البحث

عبارات مقترحة:

الرحمن

هذا تعريف باسم الله (الرحمن)، وفيه معناه في اللغة والاصطلاح،...

الحسيب

 (الحَسِيب) اسمٌ من أسماء الله الحسنى، يدل على أن اللهَ يكفي...

المجيد

كلمة (المجيد) في اللغة صيغة مبالغة من المجد، ومعناه لغةً: كرم...

وقفات مع سورة ق

العربية

المؤلف صالح المغامسي
القسم خطب الجمعة
النوع نصي
اللغة العربية
المفردات التربية والسلوك - المنجيات
عناصر الخطبة
  1. كثرة خطبة النبي صلى الله عليه وسلم بسورة ق .
  2. تأملات في سورة ق .
  3. متى يفرح العبد في الآخرة؟.
  4. القرآن هداية وذكرى للعالمين. .

اقتباس

المؤمن في طريقه إلى الله -جل وعلا- ينتابه الحزَن والسرور والصحة والمرض والشباب والشيخوخة والصغر من قبل، تنتابه أمور كثيرة ومطالب عظام، يزدلف حيناً إلى طاعات، يقع أحياناً في المعاصي، يستغفر ما بين هذا وذاك، يفقد أمواله، يفقد أولاده، يخاف يحزن إلى غير ذلك، مما يشترك فيه أكثر الناس، فيبقى الحزن في قلبه حتى يقف بين يدي الله -جل وعلا- ويُيمّن كتابه، ويرى الجنة قد قربت وأزلفت، فإذا دخلها نسي كل بؤس وحزن قد مر عليه قبل ذلك، جعلني الله وإياكم من أهل ذلك النعيم...

الخطبة الأولى:

الحمد لله الذي تقدست عن الأشباه ذاته، ودلت على وجوده آياته ومخلوقاته، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له خالق الخلق بما فيه، وجامع الناس ليوم لا ريب فيه، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله, نبي شرح الله له صدره، ورفع الله له ذِكره، ووضع الله عنه وزره، وجعل الذلة والصغار على من خالف أمره، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:  عباد الله:

فإن سورة (ق) سورة مكية النزول، طالما قرأها وتلاها وبيّن أسرارها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في خطب الجمعة على منبره، حتى حفظ بعض الصحابة هذه السورة من فيه الرطب صلوات الله وسلامه عليه. ولما كان لا هدي أكمل من هديه ولا طريق أقوم من طريقه، فإنه حري بكل من رغب في اتباع السنة والتماس الهدي النبوي أن يشرع بين الحين والآخر في ذكر ما في هذه السورة من عظيم الآيات، وجلائل العظات، وبالغ التخويف من رب العالمين جل جلاله لعباده.

أيها المؤمنون:

لا أحد أعلم بالله من الله -تبارك وتعالى-، ولا أحد أدل على الطريق الموصل إلى جنانه والمبعد عن نيرانه منه -تبارك وتعالى-، ولهذا أقسم الله -جل وعلا- في صدر هذه السورة بالقرآن وختم هذه السورة بقوله جل شأنه: (فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ) [ق45].

وإن المؤمن إذا كان على الفطرة قويماً مستقيماً على منهاج محمد -صلى الله عليه وسلم- كان لا يتأثر بشيء أعظم من تأثره بالقرآن. بالقرآن يجاهد المؤمن قال الله -جل وعلا-: (وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَاداً كَبِيراً) [الفرقان52]. وبالقرآن يقوم المؤمن بين يدي ربه (وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُوداً) [الإسراء79]، وبالقرآن يُخَوَّف من عصى الله (فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ).

جعله الله -جل وعلا- شرفاً لهذه الأمة في الدنيا والآخرة (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ) [الزخرف44]، والذكر هنا بمعنى الشرف العالي والمقام العظيم الذي أتاه الله نبيه -صلى الله عليه وسلم- بما أوحى إليه من هذا القرآن العظيم.

