البحث

عبارات مقترحة:

الباسط

كلمة (الباسط) في اللغة اسم فاعل من البسط، وهو النشر والمدّ، وهو...

الرءوف

كلمةُ (الرَّؤُوف) في اللغة صيغةُ مبالغة من (الرأفةِ)، وهي أرَقُّ...

الملك

كلمة (المَلِك) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فَعِل) وهي مشتقة من...

مآسينا والتقليد الأعمى

العربية

المؤلف حسان أحمد العماري
القسم خطب الجمعة
النوع نصي
اللغة العربية
المفردات الدعوة والاحتساب - المهلكات
عناصر الخطبة
  1. خطر التقليد الأعمى على الأمة .
  2. المقصود بالتقليد الأعمى .
  3. ذم القرآن للتقليد الأعمى .
  4. الحث على اتباع الدليل واستخدام العقل .
  5. بعض مفاسد التقليد الأعمى وآثاره على الأمة .
  6. تقليد المسلمين للكفار في الأمور السيئة وترك الأمور الحسنة .
  7. حال المسلمين المأسوية .
  8. بعض واجبات المسلم تجاه أخيه المسلم .

اقتباس

به تتميع شخصية المسلم وقيمه ومعتقداته، وهو داء الأمم من قبلنا به، دمرت الحضارات، وكذبت الدعوات، وسفكت بسببه دماء الأنبياء والرسل، وقامت العداوات بين البشر، وظهر الانحطاط الأخلاقي، وانحسر المد الحضاري، وتوقفت العقول عن...

الخطبة الأولى:

الحمد لله فاطر الأكوان وباريها، ورافع السماء ومعليها، وباسط الأرض وداحيها، وخالق الأنفس ومسويها، وكاتب الأرزاق ومجريها، سبحانه من إله لا يماثل ولا يضاهى ولا يرام له جناب، هو ربنا عليه توكلنا وإليه المرجع والمتاب، يسمع جهر القول، وخفي الخطاب، جعل تقواه من صفات أولي الألباب، وبها دعاهم لدخول جنته، والخوف من العقاب.

إذا المرء لم يلبس ثياباً من التقى

  تقلب عرياناً ولو كان كاسيا

وخير لباس المرء طاعة ربه

  ولا خير فيمن كان لله عاصيا

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، خلق النفس من العدم فأنطقها، وبث في الكون آثار وحدانيته فجلاها وأظهرها.

وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله، خير البرية أجمعها وأزكاها وأطهرها، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.

أما بعد:

عباد الله: خرج المسلمون بعد فتح مكة، مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى حنين، لملاقاة قبائل العرب التي تجمعت لقتال المسلمين، وفي أثناء الطريق، يقول بعض المسلمين -وكانوا حديث عهد بإسلام-: يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط؟ -وكانت شجرة في الجاهلية يعلق عليها الكفار سيوفهم قبل المعركة تباركاً بها-، فغضب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقال: "الله أكبر! قلتم والذي نفس محمد بيده كما قال قوم موسى: (اجْعَل لَّنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ) [الأعراف: 138] إنها السنن، لتركبن سنن من كان قبلكم" [أخرجه أبو داود (2501)].

وفي رواية: "لتتبعن سنة من كان قبلكم شبراً بشبر، وذراعاً بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضب لتبعتموهم" قلنا: يا رسول الله، اليهود والنصارى؟ قال: "فمن؟!" [رواه البخاري ومسلم].

هذا، هو التقليد الأعمى الذي حذر الله منه، ورسوله -صلى الله عليه وسلم-، الأمة جميعاً، أفراداً وجماعات؛ لأنه يقود إلى الهلاك والضياع.

وبه تتميع شخصية المسلم وقيمه ومعتقداته، وهو داء الأمم من قبلنا به، دمرت الحضارات، وكذبت الدعوات، وسفكت بسببه دماء الأنبياء والرسل، وقامت العداوات بين البشر، وظهر الانحطاط الأخلاقي، وانحسر المد الحضاري، وتوقفت العقول عن الإبداع والتفكير، قال تعالى: (وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ * قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُم بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ آبَاءكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ) [الزخرف: 23 - 24].

