التواب
التوبةُ هي الرجوع عن الذَّنب، و(التَّوَّاب) اسمٌ من أسماء الله...
العربية
المؤلف | باحثو مركز أصول |
القسم | موسوعة الشبهات المصنفة |
النوع | صورة |
اللغة | العربية |
المفردات | الإيمان بالرسل |
الإنسانُ محتاجٌ إلى النبوَّةِ، وهناك أدلَّةٌ كثيرةٌ تُثبِتُ حاجةَ البشَريَّةِ إلى النبوَّة؛ فلا يستغني عنها الإنسانُ عن النبوَّةِ بعقلِه؛ لأنه بلا نبوَّةٍ يَزِلُّ عقلُ العاقلِ،
وينحرِفُ خُلُقُ الطامعِ في الاستقامةِ، وتذبُلُ الرُّوحُ؛ إذْ تَشْقى بظَمَئِها الفِطْريِّ إلى معرفةِ خالقِها، وجميعُ اعتراضاتِ المنكِرين لحاجةِ البشَرِ إلى النبوَّةِ،
مردودٌ عليها مِن جهاتٍ عدَّة؛ فلا يُمكِنُ الاستغناءُ عن النبوَّةِ بالعقلِ الإنسانيِّ، ولا بالضميرِ الإنسانيِّ، ولا بالعِلمِ التجريبيِّ الحديث.
ومعلومٌ أنه كلَّما كان الناسُ إلى الشيءِ أحوَجَ، كان الربُّ تعالى به أجوَدَ؛ ولذا كانت النبوَّةُ ضرورةً لا بدَّ منها؛ فلا نُورَ إلا لِمَا سطَعَتْ عليه شمسُ النبوَّة.
فإن الرسالةَ ضروريَّةٌ للعبادِ لا بدَّ لهم منها، وحاجتُهم إليها فوقَ حاجتِهم إلى كلِّ شيءٍ، والرسالةُ رُوحُ العالَمِ ونُورُهُ وحياتُهُ؛
فأيُّ صلاحٍ للعالَمِ إذا عَدِمَ الرُّوحَ والحياةَ والنُّور؟! والدنيا مظلِمةٌ ملعونةٌ إلا ما طلَعَتْ عليه شمسُ الرسالة، وكذلك العبدُ: ما لم تُشرِقْ في قلبِهِ شمسُ الرسالةِ،
وينالُهُ مِن حياتِها ورُوحِها، فهو في ظُلْمةٍ، وهو مِن الأموات.
حاجةُ البشَريَّةِ إلى النبوَّةِ ضروريَّةٌ وشديدة، ويُمكِنُ إجمالُ النقاطِ التي تنحصِرُ فيها ضرورةُ النبوَّةِ - مع اعتراضاتِ المنكِرين لحاجةِ البشَرِ إلى النبوَّةِ، والردِّ عليها - في التالي:
أوَّلًا: الأدلَّةُ التي تُثبِتُ حاجةَ البشَريَّةِ إلى النبوَّة:
الدليلُ الأوَّلُ: ضرورةُ خضوعِ النوعِ الإنسانيِّ لقوَّةٍ أكبَرَ منه، متجاوِزةً للزمانِ والمكان:
النوعُ الإنسانيُّ لا بدَّ أن يكونَ خاضعًا للهِ تعالى، وعابدًا له، ومتذلِّلًا لجلالِ اللهِ وجبَروتِهِ؛ لأن الإنسانَ جزءٌ مِن المخلوقات، وكلُّ مخلوقٍ لا بدَّ أن يكونَ تابعًا لخالقِه، وخاضعًا له، ولما كان الإنسانُ كائنًا مجبولًا على التقصيرِ والنِّسْيان، تأكَّدتِ الضرورةُ للنبوَّة؛ لتذكيرِ الإنسانِ بخضوعِهِ لربِّه، واستسلامِهِ لمولاه، وتثبيتِهِ على ذلك.
الدليلُ الثاني: النفسُ البشَريَّةُ متعلِّقةٌ بالعلمِ باللهِ العظيم:
اللهُ تعالى هو أَعْلى الموجوداتِ، وأكمَلُها وأجَلُّها، وهو الخالقُ للكون، والمتَّصِفُ بالكمالِ المطلَق، والنفوسُ البشَريَّةُ مجبولةٌ على التشوُّفِ إلى معرفتِهِ، والازديادِ مِن العلمِ به، والتعرُّفِ على أسمائِهِ وصفاتِهِ وكمالاتِه؛ لأن النفسَ مجبولةٌ على التعلُّقِ بالكمال، والتشوُّفِ إلى الاقترابِ منه.
