العلي
كلمة العليّ في اللغة هي صفة مشبهة من العلوّ، والصفة المشبهة تدل...
العربية
المؤلف | صالح بن عبد الله بن حميد |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الصلاة - الصيام |
ها هو رمضان في تقويضِ خِيامه، فيا تُرى من سوف يُدرِكُه في القادم من أعوامِه؟! حقٌّ لهذا الشهر أن يُبكَى له وأن يُبكَى عليه؛ يبكِيه المؤمنُ لأن فيه تُفتحُ أبوابُ الجِنان، ويبكِيه المُقصِّر لأن فيه تُغلقُ أبوابُ النيران. ألا يُبكَى على وقتٍ تُصفَّدُ فيه الشياطين؟!
فيا لوعةَ الخاشِعين على فِراقه، ويا لهفَ المُتقين على ذهابِه. شهِدَت ليالِيه قصص التائبين، وبُكاءَ المُذنِبين، ودموعَ القانتين، وقنوتَ المُتبتِّلين؛ من قائمٍ في المِحراب، وقارِئٍ للكتاب، ومُستغفِرٍ بالأسحار، ومُنفقٍ في الليل والنهار، كلُّهم يرجُو رحمةَ ربِّه ويخشَى عذابَه...
الخطبة الأولى:
الحمدُ لله، الحمدُ لله رافع السماء وبانِيها، وساطِح الأرض وداحِيها، (يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا) [سبأ: 2]، أحمدُه - سبحانه - وأشكرُه على نعمٍ مُتوافِرةٍ مُتكاثِرةٍ لا نُحصِيها، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةَ حقٍّ ويقينٍ تُنجِي يوم العَرض قائِليها.
وأشهدُ أن سيِّدَنا ونبيَّنا محمدًا عبدُ الله ورسولُه البشيرُ النذير، والسراجُ المُنير، داعِي أمَّته إلى الحقِّ وهادِيها، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وأصحابِه الغُرِّ الميامين خيار الأمة وصالِحيها، والتابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ وسلَّم تسليمًا كثيرًا ما تعاقَبَت الأيام بليالِيها.
أما بعد:
فأُوصيكم - أيها الناس - ونفسي بتقوى الله، فاتقوا الله - رحمكم الله -، اتَّقُوا الله كما أمرَكم؛ يُنجِز لكم ما وعدَكم، (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ) [الطلاق: 2، 3]، (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا) [الطلاق: 4]، (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا) [الطلاق: 5].
المرءُ قويٌّ بتقواه، غنيٌّ بقناعته، كبيرٌ بتواضُعه، عالٍ بأخلاقه، وأمران ينفعان: سماحةُ النفس وحُسن الخُلق، وأمران يرفَعان: التواضُع وقضاءُ الحوائِج، وأمران للبلاء يدفَعان: الصدقُ وصِلةُ الرحِم. (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [التغابن: 16].
أيها المسلمون:
ما أسرعَ مُرورَ الأيام وتعاقُبَها، وانقِضاءَ السنين وتلاحُقها! وابنُ آدم يُنذِره يومُه وأمسُه، ويتعاقَبُ عليه بالعِبَر قمرُه وشمسُه!! أين من كان معكم في العام الماضي؟! أصابَتهم سِهام المَنون المواضي، (وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ) [ق: 19].
معاشر المسلمين:
ها هو الشهرُ الكريم تتصرَّمُ أيامُه، وينحلُّ عِقدُه ونظامُه .. قد آذَن بالارتِحال، ولم يبقَ منه إلا بِضعُ ليال .. وهكذا هي الأيامُ تفنَى، والأعمارُ تُطوَى، ولا يبقَى إلا وجهُ ذي العزَّة والجلال. فاغتنِموا - رحمكم الله - شريفَ هذه الأيام والليالي، وبادِروا بصالِح الأعمال قبل حُلول الآجال.
شهرُ كريمٌ مُبارَك، ما أطيبَ المُناجاةَ فيه في جوفِ الليل وعند السَّحَر، وما ألذَّ انشِغالَ القلوب فيه في تدبُّر الآيات وترتيل السور، وما أجملَ عِمارةَ المساجِد بالصلوات والتلاوات والذكر والمحامِد، مُنافسةً في المتجَر الرَّبيح، في الصدقات، والاعتِكاف، والتراويح.