ثم أخبر -تبارك وتعالى- أن أعظم العجب الذي انتاب كفار قريش أنهم استكبروا أن يبعث رسول من بين أظهرهم يعرفهم ويعرفونه فقالوا مستكبرين كما قال الله -جل وعلا-: (بَلْ عَجِبُوا أَن جَاءهُمْ مُنذِرٌ مِّنْهُمْ) [ق2]، وهذه العلة في الرد هي العلة التي امتطتها الأمم من قبل فأكثر الأمم التي بعث إليها الرسل كان أكبر حجتهم في الرد على رسولهم أنهم اعترضوا أن يبعث الله -جل وعلا- بشراً رسولاً، فأخبر الله -تبارك وتعالى- أنه لو قُدّر أن ينزل الله -جل وعلا- ملكا لكان هذا الملك بشراً رسولاً يحمل أوصافهم ولبقي الأمر ملتبساً عليهم كما بقي في الأول ورسولنا -صلى الله عليه وسلم- كانت قريش تعرفه قبل أن يبعث تعرفه بأمانته وعفافه وطهره -صلوات الله وسلامه عليه- تعرف منشأه ومدخله ومخرجه، فليس لهم حجة في اعتراضهم عليه -صلوات الله وسلامه عليه-.

بل الأمر رحمة من الله محضة يضعها الله حيث يشاء قال جل ذكره: (وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) [الزخرف31]، فقال -تبارك وتعالى- مجيب لهم: (أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ) [الزخرف32]، فاقتضت رحمة الله -جل وعلا- وحكمته ومشيئته أن يكون محمد بن عبد الله -صلوات الله وسلامه عليه- خاتم الأنبياء وسيد الأولياء وأفضل الخلق أجمعين ولله -جل وعلا- الحكمة البالغة والمشيئة النافذة (بَلْ عَجِبُوا أَن جَاءهُمْ مُنذِرٌ مِّنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ) [ق2].

وكما اعترضوا على الرسول اعترضوا على الرسالة، وأعظم ما اعترضوا عليه إنكارهم للبعث والنشور، وأن العظام إذا بليت والأجساد إذا تقطعت سيكون لها بعد ذلك مبعث ونشور، كما أخبر الله -تبارك وتعالى- عنهم فقالوا: (أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ) [ق3]، فقال الحق -جل جلاله وعظم سلطانه-: (قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِندَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ) [ق4].

قال صلوات الله وسلامة عليه: "إن بني آدم خُلق من عجب الذنب منه خلق وفيه يركب فكل جسد بني آدم يبلى في قبره إلا عجب الذنب"، أجساد الشهداء أجساد حفاظ القرآن أجساد الصالحين أجساد غيرهم من الخلق أجمعين كُلها تبلى إلا أجساد الأنبياء قال -صلى الله عليه وسلم-: "إذا كانت ليلة الجمعة أو يومها فأكثروا من الصلاة علي قالوا: يا رسول الله كيف نصلي عليك وقد أرمت فقال: "إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء"، فخرجت أجساد الأنبياء بهذا الحديث الصحيح وبقي ما غيرها من الأجساد عرضه للبلاء والذهاب كما أخبر الله -تبارك وتعالى- ظاهراً في كتابه وكما بينته السنة الصحيحة الصريحة عن الرسول الهدى صلوات الله وسلامة عليه.

(قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِندَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ) ذلكم هو اللوح المحفوظ.

(حَفِيظٌ) أي محفوظ لا يتغير ولا يتبدل، حفيظ لا يشذ عنه شيء، حفيظ كتبته الملائكة بأمر من الرب -تبارك وتعالى- فما فيه لا يتغير ولا يتبدل إلى أن يقوم الخلق ويحضر الأشهاد بين يدي رب العباد -تبارك وتعالى-.

ثم ذكر جل شأنه بعض من عظيم خلقه وجلائل صنائعه فذكر السماء والأرض وإنزال المطر وإنبات الزرع، وأن ذلك كله لا يخلقه إلا الله -تبارك وتعالى- ومن تأمل في عظيم المخلوقات دلته بصيرته وبصره إلى رب البريات جل جلاله، فما أجمل أن تكون الأشياء من حولنا تدلنا على ربنا -تبارك وتعالى- قال الله -جل وعلا- عن القانتين من خلقه والمتقين من عباده: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ  * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) [آل عمران: 191]، فما عظمة المخلوق إلا دلالة على عظمة الخالق. وما جلالة المصنوع إلا دلالة على جلالة البارئ جل شأنه.

