السيد
كلمة (السيد) في اللغة صيغة مبالغة من السيادة أو السُّؤْدَد،...
العربية
المؤلف | خالد بن علي أبا الخيل |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الصيام |
أيها المسلمون: كيف لا يفرح المؤمن بموسم يقرّبه إلى ربه ويذيقه حلاوة طاعته ولذة عبادته؟! كيف لا يفرح المؤمن بوقت الغنائم ولحظات المكارم وتنزل الرحمات وبسط الخيرات ونشر الهبات وإجابة الدعوات؟! كيف لا يفرح وله ستون فرحة؛ ثلاثون في الدنيا، وثلاثون في الأخرى "للصائم فرحتان؛ فرحة عند فطره وفرحة عند لقاء ربه" في الدنيا بصيامه وسلامته وتمامه وعدم نقصانه وإفساده، وفي الآخرة بأجره وعظيم ثوابه ووجوده في ميزان حسناته...
الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي فضَّل شهر رمضان وجعله ميدان للمسابقة والإحسان وفرصة سانحة للتوبة من العصيان، وأشهد أن لا إله إلا الله فتح فيه أبواب الجنان، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أخبر فيه بغلق أبواب النيران، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وأتباعه إلى يوم يدخل الصائمون فيه باب الريان.
أما بعد: فاتقوا الله إخوة الإيمان واسعوا إلى ما يرضي الرحمن ويغضب الشيطان في شهر رمضان.
مرحبا أهلا وسهلا بالصيام | يا حبيبا زارنا في كل عام |
قد لقيناك بحبٍ مفعم | كل حب في سوى المولى حرام |
فاقبل اللهم يا ربي صومنا | ثم زدنا من عطاياك الجسام |
أيها المسلمون: ونحن في هذه الأيام القادمة والليالي المعدودة على مشارف شهر عظيم وموسم كريم ومغنم عميم، أخي الحبيب لو كان لك غائب تنتظره قريب لك أو حبيب أو صاحب له مكانة وله منزلة عندك فإذا حل بك فما هي حالك وما هو استقبالك وما فرحك وسرورك؟! إنه سرور لا يوصف وفرح لا يقف تستقبله بشعورك وجوارحك وبسمتك ودعواتك ليحمل عنك مكارم الأخلاق وجميل الضيافة والأشواق، فيعود وقد حمد أفعالك ويرجع وقد أثنى على استقبالك ويذكر صفاتك واهتمامك.
أيها الأخ المبارك: سينزل ضيف أخروي ووافد موسمي وشهر كريم وموسم عظيم سينزل بك أيام ويحل بك ضيفا ويقينا سوف ترحل عنه أو يرحل عنك.
وقد تدرك بعضه أو كله وقد يكون آخر ضيف يحل بك، السؤال المطروح والدواء المجروح لما خرج علينا رمضان الماضي وأعلن العيد للقاصي والداني كم أنا وأنت تحسرنا وتأسفنا وتكدرنا وحزنا لا لأجل خروجه ولا لأجل العيد المحفوف به وإنما لتقصيرنا وقلة عبادتنا لتفريطنا وإهمالنا، لقلة ختماتنا وسجداتنا وقيامنا وركعاتنا وبرنا وصدقاتنا تحسرنا لما رأينا من قرأ وفاز وتأسفنا لما رأينا من سابق وحاز.
ونحن في ركب المتأخرين ووراء الجادين وعند الصباح يحمد القوم الثرى وتبتهج النفوس بالعطا، فهنيئًا لهم، ومن كان مفقودا فغفر الله له ومن كان موجودا فمتعه الله وحفظه.
أيها الإخوة المؤمنون: ها هو رمضان فهل عهودنا الماضية: لئن أدركنا الأيام القادمة لنرين الله ما نصنع ولنستقبلها ونرجع، نحققها في أيامنا هذه، ها هو رمضان على العتبات وبعد أيام معدودات يحل بالخير والبركات، ها هي أوقات المسرات وأوقات الأيام الزاهرات.
أتاك شهر السعد والمكرمات | فحيه في أجمل الذكريات |
يا موسم الغفران أتحفتنا | أنت المنى يا زمن الصالحات |
ها هي أبواب الجنات وها هي أبواب الحسنات وتدفق الخيرات، ها هي أوقات تصفيد الشياطين والمكدرات، ها هي أبواب غلق النيران والدركات.
