الرب
كلمة (الرب) في اللغة تعود إلى معنى التربية وهي الإنشاء...
العربية
المؤلف | ملتقى الخطباء - الفريق العلمي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - المنجيات |
لا طريق إلى الله أقرب من العبودية، ولا حجاب أغلظ من الدعوى الفارغة، والعبودية مدارها على قاعدتين هما أصلها: حب كامل وذل تام، ومنشأ هذين الأصلين عن ذينك الأصلين المتقدمين وهما مشاهدة المنة التي تورث المحبة ومطالعة عيوب النفس التي تورث الذل التام...
الخطبة الأولى:
الحمدُ للهِ عظيمِ الصِّفاتِ وَالأسماءِ، جَزيلِ البِرِّ وَالعَطاءِ، جعلَ قُلوبَ أوليائِهِ بَيْنَ الخَوْفِ وَالرَّجاءِ، أحمدُهُ -سبحانَهُ- حمداً يملأُ ما بَيْنَ الأرضِ وَالسماءِ، وأشكرُهُ عَلَى عظيمِ الهِبَةِ وَالنَّعْماءِ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلاّ اللهُ وحدَهُ لا شريكَ له المتَفَرِّدُ برِداءِ الكِبْرِياءِ، وَالمُتَوَحِّدُ بصِفاتِ المجْدِ وَالعَلاءِ، وأشهدُ أنْ محمداً عبدُهُ ورسولُهُ، صَفْوَةُ الخَلْقِ وسَيِّدُ الأنبياءِ، عَطَّرَ أَرِيجُ شَمائِلِهِ الأَرْجاءَ، صلَّى اللهُ وسلَّمَ عليهِ وعلَى آلِهِ وصحبِهِ السَّادَةِ الأتْقِياءِ، أُولِي الفَضْلِ وَالثَّناءِ، وعَلَى مَنْ تَبِعَهم بإحْسانٍ إلى يَوْمِ النِّداءِ.
أيها الناس: اتقوا الله تعالى، وأحبوه لذاته ونعمه، فكم وهبكم من النعم! وكم صرف عنكم من النقم!.
عباد الله: لقد فطر الله -عزَّ وجلَّ- القلوب على محبة المحسن الكامل في أوصافه وأخلاقه، ومعلوم أنه لا أحد أعظم إحساناً من الله -سبحانه-، ولا شيء أكمل منه ولا أجمل, وكل كمال وجمال في المخلوق فمن آثار صنعه -سبحانه-، وهو -سبحانه- الذي لا يحدّ كماله، ولا يمكن لأحد أن يحيط بجلاله وجماله، ولا يحصي أحد من خلقه ثناءً عليه بجميل صفاته، وعظيم إحسانه، وبديع أفعاله، بل هو كما أثنى على نفسه كما ورد من حديث عائشة -رضي الله عنها- عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ، أنْتَ كَمَا أثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ" [مسلم (486)].
عباد الله: إن من حكم الله -عز وجل- الكونية: أن جعل كل بني آدم خطاء، ولا معصوم إلا الأنبياء حتى يكون لهم الكمال في الدعوة إلى الله -عز وجل-، ولو كان الناس لا يذنبون لذهب الله بهم، وأتى بقوم آخرين يذنبون فيستغفرون الله، فيغفر لهم؛ لأن في ارتكاب الذنب الذي يتبعه رجوع إلى الله تحقيقاً لمعاني الذل والانكسار بين يدي الله -سبحانه-، واعتراف من العبد لله بمعاني العزة والرحمة والمغفرة، وإعلام للعبد بقدر نفسه، فلا يعتريه الغرور والفخر، ولا يعتلجه العجب والتعظيم لنفسه، فيتكبر على الله بتركه الذل بين يديه، ويتكبر على الخلق بادعاء الكمال لنفسه.
إن عبادة الذل والانكسار بين يدي الله هي من أحب العبادات لله, وأكثر عبادة يحبها الله -عز وجل-, وإذا أردت أن يحبك الله بسرعة فادخل عليه -سبحانه- وتعالى بهذه الطريقة, قال تعالى: (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ) [غافر: 60].
وقد حكي عن بعض العارفين: "دخلت على الله من أبواب الطاعات كلها، فما دخلت من باب إلا رأيت عليه الزحام، فلم أتمكن من الدخول، حتى جئت باب الذل، والافتقار، فإذا هو أقرب باب إليه، وأوسعه، ولا مزاحم فيه، ولا معوق، فما هو إلا أن وضعت قدمي في عتبته: فإذا هو -سبحانه- قد أخد بيدي، وأدخلني".