والله -تبارك وتعالى- ما من مخلوق إلا والله -جل وعلا- خالقه ومدبره فقير كل الفقر ذلك المخلوق إلى الله والله -جل وعلا- غني كل الغنى عن كل مخلوق خلق العرش وهو مستغني عن العرش خلق حملة العرش وهو -جل وعلا- مستغني عن حملة العرش خلق جبريل وميكائيل وإسرافيل، وملك الموت وغيرهم من الملائكة وهو -جل وعلا- مستغني كل الغنى عنهم، وهم أجمعون فقراء كل الفقر إلى ربهم -تبارك وتعالى-.

(اللّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ) [البقرة255]، فحياته جل شأنه حياة لم يسبقها عدم ولا يلحقها زوال، وقوله -جل وعلا- (الْقَيُّومُ) أي: قيوم السموات والأرض احتاج كل أحد إليه، واستغنى -جل وعلا- عن كل أحد سواه، لا إله إلا هو رب العرش العظيم.

ثم ذكر -جل وعلا- بعد ذلك الخصومة التي بين نبيه -صلى الله عليه وسلم- وبين كفار قريش اعترفوا أول الأمر أن الله هو خالقهم، ثم قالوا: إن الله غير قادر على أن يبعثنا فقال الله -جل وعلا-: (أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ) [ق15].

فهم متفقون على أننا قد خلقناهم أول مرة، لكن اللبس الذي في قلوبهم والشك الذي في صدورهم إنما هو ناجم عن إعادة البعث والنشور قال الله -جل وعلا- مجيباً العاص ابن وائل لما أخذ عظاماً بالية ووضعها في كفة ثم نفثها في وجه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو يقول: " أتزعم يا محمد أن ربك يعيد هذا بعد خلقه "، قال الله مجيباً له: (وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ  * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ  * الَّذِي جَعَلَ لَكُم مِّنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَاراً فَإِذَا أَنتُم مِّنْهُ تُوقِدُونَ * أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُم بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ) [يس81]، آمنا بالله الذي لا إله إلا هو قال الله: (أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ).

 ثم قال -جل وعلا-: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) [ق16]، وهذا قرب الله -جل وعلا- من عباده بملائكة بذلكم الرقيبين الذين يحصيان الكلمات ويعدان الأفعال. الذي عن اليمين يكتب الحسنات ويشهد على الآخر والذي عن الشمال يكتب السيئات ويشهد على الآخر، ثم يلتقيان مع صاحبهما بين يدي الله بين يدي من لا تخفى عليه خافية، فطوبى لعبد كانت سريرته خيراً له من علانيته. قال الله -جل وعلا-: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ *  إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ)، وهذا بيان للأول أي: (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ)حين يتلقى المتلقيان (إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ * مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) تمضي على ذلك أيامه وأعوامه وما كتب الله له من الحياة حتى يواجه سكرت الموت وكلما تلفظ به أمر مسطور مكتوب لا يغيب قال الله سبحانه: (وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ) [ق19] أي: تفر فلا يوجد أحد يلقي بنفسه إلى المهالك قال الله: (وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ).

وقف الصديق -رضي الله عنه- يواجه سكرة الموت وهو مضطجع في بيته فقالت الصديقة -رضي الله عنها- ابنته عائشة لما رأت أباها يواجه سكرت الموت تردد قولاً قديماً لحاتم طي:

لعمرك ما يغني الثراء عن الفتى

إذا حشرجت يوماً وضاق بها الصدر

فكشف الصديق وهو في سكرة الموت عن غطاءه وقال: " يا بنيه لا تقولي هذا ولكن قولي كما قال الله: (وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ)".

وسكرة الموت غرغرة الروح قبل أن تخرج من الجسد، فإذا خرجت سميت روحاً وإذا بقيت ما زالت نفساً وهي لحظات يواجهها كل أحد، ولو بدا لك بين عينيك أن الميت لا يواجه شيئاً من هذا، فكم من أمر مخفي لا يعلمه إلا الله، ويشتد الموت على الأنبياء؛ لأن الموت مصيبة، والمصيبة أعظم ما تكون على الصالحين وأولياء الله المتقين، وإن لم يبدُ ذلك ظاهرًا للعيان لمن كان محيطاً بالميت، لكن الميت حال نزع الروح يواجه من الأمور العظام ما الله بها عليم، ثم يخففه الله -جل وعلا- فتنزع روحه آخر الأمر نزعاً رفيقاً خفيفاً لعناية الرب -تبارك وتعالى- بأوليائه بعد أن تثبتهم الملائكة كما قال الله -جل وعلا- في فصلت: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ) [فصلت30 ].

(وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ * وَنُفِخَ فِي الصُّورِ) [ق19] أي مرت على الناس أهلة وأهلة وهم في قبورهم، ثم انتهى الأمر إلى الفناء العام فنفخ في الصور النفخة الأخرى فقام الناس بين يدي ربهم  (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ * وَجَاءتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ *  لَقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ) [ق22]، فليست حياة البرزخ ولا حياة الآخرة كحياة الدنيا فإن في الدنيا من الغيبيات ما الله به عليم وفي حياة البرزخ ينكشف الكثير من تلك الغيبيات، وفي حياة الآخرة يصبح الأمر كله عين اليقين يرى الإنسان ما كان يسمعه ويقرأه ويتلوه من كلام لله -عز وجل- وكلام رسوله -صلى الله عليه وسلم- وما أخبر به من الغيبيات يراه ماثلاً بين عينيه، قال الحق جل شأنه: (فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ) وهنا يقول قرينه ذلك الشيطان الذي أوكل إليه -والواو واو عطف-: (وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ) [ق23].

فيكون الخطاب الرباني: (أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ  * مَّنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُّرِيبٍ * * الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ) [ق26].

أيها المؤمنون:

لا ذنب يُلقى الله -جل وعلا- به أعظم من الشرك وهذا لا يغفره الله أبداً، أما المؤمنون فإن أول ما يُنظر فيما فعلوه ما بينهم وبين الله هو الصلاة فمن حافظ عليها فقد حفظ دينه ومن ضيعها فهو إلى ما سواها أضيع.

وأول ما ينظر إليه بين الناس والآخرين مسألة الدماء، فأول ما يقضي به بين الخلائق الدماء. في الدماء أول ما يقضي به بين العباد لما يتعلق بحال بعضهم ببعض والصلاة أول ما ينظر فيه مابين العبد وبين ربه، والشرك ذنب لا يغفره الله حرم الله -جل وعلا- على أهله الجنة.

ثم قال الله -جل وعلا-: (وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ * هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ) [ق32 ]، المؤمن في طريقه إلى الله -جل وعلا- يقول الله عنه: (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ) [البلد4 ]، ينتابه الحزَن والسرور والصحة والمرض والشباب والشيخوخة والصغر من قبل تنتابه أمور كثيرة ومطالب عظام يزدلف حيناً إلى طاعات يقع أحياناً في المعاصي، يستغفر ما بين هذا وذاك يفقد أمواله، يفقد أولاده يخاف يحزن إلى غير ذلك، مما يشترك فيه أكثر الناس، فيبقى الحزن في قلبه حتى يقف بين يدي الله -جل وعلا- ويُيمّن كتابه ويرى الجنة قد قربت وأزلفت فإذا دخلها نسي كل بؤس وحزن قد مر عليه قبل ذلك جعلني الله وإياكم من أهل ذلك النعيم.

قال الله -جل وعلا-: (وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ). (هَذَا) أي الذي ترونه (مَا تُوعَدُونَ) أي ما كنتم توعدونه في الدنيا (هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ). (أَوَّابٍ) دائم التوبة والإنابة والاستغفار لله -جل وعلا- حفيظ لجوارحه أن تقع في الفواحش مما حرم الله مما ظهر منها أو بطن (هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ).

ذكر الله -جل وعلا- النار قبلها وأنها يلقى فيها حتى تقول قطٍ قطٍ أي يكفي يكفي قال الله -جل وعلا- قبل ذلك: (يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ *  وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ * هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ * مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَن بِالْغَيْبِ وَجَاء بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ) [ق33 ].

ما القول الذي يقال لهم يقول لهم العلي الأعلى: (ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ) [ق34]، والموت أعظم ما يخوف به الناس في الدنيا ولأجل ذلك يُلقى ويذهب عنهم يوم القيامة، قال الله -جل وعلا-: (ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ * لَهُم مَّا يَشَاؤُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ) [ق35 ]، وأعظم ما فُسر به المزيد رؤية وجه الله -تبارك وتعالى- .