لا يشبهه شهر ولا يحيط بخيره بشر فيا باغي الخير أقبل ويا باغي الشر أقصر.
جاء شهر الصيام بالبركات | فأكرم به من زائر هو آت |
يا أيها المشتاق إلى الجنان هذه أيام الإحسان وطلب الجنان، يا أيها المشتاق إلى الرحمن هذه أوقات الرضوان والإيمان، يا أيها المشتاق إلى الغفران هذه أوقات التجاوز والغفران، يا أيها المشتاق إلى الإحسان هذه أيام العطايا والامتنان.
من ناله داء الهوى بذنوبه | فليأت في رمضان باب طبيبه |
فخلوف هذا الصوم يا قوم اعلموا | أشهى من المسك السحيق وطيبه |
أو ليس هذا القول قول مليككم | الصوم لي وأنا الذي أجزي به |
هذه أيام المصارحة وأزمنة المرابحة هذه أوقات المغفرة وإسكاب الدمعة والعبرة، هذا شهر الفضائل وجميل الخصائل.
أتى رمضان مزرعة العباد | لتطهير القلوب من الفساد |
فأدي حقوقه قولا وفعلا | وزادك فاتخذه للمعاد |
ومن زرع الحبوب وما سقى | تأهوه نادما يوم الحصاد |
رمضان كان السلف يدعون الله ستة أشهر أن يبلّغهم إياه؛ لمعرفتهم بفضله وعطائه ومزاياه ولهذا قالوا: "من سلم له رمضان سلم له عامه من النقصان".
كانوا يحافظون على لحظاتهم لا يضيعون دقيقة من أوقاتهم حتى حال النوم ينوون النشاط والعبادة قال بعضهم: "إني لأحتسب نومتي كما أحتسب قومتي".
كان يجلسون في المساجد ويقولون نجلس في مساجدنا ولا نغتاب أحدا.
شعار سلفنا في رمضان "قراءة القرآن" كيف لا وهو شهر القرآن يكثرون من تلاوته وختماته يتغانمون الزمان الفاضل حتى عد لأحدهم كل يوم ختمة بل كل يوم ختمتين فيخرج رمضان وقد ختم ستين ختمة والأخبار عنهم متضافرة ودواوين التاريخ فائضة فلا غرو أن تسمع عنهم ما تحتار فيه، وربما تنكره والفارق بينك وبينهم أنهم عرفوا قيمة الوقت وذاقوا لذة العبادة ولذة التلاوة فسهلت عليهم ولانت ألسنتهم وتيسرت الطاعة لهم وأنت يمضي عليك شهور، بل ربما دهور فعسرت عليك القراءة وضعفت العبادة فلا شوق ولا لذة فلا غرابة أن تقف حائرا وللقول مستنكرا.
فاجعلوا بارك الله فيكم شعاركم القرآن وأكثروا من ختماته بقدر الإمكان وتأملوا وتدبروا يورثكم الجنان.
كان السلف يطيلون القيام ويكثرون الركعات والسجدات والسلام، كانوا يتلذذون بالعبادة ويشتاقون للطاعة، يطردون الكسل والإهمال، والعجز وسوء الأعمال، كانوا يحافظون على أوقاتهم من الضياع، كانوا يترقبون الشهر بفارق الصبر فيسألون الله قبل دخوله بلوغه، وإذا دخل سألوا الله حفظه وسلامته، وإذا خرج سألوا الله قبوله وأجره.
أيها المؤمنون: لقد أدركنا وأدركتم قبلنا كبارنا وآباءنا وأجدادنا كيف يشتاقون لرمضان ومحبة الخير والإحسان وقراءة القرآن والصبر على القيام والتهجد بالليل والناس نيام، كان يألفون المساجد ويصبرون ويحتسبون، كانوا يختم بهم الإمام في التراويح في رمضان ختمتين وبعضهم ثلاث، بل وجد من ختم أربع ختمات فلا يضجرون ولا يتسخطون بل هم السابقون القائمون.
وكانت دموعهم من خشية الله باكية وللوعظ والتذكير خاشعة أدركنا، وأدركتم تلك الحقبة الحية والصورة المضيئة والنماذج المتشوقة من المعاصرين الصالحين.
لقد رسموا اشتياق الاستقبال وانتظار الموسم واللحاق فطردوا نموهم وأسروا لياليه العبادة والطاعة والمسابقة.
أيها المسلمون: كيف لا يفرح المؤمن بموسم يقرّبه إلى ربه ويذيقه حلاوة طاعته ولذة عبادته؟! كيف لا يفرح المؤمن بوقت الغنائم ولحظات المكارم وتنزل الرحمات وبسط الخيرات ونشر الهبات وإجابة الدعوات؟! كيف لا يفرح وله ستون فرحة؛ ثلاثون في الدنيا، وثلاثون في الأخرى "للصائم فرحتان؛ فرحة عند فطره وفرحة عند لقاء ربه" في الدنيا بصيامه وسلامته وتمامه وعدم نقصانه وإفساده، وفي الآخرة بأجره وعظيم ثوابه ووجوده في ميزان حسناته:
جاء الصيام فجاء الخير أجمعه | ترتيل ذكر وتحميد وتسبيح |
فالنفس تدأب في قول وفي عمل | صوم النهار وبالليل التراوح |
أيها الصائمون: شهر تقطعت ضمائر الصالحين بانتظاره وأفئدة المجتهدين باستقباله بفارق الصبر وقوة الاشتياق، المؤمن يفرح باستقباله لما فيه صلاحه ونجاحه وفوزه وسعادته، هذا شهركم أيها المؤمنون قادم، وهذا ضيفكم أيها الصائمون ماذا عدتكم وما هي تجارتكم وما هو استقبالكم وما هي خطتكم فيه وتهيؤكم لقدومه.
أسئلة تتوارد عليك، هل الاستعداد الدنيوي هو أكلنا وشربنا ما هو طعامنا وطبخنا، قصارى ذلك لغذاء بطوننا وشهواتنا أم هو الاستعداد الأخروي والتهيؤ التعبدي والجو الإيماني.
وحافظ على شهر الصيام فإنه | لخامس أركان دين محمد |
تغلق أبواب الجحيم إذا أتى | وتفتح أبواب الجنان لعبد |
تزخرف جنات النعيم وحورها | لأهل الرضا فيه وأهل التعبد |
وقد خصه الله العظيم بليلة | على ألف شهر فُضلت فلترصد |
فأرغم بأنف القاطع الشهر غافلا | وأعظم بأجر المخلص المتعبد |
فقم ليله واطو نهارك صائما | وصن صومه عن كل لغو ومفسد |
قلت ما سمعتم وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو التواب الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانه والشكر له على توفيقه وامتنانه..
عباد الله: من أجمل الاستقبال والصدق في الأقوال والأعمال رسم خطة الاستقبال وخارطة الطريق والإقبال، فاستمعوا لها علنا نستفيد من شهرنا ونصوم بصومنا ونتدارك أيامنا.
أولا: بالترتيب والتنظيم، رتب يومياتك وأعمالك ونومك وقيامك، ولو كانت يسيرة ففيها ثمرة ونتيجة و"أحب العمل إلى الله أدومه وإن قل".
أما الذي يعيش عشوائيا وفوضويا فلن ينفع نفسه ولن يحافظ على أنفاسه والترتيب في الأعمال وتقديم الأولويات والتنظيم بين العبادات عنوان المنافسة وسلامة المرابحة، ومن لم ينظّم شهره يفوته ورده وحزبه فاجعل لك برنامج تسير عليه وإلى هذا أشار سبحانه بأنه أيام معدودات.
ثانيا: إشعار النفس بفضل رمضان وصومه، وما خصه الله من الفضائل فهو يعين على الجد والعمل واستثمار الوقت بجد دون كسل، ولهذا قالوا: "معرفة ثواب الأعمال سهلت العمل على العمال".
ثالثا: الخوف من فوات هذه الأيام بدون عمل وقربة؛ لأن من خاف فوات محبوب استغل وجوده وخاف من فواته واستفرغ وسعه فيه، ولهذا جاءت الإشارة بهذه العبارة أيام معدودات أي كن محافظا عليها قبل فواته وذهابها.
رابعا: تذكر الموت؛ لأن المرء قد يدرك رمضان وقد يدرك بعضه وقد يكمله لكنه آخر رمضان يصومه في عمره يعوقه حائل أو موت أو صارف نازل، فتذكر الموت أكبر معين على فعل الطاعة والمسارعة في العبادة.