هل تأمَّلتُم من هو المُوفَّق الذي قام بحقوق هذا الشهر، وأحسن الاجتهادَ فيه، وأخلصَ لله في سِرِّه وعلَنِه؟! كرَّمه ربُّه، فقرَّبَه من بابِه، وشغلَه بذكرِه وتلاوةِ كتابِه.
معاشر الإخوة:
لقد كان نبيُّكم محمدٌ - صلى الله عليه وآله وسلم - يجتهِدُ في شهر رمضان ما لا يجتهِدُ في غيره، ويجتهِدُ في العشر الأخيرة ما لا يجتهِدُ في غيرها، وإذا دخلَ العشرُ أيقظَ أهلَه، وأحيَا أهلَه، وجدَّ وشدَّ المِئزَر.
معاشر المسلمين:
وإن من لُطف الله - عز وجل -: أن خصَّ خواتيمَ الشهر بأعمالٍ جليلة، وأجورٍ جَزيلة، من أهمها وأظهرها:
ما خصَّها به من عِظَم الرَّجاء في ليلة القدر؛ فمن أجلِّ الأعمال في هذه الليالي: تحرِّي هذه الليلة، لما عُلِم من فضلِها وشرفِها وعظيمِ قدرها ومنزلتها، (وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ * تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ * سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ) [القدر: 2- 5].
ولهذا كان نبيُّنا محمدٌ - صلى الله عليه وآله وسلم - ثم الصالِحون من بعده، يخصُّون هذه الليالي بمزيدٍ من الاجتِهاد، ويُولوُنها ما تستحقُّ من العناية، يرجُون أجرَها، ويتحرَّون فضلَها، "من قامَ ليلةَ القدر إيمانًا واحتِسابًا غُفر له ما تقدَّم من ذنبِه".
والاعتِكافُ في هذه الأيام سُنَّةٌ مأثورة، وشعيرةٌ مبرورة، داوَمَ عليها نبيُّنا محمدٌ - صلى الله عليه وسلم - حتى توفَّاه الله. فأرُوا اللهَ من أنفُسكم خيرًا، وجِدُّوا واجتهِدوا، لعلَّه أن تُصيبَكم نفحةٌ من نفَحَات ربِّكم ورحَمَاته.
معاشر المسلمين:
ومما يُعينُ على التوديعِ وحُسن الخِتام: أداءَ صدقة الفِطر؛ فهي واجبةٌ على الكبير والصغير، والذَّكر والأنثى من المُسلمين، يُخرِجها المُسلمُ من غالبِ قُوت البلد؛ تمرًا، أو بُرًّا، أو شعيرًا، أو غيرَها من الحبوب التي يقتاتُها أهلُ البلد، ومقدارُها صاعٌ عن كل مُسلم.
ومن كان في بلدٍ وأهلُه في بلدٍ آخر، فإنه يُخرِج فِطرتَهم مع فِطرتِه في البلد الذي هو فيه، وإن وكَّلهم ليُخرِجوها عنه وعنهم أجزأَ ذلك، وإن خرجَ هو عن نفسِه في بلدِه وأخرجوا هم عن أنفسهم في بلدهم جازَ كذلك.
وهي صدقةٌ تُدفعُ للفقراء والمساكين الذين تلُّ لهم زكاةُ المال، ويبدأ وقتُ إخراجها من ليلةِ العيد إلى الخروج إلى صلاة العيد، ولو قدَّمها قبل ذلك بيومٍ أو يومين أجزأَه، ومن فاَه إخراجُها قبل صلاةِ العيد فإنه يُخرِجُها بقيةَ اليوم، ومن فاتَه إخراجُها في يوم العيد فإنه يُخرِجها بعدَه قضاءً.
وهي طُهرةٌ للصائم من اللغو والرَّفَث، وطُعمةٌ للمساكين، وشُكرٌ لله على إكمال الصيام، فأدُّوها - رحمكم الله - على الوجه المشرُوع، طيبةً بها نفوسُكم، تُغنون بها الفقراءَ عن السؤال هذا اليوم.