ولهذا كان العِلمُ باللهِ تعالى أفضلَ العلومِ وأشرَفَها؛ وذلك لأن شرَفَ العلمِ بشرَفِ المعلوم، والنفوسُ الإنسانيَّةُ إذَنْ متعلِّقةٌ بالعلمِ بالله، ومتشوِّفةٌ إليه غايةَ التشوُّف؛ لكمالِهِ وجلالِهِ ولكونِهِ خالقَ هذا الكونِ بعد العدَم، ولما كان الإنسانُ متَّصِفًا بالقصورِ في عقلِهِ، وعلمِهِ، وموضوعيَّتِهِ - فإن الكمالَ الإلهيَّ في الحكمةِ والرحمةِ والعدلِ يقتضي أن اللهَ يضَعُ طريقًا مأمونًا للحصولِ على العلمِ به؛ فكانت الضرورةُ إلى وجودِ النبوَّة.
الدليلُ الثالثُ: ضرورةُ وجودِ صِلَةٍ بين المخلوقِ وخالقِه:
كما أن الإنسانَ لا يُمكِنُهُ أن ينفصِلَ عن الخضوعِ لخالقِه؛ فهذا يدُلُّ على أنه لا بدَّ أن يكونَ بينه وبين خالقِهِ اتِّصالٌ دائم؛ لأنه يتعذَّرُ عليه الانفصالُ عن الافتقارِ إليه.
وهذه العَلَاقةُ الشريفةُ بين الإنسانِ وربِّه لها قوانينُ ومعانٍ تقومُ عليها، والإنسانُ قاصرٌ عن معرفةِ جميعِ المعاني التي تتناسَبُ مع أقرانِهِ مِن الناس، ويَجهَلُ كثيرًا مِن الأمورِ التي يُحِبُّها أو يُبغِضُها بنو جنسِه؛ فكيف باللهِ العظيم؟!
ولذا فمصدرُ ضبطِ هذه العَلَاقةِ والصلةِ بين العبدِ وربِّهِ: هو النبوَّةُ، وإلا فستَجِدُ مِن الناسِ مَن ضَلَّ الطريقَ؛ فعبَدَ الشمسَ والكواكبَ والبقَرَ والنارَ وغيرَها؛ وهذا لأنهم اعتمَدوا على عقولِهم وأذواقِهم في ضبطِ العَلَاقةِ بينهم وبين الله؛ فانظُرْ كيف ضلُّوا الطريقَ، وتفرَّقتْ بهمُ الآراءُ في كلِّ اتجاهٍ، وذهَبتْ بهم الأقوالُ كلَّ مذهبٍ؟!
فلا مصدرَ إذَنْ لضبطِ هذه العَلَاقةِ ضبطًا يتناسَبُ مع عقلِ الإنسان وفطرتِهِ إلا المصدَرُ الإلهيُّ نفسُه.
فالنبوَّةُ تعلِّمُ الناسَ ما يحبُّهُ اللهُ ويُرْضيهِ سبحانه، وما يُغضِبُهُ ويُوجِبُ سخَطَهُ وعذابَه، وكيف تكونُ العبادةُ له والخضوعُ لأمرِه؛ وهذا مِن مظاهرِ رحمةِ اللهِ بالناسِ؛ كما في
قولِهِ تعالى:
﴿لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾
[آل عمران: 164].
الدليلُ الرابعُ: حاجةُ الإنسانِ إلى موازينَ يَعرِفُ بها الصالحَ مِن الفاسد:
لا شكَّ أن الإنسانَ قد فُضِّلَ على سائرِ المخلوقاتِ المعلومة، وميَّزه اللهُ بالعقل، وفطَرهُ على البحثِ عن العِلَلِ والغايات، وشرَّفه على سائرِ الخلق، وهذا يترتَّبُ عليه كثرةُ الأفعالِ الصادرةِ عنه، وتنوُّعُها؛ فالإنسانُ قد وهَبهُ اللهُ قُدْرةَ ومَلَكةَ الاختيارِ لأفعالِه، وهذا يَقْتضي أن اللهَ تعالى لا يترُكُهُ هكذا بلا مِعْيارٍ عادلٍ يَضبِطُ الإنسانُ به أفعالَهُ، وموازينَ يَعرِفُ بها الصالحَ مِن الفاسد.
والعقلُ البشَريُّ قاصرٌ عن أن يقدِّمَ معيارًا شاملًا يستوعِبُ كلَّ التصرُّفاتِ البشَريَّة، وقد أشار القرآنُ إلى هذا المعنى في
قولِهِ تعالى:
﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ﴾
[الحديد: 25].
فالإنسانُ محتاجٌ إلى مَن لدَيْهِ علمٌ تفصيليٌّ يبيِّنُ له التفاصيلَ المؤثِّرةَ التي يَجهَلُها؛ فالناسُ قد يُمكِنُهم معرفةُ أصولِ المنافعِ والمضارِّ على جهةِ الإجمالِ؛ فيحتاجون إلى مَن لدَيْهِ علمٌ تفصيليٌّ بها؛ لكي يحدِّدَ لهم تفاصيلَ ما يحصُلُ به النفعُ، وما يحصُلُ به الضرَرُ، وهم الأنبياءُ الذين تلقَّوُا الوحيَ والعلمَ مِن عندِ اللهِ تعالى.
