العفو
كلمة (عفو) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فعول) وتعني الاتصاف بصفة...
العربية
المؤلف | عبد الله بن محمد البصري |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | فقه النوازل - أهل السنة والجماعة |
إِنَّ عُلَمَاءَ السُّنَّةِ اليَومَ يُوَاجِهُونَ هَجَمَاتٍ شَدِيدَةً، وَيَلقَونَ تَضيِيقًا وَأَذًى كَثِيرًا، يَتَوَلاَّهُ أَعدَاءُ الدِّينِ المُنَاوِئُونَ لأَهلِ السُّنَّةِ كَاليَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالرَّافِضَةِ، وَيَنفُخُ فِيهِ مُنَافِقُو الصَّحَافَةِ وَيَنشُرُهُ أَقزَامُ الإِعلامِ؛ وَمَا ذَاكَ إِلاَّ لأَنَّ عُلَمَاءَ الأُمَّةِ هُم قَادَتُهَا لِلحَقِّ وَأَمَلُهَا في العَودَةِ إِلى سَابِقِ عَهدِهَا مِنَ العِزَّةِ وَالمَنَعَةِ وَالرِّفعَةِ، وَلأَنَّهُم هُدَاتُهَا إِلى طَرِيقِ الأَمنِ وَمُبَلِّغِيهَا سَاحِلَ الأَمَانِ، وَلاسِيَّمَا في أَزمِنَةِ الفِتَنِ وَأَوقَاتِ المِحَنِ
أَمَّا بَعدُ: فَاتَّقُوا اللهَ -تَعَالى- كَمَا أَمَرَكُم يُنجِزْ لَكُم مَا وَعَدَكُم (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إَن تَتَّقُوا اللهَ يَجعَلْ لَكُم فُرقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنكُم سَيِّئَاتِكُم وَيَغفِرْ لَكُم وَاللهُ ذُو الفَضلِ العَظِيمِ) (وَاتَّقُوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ وَاللهُ بِكُلِّ شَيءٍ عَلِيمٌ)
أَيُّهَا المُسلِمُونَ: لَمَّا كَانَ العِلمُ هُوَ أَكمَلَ مَطلُوبٍ في الدُّنيَا وَأَشرَفَ مَرغُوبٍ، وَطَرِيقَ الخَوفِ مِنَ اللهِ وَخَشيَتِهِ وَسَبِيلَ الوُصُولِ إِلى مَرضَاتِهِ وَجَنَّتِهِ، أَمَرَ اللهُ -تَعَالى- نَبِيَّهُ بِالاستِزَادَةِ مِنهُ فَقَالَ-: (وَقُلْ رَبِّ زِدْني عِلمًا)
وَقَد جَعَلَ -تَعَالى- العِلمَ سَبَبًا لِلرِّفعَةِ في الدُّنيَا وَالآخِرَةِ، قَالَ -سُبحَانَهُ-: (يَرفَعِ اللهُ الَّذينَ آمَنُوا مِنكُم وَالَّذِينَ أُوتُوا العِلمَ دَرَجَاتٍ) وَنَفَى -سُبحَانَهُ- استِوَاءَ أَهلِ العِلمِ بِغَيرِهِم ممَّن لا حَظَّ لَهُ فِيهِ فَقَالَ: (قُلْ هَل يَستَوِي الَّذِينَ يَعلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعلَمُونَ) وَمَا ذَاكَ إِلاَّ لأَنَّ العُلَمَاءَ هُم أَهلُ الصَّبرِ وَاليَقِينِ، وَهُم أَعرَفُ النَّاسِ بِاللهِ وَأَتقَاهُم لَهُ وَأَخشَاهُم مِنهُ وَأَخوَفُهُم مِن عَذَابِهِ، وَلأَنَّهُمُ الهُدَاةُ إِلى الصِّرَاطِ المُستَقِيمِ وَالمُرشِدُونَ إِلى الطَّرِيقِ القَوِيمِ، وَالحَامِلُونَ لِلثَّقَلَينِ وَالحَافِظُونَ لِلوَحيَينِ، المُتَدَبِّرُونَ لما فِيهِمَا مِنَ الأَمثَالِ، العَاقِلُونَ لما يَنطَوِيَانِ عَلَيهِ مِنَ الحِكَمِ وَالأَسرَارِ، قَالَ -تَعَالى-: (وَجَعَلنَا مِنهُم أَئِمَّةً يَهدُونَ بِأَمرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ) وَقَالَ -سُبحَانَهُ-: (إنَّمَا يَخشَى اللهَ مِن عِبَادِهِ العُلَمَاءُ) وَقَالَ -جَلَّ وَعَلا-: (وَتِلكَ الأَمثَالُ نَضرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعقِلُهَا إِلاَّ العَالِمُونَ) وَقَالَ -صَلََّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ-: "يَحمِلُ هَذَا العِلمَ مِن كُلِّ خَلَفٍ عُدُولُهُ، يَنفُونَ عَنهُ تَحرِيفَ الغَالِينَ وَانتِحَالَ المُبطِلِينَ وَتَأوِيلَ الجَاهِلِينَ" رَوَاهُ البَيهَقِيُّ وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ .
وَلَقَدِ استَشهَدَ اللهُ بِالعُلَمَاءِ في أَجَلِّ مَشهُودٍ عَلَيهِ وَهُوَ تَوحِيدُهُ، فَقَالَ -تَعَالى-: (شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالمَلائِكَةُ وَأُولُو العِلمِ قَائِمًا بِالقِسطٍ) قَالَ ابنُ القَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ-: "وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى فَضلِ العِلمِ وَأَهلِهِ مِن وُجُوهٍ:
أَحَدُهَا: استِشهَادُهُم دُونَ غَيرِهِم مِنَ البَشَرِ.
وَالثَّاني: اقتِرَانُ شَهَادَتِهِم بِشَهَادَتِهِ.
وَالثَّالِثُ: اقتِرَانُ شَهَادَتِهِم بِشَهَادَةِ مَلائِكَتِهِ.
وَالرَّابِعُ: أَنَّ في ضِمنِ هَذَا تَزكِيَتَهُم وَتَعدِيلَهُم؛ فَإِنَّ اللهَ -تَعَالى- لا يَستَشهِدُ مِن خَلقِهِ إِلاَّ العُدُولَ.
وَقَد عَرَفَ المُسلِمُونَ لِلعُلَمَاءِ قَدرَهُم وَحَفِظُوا لهم مَكَانَتَهُم، وَأَنزَلُوهُم مَنزِلَتَهُم اللاَّئِقَةَ بهم؛ فَكَانُوا مِنَ الخُلَفَاءِ وَالوُلاةِ مَحَلَّ الثِّقَةِ وَفي غَايَةِ التَّقرِيبِ، وَمِنَ العَامَّةِ في عَينِ الإِعزَازِ وَمَركَزِ التَّقدِيرِ، وَإِنَّمَا فَعَلَ المُسلِمُونَ ذَلِكَ؛ تَدَيُّنًا وَتَقَرُّبًا إِلى اللهِ؛ لِمَا يَحمِلُهُ العُلَمَاءُ مِن مِيرَاثِ النُّبُوَّةِ الَّذِي هُوَ أَثمَنُ مِيرَاثٍ وَأَغلاهُ، وَلِمَا تَختَزِنُهُ صُدُورُهُم مِن عِلمِ القُرآنِ وَالسُّنَّةِ؛ اللَّذَينِ هُمَا أَشرَفُ العُلُومِ وَأَجَلُّ المَعَارِفِ، وَلأَنَّ ذَلِكَ هُوَ فِعلُ نَبِيِّهِم -عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ- القَائِلِ: "وَإِنَّ العُلَمَاءَ وَرَثَةُ الأَنبِيَاءِ، وإنَّ الأَنبِيَاءَ لم يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلا دِرهَمًا، وَإِنَّمَا وَرَّثُوا العِلمَ فَمَن أَخَذَهُ أَخَذَ بِحَظٍّ وافَرَ".
