الطيب
كلمة الطيب في اللغة صيغة مبالغة من الطيب الذي هو عكس الخبث، واسم...
العربية
المؤلف | خالد بن عبدالله الشايع |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - المنجيات |
كلما قوي إيمان العبد كلما زاد بلاؤه، وكلما زاد بلاؤه كلما زاد حمده لربه، فما نراه الآن في شتى أقطار المعمورة من قتل ومحن، وظهورٍ للباطل على الحق، إنما هو من البلاء الذي لله فيه حكمة، فواجب المسلمين جميعًا الصبر والحمد لله.. وينبغي للمؤمن أن يسأل الله العافية، فما أعطي عبد عطاءً خيرًا وأوسع من العافية. ولكن متى ما ..
الخطبة الأولى:
أما بعد:
فيا عباد الله: فثلاث من عناوين السعادة في الدارين: "من إذا أُعطي شكر، وإذا ابتُلي صبر، وإذا أذنب استغفر"، فطوبى لمن رُزق ذلك، وأطَر نفسه عليها أطرًا.
معاشر المسلمين: في خضم زحمة الأحداث، تكثر الفتن، ويصبّ البلاء على الناس صبًّا، وعندها ينقسم الناس لقسمين، صابر حامد يعلم أن ذلك بقدر الله ومشيئته، فيرضى ويسلم ويصبر ويرجو الثواب على الصبر، ويرقب ساعة الفرج ممن بيده الفرج، والقسم الآخر هم أهل الجهل وضعف الإيمان، فما أن يصيبه البلاء إلا ويجزع ويسخط ويعاتب ربه في قضائه وقدره، عافانا الله وإياكم.
أيها الأحبة: ينبغي أن يعلّم الإنسان نفسه أنه عند شدة البلاء لا بد من الحمد لله الذي هو للحمد أهل، فإذا أحدق بك البلاء من كل جانب، فانظر للنعم المترادفة عليك، وعندها تعلم فضل الله عليك فتحمده على كل حال.
فتحمده أن لم تكن في دينك، فكل المصائب تهون عند مصيبة الدين، وتحمده أن لم تكن أعظم، وتحمده أن وفقك للصبر والحمد، وتحمده على الأجر العظيم من هذه المصيبة، ثم تتأمل النعم التي أُسديت لك بلا ثمن، فستجد أن المصاب لا يوازي شيئا عند تلك النعم.
أخرج ابن حبان في الثقات (2/252- 253، ط الكتب العلمية) من طريق الأوزاعي عن عبد الله بن محمد قال: خرجت إلى ساحل البحر مرابطًا، وكان رباطنا يومئذ عريشَ مصر، فلما انتهيت إلى الساحل فإذا أنا ببطيحة وفي البطيحة خيمة فيها رجل قد ذهبت يداه ورجلاه، يعني مشلول الأطراف وذهب بصره وثقل سمعه، وما له من جارحة تنفعه إلا لسانه وهو يقول: اللهم أوزعني أن أحمدك حمدًا أكافئ به شكر نعمتك التي أنعمت بها عليَّ، وفضلتني على كثير ممن خلقت تفضيلاً، فقلت: والله لآتين هذا الرجل ولأسأله أنّى له هذا الكلام؟ فهم أم علم؟ أم إلهام ألهم؟
فأتيت الرجل فسلمت عليه فقلت: سمعتك وأنت تقول: اللهم أوزعني أن أحمدك حمدا أكافئ به شكر نعمتك التي أنعمت بها عليّ وفضلتني على كثير ممن خلقت تفضيلا. فأي نعمة من نعم الله عليك تحمده عليها؟ وأي فضيلة تفضل بها عليك تشكره عليها؟!