أيها الإخوة: إن للعبودية لوازم وأحكامًا وأسرارًا وكمالات لا تحصل إلا بها، ومن جملتها تكميل مقام الذل للعزيز الرحيم، فالله -تبارك وتعالى- يحب من عبده أن يكمل مقام الذل له، وهذه هي حقيقة العبودية.
والذل إما يكون من المحبوب لمحبوبه، وهو أكملها وأعلاها، أو ذل المملوك لمالكه، أو ذل الجاني بين يدي المنعم عليه، المحسن إليه، المالك له، أو ذل العاجز عن مصالحه وحاجاته بين يدي القادر عليها، التي هي في يده وبأمره، سواء يذل له في أن يجلب له ما ينفعه، أو يذل له في أن يدفع عنه ما يضره على الدوام، ويدخل في هذا ذلّ المصائب كالفقر والمرض، وأنواع البلاء والمحن؛ فهذه خمسة أنواع من الذل، إذا وفاها العبد حقها، وشهدها كما ينبغي، وعرف ما يراد به منه، وقام بين يدي ربه مستصحباً لها، شاهداً لذله من كل وجه، ولعزة ربه وعظمته وجلاله، كان قليل أعماله قائماً مقام الكثير من أعمال غيره. فالعبودية حقاً كمال الحب لله, مع كمال التعظيم له, مع كمال الذل له: (أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) [المائدة: 54].
عباد الله: إن العبادة تجمع أصلين: غاية الحب، بغاية الذل والخضوع، والعرب تقول: طريق معبّد أي: مذلل، والتعبد: التذلل والخضوع، فمن أحببته ولم تكن خاضعًا له: لم تكن عابدًا له، ومن خضعت له بلا محبة: لم تكن عابدًا له، حتى تكون محبًّا خاضعًا؛ فتحقيق الذل إذًا يكون بتحقيق العبودية لله تعالى وحده، والعبد ذليل لربه تعالى في ربوبيته، وفي إحسانه إليه.
قال ابن القيم -رحمه الله-: "فإن تمام العبودية هو: بتكميل مقام الذل والانقياد، وأكمل الخلق عبودية: أكملهم ذلاً لله، وانقيادًا، وطاعة، والعبد ذليل لمولاه الحق بكل وجه من وجوه الذل، فهو ذليل لعزه، وذليل لقهره، وذليل لربوبيته فيه وتصرفه، وذليل لإحسانه إليه، وإنعامه عليه؛ فإن من أحسن إليك: فقد استعبدك، وصار قلبك معبدًا له، وذليلاً، تعبد له لحاجته إليه على مدى الأنفاس، في جلب كل ما ينفعه، ودفع كل ما يضره".
قد يظهر الذل في عبادة أعظم منه في عبادة أخرى، وأعظم العبادات التي فيها عظيم الذل والخضوع لله هي: الصلاة المفروضة، والصلاة ذاتها تختلف هيئاتها وأركانها في مقدار الذل والخضوع فيها، وأعظم ما يظهر فيه ذل العبد وخضوعه لربه تعالى فيها: السجود، ولفظ السجود، إنه إنما يُستعمل في غاية الذل والخضوع، وهذه حال الساجد.
عباد الله: والافتقار إلى الله هو مقام عالٍ يصل إليه العبد من طرق كثيرة، لعل أبرزها: العبودية، والدعاء، والاستعانة والتوكل، فإذا تحصل العبد على مقام الذل لربه تعالى: ظهر مقام الافتقار، وعلم أنه لا غنى له عن ربه تعالى، بل صار مستغنيًا بربه عن غيره، فكمال الذل، وكمال الافتقار: يظهران في تحقيق كمال العبودية للرب تعالى.
قال ابن القيم -رحمه الله-: "سئل محمد بن عبد الله الفرغاني عن الافتقار إلى الله -سبحانه، والاستغناء به، فقال: "إذا صح الافتقار إلى الله تعالى: صح الاستغناء به، وإذا صح الاستغناء به: صح الافتقار إليه، فلا يقال أيهما أكمل؛ لأنه لا يتم أحدهما إلا بالآخر". فالاستغناء بالله هو عين الفقر إليه، وهما عبارتان عن معنى واحد؛ لأن كمال الغنى به هو كمال عبوديته، وحقيقة العبودية: كمال الافتقار إليه من كل وجه، وهذا الافتقار هو عين الغنى به.