وَلَمَّا جَاءَهُ صَفوَانُ بنُ عَسَّالٍ المُرَادِيُّ طَالِبًا لِلعِلمِ وَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِني جِئتُ أَطلُبُ العِلمَ . قَالَ -عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ-: "مَرحَبًا بِطَالِبِ العِلمِ، إنَّ طَالِبَ العِلمِ تَحُفُّهُ المَلائِكَةُ بِأَجنِحَتِهَا ثُمَّ يَركَبُ بَعضُهُم بَعضًا حَتَّى يَبلُغُوا السَّمَاءَ الدُّنيَا مِن مَحَبَّتِهِم لما يَطلُبُ".
وَقَال -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ-: "فَضلُ العَالِمِ عَلَى العَابِدِ كَفَضلِي عَلَى أَدنَاكُم" وَلِمَ لا يُقَدِّرُ المُسلِمُونَ بَعدَ ذَلِكَ عُلَمَاءَهُم وَيُجَلِّونَهُم؟ بَل وَمَا لهم لا يَحمِلُونَ لهم خَالِصَ المَحَبَّةِ وَاللهُ يُصَلِّي عَلَيهِم فَوقَ سَمَاوَاتِهِ وَمَلائِكَتُهُ وَأَصغَرُ مَخلُوقَاتِهِ؟ قَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ-: " إنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ وَأَهلَ السَّمَاوَاتِ وَأَهلَ الأَرضِ حَتَّى النَّملَةَ في جُحرِهَا وَحَتَّى الحُوتَ في المَاءِ لَيُصَلُّونَ عَلَى مُعَلِّمِ النَّاسِ الخَيرَ".
إِنَّ العُلَمَاءَ لَحَرِيُّونَ بِكُلِّ تَقدِيرٍ وَتَكرِيمٍ، جَدِيرُونَ بِكُلِّ إِجلالٍ وَإِعزَازٍ، حَقِيقُونَ بِأَن تَنصَحَ لَهُمُ القُلُوبُ وَتُحِبَّهُمُ النُّفُوسُ، ذَلِكَ هُوَ سَبِيلُ عِبَادِ اللهِ المُؤمِنِينَ، وَتِلكَ عَقِيدَتُهُم الَّتي يَحمِلُونَهَا في قُلُوبِهِم؛ عَمَلاً بقَولِ إِمَامِهِم -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ-: "ثَلاثٌ لا يُغِلُّ عَلَيهِنَّ قَلبُ مُسلِمٍ: إِخلاصُ العَمَلِ للهِ، وَمُنَاصَحَةُ وُلاةِ الأَمرِ، وَلُزُومُ الجَمَاعَةِ؛ فَإِنَّ دَعوَتَهُم تُحيَطُ مِن وَرَائِهِم" وَخَوفًا مِنَ الدُّخُولِ في حَربِ رَبِّهِم، وَحَذَرًا مِنَ الخُرُوجِ مِن دَائِرَةِ المُؤمِنِينَ؛ قَالَ -تَعَالى- في الحَدِيثِ القُدسِيِّ: "مَن عَادَى لي وَلِيًّا فَقَد آذَنتُهُ بِالحَربِ" وَقَالَ -عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ-: "لَيسَ مِنَّا مَن لم يُجِلَّ كَبِيرَنَا وَيَرحَمْ صَغِيرَنَا وَيَعرِفْ لِعَالِمِنَا حَقَّهُ".