قال: أليس ترى ما قد صنع بي؟ قلت: بلى، قال: فوالله لو أرسل السماء عليَّ نارا فأحرقتني وأمر الجبال فدمرتني وأمر البحار فغرقتني وأمر الأرض فبلعتني ما ازددت لربي إلا شكرا لما أنعم عليّ من لساني هذا، ولكن يا عبد الله إذ أتيتني لي إليك حاجة، قد تراني على أيّ حالة أنا لست أقدر لنفسي على ضر ولا نفع، ولقد كان معي بُنيٌ لي يتعاهدني في وقت صلاتي فيوضيني وإذا جعت أطعمني وإذا عطشت سقاني، ولقد فقدته منذ ثلاثة أيام فتحسسه لي رحمك الله.
فقلت: والله ما مشى خلق في حاجة خلق كان أعظم عند الله أجرًا ممن يمشي في حاجة مثلك، فمضيت في طلب الغلام فما مضيت غير بعيد حتى صرت بين كثبان الرمل فإذا أنا بالغلام قد افترسه سبع وأكل لحمه فاسترجعت وقلت أنّى لي وجه رقيق آتي به الرجل!!
فبينما أنا مقبل نحوه إذ خطر على قلبي ذكر أيوب النبي -صلى الله عليه وسلم-، فلما أتيته سلمت عليه فردّ عليّ السلام فقال: ألست بصاحبي؟ قلت: بلى، قال: ما فعلت في حاجتي؟ فقلت: أنت أكرم على الله أم أيوب النبي؟ قال: بل أيوب النبي، قلت: هل علمت ما صنع به ربه أليس قد ابتلاه بماله وآله وولده؟ قال: بلى، قلت: فكيف وجده؟ قال: صابرا شاكرا حامدا، قلت: لم يرضَ منه ذلك حتى أوحش منه أقرباءه وأحبابه؟! قال: نعم، قلت: فكيف وجده ربه؟ قال: صابرا شاكرا حامدا، قلت: فلم يرض منه بذلك حتى صيره غرضًا لمارّ الطريق! هل علمت؟ قال: نعم، قلت: فكيف وجده ربه؟ قال: صابرا شاكرا حامدا أوجز رحمك الله!
قلت له: الغلام الذي أرسلتني في طلبه وجدته بين كثبان الرمل وقد افترسه سبع فأكل لحمه، فأعظم الله لك الأجر وألهمك الصبر، فقال المبتلى: الحمد لله الذي لم يخلق من ذريتي خلقا يعصيه فيعذبه بالنار، ثم استرجع وشهق شهقة فمات.
فقلت: إنا لله وإنا إليه راجعون عظمت مصيبتي، رجل مثل هذا إن تركته أكلته السباع، وإن قعدت لم أقدر على ضر ولا نفع فسجيته بشملة كانت عليه وقعدت عند رأسه باكيا، فبينما أنا قاعد إذ تهجم عليّ أربعة رجال، فقالوا: يا عبد الله ما حالك وما قصتك؟ فقصصت عليهم قصتي وقصته، فقالوا لي: اكشف لنا عن وجهه فعسى أن نعرفه، فكشفت عن وجهه فانكب القوم عليه يقبلون عينيه مرة ويديه أخرى ويقولون: بأبي عين طالما غضت عن محارم الله، وبأبي جسم طالما كنت ساجدًا والناس نيام، فقلت من هذا يرحمكم الله؟ فقالوا: هذا أبو قلابة عبدالله بن زيد الجرمي صاحبُ ابن عباس، لقد كان شديد الحب لله، وللنبي -صلى الله عليه وسلم-، فغسلناه وكفناه بأثواب كانت معنا وصلينا عليه ودفناه.
فانصرف القوم وانصرفت إلى رباطي، فلما أن جنّ عليّ الليل وضعت رأسي فرأيته فيما يرى النائم في روضة من رياض الجنة وعليه حلتان من حلل الجنة وهو يتلو الوحي (سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ) [الرعد:24]، فقلت: ألست بصاحبي؟ - انظروا إخواني من الذي يسأل الآن؟ - قال: بلى، قلت: أنّى لك هذا؟ قال: إن لله درجات لا تُنال إلا بالصبر عند البلاء، والشكر عند الرخاء مع خشية الله -عز وجل- في السر والعلانية.
