البحث

عبارات مقترحة:

الحكيم

اسمُ (الحكيم) اسمٌ جليل من أسماء الله الحسنى، وكلمةُ (الحكيم) في...

المجيب

كلمة (المجيب) في اللغة اسم فاعل من الفعل (أجاب يُجيب) وهو مأخوذ من...

الباطن

هو اسمٌ من أسماء الله الحسنى، يدل على صفة (الباطنيَّةِ)؛ أي إنه...

الأعمال الباقية بعد الموت (1)

العربية

المؤلف منصور محمد الصقعوب
القسم خطب الجمعة
النوع نصي
اللغة العربية
المفردات المنجيات - الزهد
عناصر الخطبة
  1. كثرة اهتمام الناس بأمر المستقبل الدنيوي .
  2. خطورة الغفلة عن الاستعداد لما بعد الموت .
  3. أين نحن من المستقبل الأخروي؟ .
  4. كيف نزيد من أعمارنا لتظل حسناتنا تجري حتى بعد ارتحالنا .
  5. الخصال والأعمال التي تبقى للعبد حسنات جارية عليه بعد موته .
  6. فضل الولد الصالح والصدقة الجارية .
  7. من الأعمال الباقية أثرُ العالم في الأرض. .

اقتباس

ترى ذلك الرجل يكد ويكدح في الحياة من صباحه إلى ليله, متنقلاً بين الأعمال, جامعاً للمال, ما يكفيه السنين الطوال, فإذا ما سألته لِمَ كل هذا الكدّ وأنت تستطيع أن تعيش بأقل من هذا؟ لقال لك: أريد أن أؤمن مستقبلي إذا ما رقّ عظمي ودق جسمي, وعلا المشيبُ رأسي. ويقابلك ذلك الموظف الذي احتبس من راتبه الكثير وعاش على الباقي اليسير, وإذا سألته لأي شيء هذا؟ قال: أريد أن أستعد للمستقبل, بيت يؤيني, ومصدر دخل يدرّ علي, لأسعد في قادمي, ونعمّا كل هذا,.. ولكنك في ذات الوقت تتساءل: في غمرة الاستعداد للمستقبل الدنيوي, ماذا عن المستقبل الحقيقي, أين نحن من المستقبل الأخروي؟ الذي سنحتاجه يوم أن تنطفئ شمعة حياتنا لتقوم قيامتنا وتبدأ آخرتنا ونرتهنَ بأعمالنا...

الخطبة الأولى:

إن الحمد لله نحمده ونستعينه.. أما بعد فاتقوا الله واشكروه وتوبوا إليه واستغفروه.

تزود للذي لا بد منه

فإن الموت ميقات العباد

أترضى أن تكون رفيق

قوم لهم زاد وأنت بغير زاد

ترى ذلك الرجل يكد ويكدح في الحياة من صباحه إلى ليله, متنقلاً بين الأعمال, جامعاً للمال, ما يكفيه السنين الطوال, فإذا ما سألته: لِمَ كل هذا الكدّ وأنت تستطيع أن تعيش بأقل من هذا؟ لقال لك: أريد أن أؤمن مستقبلي إذا ما رقّ عظمي ودق جسمي, وعلا المشيبُ رأسي.

ويقابلك ذلك الموظف الذي احتبس من راتبه الكثير وعاش على الباقي اليسير, وإذا سألته لأي شيء هذا؟ قال: أريد أن أستعد للمستقبل, بيت يؤيني, ومصدر دخل يدرّ علي, لأسعد في قادمي, ونعمّا كل هذا, ولكن.

اهتمام الناس بأمر المستقبل الدنيوي بات كبيراً فلا تجد أحداً إلا وشغل خاطره, ولا يلام امرؤٌ يهتم بأمر دنياه, بل لا بد له من هذا, ويُذم لو نسي نصيبه من الدنيا وأضاع من يعول, والعاقل من يعدّ نفسه لنوائب الدهر وملمات الزمان..

ولكنك في ذات الوقت تتساءل: في غمرة الاستعداد للمستقبل الدنيوي, ماذا عن المستقبل الحقيقي, أين نحن من المستقبل الأخروي؟ الذي سنحتاجه يوم أن تنطفئ شمعة حياتنا لتقوم قيامتنا وتبدأ آخرتنا ونرتهنَ بأعمالنا.

أيها الفاضل: إن أيامك في الدنيا محدودة, ولحظاتِك معدودة, وسيأتي اليوم الذي تفارق الأرض كما فارقها غيرك, وما أقرب ما بينك وبين الموت, فما هو إلا انقطاع النَّفَس وخروج الروح, وسيجد المرء نفسه حينها في عداد أهل الآخرة, مخلّفاً الدنيا بخيرها وشرها, مفارقاً الأموال والدور, والأولاد والتلاد, وما بيننا وبين المستقبل الحقيقي وهو الآخرة إلا أن يقال: رحل فلان عن الدنيا.

