العربية
المؤلف | عبد المحسن بن عبد الرحمن القاضي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الدعوة والاحتساب |
هذا هو الإسلام الذي وصف صلى الله عليه وسلمَ تكاتفَ المؤمنين بأنه "كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمُّى" مثلٌ عظيم ودقيق يبينُ لك عِظمَ الرعايةِ والبرِّ والرحمةِ، فكلُّ المسلمين كجسد واحدٍ مترابط، إذا تأثر منه عضو كل الأعضاء تساعده وترعاه، كما أن هذه الرحمة والرعاية ليست للمسلم فقط فغير المسلمين نُحسنُ إليهم، ونعطفُ على المحتاج منهم، ف "في كل كبد رطبةٍ أجر".
الخطبة الأولى:
الحمد لله شمل برحمته الأنام، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك العلّام، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله نبيّ الرحمة والسلام، صلى الله عليه وعلى والآل والصحب الكرام.
أما بعد:
فاتقوا الله -عباد الله-، واعلموا أن دين الإسلامي خاتمُ الأديان، وأشملُها جاء بكل شيءٍ صالح لنعيش به في الحياة، ونسعد فيه بالآخرة، ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- بُعث لتوحيدِ الله، ونبذِ الإشراكِ به، وهو أيضاً رحمةٌ للعالمين، وليُتمِّمَ مكارم الأخلاق للناس أجمعين، وليُرسِّخ مبادئَ الرحمةِ والرعايةِ للمحتاجين كقيمٍ عظيمةٍ من الدين: (لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ) [التوبة: 128].
حثَّ على برِّ الوالدين، وجعل الإحسان إليهما مقروناً بطاعة ربِّ العالمين.
أمر بالإحسان إلى الخلق، والرحمة بهم، ورعاية المحتاج منهم ومساعدته، وجعل ذلك صدقات.
دينٌ أكلمه الله ورضيه لنا ديناً، شمل برحمته ورعايته البيئةَ والإنسانَ، وحمايةَ الأرضِ والحيوان.
أما المحتاجُ إلى الرعايةِ والبرِّ فرتَّب لخدمته أجراً عظيماً، فالجنَّةُ تحتَ أقدامِ الأمهات.
وبرُّ الوالدين، وصلةُ الأرحام؛ سببٌ لدخول الجنان، وكافل اليتيم مع الرسول -صلى الله عليه وسلم- بالجنة.
والقائمُ على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله، وكالصائم لا يفطر من صيام ولا يفتر من قيام.
مُساعدةُ ذوي الإعاقة والعنايةُ بهم صدقةٌ وأجرٌ، ومن يرحمُ الناس ويُشفقُ بهم يرحمُه الله، ومن لا يرحم الناس لا يرحمه الله.
رتَّب الصدقةَ، ونظَّم الزكاةَ للفقير والمحتاج، وجعلَها ركناً في الدين.
هذا هو الإسلام الذي وصف صلى الله عليه وسلمَ تكاتفَ المؤمنين بأنه "كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمُّى" مثلٌ عظيم ودقيق يبينُ لك عِظمَ الرعايةِ والبرِّ والرحمةِ، فكلُّ المسلمين كجسد واحدٍ مترابط، إذا تأثر منه عضو كل الأعضاء تساعده وترعاه، كما أن هذه الرحمة والرعاية ليست للمسلم فقط فغير المسلمين نُحسنُ إليهم، ونعطفُ على المحتاج منهم، ف "في كل كبد رطبةٍ أجر".
حتى الجزيةُ في الإسلام تُدفع عنهم سابقاً إذا لم يستطيعوا ورسول الله -صلى الله عليه وسلمَ- لما افتقدَ جاره الغلام اليهودي حين مرض زاره فوجده يحتضر فحثَّه على الإسلام فأسلمَ، ثمَّ قال فرحاً: "الحمد لله الذي أنقذه بي من النار" [أخرجه أحمد].
إنها رحمةٌ عظيمة تسبقُ الغضبَ والثأر.
أما الرحمةُ بالحيوان فدخلت امرأةٌ في هرةٍ حبستها ولم تُطعمْها، وعكس ذلك غفر الله لبغيٍّ من بني إسرائيل؛ لأنها سقت كلباً من العطش، وأحاديثُ كثيرةٌ له صلى الله عليه وسلمَ في الرحمة بالحيوان والطير، وحسن رعايته، وعدم إيذائه.