والتكبيرُ مشروعٌ للرجال والنساء من غروب الشمس ليلة العيد إلى صلاة العيد، يجهرُ به الرجالُ في المساجد والأسواق والبيوت، ويخرُج النساءُ لصلاة العيد غير مُتبرِّجاتٍ ولا مُتعطِّرات، يحضُرن الصلاةَ والذكرَ، ويشهَدن الخيرَ ودعوةَ المسلمين.
معاشر المسلمين:
ومن علامات التوفيق والقبول: عزمُ النفس على المُداومة على العمل الصالح، واختيارُ الرُّفقة الصالحة ومُجالستهم، رُفقةٌ على الخير يُعينون، وعن الشرِّ يُبعِدون، وإلى الحقِّ يُقرِّبون، (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا) [الكهف: 28].
رُفقةٌ صالِحةٌ، وجُلساءُ أخيار يدلُّون على الحقِّ، ويُعينون عليه، ويُساعِدون على سُلوك مسالِك الصلاح.
ولعل من أهم ما يُنبَّه إليه في هذا المقام - أيها الأحبة -، وتستَدعِيه المُناسبة: ما قد يجري فيه الحديثُ بين الجُلساء، وسمر الأصدقاء، وتُغذِّيه أدواتُ التواصُل الاجتماعي ومواقعُه وتغريداتُه من أقاويل الإرجاف، والتهويل، وشائِعات التخويف، والتثبيط، وتعظيم كيد الأعداء، ومكر الماكرين.
والمُؤمنُ مُطمئنٌّ في دينِه وفي حياتِه، مُطمئنٌّ غايةَ الاطمِئنان؛ لأنه يجمعُ بين الإيمان بالله والتوكُّل عليه والاعتِماد عليه، والأخذ بالأسباب.
يُؤكِّد ذلك - عباد الله -: إيمانُ المؤمن الراسِخ الذي لا يتزعزَع، أن الأمر كلَّه لله؛ فهو - سبحانه - مُدبِّرُ الكون، ومُصرِّفُ الأحوال، وهو - سبحانه - ناصِرٌ دينَه، ومُعلٍ كلمتَه، وحافِظٌ عبادَه، ومُهلِكٌ أعداءَه من الذين يصدُّون عن سبيلِه ويُكذِّبون رُسُلَه، ويُعادُون أولياءَه.
وكيدُ الأعداء قديم، والصِّراعُ بين الحقِّ والباطل سُنَّةٌ ربانيَّةٌ، والله يُملِي للظالِم حتى إذا أخذَه لم يُفلِته، (وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ) [الشعراء: 227].
وبلادُنا المُبارَكة بلادُ الحرمين الشريفين - ولله الحمد - هي رافعةُ لواء الشريعة، وقِبلةُ المُسلمين، والخيرُ فيها كثير، ورجاءُ المُسلم بالله قويٌّ، والأحداثُ مُوقِظات، والسُّننُ واعِظات.
والمُؤمنُ مُوقِنٌ حقَّ اليقين، وعين اليقين، وعلمَ اليقين بقوله - عزَّ شأنُه -: (وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ) [الأنفال: 30]، وبقوله - جل وعلا -: (وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ) [فاطر: 43]، وبقوله - تبارك وتعالى -: (إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا * وَأَكِيدُ كَيْدًا) [الطارق: 15، 16].
ومن علامات التوفيق والحِفظ والتسديد لهذه الدولة المُبارَكة: أن هيَّأ لها هذه القيادةَ المُبارَكة، من وُلاة الأمر ورجالهم وأعوانهم، فهي محضِنُ الرجال، إذا ما مات سيِّدٌ قام سيِّدٌ، من ذوي الفكر الصائِب، والمواقِف المشهُودة، في الدفاع عن الأمة في المحافِل كافَّة، والإسهام في بناءِ الدولة في علمٍ وذكاءٍ وكفاءةٍ وعقلٍ.
فنحمدُه على ما تفضَّل ومنَّ وأنعَم، ونصبِرُ ونرضَى على ما ابتلَى وقدَّر.
