى تكون عاملاً مساعدًا للحدِّ من هذه المشكلة.

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، وكفى بالله شهيدًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إقرارًا به وتوحيدًا، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا مزيدًا.

وبعد: أيها الأحباب الكرام: كذلك من الأمور المهمة أنه ينبغي لمن أعطاه الله -سبحانه وتعالى- شيء من المال أن يحافظ على هذا المال، وأن يحسن التصرف والتدبير فيه؛ فإن الله -تبارك وتعالى- يقول: (وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا) [الإسراء:29].

والله -تبارك وتعالى- أثنى على عباده الصالحين فقال: (وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا) [الفرقان:67]، أي: كانت نفقتهم وسطًا، وكانت نفقتهم معتدلة بما يتناسب مع حالهم؛ حسن التدبير، وحسن التصرف في المال، هذه من الأمور المهمة التي تعين الإنسان على التخلص من الفقر.

ومن المظاهر التي نراها ونشاهدها، وتدل على عدم حسن التدبير أن نجد بعض الفقراء ينفقون نفقة الأغنياء، ويعيشون كأنهم أناس أثرياء يشترون ما لا حاجة لهم به وما لا يستفيدون منه، ويعتنون بشراء كماليات أكثر من اعتنائهم بالضروريات التي لا بدَّ لهم منها.

كل ذلك بسبب الفخر والمباهاة والمنافسة التي انتشرت بين الناس، لا يريد أن يقال: إن بيت فلان أقل من بيت فلان، أو أن ولد فلان أقل من ولد فلان، فيصرف ما لا حاجة له إلى صرفه، ويحمِّله ذلك كثيرًا من الديون، وكثيرًا من الأعباء والنفقات التي لا طاقة له بها، وكل ذلك لأجل الفخر والمنافسة، وهذا ليس من الحكمة في شيء.

فإن الإنسان ينبغي له أن يعيش حياته بحسب قدرته، وبحسب ما أعطاه الله -سبحانه وتعالى- من المال لا أن يتجاوز حدوده، ويحاول أن يكون مثل غيره، فيؤدي ذلك إلى زيادة فقره وحاجاته.

وأسوأ من ذلك أن تجد مثل هذه النفقات تُصرَف على ما لا فائدة منه، ولا نفع كالقات والسيجارة.

كثير من الناس يشتكون من الفقر، يشتكون من ضيق الحال، يشتكون من قلة المال، وإذا نظرت إلى حال الواحد منهم تجده يشتري يوميًّا من السجائر بمبالغ لو جُمعت في آخر الشهر لكانت راتبًا شهريًّا يعادل راتبًا يأخذه كل شخص.

ثم بعد ذلك يشتكي من الفقر، هذا الذي جعل كثيرًا من الأسر تبقى راسخة تحت أغلال الفقر، وتحت قيوده، ولم تستطع أن تتخلص منه؛ لأن المال الذي يأتيها يصرفه رب الأسرة فيما لا فائدة فيه، ويضيعه ولا ينتفع به.

وعودًا على مثله -أيها الأحباب-: نقول: إن العمل من أهل الوسائل التي تعين على مكافحة الفقر.

ولكن قد يكون الإنسان عاجزًا عن العمل؛ كالطفل الصغير، أو الشيخ الكبير، أو المرأة الضعيفة، أو المريض الذي لا يستطيع أن يعمل، فمثل هذا قد أوجب الله -تبارك وتعالى- على أقاربه أن يُنفقوا عليه، وأن يتحملوا مسئوليته، قال الله -تبارك وتعالى-: (وَأُوْلُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ) [الأنفال: 72]، وقال -سبحانه وتعالى-: (إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى) [النحل: 90]، وقال -سبحانه وتعالى-: (وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ) [الإسراء: 27]، (فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [الروم:38].

وهذه النفقة -أيها الأحباب-: هي من معاني صلة الرحم التي أمر الله -تبارك وتعالى- بها، وأمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بها وشدَّد في أمرها، وإلا فما معنى صلة الرحم إذا كان الإنسان يرى قريبه يتألم من الجوع، ويتوجع من قلة الحال لا يجد مسكنًا يؤويه ولا ملبسًا يستر عورته، ثم لا يعطيه شيئًا من المال، فأيُّ قطيعة أعظم من هذه القطيعة؟! وأيُّ إساءة إلى الرحم أعظم من هذه الإساءة؟! ألا يلتفت القريب إلى قريبه.

النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول يد المعطي العليا، ثم قال: "ابدأ بمن تعول"، أمك وأباك، فأختك وأخاك، ثم أدناك أدناك، ثم الأقرب فالأقرب من أقاربك وأرحامك.

ويروي جابر بن عبد الله عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "ابدأ بنفسك فتصدق عليها، فإن فضل شيء فلأهلك، فإن فضل عن أهلك شيء فلذي قرابتك، فإن فضل عن ذي قرابتك شيء، فهكذا وهكذا.."، أي: أنفق بعد ذلك على من شئت من الناس.

وقد أجمع العلماء والفقهاء على أن الزوجة تلزم نفقتها على زوجها، وأن الوالد تلزمه نفقة ولده الصغير، ونفقة بنته الأنثى، وعلى أن الابن تلزمه نفقة والده إذا كان عاجزًا، ثم اختلفوا بعد ذلك في بقية الأقارب، ولكن كما قلنا: لا شك أن النفقة على الأقارب من أعظم صلة الأرحام لا كما يسوِّل الشيطان لبعض أن يتصدق ويعين غيرهم من الناس وينسى أقاربهم ويتركهم.

وهذا المعنى -أيها الأحباب- لو تحقق في الناس لو تكافل الأقارب بينهم البين لو تعاونوا فيما بينهم البين لما بقي فيهم فقير.

النبي -صلى الله عليه وسلم- أثنى على جماعة من أهل  اليمن وهم الأشعريون أثنى عليهم بأنه إذا قل زادهم أو نقص جمع ما عندهم من الزاد، ثم اقتسموه بينهم بالسوية، يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "فهم منِّي وأنا منهم"، هذا التكافل بين الأقارب وبين أولي الأرحام من الأمور المساعدة التي تعين على التخفيف من حدة الفقر، وهذه من المعاني التي تميز بها الإسلام أن يُوجب على القريب النفقة على قريبه المحتاج.

أما الأنظمة الأخرى كالأنظمة الغربية اليوم؛ فإنها تفتقد إلى مثل هذا المعنى العظيم، الفتاة إذا بلغت سن الثامنة عشرة تبدأ تبحث لها عن عمل؛ لأن والدها تخلَّى عنها، لا يريد أن ينفق عليها، ولا تستطيع أن تقاضيه أمام القضاء بحجة أنه لا ينفق عليها، بينما في الإسلام يجوز للقريب ويحق للقريب الذي تلزم نفقته أن يقاضي قريبه أمام القضاء؛ لأن ذلك حق واجب لازم أوجبه الله -تبارك وتعالى- عليه.

كذلك أيضًا -إخوة الإسلام- من الحلول التي جاء بها الإسلام للحدِّ من الفقر أنه حرم كثيرًا من المعاملات التي تؤدِّي إلى حصول الفقر أو إلى زيادة الفقر أو تؤدي إلى استغلال حاجات الفقراء والمساكين.

ومن أهم هذه المعاملات التي حرمتها الربا، واعتبره الله –عز وجل- حربًا لله ورسوله وتوعد عليه بالوعيد الشديد؛ لأن الربا يقوم على استغلال حاجات الفقراء والمساكين ويزيد من الفقر في المجتمعات.

وكذلك الاحتكار الذي قال فيه النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لا يحتقر إلا خاطئ"، الذي يمنع حاجات الناس ثم بعد ذلك يبيعها التاجر بأسعار غالية لا يقدر عليها الفقراء، لذا حرَّمه الإسلام رعاية مصالح الفقراء ورعاية لحاجات الفقراء.

بقيت هناك حلول نتحدث عنها في الخطبة القادمة.

وخلاصة ما ذكرناه في هذه الخطبة من الحلول التي جاء بها الإسلام:

أولاً العمل والاكتساب الذي يطالب به كل فرد.

ثانيًا: الاقتصاد في النفقة وعدم الإسراف والتبذير

ثالثًا: إنفاق الميسورين على أقاربهم المحتاجين.

رابعًا: تحريم المعاملات التي تؤدي إلى زيادة الفقر.

نسأل الله -سبحانه وتعالى- أن يرفع عنا الفقر والبلاء والمحن..