ومما يظهر فيه مقام الافتقار إلى الله تعالى: الدعاء، وخاصة بوصف حال الداعي، كما قال موسى -عليه السلام-: (رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ) [القصص: 24]، وكما قال تعالى عن أيوب -عليه السلام-: (وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) [الأنبياء: 83]، وكان من دعاء النبي -صلى الله عليه وسلم- كما في حديث أبي بكرة عن أبيه: "اللهم رحمتك أرجو فلا تكلني إلى نفسي طرفة، عين وأصلح لي شأني كله، لا إله إلا أنت" [أبو داود(5090) وحسنه الألباني].
أيها الإخوة: إن سعادة العبد في كمال افتقاره إلى ربه، واحتياجه إليه، أي: في أن يشهد ذلك، ويعرفه، ويتصف معه بموجب ذلك، من الذل، والخضوع، والخشوع، وإلا فالخلق كلهم محتاجون، لكن يتوهم أحدهم نوعا من الاستغناء، فيطغى، كما قال تعالى (كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى) [العلق: 6، 7].
ومما يظهر فيه مقام الافتقار إلى الله تعالى: حين يستعين العبد بربه ويتوكل عليه، قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "إذا تبين هذا: فكلما ازداد القلب حبًّا لله: ازداد له عبودية، وكلما ازداد له عبودية: ازداد له حبًّا، وفضَّله عما سواه، والقلب فقير بالذات إلى الله من وجهين: من جهة العبادة الغائية، ومن جهة الاستعانة والتوكل، فالقلب لا يصلح، ولا يفلح، ولا ينعم، ولا يسر، ولا يلتذ، ولا يطيب، ولا يسكن، ولا يطمئن، إلا بعبادة ربه وحبه، والإنابة إليه، ولو حصل له كل ما يلتذ به من المخلوقات لم يطمئن، ولم يسكن؛ إذ فيه فقر ذاتي إلى ربه من حيث هو معبوده، ومحبوبه، ومطلوبه، وبذلك يحصل له الفرح، والسرور، واللذة، والنعمة، والسكون، والطمأنينة. وهذا لا يحصل له إلا بإعانة الله له؛ فإنه لا يقدر على تحصيل ذلك له إلا الله، فهو دائمًا مفتقر إلى حقيقة: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) [الفاتحة: 5]".
أيها الإخوة: والعبد: مفتقر إلى الله تعالى في كل شيء، في خلقه ووجوده وفي استمراره وحياته، وفي علومه ومعارفه، وفي هدايته وأعماله، وفي جلب أي نفع له، أو دفع أي ضرر له، وهذا هو معنى: "لا حول ولا قوة إلا بالله". قال ابن تيمية -رحمه الله-: "وَالْعَبْدُ كُلَّمَا كَانَ أَذَلَّ لِلَّهِ وَأَعْظَمَ افْتِقَارًا إلَيْهِ وَخُضُوعًا لَهُ: كَانَ أَقْرَبَ إلَيْهِ، وَأَعَزّ لَهُ، وَأَعْظَمَ لِقَدْرِهِ، فَأَسْعَدُ الْخَلْقِ: أَعْظَمُهُمْ عُبُودِيّةً لِلَّهِ. وَأَمّا الْمَخْلُوقُ فَكَمَا قِيلَ: احْتَجْ إلَى مَنْ شِئْتَ تَكُنْ أَسِيرَهُ، وَاسْتَغْنِ عَمَّنْ شِئْتَ تَكُنْ نَظِيرَهُ، وَأَحْسِنْ إلَى مَنْ شِئْت تَكُنْ أَمِيرَهُ".
والعبادة: هي كمال الذل مع كمال المحبة؛ فمحبة بلا ذل ليست عبادة مثل محبة الزوجة وذل بلا محبة ليست عبادة مثل الذل للسلطان، والإنسان كلما اقترب من السلطان استغنى عن الرعية، ولله المثل الأعلى، فإن العبد كلما تقرب منه استغنى عن الناس, ولما كانت الحاجة إلى الناس تضاد الاستغناء عنهم وبالتالي فيها افتقار إليهم لذا، كان من دعائه -عليه الصلاة والسلام-: "اللهم أغنني بفضلك عمن سواك" [الترمذي (5363) وحسنه الألباني], ليكون ذله لله تعالى لا لغيره، بل إنه -صلى الله عليه وسلم- تعوذ أيضًا من الذل القهري وهو الذي يقع رغمًا عن الإنسان فمن دعائه: "وأعوذ بك من غلبة الدين وغلبة العدو" [النسائي (5475) وصححه الألباني]، علمًا بأن الذلة القهرية الكونية كانت تحصل لبعض الأنبياء لأنهم أشد الناس ابتلاء, وبعضهم كان في عزة ومنعة مثل داود وسليمان.