والحفاظِ على بيئةِ الأرض بعد أن أصلحها الله، وعدم الإفساد فيها بقطع شجرِها، وإزالةِ الأذى عن طريقها، حتى الإنسان المسلم العاصي من رحمة الله أن إثمَ معصيته على نفسه: (وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) [الزمر: 7].
ومن يفعل الذنوبَ الله أرحم منَّا به يفتح له بابَ التوبة والمغفرة، ولو كررّ الذنب.
ورسول الله -صلى الله عليه وسلمَ- يدافع عنه ليساعده على التوبة، فيذكرُ أحسن صفاته، ثم يقول عمَّن يُجلدُ على معصية: "لا تعينُوا الشيطان على أخيكم فإنه يحب الله ورسوله".
الله أكبر! أيُّ دينٍ أعظمُ وأشملُ وأرحم من هذا الإسلام ورعايتهِ التي ينبغي أن نُظهرها ونوضحها لمن يتهمون ديننا ظلماً بالتطرف والشدّة، ولمن يفهمُ الدينَ خطأً فيُسيء إليه بتطرفه، ويُشوِّهُ تعاليمَه بقسوته، ويهملُ سماحته.
والعكس من يأخذُ منه ما يُوافق هواه ويُميّعُ الدينَ بتفاهتِه، ويتنازلُ عن دينهِ، ويُهمل تعاليمَه مجاملةً ومداهنةً.
والإسلام دين سمح تعاليمه بريئةٌ من كل هؤلاء ومن على شاكلتهم.
دين أرحم الراحمين.
والقرآنُ الكريم والسنةُ وسيرةُ السلف امتلأت بمعاني الرحمة والرعاية والبر والإحسان، فأظهروا هذا عن دينكم ليس بالقول والكتب فقط، بل بالفعل والعمل والخلق.
امتثلوا أخلاق الإسلام، وأعطوا عنكم صورةً حسنة للأنام.
من المؤسف أنه حينما تنظر لحال بعض المسلمين في التعاملات بينهم وعدم اهتمامهم بمبادئ الإسلام في الأخلاق والنظافة والبيئة والتعامل، وإهمالٍ كبيرٍ لرعايةِ الضعيف والمسكين والمُعاقُ عندَهم للضياع والشوارع، رغم تعاليمَ واضحةٍ من دينهم، تحثهم على ذلك، وتأمرهم به، ليكونوا شعوباً متآلفة متراحمة، تؤكد على البرِّ والرعاية.
نسأل الله -تعالى- أن يجعلنا متعاونين على البر والعطف والرعاية رحماء بخلقه، ملتزمين بشرعه، متبعين لسنة نبيّه -صلى الله عليه وسلمَ-.
أقول ما تسمعون...
الخطبة الثانية:
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.
وبعد:
أيها الأحبة: مبادئُ ذكرناها قبل قليل عن الرعاية والرحمة منَّ الله بها علينا في الإسلام، ورسخّها نبيُّ الرحمة والسلام محمدٌ -صلى الله عليه وسلمَ- تذكَّرتُها في زيارة لي قبل أيام إلى دار الرعاية الاجتماعية هنا حيث التقيتُ بأناسٍ أغلبُهم من كبارِ السن، ليس لهم أهلٌ يرعونهم أو يزورونهم أو يحتاجون لرعايةٍ خاصة.
والحقُّ أنني تأثرت لمشاهدتهم وظروفهم وحاجتهم، لكني سعدت وفرحتُ أيضاً في الوقت نفسه بجهود مُقدَّمةٍ لهم وطاقمٍ وظيفيٍّ متعاون متكاتف يبذل كلَّ جهدٍ لرعايتهم، وخدماتٍ تُكلّفُ الملايين تقدّمُها الدولةُ -رعاها الله- لهذه الفئة المحتاجة للرعاية، ليشعروا كأنهم في بيوتهم وبين إخوانهم، توفر لهم الغذاء واللباس والترفيه والتعليم والرياضة، وممارسةُ الهواية، بل بعضهم تميز بمواهب داخل الدار يخدم بها المجتمع ويُشغلُ بها وقته.