وفي مُقدِّمة من فقَدناهم هذه الأيام: رجلُ الشؤون الخارجية، والمحافِل الدولية، والسياسة المُحنَّكة، وأحدُ صُنَّاع القرار في هذه الدولة المُباركة: عبد الله وابنُ عبده الأميرُ سعود الفيصل بن عبد العزيز - رحمه الله، وأسكنَه فسيحَ جنَّاته، وعوَّضَنا خيرًا، وجزاه خيرَ الجزاء على ما قدَّم لدينِه وأمَّته ووطنِه وولاةِ أمره وأهلِه -. فالحمدُ لله على قضائِه وقدرِه.
عباد الله:
هذه أقدارُ الله ومقاديرُه، فلا تغفَل - يا عبد الله - وأنت في خواتيم هذا الشهر ووداعه، وقد وفَّقك الله لهذه الصُّحبة المُبارَكة، وجُلساء الأخيار، لا تغفَل عن مجالسِ الذكر، والثبات على الطاعة، والمُداومة عليها، والاستِكثار من القُرُبات، ولُزوم الاستِغفار، وأحبُّ الأعمال إلى الله أدوَمُه وإن قلَّ، والله لم يجعَل لعملِ المُؤمن أجلاً دون الموت، (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) [الحجر: 99].
وبعدُ - رحمكم الله -:
فرحِم الله امرأً بادرَ للاستِدراك في باقِي أيامه وساعاته، وندِم على ما سلفَ من إضاعاته، وعوَّض بحُسن العمل وطاعاته.
فتيقَّظ - حفِظك الله -، وانظُر بين يدَيك، واجعَل أمرَ الآخرة بين عينَيك: هل شهرُك يشهَدُ لك أو يشهَدُ عليك؟!
يقولُ الحسنُ - رحمه الله -: "إن المؤمن يجمعُ إحسانًا وشفقَة، والمُنافِقُ يجمعُ أمنًا وإساءَة"، ثم تلا: (إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ) [المؤمنون: 57- 61].
نفعَني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبهدي محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، وأقولُ قولي هذا، وأستغفِرُ الله لي ولكم ولسائر المُسلمين من كل ذنبٍ وخطيئةٍ، فاستغفِروه، إنه هو الغفورُ الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمدُ لله، الحمدُ لله الصادقِ في القِيل، الهادِي إلى الحقِّ بالحُجَّة والدليل، أحمدُه - سبحانه - وأشكرُه على إنعامِه الوافِر وفضلِه الجَزيل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له هو حسبِي ونِعمَ الوكيل.
وأشهد أن سيِّدَنا ونبيَّنا محمدًا عبدُ الله ورسولُه المُؤيَّدُ بمُعجِزات التنزيل، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه، وعلى آلِهِ وأصحابِه سارُوا على النَّهج واستقامُوا على السبيل، والتابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد، فيا أيها المسلمون:
ها هو رمضان في تقويضِ خِيامه، فيا تُرى من سوف يُدرِكُه في القادم من أعوامِه؟!
حقٌّ لهذا الشهر أن يُبكَى له وأن يُبكَى عليه؛ يبكِيه المؤمنُ لأن فيه تُفتحُ أبوابُ الجِنان، ويبكِيه المُقصِّر لأن فيه تُغلقُ أبوابُ النيران. ألا يُبكَى على وقتٍ تُصفَّدُ فيه الشياطين؟!
فيا لوعةَ الخاشِعين على فِراقه، ويا لهفَ المُتقين على ذهابِه. شهِدَت ليالِيه قصص التائبين، وبُكاءَ المُذنِبين، ودموعَ القانتين، وقنوتَ المُتبتِّلين؛ من قائمٍ في المِحراب، وقارِئٍ للكتاب، ومُستغفِرٍ بالأسحار، ومُنفقٍ في الليل والنهار، كلُّهم يرجُو رحمةَ ربِّه ويخشَى عذابَه، (أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ) [الزمر: 9].
فيا أيها الشهر الكريم! في رحيلِك ترفَّق، فدموعُ المُحبِّين من ألمِ الوداع تتدفَّق .. عسى ساعةُ توبةٍ لها العبدُ يُوفَّق .. ترفَّق فلعلَّ مُنقطِعًا من الرَّكب أن يلحَق .. وعسَى من استوجَبَ النارَ أن يُعتَق.
