المؤخر
كلمة (المؤخِّر) في اللغة اسم فاعل من التأخير، وهو نقيض التقديم،...
العربية
المؤلف | وليد بن سالم الشعبان |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك |
عنْ مُعَاذٍ -رضي الله عنه-، قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَخَذَ بِيَدِي يَوْمًا، ثُمَّ قَالَ: "يَا مُعَاذُ، وَاللَّهِ إِنِّي لأُحِبُّكَ!". فَقَالَ لَهُ مُعَاذٌ: بِأَبِي وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ! وَأَنَا وَاللَّهِ أُحِبُّكَ! فَقَالَ -صلى الله عليه وسلم-: "أُوصِيكَ يَا مُعَاذُ: لا تَدَعْ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلاةٍ أَنْ تَقُولَ: اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَى ذِكْرِكَ، وَشُكْرِكَ، وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ" رَوَاهُ الإِمَامُ أَحْمَدُ وأبو داود والنسائي.
الخطبة الأولى:
الحمد لله رب العالمين، وأثني عليه سبحانه ثناء الذاكرين، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له إله الأولين والآخرين، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله إمام الشاكرين, فصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد: أيها الناس، اتقوا الله -تعالى- حق التقوى، وراقبوه في السر والنجوى.
عباد الله: عنْ مُعَاذٍ -رضي الله عنه-، قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَخَذَ بِيَدِي يَوْمًا، ثُمَّ قَالَ: "يَا مُعَاذُ، وَاللَّهِ إِنِّي لأُحِبُّكَ!". فَقَالَ لَهُ مُعَاذٌ: بِأَبِي وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ! وَأَنَا وَاللَّهِ أُحِبُّكَ! فَقَالَ -صلى الله عليه وسلم-: "أُوصِيكَ يَا مُعَاذُ: لا تَدَعْ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلاةٍ أَنْ تَقُولَ: اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَى ذِكْرِكَ، وَشُكْرِكَ، وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ" رَوَاهُ الإِمَامُ أَحْمَدُ وأبو داود والنسائي.
فهذا حديث عظيم في قدره وشرفه، يسير في كلماته وحروفه، يحفظه الصغير والكبير، والذكر والأنثى، اشتمل على ثلاث خصال تجمع للعبد الخير بحذافيره، أرشد فيه النبي -صلى الله عليه وسلم- معاذ بن جبل -رضي الله عنه- أن يدعو الله في دبر كل صلاة، مفروضة كانت أو نفلا، قبل السلام، بهذا الدعاء العظيم: أن يتوجه إلى الله -تعالى- بطلب العون والمدد؛ لأن العون بيده، والتوفيق بيده -جل وعلا-، فهذه الأمور الثلاثة التي خُصَّت هنا: "أَعِنِّي عَلَى ذِكْرِكَ، وَشُكْرِكَ، وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ"، كل واحدة من هذه الثلاثة شأنها عظيم، ولا يمكن أن تكون من أهلها إلا إذا أعانك الله.
فالاستعانة وسيلة، والعبادة غاية؛ قال -تعالى-: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) [الفاتحة:5]، ولا يمكن أن يُظفر بالغاية بدون الوسيلة؛ الغاية: العبادة، والوسيلة: الإعانة؛ ولهذا جمع الله بينهما، قال: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)، قال ابن تيمية: "تأملت أنفع الدعاء فإذا هو سؤال العون على مرضاته، ثم تأملته فرأيته في الفاتحة: إياك نعبد وإياك نستعين".
وفي حديث النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ، وَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ"؛ أي: اطلب العون من الله -سبحانه وتعالى-.
والمسلم دائمًا يستعين بالله -سبحانه وتعالى- في جميع أموره وأحواله, سواءً كانت الأمور الدينية أو الدنيوية, فهو لا يستطيع أن يقوم بشيءٍ من هذه الأمور إلا بعد توفيق الله وإعانته له؛ ولهذا كما جاء في الحديث: "لِيَسْأَلْ أَحَدُكُمْ رَبَّهُ حَاجَتَهُ كُلَّهَا، حَتَّى يَسْأَلَهُ شِسْعَ نَعْلِهِ إِذَا انْقَطَعَ".
فلهذا ينبغي علينا أن نغرس هذه العقيدة في قلوبنا, وهي أننا دائمًا نسأل الله -عز وجل- حتى الأمور اليسيرة السهلة؛ لأن سؤال الله -عز وجل- يعتبر عبادة من أجلِّ العبادات, أنت اسأل الله وتضرّع وانكسر وافتقر إليه -عز وجل-, واستعن بالله، وسوف تجد التوفيق والهداية والإعانة من الله -سبحانه وتعالى-.
فقوله: "أَعِنِّي عَلَى ذِكْرِكَ"، أي: اطلب العون من الله على ذكره؛ لأن الذكر -يا عباد الله- خير الأعمال، وفيه من البركة ما لا يخطر للعبد على بال. عن أبي الدرداء -رضي الله عنه- قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أَلا أنبِّئُكُم بخَيرِ أعمالِكُم، وأزكاها عندَ مَليكِكُم، وأرفعِها في درَجاتِكُم، وخَيرٌ لكُم مِن إنفاقِ الذَّهبِ والورِقِ، وخَيرٌ لكُم مِن أن تَلقوا عدوَّكُم فتضرِبوا أعناقَهُم ويضرِبوا أعناقَكُم؟". قالوا: بلَى يا رسولَ اللَّهِ! قالَ: "ذِكرُ اللَّهِ". قالَ معاذُ بنُ جبلٍ: "ما شَيءٌ أنجَى مِن عذابِ اللَّه ِ مِن ذكرِ اللَّهِ". رواه الترمذي وابن ماجه، وصححه الشيخ الألباني. قال ابن عون -رحمه الله-: "ذكر الناس داء, وذكر الله دواء"، قال الذهبي معلقا: "إي والله! فالعجب منَّا ومن جهلنا, كيف ندع الدواء ونقتحم الداء؟".
والذكر يُكفر الذنوب، أخرج الإمام البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَنْ قَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ فِي يَوْمٍ مِائَةَ مَرَّةٍ حُطَّتْ خَطَايَاهُ وَإِنْ كَانَتْ مِثْلَ زَبَدِ الْبَحْرِ".
وَعَنْ أَبي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ سَبَّحَ في دُبُرِ كُلِّ صَلاةٍ ثَلاثَاً وَثَلاثِينَ، وَحَمَدَ اللهَ ثَلاثاً وَثَلاثِينَ، وَكَبَّرَ اللهَ ثَلاثَاً وَثَلاثِينَ، فَتِلْكَ تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ، ثُمَّ قَالَ تَمَامَ المائَةِ: لا إِله إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ المُلْكُ وُلَهُ الحَمْدُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، غُفِرَتْ لَهُ خَطَايَاهُ وَإِنْ كَانَتْ مِثْلَ زَبَدِ الْبَحْرِ" رواه مسلم.
ولو لم يكن في الذكر إلا قول الله -تعالى-: (وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ) [العنكبوت:45]، وقوله -تعالى- في الحديث القدسي، كما في الصحيحين: "أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه حين يذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم" لكفى! فيذكره الله عند الطاعة فييسرها له، ويذكره الله عند المعصية فيصرفها عنه، ويذكره الله عند الشدائد فيفرجها عنه.
وقوله: "أَعِنِّي عَلَى شُكْرِكَ"، يدعو الله -تعالى- أن يعينه على شكر الله على نعمه؛ ونِعم الله عليك لا تُعد ولا تُحصى، (وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ) [النحل:53]، (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا) [النحل:18]؛ النعمُ كثيرة والشكر قليل: (وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ) [سبأ:13].
ولا يكون شاكرا لربِّه، إلا إذا توفرت فيه ثلاثة أركان مهمة: [الشكر بالقلب، وباللسان، وبالجوارح].
[أما الشكر بالقلب] فاعترافه في قرارة قلبه بنعمة الله عليه، بأنَّ هذه النعم واصلة إليه من الله؛ تفضلا منه -سبحانه- وإحسانا.
الثاني، [وهو الشكر باللسان، فذلك بـ] التّحدث بهذه النعم ظاهرا، فيثني على الله، ويحمده، ويشكره، ولا ينسب النعمة إلى غيره.
الثالث، [الشكر بالجوارح، فذلك بـ] أن يستعين بالنعم على مرضات الله، فيستعملها في طاعة الله؛ أما إذا استعملت نعمة الله في معصية الله، فقد كفرت نعمة الله عليك، فالذي يستعمل جسمه القوي وصحته الطيبة ومركوبه الحسن وأمواله المتعددة في معصية الله، فقد كفر نعمة الله عليه, واستحق مقته وعقوبته.
فالعبد الموفق السعيد هو الذي دائمًا وأبدًا ومرارًا وتكرارًا يتذكر نعمة الله عليه، في كل موقف وفي كل مشهد, فينبغي دائمًا أن لا يغيب الحمد والشكر عن عقولنا وأفكارنا وقلوبنا وجوارحنا, نحمد الله ونشكره بقلوبنا، بألسنتنا، بجوارحنا, نسخِّر هذه الجوارح كلها في طاعة الله وفي مرضاة الله، فهذا يعتبر شكرًا لله -عز وجل-.