قَالَ الإِمَامُ أَبُو بَكرٍ الآجُرِّيُّ -رَحِمَهُ اللهُ- وَهُوَ يَتَحَدَّثُ عَنِ العُلَمَاءِ وَمَكَانَتِهِم: "فَضَّلَهُم عَلَى سَائِرِ المُؤمِنِينَ وَذَلِكَ في كُلِّ زَمَانٍ وَأَوَانٍ، رَفَعَهُم بِالعِلمِ، وَزَيَّنَهُم بِالحِلمِ، بهم يُعرَفُ الحَلالُ مِنَ الحَرَامِ، وَالحَقُّ مِنَ البَاطِلِ، وَالضَّارُّ مِنَ النَّافِعِ، وَالحَسَنُ مِنَ القَبِيحِ، فَضلُهُم عَظِيمٌ، وَخَطَرُهُم جَزِيلٌ، وَرَثَةُ الأَنبِيَاءِ، وَقُرَّةُ عَينِ الأَولِيَاءِ، الحِيتَانُ في البَحرِ لهم تَستَغفِرُ، وَالمَلائِكَةُ بِأَجنِحَتِهَا لهم تَخضَعُ، وَالعُلَمَاءُ في القِيَامَةِ بَعدَ الأَنبِيَاءِ تَشفَعُ، مَجَالِسُهُم تُفِيدُ الحِكمَةَ، وَبِأَعمَالِهِم يَنزَجِرُ أَهلُ الغَفلَةِ، هُم أَفضَلُ مِنَ العُبَّادِ، وَأَعلَى دَرَجَةً مِنَ الزُّهَّادِ، حَيَاتُهُم غَنِيمَةٌ، وَمَوتُهُم مُصِيبَةٌ، يُذَكِّرُونَ الغَافِلَ، وَيُعَلِّمُونَ الجَاهِلَ، لا يُتَوَقَّعُ لهم بَائِقَةٌ، وَلا يُخَافُ مِنهُم غَائِلَةٌ ..." إِلى أَن قَالَ -رَحِمَهُ اللهُ: "فَهُم سِرَاجُ العِبَادِ وَمَنَارُ البِلادِ، وَقِوَامُ الأُمَّةِ وَيَنَابِيعُ الحِكمَةِ، هُم غَيضُ الشَّيطَانِ، بهم تَحيَا قُلُوبُ أَهلِ الحَقِّ وَتَمُوتُ قُلُوبُ أَهلِ الزَّيغِ، مَثَلُهُم في الأَرضِ كَمَثَلِ نُجُومِ السَّمَاءِ يُهتَدَى بها في ظُلُمَاتِ البَرِّ وَالبَحرِ، إِذَا انطَمَسَتِ النُّجُومُ تَحَيَّرُوا، وَإِذَا أَسفَرَ عَنهُمُ الظَّلامُ أَبصَرُوا.
وَقَالَ الإِمَامُ الطَّحَاوِيُّ في عَقِيدَتِهِ: "وَعُلَمَاءُ السَّلَفِ مِنَ السَّابِقِينَ وَمَن بَعدَهُم مِنَ التَّابِعِينَ أَهلِ الخَيرِ وَالأَثَرِ وَأَهلِ الفِقهِ وَالنَّظَرِ لا يُذكَرُونَ إِلاَّ بِالجَمِيلِ، وَمَن ذَكَرَهُم بِسُوءٍ فَهُوَ عَلَى غَيرِ السَّبِيلِ".
وَقَالَ الإِمَامُ الذَّهبيُّ -رَحِمَهُ اللهُ- في سِيَرِ أَعلامِ النُّبَلاءِ: "ثُمَّ إِنَّ الكَبِيرَ مِنَ العُلَمَاءِ إِذَا كَثُرَ صَوَابُهُ وَعُلِمَ تَحَرِّيهِ لِلحَقِّ وَاتَّسَعَ عِلمُهُ وَظَهَرَ ذَكَاؤُهُ وَعُرِفَ صَلاحُهُ وَوَرَعُهُ وَاتِّبَاعُهُ يُغفَرُ لَهُ زَلَلُهُ وَلا نُضَلِّلُهُ وَلا نَطَّرِحُهُ وَنَنسَى مَحَاسِنَهُ". اِنتَهَى كَلامُهُ ...