ثانيًا: اعتراضاتُ المنكِرين لحاجةِ البشَرِ إلى النبوَّةِ، والردُّ عليها:
الاعتراضُ الأوَّلُ: مَن يزعُمُ بأن «العقلَ الإنسانيَّ» كافٍ لإصلاحِ جميعِ شؤونِ الحياةِ الإنسانيَّة:
وهذه الدعوى قديمةٌ جِدًّا، وحديثًا: هناك دعَواتٌ كثيرةٌ كادت أن تشبِّهَ العقلَ بالإلهِ، وجعَلوهُ الحكَمَ الذي لا معقِّبَ لحُكْمِه، والمِيزانَ الذي لا جَوْرَ فيه ولا انحرافَ.
وهذا قولٌ باطلٌ بلا شكٍّ؛ فإن مجالَ النبوَّةِ متجاوِزٌ لمجالِ العقلِ البشَريِّ القاصر؛ فهي تُخبِرُ عن الغيوبِ المتعلِّقةِ بإرادةِ اللهِ، ومحبَّتِهِ، ومشيئتِهِ، وأفعالِهِ، وما يُعِدُّهُ اللهُ تعالى مِن الثوابِ للطائِعين، والعقابِ لمَن كفَرَ به وعصاه؛ فمِن أين للعقلِ أن يَلِجَ إلى مثلِ هذا؟!
ولك العِبْرةُ في أتباعِ نَزْعةِ التنويرِ في الفكرِ الغربيِّ، حين طَفِقوا يبشِّرون الناسَ بأنهم إذا تخلَّوْا عن الأديانِ المنزَّلة، واعتمَدوا على عقولِهم في بناءِ حياتِهم، وتشييدِ أنظِمَتِهم، سيَصِلون حتمًا إلى النعيمِ المُقِيم، والحياةِ الفاضلة؛ فما كان منهم إلا أن دخَلوا في فَوْضى عارمةٍ مِن الانقساماتِ الفكريَّة، والتشتُّتِ المعرفيّ، ولم تتحقَّقْ للإنسانيَّةِ الحياةُ الرغيدةُ التي وعَدوا بها.
الاعتراضُ الثاني: مَن يزعُمُ بأن «الضميرَ الإنسانيَّ» كافٍ في إصلاحِ الإنسانِ في جميعِ شؤونِهِ، وفي ضبطِ علاقتِهِ مع الله؛ كما ادَّعى ذلك الفيلسوفُ الفَرَنْسيُّ (جان جاك رُوسُّو) في كتابِهِ: «دِينُ الفِطْرة»؛ حيثُ قال: «لن أستنبِطَ تلك الضوابطَ مِن فلسفةٍ متعالِيَةٍ، بل سأَكشِفُها في سِرِّ قلبي، كما كتَبَتْها الطبيعةُ بحروفٍ راسخةٍ، أستشيرُ قلبي في كلِّ نازِلةٍ: ما استشعَرْتُهُ خيرًا، فهو خيرٌ، وما بدا لي شرًّا، فهو شرٌّ، أصدَقُ دليلٍ هو الضميرُ».
وهذا في الحقيقةِ: لا يختلِفُ عن الزعمِ السابقِ؛ فإن (جان جاك رُوسُّو)، حين رأى الآثارَ المدمِّرةَ التي يُمكِنُ أن تترتَّبَ على الدعوةِ إلى الاعتمادِ الخالصِ على العقلِ -: حاوَلَ أن يأتيَ بمصدرٍ جديدٍ يتخلَّصُ به مِن تلك الآثار؛ فابتكَرَ «مفهومَ الضميرِ»، ولكنه لم يبيِّنْ لنا حقيقةَ مقصودِهِ بـ «الضمير»، ولم يحدِّدْ معالمَهُ وقوانينَهُ، ولم يَكشِفْ عن منطلَقاتِهِ ومستنَداتِه؛ فهو - في الحقيقةِ - لم يأتِ ببديلٍ جديدٍ مختلِفٍ في قُدُراتِهِ ومصادرِهِ وطبيعتِهِ عن العقل؛ فحكمُ البديلِ الذي أتى به هو نفسُ حكمِ العقلِ، ولا فَرْقَ.
الاعتراضُ الثالثُ: مَن يزعُمُ بأن «العِلمَ التجريبيَّ الحديثَ» كافٍ في إصلاحِ الحياةِ، ولا حاجةَ للنبوَّةِ؛ وهذه هي الرُّوحُ السائدةُ في الفكرِ الغَرْبيِّ الحديث، وأن الإنسانَ يستطيعُ بالعِلمِ تأسيسَ كلِّ الأنظمةِ الاجتماعيَّةِ، والسياسيَّةِ، والنفسيَّةِ، والأخلاقيَّةِ، التي تسيِّرُ الحياةَ الإنسانيَّة.
ووجهُ فسادِ هذا الزعمِ: أن وظيفةَ الأنبياءِ الحقَّةَ: هي إرشادُ الناسِ إلى أمورