العفو
كلمة (عفو) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فعول) وتعني الاتصاف بصفة...
العربية
المؤلف | باحثو مركز أصول |
القسم | موسوعة الشبهات المصنفة |
النوع | صورة |
اللغة | العربية |
المفردات | الإيمان بالرسل |
مضمونُ السؤال:
الاعتراضُ على صحَّةِ وجودِ النبوَّةِ وكمالِها؛ بأنها لو صحَّت، فيُفترَضُ وجودُها في كلِّ زمانٍ ومكانٍ لأهمِّيَّتِها، ومع ذلك فقد نُقِلَ افتقادُها في أمكنةٍ كثيرةٍ مِن العالَم؛ لتركُّزِها في مِنطَقةٍ محدودةٍ.
مختصَرُ الإجابة:
جميعُ الافتراضاتِ المذكورةِ في السؤالِ افتراضاتٌ عقليَّةٌ غيرُ مبرهَنةٍ، والعاقلُ يوازِنُ بين هذه الافتراضاتِ، وبين ما يجدُهُ عند المسلِمين مِن آياتٍ وبراهينَ على صدقِ النبيِّ ^،
واستحالةِ أن يكونَ ما جاء به مِن عندِ أحدٍ مِن الخلق، ويُدرِكُ مِقْدارَ الفرقِ بينهما، وينكشِفُ له وَهَاءُ هذه الشبهة.
ثم افتقادُها هو افتقادٌ نسبيٌّ، وله حِكَمٌ، ولمَن لم تبلُغْهم النبوَّةُ أحكامٌ خاصَّةٌ، وكلُّ ذلك لا يَقدَحُ في صحَّةِ النبوَّة:
فإن عدمَ العلمِ بوجودِ الأنبياءِ خارجَ مِنطَقةِ البحرِ المتوسِّطِ، ليس عِلمًا بعدَمِهم، وليس ثَمَّةَ دليلٌ على أن النبوَّةَ لم يكن لها وجودٌ عند الأممِ السابقةِ خارجَ مِنطَقةِ البحرِ المتوسِّط.
كما أن ثَمَّةَ إشاراتٍ على وجودِ النبوَّةِ عند الأممِ السابقةِ خارِجَ مِنطَقةِ البحرِ المتوسِّط؛ كما في بلادِ الصِّينِ، واليُونانِ، والهندِ؛ وهذه الإشاراتُ لا تَقِلُّ أهميَّةً في دَلالتِها على إثباتِ النبوَّة،
وانتشارِ خبَرِها، عن دَلالةِ عدَمِ ذِكرِ المؤرِّخين للنبوَّةِ بالمعنى المعروفِ عند أهلِ الأديان؛ فلماذا يُعتمَدُ على تلك الدَّلالات، ولا يُعتَدُّ بما هو مِثلُها؟!
هذه الشبهةُ طعنٌ في أفعالِ اللهِ تعالى وحكمتِهِ في بابِ النبوَّات؛ بناءً على مقدِّماتٍ خاطئةٍ، لا يُسنِدُها دليلٌ، وكشفُها يحتاجُ إلى بيانِ وَهَاءِ مستنَداتِها، ومعارضَتِها بما هو أقوى منها،
وبيانُ ذلك تفصيلًا مِن وجوهٍ:
1- عدمُ العلمِ بوجودِ الأنبياءِ خارجَ مِنطَقةِ البحرِ المتوسِّطِ ليس عِلمًا بعدَمِهم:
فحين وجَدَ بعضُ الناقِدين أن التاريخَ القديمَ لا يتضمَّنُ معلوماتٍ عن النبوَّةِ والأنبياءِ في بعضِ البلدان، جعَل ذلك دليلًا على عدمِ وجودِ النبوَّةِ مِن حيثُ الأصلُ؛ وهذا مَسلَكٌ استدلاليٌّ خاطئٌ،
متنافٍ مع طريقِ الاستدلالِ الصحيحِ؛ فإن غايةَ ما يدُلُّ ذلك الدليلُ: هو عدمُ العِلمِ بوجودِ النبوَّة، ولكنَّ عدمَ العِلمِ ليس دليلًا على العدَم؛ فمَن لم يكن يَعلَمُ بوجودِ الأنبياءِ في الأممِ القديمةِ،
فهذا ليس عِلمًا منه بعدَمِ وجودِهم.
ومما يَزيدُ مِن وضوحِ هذا المعنى وقوَّتِهِ: أن التاريخَ القديمَ للأممِ لم يُحفَظْ كلُّه، ووسائلُ التوثيقِ المتعلِّقةُ به ضعيفةٌ جِدًّا، فجميعُ تاريخِ الأممِ السابقةِ يتَّصِفُ بالفقرِ الشديدِ في المعلوماتِ التاريخيَّةِ المتعلِّقةِ به.
ثم إن المؤرِّخين إنما يرتكِزُ نظَرُهم على الأحداثِ العظيمة، والشخصيَّاتِ الشهيرةِ التي كان لها تأثيرٌ ظاهرٌ في الشعوب؛ كالملوكِ والأمراءِ والعظماء،
والأنبياءُ قد لا يكونون كذلك؛ فقد لا يتَّبِعُ النبيَّ إلا رجُلٌ أو رجُلان، وقد لا يتَّبِعُهُ أحدٌ، وقد يكونون مضطهَدِين مِن الملوكِ وغيرِهم، فلا يكونُ لهم شأنٌ كبيرٌ مؤثِّرٌ في مجتمَعاتِهم.
2- ليس ثَمَّةَ دليلٌ على أن النبوَّةَ لم يكن لها وجودٌ عند الأممِ السابقةِ خارجَ مِنطَقةِ البحرِ المتوسِّط:
فنحن - المسلِمين - لدينا مصدرٌ موثوقٌ لا شكَّ فيه، وهو خبَرُ اللهِ تعالى في القرآنِ، وخبَرُ نبيِّه ^ في السُّنَّة؛ فقد قامَتِ الأدلَّةُ والبراهينُ الكثيرةُ على صِدقِ ذلك الخبر،
وقد أخبَرَنا اللهُ أنه ما مِن أُمَّةٍ إلا وقد جاءها نذيرٌ؛ كما في
قولِهِ تعالى:
﴿إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ﴾
[فاطر: 24]،
وقال تعالى:
﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ﴾
[النحل: 36].
وإذا اعتبَرْنا قوانينَ الاستدلالِ الصحيحةَ، فإنه لا يَصِحُّ البتَّةَ تركُ الخبَرِ الصحيح، أو التشكيكُ فيه؛ لمجرَّدِ عدمِ ذِكْرِ المؤرِّخين القدماءِ للنبوَّةِ في أقوامِهم؛
فالمسلِمُ لدَيْهِ عِلمٌ يقينيٌّ بصحَّةِ الخبَرِ الذي جاء في النصوصِ الشرعيَّة، وعنده أدلَّةٌ ظاهرةٌ عقليَّةٌ يقينيَّةٌ متضافِرةٌ على صدقِه،
وليس لدَيْهِ في المقابِلِ إلا أبحاثٌ قائمةٌ على معلوماتٍ ناقصةٍ لم تَصِلْ إلى إثباتِ عدَمِ وجودِ النبوَّة،
وإنما غايةُ ما وصَلتْ إليه: عدمُ العِلمِ بالوجود؛ فتعارَضَ عنده عِلمٌ إثباتيٌّ يقينيٌّ، وعِلمٌ لم يُثبِتْ إلا الجهلَ بالوقوعِ؛ فالعقلُ يُوجِبُ عليه تقديمَ العِلمِ الإثباتيِّ بلا تردُّدٍ ولا تشكُّك.
3- ثَمَّةَ إشاراتٌ على وجودِ النبوَّةِ عند الأممِ السابقةِ خارِجَ مِنطَقةِ البحرِ المتوسِّط:
إن الباحثَ إذا قام بالتنقيبِ في تاريخِ الأممِ القديمةِ، فإنه لا يَعدَمُ أن يجدَ إشاراتٍ تدُلُّ دَلالةً لا بأسَ بها على وجودِ أصلِ النبوَّةِ، وفِكْرتِها الرئيسةِ، وهي الاتِّصالُ بين السماءِ والأرض، أو مخاطَبةُ اللهِ لمَن في الأرض:
فمع أن عددًا مِن الدارِسين ذهَبَ إلى أن (كُونْفُوشْيُوسَ) الذي ظهَرَ في القرنِ السادسِ قبل الميلادِ في «بلادِ الصِّينِ»، لم يكن نبيًّا، إلا أنهم ذكَروا إشاراتٍ مِن كلامِهِ تدُلُّ على وجودِ خبرِ النبوَّةِ في زمانِه:
فقد ذكَرَ بعضُ الدارِسين: أن استقراءَ كُتُبِهِ يدُلُّ على أنه كان يُحِسُّ بأن السماءَ قد استودَعَتْهُ رسالةَ إبراءِ العالَمِ الصِّينيِّ مِن أوجاعِه، وأن مَن في السماءِ لن يخذُلَه، وأنه يأمُلُ بمَن في السماءِ أن يُعِينَهُ ويساعِدَه.
والمقصودُ لدى (كُونْفُوشْيُوسَ): قوَّةٌ كونيَّةٌ مبهَمةٌ.
ولاحَظَ بعضُ الدارِسين: أن الفِكرَ الصِّينيَّ كانت تَشِيعُ فيه فكرةُ أن المَلِكَ ابنُ السماء، وأن حُكمَ الإقطاعيِّين مستمَدٌّ مِن السماء.
وهذه الإشاراتُ ليست صريحةً في إثباتِ النبوَّة؛ كما عند أتباعِ الأديانِ المنزَّلةِ الكبرى، ولكنها تتضمَّنُ إشاراتٍ لا بأسَ بها في الدَّلالةِ على وجودِها، أو وجودِ خبَرِها عندهم.
وكذلك نجدُ في «الفِكْرِ اليُونانيِّ» إشاراتٍ متعدِّدةً يُمكِنُ أن تكونَ دالَّةً على وجودِ معنى النبوَّةِ وخبَرِها عندهم؛ فقد كان رُوَّادُ الفِكرِ الإغريقيِّ قبل الميلادِ يعتقِدون أن الكَهَنةَ في المعابِدِ وزراءُ الإلهِ الذي يخدُمُونه، وأنه يَحْميهم ويُعِينُهم.
ونقَلَ عددٌ مِن الباحِثين عن سُقْراطَ: أنه كان يدَّعي النبوَّةَ، وأن الإلهَ قد أرسَلهُ؛ لهدايةِ أبناءِ مدينتِهِ وإنقاذِهم، والكشفِ لهم عن الفضيلةِ الكامنةِ في نفوسِهم.
وتوصَّل بعضُ الدارِسين: إلى أن اليُونانَ كانوا يُقِرُّون بفِكرَتِي «الوحيِ»، و«الإلهامِ»، اللَّذَيْنِ تَفِيضُ بهما الآلهةُ على بعضِ المصطَفَيْنَ مِن البشَر.
وبعد أن درَسَ بعضُ الباحِثين الإِلْياذةَ، توصَّل إلى أنها تدُلُّ على أن هناك أُناسًا تَصْطفيهم بعضُ الآلهةِ، وتحادِثُهم وتَرْعاهم مما يحدُثُ.
فهذه الأخبارُ المنقولةُ عن الفِكْرِ الإغريقيِّ، ليست صريحةً في الدَّلالةِ على وجودِ النبوَّةِ بالمعنى المعروفِ عند أهلِ الأديانِ المنزَّلة، ولكنها تتضمَّنُ إشاراتٍ لا بأسَ بها في الدَّلالةِ على وجودِ فِكرةِ النبوَّةِ عندهم، أو خبَرِها.
وأما «بلادُ الهندِ»: فإن النبوَّةَ فيهم أظهَرُ مِن بلادِ الصِّينِ والإغريقِ؛ فكتُبُ الهِندُوسِ المقدَّسةُ: تنُصُّ على بَعْثةِ أربعةٍ وعشرينَ نبيًّا، وقد ظهَروا جميعًا إلا الرابعَ والعشرين، وهم ينتظِرون ظهورَهُ، وقد سمَّوْا أولئك الأنبياءَ، وحدَّدوا وظيفةَ كلِّ نبيٍّ.
وهذه الإشاراتُ لا تَقِلُّ أهميَّةً في دَلالتِها على إثباتِ النبوَّة، وانتشارِ خبَرِها، عن دَلالةِ عدَمِ ذِكرِ المؤرِّخين للنبوَّةِ بالمعنى المعروفِ عند أهلِ الأديان؛ فلماذا يُعتمَدُ على تلك الدَّلالات، ولا يُعتَدُّ بما هو مِثلُها؟!
إننا إذا تأمَّلْنا ما يعتمِدُ عليه المعترِضون، لا نجدُهُ علمًا حقيقيًّا مبنيًّا على معلوماتٍ متوافِرة، وإنما غايةُ ما لدَيْهم: معلوماتٌ ناقصةٌ تُفيدُ عدمَ العِلمِ بوجودِ النبوَّة؛ وهذا القدرُ ليس بأعلى مِن تلك الإشاراتِ الدالَّةِ على وجودِ خبَرِ النبوَّةِ عند تلك الأُمَم.