هَذِهِ مَكَانَةُ العُلَمَاءِ عِندَ رَبِّهِم وَنَبِيِّهِم وَالمُؤمِنِينَ؛ وَإِنَّكَ لَتَعجَبُ مِن أَقوَامٍ في عَصرِنَا؛ ممَّن قَلَّ بِاللهِ عِلمُهُم، وَضَعُفَ في الدِّينِ فِقهُهُم، أُترِعَت قُلُوبُهُم عَلَى العُلَمَاءِ حِقدًا وَحَسَدًا، وَامتَلأَت صُدُورُهُم عَلَى الدُّعَاةِ غَيظًا وَغِلاًّ - لم يُقَدِّرُوا عَالِمًا لِعلِمِهِ، وَلم يُجِلُّوا دَاعِيَةً لِفَضلِهِ، وَلم يَحفَظُوا لِمُصلِحٍ سَابِقَتَهُ، وَلم يُقِيلُوا لِذِي هَيئَةٍ عَثرَتَهُ، سَلِمَ مِنهُم أَعدَاءُ اللهِ وَرَسُولِهِ، وَلم يَسلَمْ مِنهُم عُلَمَاءُ الشَّرِيعَةِ وَدُعَاةُ الحَقِّ العَامِلِينَ المُخلِصِينَ، وَبَدَلاً مِن أَن يَبدَؤُوا عُلَمَاءَهُم بِالتَّحِيَّةِ وَالتَّرحِيبِ، وَيَلقَوا دُعَاتَهُم بِالبِشرِ وَالسُّرُورِ وَالتَّكرِيمِ - تَلَقَّوهُم بِالسُّخرِيَةِ وَالتَّهَكُّمِ، وَرَمَوهُم بِالغُلُوِّ وَالتَّشَدُّدِ، وَاتَّهَمُوهُم بِإِثَارَةِ الفِتَنِ وَالتَّحرِيضِ عَلَى الوُلاةِ، وَوَصَمُوهُم بِأَنَّهُم بَعِيدُونَ عَنِ الوَاقِعِ، وَوَصَفُوهُم بِأَنَّهُم يَعِيشُونَ في المَاضِي، وَإِنَّكَ لَتَعجَبُ أَن يَكُونَ ذَلِكَ في بَعضِ صُحُفِ بِلادِنَا وَجَرَائِدِهَا وَمَوَاقِعِ الشَّبَكَةِ فِيهَا، وَأَن يَتَوَلاَّهُ أُنَاسٌ ممَّن يُنسَبُونَ إِلى أَهلِ السُّنَّةِ، لا هَمَّ لهم إِلاَّ السُّخرِيَةُ وَالاستِهزَاءُ وَالشَّمَاتَةُ، وَلا وَظِيفَةَ لهم إِلاَّ تَصَيَّدُ الزَّلاَّتِ وَتكبِيرُ السَّقطَاتِ، يَبحَثُونَ عَنِ الكَلِمَاتِ المُوهِمَةِ، وَيُنَقِّبُونَ عَنِ الأَلفَاظِ المُحتَمِلَةِ، وَيَضَعُونَ الأَقوَالَ في غَيرِ سِيَاقِهَا، وَيَبتُرُونَ النُّصُوصَ عَمَّا قَبلَهَا وَبَعدَهَا.
إِنَّ عُلَمَاءَ السُّنَّةِ اليَومَ يُوَاجِهُونَ هَجَمَاتٍ شَدِيدَةً، وَيَلقَونَ تَضيِيقًا وَأَذًى كَثِيرًا، يَتَوَلاَّهُ أَعدَاءُ الدِّينِ المُنَاوِئُونَ لأَهلِ السُّنَّةِ كَاليَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالرَّافِضَةِ، وَيَنفُخُ فِيهِ مُنَافِقُو الصَّحَافَةِ وَيَنشُرُهُ أَقزَامُ الإِعلامِ؛ وَمَا ذَاكَ إِلاَّ لأَنَّ عُلَمَاءَ الأُمَّةِ هُم قَادَتُهَا لِلحَقِّ وَأَمَلُهَا في العَودَةِ إِلى سَابِقِ عَهدِهَا مِنَ العِزَّةِ وَالمَنَعَةِ وَالرِّفعَةِ، وَلأَنَّهُم هُدَاتُهَا إِلى طَرِيقِ الأَمنِ وَمُبَلِّغِيهَا سَاحِلَ الأَمَانِ، وَلاسِيَّمَا في أَزمِنَةِ الفِتَنِ وَأَوقَاتِ المِحَنِ.