تأمَّلوا - رحمكم الله - في بعضِ المخذُولين ممن يُقابِلُ نعمةَ إدراك رمضان والتوفيق لصيامِه وقيامِه، ثم يرتكِبُ المعاصِي. ألا يخشَى أن يكون ممن بدَّل نعمةَ الله كُفرًا؟! مخذُولٌ من يُحدِّثُ نفسَه إذا خرجَ رمضان عصَى ربَّه، وعادَ إلى ما كان عليه من سُوء العمل.
يقولُ ميمون بن مِهران: "لا خيرَ في الحياة إلا لتائِبٍ، أو رجلٍ يعملُ في الصالِحات، ومن عداهما فهو الخاسِر".
الله أكبر عباد الله! رغِمَ أنفُ امرئٍ أدركَ رمضان فلم يُغفَر له، أين المُجِدُّ في شهره؟! .. وأين المُستعِدُّ ليوم حشرِه؟! .. وأين المُستدرِكُ لما فاتَ من نفَحَات دهره؟! .. يا تُرى هل تعودُ عليكم أيامُه أو لا تعود؟! ويا تُرى من هو المقبولُ ومن هو المردُود؟!
ألا فاتَّقوا الله - رحمكم الله -، واعلَموا أن المُوفَّقين لا تزيدُهم مواسِمُ الخيرات إلا اجتهادًا في العبادات، وحِرصًا على الأعمال الصالِحات، فذا ما انقضَت المواسِمُ بقِيَت آثارُها في حياتهم وسُلوكِهم، يُتبِعون الحسنةَ الحسنة، ويدرءُون بالحسنة السيئة، (أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ) [الرعد: 22].
هذا، وصلُّوا وسلِّموا على الرحمةِ المُهداة، والنعمةِ المُسدَاة: نبيِّكم محمدٍ رسول الله، فقد أمرَكم بذلك ربُّكم في مُحكَم تنزيلِه، فقال - وهو الصادقُ في قَيلِه -: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب: 56].
اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدك ورسولك نبيِّنا محمدٍ الحبيب المُصطفى، والنبي المُجتبى، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى أزواجه أمهات المؤمنين، وارضَ اللهم عن الخلفاء الأربعة الراشدين: أبي بكر، وعُمر، وعُثمان، وعليٍّ، وعن الصحابة أجمعين، والتابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بعفوك وجُودك وإحسانِك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وأذِلَّ الشرك والمشركين، واخذُل الطغاةَ والملاحدةَ وسائرَ أعداء الملَّة والدين.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلِح أئمَّتنا وولاةَ أمورنا، واجعل اللهم ولايتَنا فيمن خافَك واتَّقاك، واتَّبَع رضاك يا رب العالمين.
اللهم وفِّق إمامنا ووليَّ أمرنا بتوفيقك، وأعِزَّه بطاعتك، وأعلِ به كلمتَك، واجعله نُصرةً للإسلام والمسلمين، ووفِّقه ونائِبَيْه وإخوانَه وأعوانَه لما تُحبُّ وترضى، وخُذ بنواصِيهم للبرِّ والتقوى.
اللهم وفِّق ولاةَ أمور المسلمين للعمل بكتابك وبسنَّة نبيِّك محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، واجعلهم رحمةً لعبادك المؤمنين، واجمَع كلمتَهم على الحق والهُدى يا رب العالمين.
اللهم يا وليَّ المؤمنين، ويا ناصِر المُستضعَفين، ويا غياثَ المُستغيثين، يا عظيمَ الرجاء، ويا مُجيرَ الضعفاء، اللهم إن لنا إخوانًا مُستضعَفين مظلومين في فلسطين، وفي سوريا، وفي بورما، وفي أفريقيا الوسطى، وفي أماكن أخرى من العالم، قد مسَّهم الضرُّ، وحلَّ بهم الكرب، واشتدَّ عليهم الأمر، تعرَّضوا للظلم والطُّغيان، والتشريد والحصار، وسُفِكَت دماؤُهم، وقُتِل أبرياؤُهم، ورُمِّلَت نساؤهم، ويُتِّمَ أطفالُهم، وهُدِّمَت مساكنُهم ومرافقُهم.