وهنا: يجمل بالمرء أن يساءل النفس حين ينقطع العمل: هل من عمل يبقى أجره حتى بعد موت صاحبه, كيف نزيد من أعمارنا لتظل حسناتنا تجري حتى بعد ارتحالنا, نعم؛ وهكذا يكون عالي الهمة, فهو لا ينبغي أن يفكر في عمارة حياته بالطاعة فحسب, بل ينبغي أن يكون فكره أرقى, وهمته أسمى, يفكر كيف يبقى له الأجر حتى بعد النقلة والرحلة عن دار الدنيا..

 وكم من أناسٍ ماتوا منذ سنين بل منذ قرون وأعمالهم الصالحة لا زالت تجري لهم, والحسنات تودع صحائفَهم!! وأقوامٍ ماتوا فانقطعت طاعاتهم وتوقف نهر حسناتهم فمن أي الفريقين تريد أن تكون؟ وهلا سألت نفسك ما هي الأعمال التي يموت صاحبها يوم يموت وهي تبقى تدر الحسناتِ والأجور العظيماتِ على مرور الأيام والسنواتِ؟

والجواب: أن الخصال والأعمال التي تبقى عديدة, أسوق لك أهمها:

فالولد الصالح؛ حسنة تبقى وأجر مدّخر, وفي الصحيح: "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له"، وتأمل أنه قال "ولد صالح" و"يدعو له", فليس الشأن في وجود الولد, فربما كان الولد وِزْراً على والده إن أساء تنشئته, لكن الذي يبقى أجره هو الصالح إذا دعا.

 وكم من آباء ماتوا وما ماتت أجورهم!! والسبب ولد اجتهد الأب في تربيته وإصلاحه وتنشئته, فذهب الأب وقد غرس الشجرة, والولد يذكر أباه بالدعاء والصدقة والحج والعمرة والاستغفار والزيارة, وفي الحديث "إن الرجل لترفع درجته في الجنة، فيقول: أنى لي هذا؟ فيقال: باستغفار ولدك لك".

فيا أيها الفاضل: ها هم أبناؤك بين يديك فأعدهم لساعة تكون أنت فيها قد رحلت, ليس الشأن أن ينفعوك اليوم ويخدموك, فهذا خير ولكن أهمُ منه أن ينفعوك في رفعة درجتك, وتجدهم ذُخراً لك بعد وفاتك, فالنفع الحق لا أن يقضوا حوائجك اليوم, وإنما أن يلحقوا بك الطاعات, وأن تقيد لك في صحائف الحسنات, أعمالٌ ما عملتها, لكن عملها ابن أو بنت, فقرت بذلك عينك وأنت في قبرك, ويكفيك هذا حادياً للحرص على النسل.

عباد الله: وإحياء السنن المهجورة, وعمل الخير حين يقتدي بك غيرك, أمر يبقى لك به الأجر كل ما عمل الذي اقتدى بك وعمل من اقتدى به, وقد روى عمرو بن عوف أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قال: "مَنْ أَحْيَا سُنَّةً مِنْ سُنَّتِي قَدْ أُمِيتَتْ بَعْدِي، فَإِنَّ لَهُ مِنَ الأَجْرِ مِثْلَ أَجْرِ مَنْ عَمِلَ بِهَا مِنَ النَّاسِ، لاَ يَنْقُصُ مِنْ أُجُورِ النَّاسِ شَيْئًا".

جاء الفقراء إلى رسول الله –صلى الله عليه وسلم- وحث الناس على الإنفاق فكان أول من أنفق رجل جاء بصرة كادت كفّه تعجز عنها, فتتابع الناس بعده متصدقين, فكلهم أنفقوا لكن الأول هو من فتح الباب, فربح الأجر حين قال? –صلى الله عليه وسلم- : "من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها بعده.."، فكان لمن بدأ مثل أجورهم, فيا رعاك الله باب الخير مفتوح, وأبواب الخير مشرعة والسنن النبوية كثيرة, فساهم ولعله يقتدي بك مقتدٍ فتربح الأجر.

يا أخا الإسلام: والصدقة الجارية بجميع أوجهها تبقى للمرء بعد انقطاع عمله, فجميل أن تسد جوعة فقير, وأجمل من ذلك أن تعطيه ما يبقى انتفاعه به, فالصدقة بالمسكن أو باللباس أو بالآلات أو غيرها مما لا ينقطع نفعها أمور يدوم أجرها ما بقيت, وهي من الصدقات الجارية.

وبناء المساجد والمساهمة في دور تحفيظ القرآن ومشاريع الدعوة والتربية يكون لمن بذل فيها الأجر كل ما تعلم فيها متعلم, وصلى فيها مصلٍّ, وانتفع منتفع, واستفاد مستفيد, فمن أنفق على من تعلم أو حفظ القرآن كان له مثل أجره حين يقرأ, ومثل أجور من تعلم منه, فهل رأيت أربح منه صفقة, فهنيئاً والله لمن دعم مجالات الخير, وأسهم في إقامتها, وإنشائها, هنيئاً والله لمن بذل من مال فكفل داعية محتاجاً يدل الناس للخير, ومعلم حلقة يقضي يومه في توجيه الجيل, وإصلاح الشباب, هنيئاً لمن بنى دار تحفيظ, أو محضن تربية, أو مركز خير ودعوة, أو ساهم في ذلك, وهنيئاً لهم فالمال سيذهب والأجر بإذن الله سيبقى ما بقيت الأعمال.