وهي خدماتٌ تراها -بحمد الله- في بلادنا في كل جانب، فالضمان الاجتماعي يوفر مبالغ للمحتاجين، ومبالغ شهرية تصرف لذوي الإعاقة، ومستشفى متكامل للمسنين، ودورٌ للرعاية، صغار بلا آباء، وكبارٌ بلا أهلٍ وولد من رجال ونساء، يحظون كلهم بالرعاية والبر لتعويض ما فقدوه، ويكمل هذا الدور الرسمي دورٌ عظيم خيري لجمعيات للبرِّ متفانيةٍ في خدماتها، وجمعيات أخرى للمرضى والأيتام والمعاقين والمحتاجين، وللزواج والرعاية، وجمعيات للمرأة من أرملة ومطلقة، وجمعيات للتدخين والمخدرات، هذا التكامل من عملٍ رسميٍّ وخيري كلّه يجعلك تفتخر وتُفاخرُ به؛ لأنه يُحقِّق معنى التكافل والرعاية لمن يحتاجها، وهو منطلقٌ من دينٍ يحثنا عليه، ويأمر به.
ومع الأسف: أن إعلامنا مقصّرٌ في إبرازه، وإظهار حسناته، رغم ما فيه من خير عظيم، وبيان لتكاتف المجتمع وحرصه على المحتاج والمسكين بحثاً عن الحسنات.
والمحزن أنك قد تجد من الإعلاميين وبعض الناس من يشوّه مثل هذه الأدوار الخيرية، بلا تبيّن أو يطعن في أدوارها بلا بيّنة -هداهم الله-.
كذلك مما يكدّر عند رؤية مثل هؤلاء المحتاجين للرعاية والمساعدة التقصير الذي تسمع به من أولادٍ عاقين بآبائهم، وأهلٍ وقرابة تناسوا رحمهم، لم يهتموا بالضعيف منهم قد تجدهم يكابرون في المحافل ويفاخرون بالكرم والإسراف للمفاخرة والتصوير، بينما لهم قريب محتاج يهملونه.
نعم مع الأسف -إخوتي- هذا موجود، وقد رأيت بعضه في دور الرعاية والمسنين والمستشفيات، دمعت عيني وأنا أرى شيخاً كبيراً يسأله المسئول: ماذا تحتاج؟ فيقول: جيبوا لي عيالي، أبي عيالي! بعضهم يُرمى على باب دور الرعاية ثم يُترك، أطفال ما جنوا ذنباً يولدون، ثم يتركون على أبواب المساجد ليزيد من رماهم على ذنبه ذنوباً أخرى بالإهمال يدفعها قسوة المجتمع، وغيرها من قصصٍ تدمي القلب.
صحيح أن هذه المظاهر ليست خاصة بمجتمعنا، فالعالم أكثر منا في مثل هذه القسوة والعقوق، لكننا نستغربه عندنا، نعم نستغربه في مجتمعٍ نشأ على الدين الإسلامي، وتربى عليه، وفي بلدٍ للتوحيد تأسس به، فديننا يعلمنا الرحمة بالصغير، ويؤكد علينا بالرعاية للضعيف والمسكين، وتوقير الكبير.
ولو كانت صعبة علينا وفيها معاناة لكننا سنحصّل عليها الأجر الكبير: (إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً * فَأُوْلَئِكَ عَسَى اللّهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللّهُ عَفُوًّا غَفُورًا) [النساء: 98 - 99].
قال صلى الله عليه وسلمَ: "إن من إجلال الله إجلال ذي الشيبة المسلم".
مؤلم جداً أن نضيف إهمالاً وعقوقاً إلى هؤلاء ممن يستحقون الرعاية والتأهيل مع كبر السن.
فاصبروا -أيها الكبار والشيوخ- فخيركم من طال عمره وحسن عمله، وتعوضوا بالله -أيها المحتاجون-، فالله أرحم الراحمين، وأنتم -يا أيها الأولاد ويا أيها الناس عموماً- اتقوا الله في هؤلاء المحتاجين، ساعدوهم، وساهموا في تكريمهم ورعايتهم كلٌ حسب قدرته.
والمساعدة ليست بالمال فقط، بل بالمواساة والزيارة والرحمة والتقدير لهذه الفئات المحتاجة.
أسأل الله -عز وجل- أن يجعلنا أناساً بارين متعاطفين، إخوةً متآلفين، وصحبة متحابين عارفين بحق الضعيف والمحتاج والمسكين.