أَلا فَاتَّقُوا اللهَ -أَيُّهَا المُسلِمُونَ-، وَانتَبِهُوا لما يُحَاكُ لَكُم؛ فَإِنَّ العُلَمَاءَ هُم أَعلامُ الهُدَى وَنُجُومُ الدُّجَى، وَهُم دُعَاةُ الخَيرِ وَحُمَاةُ الفَضِيلَةِ، وُجُودُهُم مِن عَلامَاتِ الخَيرِ وَالبَرَكَةِ، وَكَثرَتُهُم مِن أَمَارَاتِ التَّوفِيقِ وَالعِصمَةِ، لا يُحِبُّهُم إِلاَّ مُؤمِنٌ، وَلا يُبغِضُهُم إِلاَّ مُنَافِقٌ، وَلا تَزَالُ الأُمَّةُ بِخَيرٍ مَا عَظَّمَتهُم وَوَقَّرَتهُم، وَعَرَفَت لهم قَدرَهُم وَحَفِظَت لهم مَكَانَتَهُم؛ لأَنَّ في ذَلِكَ تَعظِيمًا لِلشَّرِيعَةِ وَحِفظًا لِلدِّينِ، وَأَمَّا إِذَا أَذَلَّت أُمَّةٌ عُلَمَاءَهَا، أَو سَمَحَت بِأَن يَنَالَ مِنهُم سُفَهَاؤُهَا، فَإِنَّمَا ذَلِكَ نَذِيرٌ شُؤمٍ عَلَيهَا وَمِفتَاحُ شَرٍّ، وَمُؤذِنٌ لها بِخَيبَةٍ وَخَسَارَةٍ.
إِنَّ شَرَفَ العُلَمَاءِ لَيسَ مَربُوطًا بما لهم مِن مَنصِبٍ أَو وَظِيفَةٍ، وَمَصدَرُ جَاهِهِم لَيسَ مَا هُم عَلَيهِ مِن حَسَبٍ أَو نَسَبٍ أَو مَالٍ، وَمُوالاتُهُم لَيسَت حَسَبَ بُلدَانِهِم وَجِنسِيَّاتِهِم وَأَعرَاقِهِم وَانتِمَائِهِم - بَل شَرَفُهُم بِمَا يَحمِلُونَهُ مِن عِلمِ الكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَجَاهُهُم بِالتِزَامِهِم بِمَنهَجِ الأَنبِيَاءِ في العِلمِ وَالتَّعلِيمِ وَالجِهَادِ وَالدَّعوَةِ، وَالمَنَاصِبُ هِيَ الَّتي تَشرُفُ بِالعُلَمَاءِ، وَالبِلادُ هِيَ الَّتي تَفخَرُ بِهِم، وَهُمُ المِيزَانُ في مَعرِفَةِ مَا عَلَيهِ العَامَّةِ مِنَ الأَحوَالِ، وَأَهلُ الرَّأيِ في مُدلَهِمَّاتِ الأُمُورِ، وَلا خَيرَ فِيمَن لا يَعرِفُ لهم قَدرَهُم وَمَنزِلَتَهُم، وَلا بَرَكَةَ في لِسَانٍ يَطعَنُ في أَمَانَتِهِم وَدِيَانَتِهِم، ولا عِزَّ لمن يَسعَى جَاهِدًا في تَشوِيهِ صُورَتِهِم؛ أَلا فَأَخرَسَ اللهُ أَلسِنَةً تَتَقَوَّلُ عَلَيهِم مَا لم يَفعَلُوا، وَفَضَّ أَفوَاهًا تَتشدق ِبنَقدِهِم عَلَى غَيرِ بُرهَانٍ، وَأَعمَى أَعيُنًا لا تَنظُرُ لهم بِنَظرَةِ التَّقدِيرِ وَالتَّكرِيمِ.
اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا في عُلَمَائِنَا وَدُعَاتِنَا، وَوَفِّقْنَا لِلاستِفَادَةِ مِنهُم وَسُلُوكِ طَرِيقِهِم عَلَى الحَقِّ، وَاهدِنَا سَوَاءَ السَّبِيلِ وَتَبْ عَلَينَا، وَاعفُ عنَّا واغفِرْ لَنَا وَارحَمْنَا، أَنتَ مَولانَا فَانصُرْنَا عَلَى القَومِ الكَافِرِينَ.