معشر المسلمين: وخصلة تزيد في الأعمار ويبقى أجرها ما تعاقب الليل والنهار, الدعوة إلى الله, وهداية الخلق, فالمرء له أجره, لكن الداعية له أجره وأجر كل من دعاه, فلو تسبب في هداية إنسان إلى الإسلام، فإن كل طاعة يقوم بها ذلك فلمن دعاه من الأجر مثله, وفضل الله واسع, ولذا فالنبي –صلى الله عليه وسلم- له مثل أجور الأمة كلها, تصب في حسناته؛ لأنه من دلّهم إلى الله وتسبب في هدايتهم, وما أحراك أيها المبارك: يا من حملت مشعل الخير والاستقامة أن تسعى بين من أظلمت دروبهم لتضيء لهم الطريق, وتدعوهم إلى الله, وتتحلى في كل ذلك هدي الرسول الكريم عليه التسليم في رفقه وحكمته وجهده وشفقته, "ولئن يهدي الله بك رجلً واحداً خير لك من حمر النعم"، قاله –صلى الله عليه وسلم-.

ربما ذكّرت أحداً بخير أو حفّزت أحداً بكلمة تشجيع أو ناصحت أحداً فاستفاد, فبقي الأجر, والمصطفى –صلى الله عليه وسلم- يقول: "من دلَّ على خير فله مثل أجر فاعله"، وكم من كلمةٍ من مصلحٍ أو داعية غيّرت مسار حياة, وفتحت باب خير, وربّ كلمةٍ أحيت أمة, وقَولةٍ رفعت همّة, ويكفيك أن تعلم أن صحيح البخاري ألفه صاحبه بسبب كلمةٍ سمعها من شيخه يقول فيها: "لو انبرى أحدٌ لجمع صحاح الأحاديث", فانبرى البخاري, وثبت الأجر له ولمن فتح له باب الخير وألقى تلك الكلمة, فلا تقلل في الغراس, فالحصاد سيكون يوم الحشر, فأكثر ما استطعت من الخير.

الخطبة الثانية:

الحمد لله وحده..

أما بعد: قال يحيى بن أكثم: قال هارون الرشيد ما أنبل المراتب؟ قلت: ما أنت فيه يا أمير المؤمنين, قال فتعرف أجلّ مني؟ قلت: لا, قال لكني أعرفه؛ رجلٌ في حلقة يقول حدثنا فلان عن فلان عن رسول الله –صلى الله عليه وسلم-. قال قلت: يا أمير المؤمنين أهذا خير منك وأنت ابنُ عم رسول الله –صلى الله عليه وسلم- ووليُ عهد المؤمنين؟ قال: "نعم هذا خير مني؛ لأن اسمه لا يموت أبداً, ونحن نموت ونفنى, والعلماء باقون ما بقي الدهر".

وحين ترى شرف العلم وبقاءَ أثره تعلم أن من الأعمال الباقية أثرُ العالم في الأرض, يبقى علمه ما بقي في الأرض منتفع به, وما تكلم بكلمة أو خط كلاماً فانتفع به أحدٌ إلا وله مثل أجره, وفوق ذلك ما يبقى له من الدعاء, فما زال الناس في مساجدهم يقرءون كتب العلماء ويقولون قال رحمه الله, والمؤلف قد مات قبل مئات السنين, لقد مات ابن باز وأضرابه من العلماء والدعاة والقراء, وما مات علمهم, ولا انقطع ذِكرهم وخيرهم, فها هي دروسهم شاهدة, وها هي أصواتهم باقية, وها هو علمهم منشور, وها هو ثناء الناس عليهم موفور.

ومات الإمام أحمد قبل أكثر من ألف سنة وما زال يُدعَى له ويُنهلُ من علمه وغيره كثير, وإذا مات أحده هؤلاء حزن الناس لفقدهم, في حين يموت أناسٌ في كل مكان وربما لم يفقدهم إلا أهلهم, ومما يروى عن علي –رضي الله عنه- قولَه: "مات خُزان الأموال وهم أحياء، والعلماء باقون ما بقي الدهر، أعيانهم مفقودة، وأمثالهم في القلوب موجودة".

فهنيئاً لمن وفّقه الله للعلم وفتح له بابه, ويسّر له نشره وتعليمه فذاك باب من التوفيق شريف, وقمن بامرئ طَمَحَ أن تبقى أجوره, وتظل حسناته أن يسلك دروب أهل العلم, فيعلم جاهلاً ويدل مسترشداً ويرفع غشاوة غافلٍ, فيربح شرف الدنيا والآخرة, شرف الآخرة لمن خلصت نيته, وشرف الدنيا لمن بحث عنه.

ويبقى أيها الكرام عمل من أهم الأعمال وأبقاها أثراً, سيكون الحديث عنه في الخطبة القادمة إن شاء الله.