اللهم يا ناصِر المُستضعَفين، ويا مُنجِيَ المؤمنين انتصِر لهم، وتولَّ أمرهم، واكشِف كربَهم، وارفع ضُرَّهم، وعجِّل فرَجَهم، وألِّف بين قلوبِهم، واجمع كلمتَهم، اللهم مُدَّهم بمددِك، وأيِّدهم بجُندك، وانصُرهم بنصرِك، اللهم إنا نسألُك لهم نصرًا مُؤزَّرًا، وفرَجًا ورحمةً وثباتًا.
اللهم عليك بالطُّغاة الظالمين، ومن شايعَهم، ومن أعانَهم، اللهم فرِّق جمعَهم، وشتِّت شملَهم، ومزِّقهم كل مُمزَّق، اللهم اجعل تدميرَهم في تدبيرِهم يا رب العالمين.
اللهم عليك باليهود الغاصِبين المُحتلِّين فإنهم لا يُعجِزونك، اللهم وأنزِل بهم بأسَك الذي لا يُردُّ عن القومِ المُجرمِين، اللهم إنا ندرأُ بك في نُحورِهم، ونعوذُ بك من شُرورهم.
اللهم عليك بمن سلكَ مسالِك الإرهاب، اللهم عليك بمن سلكَ مسالِك الإرهاب، من سُفهاء الأحلام، المارِقين من الدين، الذين يُقاتِلون أهلَ الإسلام، ويُفرِّقون جمعَهم، ويَعيثُون فسادًا في ديارهم، ويفتَحون أبوابَ الشُّرور عليهم، ويُمكِّنون لدينِهم، اللهم إنا ندرأُ بك في نُحورهم، ونعوذُ بك من شُرورهم، اللهم واجعَل تدميرَهم في تدبيرِهم يا قويُّ يا عزيز.
اللهم وفِّقنا للتوبة والإنابة، وافتَح لنا أبوابَ القبول والإجابة.
اللهم تقبَّل طاعاتِنا، ودعاءَنا، وأصلِح أعمالنا، وكفِّر عنَّا سيئاتِنا، وتُب علينا، واغفِر لنا، وارحَمنا يا أرحم الراحمين.
اللهم واجبُر كسرَنا على فراقِ شهرنا بغُفرانك، اللهو واجبُر كسرَنا على فراقِ شهرنا بغُفرانك، وجُد علينا بعفوِك ورِضوانك، ولا تقطَع عنا ما عوَّدتَنا من فضلِك وإحسانِك، وأعِنَّا على استِدراك الهفَوات قبل الفوات، وأخذ العُدَّة للوفاة قبل المُوافاة، واستجلِب اللهم منَّا صالِح الدعوات، وارحَمنا في الحياة وبعد الممات، واجمَع لنا بين لذَّة المُناجاة وسُرور النجاة.
اللهم إن في تدبيرِك ما يُغني عن الحِيَل، وفي عفوِك ما يمحُو الزَّلل، وفي كرمِك ولُطفِك ما يُحقِّقُ الأمل، اللهم فبقوَّة تدبيرِك، وعظيمِ عفوِك، وسعَة حلمِك، وفيضِ كرمِك انصُرنا، وأيِّدنا، واحفَظ جُنودَنا، والطُف بنا وبهم، واكفِنا شرَّ كل ذي شرٍّ، جلَّ ثناؤُك، وتقدَّسَت أسماؤُك، ولا إله غيرُك.
اللهم إنا نستودِعُك دينَنا وبلادَنا وولاةَ أمرنا وجيشَنا وأهلِينا، اللهم أنت عضيدُ تلك النواصِي، ونصيرُ عبادِك، فزِدهم قوةً إلى قوَّتهم، ونصرًا إلى نصرِهم.
(رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ) [الأعراف: 23]، (رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) [البقرة: 201].
سبحان ربِّك ربِّ العزَّة عما يصِفون، وسلامٌ على المُرسَلين، والحمدُ لله ربِّ العالمين.