ورواها الإمام ابن أبي الدنيا -رحمه الله تعالى- في كتاب: الصبر والثواب عليه (99)، وقال -رحمه الله تعالى-: "... قال الأوزاعي: قال لي الحكيم: يا أبا عمرو وما تنكر من هذا الولي؟ ابتلاه فصبر، وأعطاه فشكر؟ والله لو أن ما حنت عليه أقطار الجبال، وضحكت عنه أصداف البحار، وأتى عليه الليل والنهار أعطاه الله أدنى خلق من خلقه، ما نقص ذلك من ملكه شيئاً. قال الوليد: قال لي الأوزاعي: ما زلت أحب أهل البلاء منذ حدثني الحكيم بهذا الحديث".
اللهم نسألك العفو والعافية في الدنيا والآخرة..
الخطبة الثانية:
أما بعد: فيا أيها الناس: كلما قوي إيمان العبد كلما زاد بلاؤه، وكلما زاد بلاؤه كلما زاد حمده لربه، فما نراه الآن في شتى أقطار المعمورة من قتل ومحن، وظهورٍ للباطل على الحق، إنما هو من البلاء الذي لله فيه حكمة، فواجب المسلمين جميعًا الصبر والحمد لله الذي له الحمد في السر والعلانية،ـ وله الحمد في البلاء والعافية، وله الحمد في الشدة والرخاء، وله الحمد في الأولى والآخرة، وإنما نحن بين حسنيين لا ثالث لهما: (قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ) [التوبة: 52]، فمن قُتل فهو شهيد بإذن الله، ومن سلم فله الظفر بإذن الله، بعد التمحيص والتمييز، ولن يقوم لأهل الدين قائمة إلا بالرجوع الصادق للدين، وما عُرف لأحد التمكين في الأرض إلا بعد البلاء الشديد، وكما قال ابن تيمية -رحمه الله-: "بالصبر واليقين تُنَال الإمامة في الدين".
معاشر المؤمنين: ينبغي للمؤمن أن يسأل الله العافية، كما هو هدي النبي -صلى الله عليه وسلم-، وما أعطي عبد عطاءً خيرًا وأوسع من العافية. ولكن متى ما وقع البلاء فالزم "الحمد لله" الذي لا يُحمَد على مكروه سواه.
معاشر المؤمنين: مهما أصابك من ضر، فاعلم أنه من الله، وأنه بقضاء الله وقدره، وأن لله الحكمة البالغة في ذلك ولو لم تتبين لك، عندها يطمئن قلبك وترضى وتسلم، فتنال الأجر والثواب، وتنجح في الامتحان.
ومن عُوفي فليحمد الله، وإياك والشماتة بالمبتلى أو المعاقب، فمن شمت بأخيه ابتُلي في نفسه وماله وربما في دينه، والشامت من أخيه بمنزلة العدو له، روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة -رضي اللهُ عنه- قال: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يتعوذ من جهد البلاء، ودرك الشقاء، وسوء القضاء، وشماتة الأعداء"، قال سفيان: "الحديث ثلاث، زدت أنا واحدة، لا أدري أيتهن هي".
قال ابن عبد البر -رحمهُ اللهُ- في بهجة المجالس (2/745-750 باختصار وتصرف يسير): "باب الشماتة: قال الله -عز وجل- حاكياً عن موسى عليه السلام: (فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) [الأعراف:150]، وقيل لأيوب عليه السلام: أي شيء من بلائك كان أشد عليك؟ قال: "شماتة الأعداء".
قال عدي بن زيد العبادي:
أيها الشامتُ المعَيَّرُ بالدهُـ | ـرِ أأنتَ المبَرََّأ الموفورُ |
أم لديكَ العهدَ الوثيق من الأيَّـ | ـامِ بل أنت جاهلٌ مغرورُ |
من رأيتَ المنونَ خلَّدْنَ أمْ مَنْ | ذا عليه من ألاَّ يُضام خفـيرُ |
وقال أبو ذؤيب:
وتجلُّدِي للشامتين أريهم | أني لِريبِ الدَّهر لا أتضعضَعُ |
اللهم إنا نسألك العفو والعافية...