ومما ينبغي التنبيه إليه هنا: أن في كمال عبودية العبد لله كمال حريته!, وهذا من أغرب الأمور لكنه إذا تؤمل بدا وجه ذلك، فإن الإنسان كلما تولاه ربه كلما استغنى عن الخلق, حتى إنه ييسر له أموره من أسباب خفية لا يفطن لها وهو معنى اسم اللطيف: وهو أن يسوق الخير إلى الشخص من أبواب خفية ويصرف عنه السوء كذلك.
وقد ربى النبي أصحابه على الاستغناء من الخلق، فهذا أبو بكر -رضي الله عنه- بايعه على أن لا يسأل الناس شيئا فكان إذا سقط سوطه من يده لا يطلب من أحد أن يناوله إياه, ومما له علاقة هنا: طلب الدعاء من الآخرين: فالصحيح أنه ليس سنة مطلقًا ومن احتج بحديث عمر -رضي الله عنه-: "لا تنسنا من دعائك يا أخي" فلا يتم له ذلك أولاً؛ لأن الحديث ضعيف [ضعفه الألباني في ضعيف أبي داود 264]، ثم إن من قال ذلك لأخيه يقصد نفع أخيه ونفع نفسه فلا بأس به، فإن في ذلك نوعًا من الإحسان إلى الآخرين وليس فيه افتقار محض للآخرين.
أما من كان قصده نفع النفس المجرد ومراعاة حظه فقط دون الالتفات إلى حق المقابل والإحسان إليه، فهذا طلبه مرجوح، وقد كان طلب الرسول من عمر من النوع الأول فليس فيه افتقار محض للآخرين، فلا ينافي كمال الذل لله تعالى.
عباد الله: إن العارفين كلهم مجمعون على أن التوفيق أن لا يكلك الله تعالى إلى نفسك، والخذلان أن يكلك الله تعالى إلى نفسك، فمن أراد الله به خيرًا فتح له باب الذل والانكسار ودوام اللجوء إلى الله تعالى والافتقار إليه ورؤية عيوب نفسه وجهلها وعدوانها ومشاهدة فضل ربه وإحسانه ورحمته وجوده وبره وغناه وحمده, فالعارف سائر إلى الله تعالى بين هذين الجناحين لا يمكنه أن يسير إلا بهما, فمتى فاته واحد منهما فهو كالطير الذي فقد أحد جناحيه.
إن العبد الموفق يسير إلى الله بين مشاهدة المنة ومطالعة عيب النفس والعمل، وهذا معنى قوله -صلى الله عليه وسلم- في الحديث الصحيح من حديث بريدة -رضي الله تعالى- عنه سيد الاستغفار أن يقول العبد: "اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت, أعوذ بك من شر ما صنعت, أبوء بنعمتك علي وأبوء بذنبي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت" [البخاري 6306] فجمع في قوله -صلى الله عليه وسلم- أبوء لك بنعمتك عليّ وأبوء بذنبي مشاهدة المنة ومطالعة عيب النفس والعمل.
فمشاهدة المنة توجب له المحبة والحمد والشكر لولي النعم والإحسان, ومطالعة عيب النفس والعمل توجب له الذل والانكسار والافتقار والتوبة في كل وقت، وأن لا يرى نفسه إلا مفلسًا وأقرب باب دخل منه العبد على الله تعالى هو الإفلاس, فلا يرى لنفسه حالاً ولا مقامًا ولا سببًا يتعلق به, ولا وسيلة منه يمن بها, بل يدخل على الله تعالى من باب الافتقار الصرف والإفلاس المحض, دخول من كسر الفقر والمسكنة قلبه, حتى وصلت تلك الكسرة إلى سويدائه, فانصدع وشملته الكسرة من كل جهاته، وشهد ضرورته إلى ربه -عز وجل- وكمال فاقته وفقره إليه وأن في كل ذرة من ذراته الظاهرة والباطنة فاقة تامة, وضرورة كاملة إلى ربه -تبارك وتعالى-, وأنه إن تخلى عنه طرفة عين هلك وخسر خسارة لا تجبر إلا أن يعود الله تعالى عليه ويتداركه برحمته.