اللهم إنا نسألك في مقامنا هذا لذة النظر إلى وجهك والشوق إلى لقائك في غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم..

الخطبة الثانية:

الحمد الله وكفى، والسلام على عباده الذين اصطفى، ثم قال جل ذكره: (وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّن قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُم بَطْشاً فَنَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ هَلْ مِن مَّحِيصٍ *  إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ) [ق37 ].

وإن من دلائل العقل والاتعاظ والإيمان أن ينظر الإنسان في الأمم الغابرة والأيام الخالية فينظُر إلى صنيع الله -جل وعلا- فيمن عصاه ورحمته -تبارك وتعالى- فيمن أطاعه واتبع هداه.

ثم ذكر -جل وعلا- رداً على اليهود التي زعمت أن الله بدأ الخلق يوم الأحد وانتهى يوم الجمعة واستراح يوم السبت، تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً، فقال جل ذكره ممجّداً نفسه ومادحاً ذاته العلية: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ) [ق38].

ثم أمر نبيه بالصبر على ما يقوله أعدائه (فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ) ولابد للصبر من مطيه ألا وأعظم المطايا ذكر الله -تبارك وتعالى- والوقوف بين يديه مناجاة ودعاء قال الله -جل وعلا-: (فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ) [ق39].

ثم قال جل شأنه بعد أن دعا نبيه إلى كثرة الصلاة والذكر على القول بأن التسبيح هنا الصلاة وعلى القول بأنه الذكر المطلق والمقيد وهو أظهر والعلم عند الله (وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ) [ق41].ذ 

(وَاسْتَمِعْ) هذا نداء لكل من يقرأ القرآن والمنادي هو إسرافيل عليه السلام والمكان القريب بيت المقدس سمي قريباً؛ لأنه قريب من مكة وهذه السورة نزلت في مكة وليست بيت المقدس عن مكة ببعيد.

(وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ * يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ) [ق42]. ينادي أيتها العظام البالية أيتها الأوصال المتقطعة، إن الله يدعكن لفصل القضاء فتجتمع الأجساد وتدب فيها الأرواح بعد أن تخرج من مستقرها ويخرج الناس لرب العالمين قال جل ذكره: (يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ * يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعاً ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ * نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ) [ق45]. سواء جهروا به أو لم يجهروا فالقلوب له مفضية والسر عنده علانية وليس عليك أيها النبي إلا البلاغ، فقال الله -جل وعلا- له: (فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ) [ق45].

عوداً على بدء كما أقسم الله بقرآنه العظيم ختم السورة به كما بيناه في أول خطبتنا وذلك أن القرآن جعله الله -جل وعلا- هدى ونوراً لهذه الأمة :

جاء النبيون بالآيات فانصرمت 

وجئتنا بحكيم غير منصرمٍ

آياته كلما طال المدى جددٌ

يزينهن جلال العتق والقدمٍ

فصلوا وسلموا على من أنزل إليه هذا القرآن (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) [الأحزاب56]. اللهم صلّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد. وارض اللهم عن أصحاب نبيك أجمعين بلا استثناء، وخص اللهم منهم الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء وارحمنا اللهم برحمتك معهم يا ذا الجلال والإكرام واغفر اللهم لنا في جمعتنا هذه أجمعين، اللهم ووفق ولي أمرنا بتوفيقك وأيده بتأييدك  اللهم وفقه لهداك وجعل عمله في رضاك.

 اللهم أصلح أحوال أمة محمد -صلى الله عليه وسلم- في كل مكان، اللهم إنا نسألك الإيمان والعفو عما مضى وسلف وكان من الذنوب والآثام والعصيان، اللهم من روع أهل مدينة رسولك -صلى الله عليه وسلم- فمكن منه وأخذله يا رب العالمين.

 اللهم استر عوراتنا وآمن روعاتنا. اللهم استر عوراتنا وآمن روعاتنا. اللهم استر عوراتنا وآمن روعاتنا، اللهم إنا نسألك الهدى والتقوى والعفاف والغنى والفوز بالجنة والنجاة من النار. اللهم إنا نسألك الفردوس الأعلى من الجنة. اللهم إنا نسألك الفردوس الأعلى من الجنة. اللهم إنا نسألك الفردوس الأعلى من الجنة.

عباد الله: إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون، فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.