والله يا إخوة، إنّ الإنسان إذا شكر الله وحمده يشعر بالراحة والسعادة والاستقرار, فأنت تسأل الله أن يعينك على شكره؛ لأنه كم من أناس لا يتذكرون نعمة الله! بل يزدرون نعمة الله عليهم, وهذا جديرٌ بهم أن تزال عنهم النعمة.
فنسأل الله -تعالى- أن يوزعنا وإياكم شكر نعمه، وأن يعيذنا من كفرانها إنه سميع مجيب،
أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ؛ إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على توفيقه وامتنانه، والشكر له على إحسانه وإنعامه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أن محمداً عبدُه ورسولُه أفضلُ رسله وخاتمُ أنبيائه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم لقائه.
أما بعد: وختم هذه الوصايا الثلاث بأن يدعو: "أَعِنِّي عَلَى ذِكْرِكَ وَشُكْرِكَ وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ"؛ وتأمل هنا، لم يقل: وعبادتك؛ قال: "وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ"؛ لأن العبادة لا تُقبل إلا إذا اتصفت بالحُسن، ولا تكون العبادة متصفةً بالحسن إلا إذا اجتمع فيها أمران: الإخلاص لله -تعالى-، ومتابعة الرسول -صلى الله عليه وسلم-.
ولهذا قال الفضيل بن عياض في قوله -تعالى-: (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) [الملك:2]: أخلصه وأصوبه، هذا معنى قوله: (أَحْسَنُ عَمَلاً). قيل: يا أبا علي، وما أخلصه وأصوبه؟ قال: "إن العمل إذا كان خالصاً ولم يكن صواباً لم يُقبل، وإذا كان صواباً ولم يكن خالصاً لم يُقبل، حتى يكون خالصاً صواباً، والخالص ما كان لله، والصواب ما كان على السنة ". وهذان الأصلان اجتمعا في قولك في الدعاء: "وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ".
ثم تنبه أيها المسلم: إذا دعوتَ الله بهذه الدعوة دبر الصلاة: "اللهُمَّ أَعِنِّي عَلَى ذِكْرِكَ وَشُكْرِكَ وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ"، أتبِع الدعاء بالسبب، ابذل السبب لتكون ذاكراً، وابذل السبب لتكون شاكراً، وابذل السبب لتكون محسِناً في عبادتك لله -تبارك وتعالى-؛ فإذا اجتمع لك الأمران: طلب العون، وبذل الأسباب؛ فُزت بخيري الدنيا والآخرة، وحققتَ قول نبينا -عليه الصلاة والسلام-: "احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ وَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَلَا تَعْجز".
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، ربنا اجعلنا لك ذكارين، لك شكارين، إليك أواهين منيبين، تقبل يا رب توبتنا، واغسل حوبتنا، وأجب دعواتنا، وثبت حجتنا، واسلل سخائم صدورنا، وعافنا واعف عنا.
اللهم أوزعنا أن نشكر نعمتك التي أنعمت بها علينا، اللهم اجعلنا من عبادك الشاكرين.
اللهم إنا نعوذ بك من زوال نعمتك، وتحول عافيتك، وفجاءة نقمتك، وجميع سخطك.
اللهم إنا نعوذ بك من الفتن، ما ظهر منها وما بطن، اللهم آمنّا في الأوطان والدور، واصرف عنا الفتن والشرور، اللهم وفقّ ولاة أمرنا بتوفيقك، وأيّدهم بتأييدك، واجعلهم أنصارا لدينك، واجزهم خير الجزاء على ما يقومون به من خدمة للإسلام والمسلمين يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم اكفنا والمسلمين شر الأشرار، وكيد الفجار، اللهم ولّ على المسلمين خيارهم واكفهم شرارهم يا رب العالمين، اللهم أعزّ الإسلام والمسلمين، اللهم ارحم المستضعفين من المسلمين في كل مكان، اللهم ارفع البلاء عن المستضعفين من المسلمين في كل مكان، اللهم انصر المستضعفين من المؤمنين في كل مكان.
اللهم احقن دماء المسلمين، واحفظ عليهم دينهم وأمنهم وأعراضهم وأموالهم يا رب العالمين، اللهم قاتل كفرة أهل الكتاب الذين يصدون عن سبيلك ويقاتلون أهل دينك، اللهم خالف بين كلمتهم وألق في قلوبهم الرعب، وألق عليهم رجزك وعذابك إله الحق، اللهم عليك بهم فإنهم لا يعجزونك, اللهم أنزل بهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين يا قوي يا عزيز.
اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات، إنك سميع قريب مجيب الدعوات.
(وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ) [العنكبوت:45].