الخطبة الثانية:
أَمَّا بَعدُ: فَاتَّقُوا اللهَ -تَعَالى- وَأَطِيعُوهُ، وَرَاقِبُوا أَمرَهُ وَنَهيَهُ وَلا تَعصُوهُ. وَاعلَمُوا أَنَّ لِلوَقِيعَةِ في العُلَمَاءِ وَانتِهَاكِ أَعرَاضِهِم عَوَاقِبَ وَخِيمَةً وَنَتَائِجَ خَطِيرَةً وَآثَارًا سَلبِيَّةً، يُدرِكُهَا مَن تَأَمَّلَ الوَاقِعَ وَاتَّسَعَ أُفُقُهُ وَبَعُدَ نَظَرُهُ. مِن ذَلِكَ:
أَنَّ جَرحَ العَالِمِ سَبَبٌ في امتِهَانِ مَا يَحمِلُهُ مِنَ العِلمِ وَرَدِّ مَا يَقُولُهُ مِنَ الحَقِّ، بَلْ إِنَّ جَرحَ العَالِمِ مَا هُوَ إِلاَّ جَرحٌ لِلعِلمِ الَّذِي مَعَهُ وَتَنَقُّصٌ لِلمِيرَاثِ الَّذِي بَينَ جَنبَيهِ، وَكَفَى بِذَلِكَ جَرحًا لِلنَّبيِّ -عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ- وَإِيذَاءً لَهُ وَانتِقَاصًا، وَكَفَى بِهِ إِيذَاءً لِلرَّبِّ -جَلَّ وَعَلا- وَإِغضَابًا لَهُ، وَقَد قَالَ -سُبحَانَهُ-: (إِنَّ الَّذِينَ يُؤذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللهُ في الدُّنيَا وَالآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُم عَذَابًا مُهِينًا * وَالَّذِينَ يُؤذُونَ المُؤمِنِينَ وَالمُؤمِنَاتِ بِغَيرِ مَا اكتَسَبُوا فَقَدِ احتَمَلُوا بُهتَانًا وَإِثمًا مُبِينًا).
وَمِنَ الآثَارِ: أَنَّ جَرحَ العُلَمَاءَ إِسقَاطٌ لِلقُدُوَاتِ الصَّالِحَةِ لِلأُمَّةِ، وَرَفعٌ لِلقُدُوَاتِ الزَّائِفَةِ السَّيِّئَةِ، ممَّا يُبعِدُ طُلاَّبَ العِلمِ عَنِ العُلَمَاءِ الرَّبَّانِيِّينَ، وَيُعَلِّقُهُم بِالجَاهِلِينَ وَالمُفسِدِينَ، وَحِينَئِذٍ يَسِيرُ الشَّبَابُ عَلَى غَيرِ هُدًى؛ فَيَتَعَرَّضُونَ لِلأَخطَارِ وَيَقَعُونَ في الأَخطَاءِ، وَلا يَسلَمُونَ مِنَ الشَّطَطِ وَالزَّلَلِ، وَمِن ثَمَّ يَكُونُونَ مَعَاوِلَ هَدمٍ وَعَوَامِلَ إِفسَادٍ.
وَمِن آثَارِ تَجرِيحِ العُلَمَاءِ وَتَقلِيلِ شَأنِهِم في نَظَرِ العَامَّةِ، وَإِذهَابِ هَيبَتِهِم وَإِنقَاصِ قِيمَتِهِم في صُّدُورِ الخَاصَّةِ: أَنَّ هَذَا أكبرُ خِدمَةٍ وَمُسَاعَدَةٍ يُمكِنُ أَن تُقَدَّمَ لأَعدَاءِ اللهِ؛ لِيُنَفِّذُوا مُخَطَّطَاتِهِم في تَغرِيبِ الأُمَّةِ وَإِبعَادِهَا عَن دِينِهَا، وَلِيَسهُلَ عَلَيهِم تَخرِيبُ البِلادِ وَإِفسَادُ العِبَادِ، وَلِيَتَمَكَّنُوا مِن غَزوِ الأَوطَانِ فِكرِيًّا وَتَدمِيرِهَا خُلُقِيًّا.
أَلا فَاتَّقُوا اللهَ -عِبَادَ اللهِ-: وَاعرِفُوا لِعُلَمَاءِ الشَّرِيعَةِ قَدرَهُم، وَعَظِّمُوا شَعَائِرَ رَبِّكُم (ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللهِ فَإِنَّهَا مِن تَقوَى القُلُوبِ).