اللهم ارزقنا كمال الذل لك وكمال الثقة واليقين فيك يا رب العالمين.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم منه بالآيات والذكر الحكيم، وأجارني وإياكم من عذابه الأليم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولجميع المسلمين، إنه هو الغفور الرحيم فاستغفروه.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، اللهم صل على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه وإخوانه, وسلم تسليمًا كثيرًا.
عباد الله: لا طريق إلى الله أقرب من العبودية، ولا حجاب أغلظ من الدعوى الفارغة، والعبودية مدارها على قاعدتين هما أصلها: حب كامل وذل تام، ومنشأ هذين الأصلين عن ذينك الأصلين المتقدمين وهما مشاهدة المنة التي تورث المحبة ومطالعة عيوب النفس التي تورث الذل التام، وإذا كان العبد قد بنى سلوكه إلى الله تعالى على هذين الأصلين لم يظفر عدوه به إلا على غره وغيلة، وما أسرع ما ينعشه الله -عز وجل- ويجبره ويتداركه برحمته.
لقد اقتضت حكمة الله أنه ما ارتفع شيء مِن الدنيا إلاَّ وضعه الله، قال مَن لا ينطق عن الهوى -صلى الله عليه وسلم-: "حقٌّ على الله أن لا يرتفع شيء من الدنيا إلاَّ وَضَعَه". [البخاري (2872)]. واقتضت حكمته أنَ مَن اعتزّ بِغير الله ذلّ.
أيها الإخوة: إنه مَا أكْرَم العِبَاد أنْفُسَهم بِمِثْل طَاعَة الله، ولا أهَانَ العِبَاد أنْفُسَهم بِمِثْل مَعْصِيَة الله، مَن أخْرَجَه الله مِن ذُلّ الْمَعْصِية إلى عِزّ التَّقْوى أغْنَاه الله بِلا مَال، وأعَزّه بلا عَشِيرَة، وآنَسَه بلا أنِيس، أبَى الله -عز وجل- إلاَّ أن يُذِلّ مَن عَصَاه.
فَمَن طَلَب العِزَّة مِن الله وصَدَقَه في طَلَبها بافْتِقَار وذُلّ وسُكُون وخُضُوع؛ وَجَدَها عِنْده - إن شاء الله- غير مَمْنُوعَة ولا مَحْجُوبَة عنه. قال -صلى الله عليه وسلم-: "مَن تَواضع لله رَفَعه الله". ومَن طَلبها مِن غَيره وَكَلَه إلى مَن طَلَبها عِنده, وقد ذَكَرَ قَومًا طَلَبُوا العِزَّة عند مَن سِواه، فقال: (الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا) [النساء: 139]، فأنْبَأك صَرِيحا لا إشْكَال فيه أنَّ العِزَّة له يُعِزّ بِها مَن يَشاء، ويُذِلّ مَن يَشاء.
فَمَن كَان يُرِيد العِزَّة لِيَنَال الفَوْز الأكْبَر ويَدخُل دَار العِزَّة؛ فَلْيَقْصد بالعِزَّة الله -سبحانه- والاعْتِزَاز به، فإنه مَن اعْتَزّ بالعَبْد أذَلَّه الله، ومَن اعْتَزّ بِالله أعَزَّه الله.
فيا أخي الكريم: تذلل لربك واعلم أنك بقدر تذوق الذل والضعف والحاجة إلى الله، يأخذ بيدك ويؤويك ويرفع قدرك ويحميك فقل دائم: يا رب، يا رب: ارحم من لا راحِم له سِواك, ولا ناصِر له سِواك، ولا مؤوِي له سِواك، ولا مغِيث له سِواك، مِسكِينك وفقِيرك، وسائِلك ومؤملك ومرجيك، لا ملجأ له ولا منجى له مِنك إِلا إِليك, أنت معاذه وبِك ملاذه.
يا من ألوذ بهِ فِيما أؤمله | ومن أعوذ بِهِ مِما أحاذِره |
لا يجبر الناس عظمًا أنت كاسِره | ولا يهِيضون عظمًا أنت جابِره |
واهتف مع الصالحين: أسألك بعزك وذلي إلا رحمتني، أسألك بقوتك وضعفي، وبغناك عني وفقري إليك، هذه ناصيتي الكاذبة الخاطئة بين يديك، عبيدك سواي كثير، وليس لي سيدٌ سواك، لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك، أسألك مسألة المسكين، وأبتهل إليك ابتهال الخاضع الذليل، وأدعوك دعاء الخائف الضريع، سؤال من خضعت لك رقبته، ورغم لك أنفه، وفاضت لك عيناه، وذل لك قلبه.