المقدم
كلمة (المقدِّم) في اللغة اسم فاعل من التقديم، وهو جعل الشيء...
العربية
المؤلف | عبدالله بن حسن القعود |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المنجيات - المعاملات |
يتذكر الغافل ويعلم الجاهل أن الوفاء بالعقود أياً كان لفظها مبدأ أساسي من مبادئ ديننا الكريمة, مبدأ توثيق وتأمين يحتاجه الإنسان مع الإنسان، ويحتاجه مع ربه الذي وعده الوفاء إذا هو وفَّى معه بتحقيق توحيده وفعل طاعته...
الخطبة الأولى:
الحمد لله
أما بعد: فيقول الله - سبحانه وتعالى -: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) [المائدة:1]. يقول عبد الله بن عباس -رضي الله تعالى عنه-: أوفوا بالعقود بما أحل وبما حرم وبما فرض وبما حد في جميع الأشياء، ويقول الزجاج: المعنى أوفوا بعقد الله عليكم وبعقدكم بعضكم على بعض، والعقود جمع عقد وهو الشد والربط، ويشمل أي عقد عقده الإنسان مع ربه بلفظ العهد أو النذر أو اليمين أو نحو ذلك، وما عقده مع غيره من بني الإنسان بلفظ عهد أو بيع أو نكاح أو تأجير أو كفالة أو ضمان أو مشاركة أو مغارسة أو مساقاة أو زراعة, أو غير ذلك في حدود ما جاء به الشرع الشريف، وبالأولى ما أخذه الله علينا بني الإنسان من الإقرار به وبرسوله بقوله سبحانه: (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى) [الأعراف:172].
(وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ) [آل عمران:81]
وبالأولى تحليل ما أحل وتحريم ما حرم بوجه عام ووجه خاص لما في هذه السورة، سورة المائدة من قوله تعالى: (أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ) [المائدة:1-2]. إلى آخر ما فيها من تحليل وتحريم وتحاكم وتحكيم مما هو أساس موضوعها وقطبها الذي تدور عليه.
ومما سلف -أيها الأخوة- يتذكر الغافل ويعلم الجاهل أن الوفاء بالعقود أياً كان لفظها مبدأ أساسي من مبادئ ديننا الكريمة, مبدأ توثيق وتأمين يحتاجه الإنسان مع الإنسان، ويحتاجه مع ربه الذي وعده الوفاء إذا هو وفَّى معه بتحقيق توحيده وفعل طاعته، وعده بقوله: (وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ) [البقرة:40] وقوله: (وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ) [التوبة:111] (وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً) [الاسراء:34].
ولعلم الله الأزلي بحاجة الناس إلى الأخذ بهذا المبدأ، مبدأ الوفاء بالعقود ليظلوا آمنين في دنياهم فيما بينهم مترابطين متعاونين، يحترم بعضهم بعضاً ويفي بعضهم لبعض، شدد تعالى في غدر العهود وخيانة المواثيق وأنذر من ذلك وحذر, وأبدى فيه تعالى وأعذر وحذر من الغدر والتحايل على نقض عهد أو عقد أو تحليل أو تحريم بغير ما أوجب بقوله سبحانه: (الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ) [البقرة:27].
وقوله: (وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ. فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ. فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكَذِبُونَ) [التوبة:75-77].
وقول رسوله -صلى الله عليه وسلم-: "يقول الله تعالى: ثلاثة أنا خصيمهم يوم القيامة: رجل أعطى بي ثم غدر, ورجل باع حراً وأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيراً فاستوفى منه العمل ولم يوفه أجره" وقوله-صلى الله عليه وسلم-: "ذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم ويجير عليهم أقصاهم، فمن أخفر مسلماً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً" وقوله-صلى الله عليه وسلم-: "من قتل معاهداً لم يرح رائحة الجنة".
وكما أنذر سبحانه وحذر من الغدر والخيانة وأبان أثر ذلك ومصير أهله فقد أمر بالوفاء بالعقود ورغب فيه وأثنى كثيراً على الملتزمين له ووعدهم وهو صادق الوعد، وعدهم ما ترنو وتتطلع إليه النفوس الخيرة المصدقة بوعد الله، وعدهم بقوله تعالى: (الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ* وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ* وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلانِيَةً وَيَدْرَأُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ* جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ* سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ) [الرعد:20-24].
فاتَّقوا الله -أيها الأخوة المؤمنون- وأوفوا بالعقود التي أمرتم بالوفاء بها فيما بينكم وبين الله وفيما بينكم وبين الناس في ظل طاعة الله وشرعه؛ تستحقوا وعده وإلا تفعلوا فقد برئت منكم ذمة الله وذمة عباده, ومن نكث فإنما ينكث على نفسه.
نستغفرك اللهم ونتوب إليك, ونسألك الصبر والاحتساب والثبات إلى أن نلقاك, غير مبدلين ولا خائنين مما قلت فيهم وقولك الحق: (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً) [الأحزاب:23].
ونستغفرك ونتوب إليك.