خامسا: الفرح بما أعد الله للصائمين وما منحهم من الخير والثواب المبين، فالفرح بالخيرات أمر محمود وعنوان عمل ممدود (قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ) [يونس:58]، وفي السنة: "للصائم فرحتان".
سادسا: الاستفادة من دروس رمضان، وما فيه من المعاني الحسنة فهو دورة سنوية وفرصة ذهبية وتربية قد لا تتسنى للإنسان في غيره، وذلك كالصبر والاحتساب والبذل والشكر والسخاء، والصدقة والوفاء، والصلاة والتقوى فهو بحق لكل خير جامعة ولكل بر وعمل صالح نافذة نافعة.
سابعا: تعليق القلب بالله وتقوية الإيمان به، فرمضان من أعظم مقومات الإيمان فهو يوصلك إلى خالقك فهو قطع العلائق عن الخلائق للاتصال بالرب الخالق.
ثامنًا: لا يكن يوم فطرك وصومك سواء؛ كما قال جابر رضي عنه المولى: "إِذَا صُمْتَ فَلْيَصُمْ سَمْعُكَ وَبَصَرُكَ، وَلْيَكُنْ عَلَيْكَ وَقَارٌ وَسَكِينَةٌ، وَلا تَجْعَلْ يَوْمَ فِطْرِكَ وَصَوْمِكَ سَوَاءً"
إذا لم يكن في السمع مني تصاون | وفي بصري غض وفي منطقي صمت |
فحظي إذا من صومي الجوع والظمأ | وإن قلت إني صمت يومي فما صمت |
نعم فرّق فيما فرق الله، وميز فيما باين الله، فليس آخر يوم من شعبان كأول يوم من رمضان فبينهما كما بين الإنس والجان، فلا تكن أعمالك واحدة وجهودك محدودة ويقظتك ونومك سواء فنافس وسابق وجد ولاحق.
تاسعًا: تأمل "من عرف ما يطلب هان عليه ما يبذل"، فالمطالب عالية والرغبة غالية والفوز بالجنان العالية والنتيجة الرابحة الفوز والسعادة، فعندها تستقبله بفرح تغمر الصدور وأنس تبهج السرور.
عاشرا: تفقه في صيامك وسل علمائك عن صومك وقيامك حتى تعبد الله على بصيرة ونور هداية، فيعظم أجرك ويكبر قدرك (فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ).
وختامًا سل ربك الإعانة والتسديد والتوفيق والهداية، فالمرء إذا أعانه مولاه ووفقه وهداه سعد في عمله وتقواه واستفاد من صيامه ورضا مولاه
إذا لم يكن عون من الله للفتى | فأول ما يجني عليه اجتهاده |
فاسأله أن يعينك على قراءة القرآن والبر والإحسان، وتقوية الإيمان، ويطرد عنك الشيطان، كثير منا يعرف فضل الزمان وشأن الصيام وفضل القرآن وأجر البر والصلة والإحسان، لكن الغفلة والحرمان وقلة التوفيق والنقصان، فادع ربك في كل لحظة وفي كل عمل تجد أنك بعيد عنه وجفوة ولهذا جاءت الإشارة بآية الدعاء بين آيات الصيام (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ) وجاءت الإشادة بالعون على العبادة (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)، وفي الحديث "إذا استعنت فاستعن بالله".
وأخيرا:
يا ذا الذي ما كفاه الذنب في رجب | حتى عصى ربه في شهر شعبان |
لقد أظلك شهر الصوم بعدهما | فلا تصيّره أيضا شهر عصيان |
واتل القرءان ورتل فيه مجتهدا | فإنه شهر تسبيح وقرآن |
فاحمل على جسد ترجو النجاة له | فسوف تضرَم أجساد بنيران |
كم كنت تعرف ممن صام في سلف | من بين أهل وجيران وإخوان |
أفناهم الموت واستبقاك بعدهم | حيا فما أقرب القاصي من الداني |
كم معجب بثياب العيد يقطعها | فأصبحت في غد أثواب أكفان |
هذا وأسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن ينصر دينه وأن يعلي كلمته، وأن يجعلني وإياكم من أنصار دينه وشرعه...