والتقليد الأعمى، هو: أن يقلد الإنسان إنسانا آخر في معتقده، أو عبادته، أو سلوكه وأعماله وأقواله، دون علم، أو حق، أو بصيرة، أو دليل.

ولذلك نهى القرآن عن هذا التقليد، وذم أصحابه، وبين خطورته على الأفراد والمجتمعات في الحياة الدنيا والآخرة، قال تعالى: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ) [البقرة: 170].

وقال سبحانه: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ) [المائدة: 104].

لما دعا إبراهيم -عليه السلام- قومه إلى توحيد الله، وعبادته، وسألهم عن هذه الأصنام التي يعبدونها من دون الله، لقد كان ردهم: أنهم هكذا وجدوا آبائهم يفعلون، قال تعالى: (مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ) [الأنبياء: 52].

فأجاب المقلدون: (وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ) [الأنبياء: 53].

قال إبراهيم: (لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) [الأنبياء: 54].

أيها المؤمنون -عباد الله-: لقد أمرنا الإسلام باتباع الدليل من كتاب الله ومن سنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-، واستخدام العقل، في معرفة الحق من الباطل، والخير من الشر، والخبيث من الطيب، في جميع شؤون الحياة، وجعل في ذلك الفوز والنجاة، والفلاح في الدنيا والآخرة، قال تعالى: (فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى) [طه: 123].

وقال تعالى: (فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ) [البقرة: 38].

ومن ينظر إلى واقع حياتنا اليوم: يجد أن من أسباب مشاكلنا وصراعاتنا، وفساد كثير من أخلاقنا وسلوكياتنا، وأصبحت الكثير من أعمالنا وسلوكياتنا، تقليد لغيرنا بالباطل.

ولم يقف أحدنا مع نفسه يسأل: هل هذا العمل صحيح أم خطأ؟ حق أم باطل؟ أمر الشرع به أم نهى عنه؟

ولكن؛ لأن فلان قام به، أو أمر به، فنحن نقوم به، وهكذا أصبحت الكثير من الأعمال والسلوكيات في حياتنا، ولو خالف ذلك أوامر الشرع، وأحكام الدين، وفضائل القيم والأخلاق، قال تعالى: (وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا * يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنسَانِ خَذُولًا) [الفرقان: 27 - 29].

وقال تعالى: (يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا * وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا * رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا) [الأحزاب: 66 - 68].

قال العلامة الشوكاني -رحمه الله تعالى-: "والمراد بالسادة والكبراء، هم الرؤساء والقادة الذين كانوا يمتثلون أمرهم في الدنيا، ويقتدون بهم، وفي هذا زجر عن التقليد شديد، وكم في الكتاب العزيز من التنبيه على هذا، والتحذير منه، والتنفير عنه" [فتح القدير (4/306)].

يقول عدي بن حاتم -رضي الله تعالى عنه-: "أتيت النبي –صلى الله عليه وسلم- وفي عنقي صليب من ذهب، فقال لي: اطرح هذا الوثن من عنقك، قال: فطرحته، قال: وانتهيت إليه، وهو يقرأ سورة براءة، وقرأ هذه الآية: (اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ) [التوبة: 31] قال: قلت: يا رسول الله إنا لسنا نعبدهم؟ فقال: أليس يحرمون ما أحل الله، فتحرمونه، ويحلون ما حرم الله، فتستحلونه؟ قال: قلت: بلى، قال: فتلك عبادتهم" [صحيح سنن الترمذي، للعلامة الألباني (3/56)].

إن هذا التقليد نذير شؤم على صاحبه، بل وعلى المجتمع والأمة جميعا، ويوم القيامة سيكون هناك الندم والخزي، بل التلاعن بين الأتباع والمتبوعين، قال تعالى: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الْأَسْفَلِينَ) [فصلت: 29].

وقال عز وجل: (وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ * إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا) [البقرة: 165 - 166].

عباد الله: إن من آثار التقليد الأعمى والمآسي التي جنتها على الأمة أفراداً وشعوباً ودولا: ضياع الحق، وتحكيم الأهواء، وتمييع القيم والمبادئ، وفساد العمل، والاستمرار في الطريق الخطأ، وقتل الإبداع، والتبعية والانهزامية.

ولذلك، قلدنا غيرنا من أمم الأرض من حولنا، فيما هو سيئ من السلوكيات والأخلاق، والمظاهر والعادات، ولم نأخذ أجمل ما عندهم، وأفضل ما لديهم، حتى في أمور الحياة، ووسائل الحضارة، وما يمكن أن تنتفع به البشرية، ولذلك لم نعد أمة منتجة كما كانت أمتنا عبر قرون من الزمان، يستفيد من عطائها وإنتاجها العالم، وأمم الأرض، من حولها، فأصبحنا أمة مستهلكة في جميع نواحي الحياة، بسبب التقليد، والتبعية لغيرنا.

بل لقد بلغ تقليد هذه الأمة لغيرها منتهاه، فها هي الفرقة والاختلاف، وظهور العصبيات الطائفية والقومية والمناطقية التي تلقي بظلالها على مسرح الحياة، وقد ذكر الله لنا تفرق أهل الكتاب في دينهم، محذراً من صنيعهم، قال تعالى: (وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ * مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا) [الروم: 31- 32].

وقال تعالى: (وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ) [آل عمران: 105].

وقال عز من قائل: (شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ) [الشورى: 13].

واليوم تسفك الدماء، وتهتك الأعراض، وتستباح الحرمات، في بلاد الإسلام، وتقام الحروب؛ بسبب التفرق والاختلاف، والتنافس على الدنيا، وظهور العصبيات الجاهلية والطائفية، وأضحى الوطن والقطر، رغم مساحته الشاسعة، وخيراته الكثيرة، لا يتسع لأبناء الوطن الواحد، فقد ضاقت القلوب على بعضها البعض، فضاقت الأوطان.

لعمرك ما ضاقت بلاد بأهلها

ولكن قلوب الرجال تضيق

فأين نحن من قوله تعالى: (وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ) [آل عمران: 103].

وقوله تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) [الحجرات: 10].

ولماذا لا نقلد أعدائنا على الأقل في وحدتهم وتعايشهم، واحترامهم لبعضهم البعض، والتزامهم بالقانون والمؤسسات، ونبذهم للحروب والعنف، والتي أدركوا خطرها على مجتمعاتهم، بعد تضحيات كبيرة، وحروب أدركوا خطرها وآثارها على شعوبهم وبلدانهم.

لنعد جميعاً إلى ديننا، وأخلاقنا وقيمنا وأخوتنا.

لننتقل من مربع العنف والحروب والصراعات، إلى مربع العمل والبناء.

اللهم اهدنا بهداك، ولا تولنا أحد سواك، وثبتنا على الحق حتى نلقاك.

قلت ما سمعتم، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.

الخطبة الثانية:

عباد الله: توبوا إلى الله توبة نصوحاً، وعودوا إلى دينكم وأخلاقكم، وكونوا عباد الله إخوانا، واحذروا الشيطان، فبئس القرين، واحقنوا دماءكم، وصونوا أعراضكم، واحفظوا أموالكم، واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا، واملؤوا قلوبكم بالإيمان والحب، والتراحم والتسامح، واستعينوا بذكر الله، والعمل الصالح، والتضرع والدعاء، ليرفع الله عنا هذه الفتنة، ويطفئ هذه الحرب، ويؤلف بين القلوب، ويعجل بالفرج من عنده.

وتعاونوا فيما بينكم، وانظروا إلى حاجات الفقراء والمساكين والمحتاجين والجيران، كلٌ يقدم ما يستطيع، وثقوا بالله وفضله ورحمته.

اللهم حكم فينا كتابك وسنة نبيك، واجعلنا من عبادك الصالحين، واحفظنا واحفظ بلادنا من كل سوء ومكروه، وجنبنا الفتن ما ظهر منها وما بطن، واحقن دماءنا، وجميع المسلمين، وألف بين قلوبنا، وأصلح فساد ذات بيننا، واجعلنا من الراشدين.

هذا، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد، وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين.

والحمد لله رب العالمين.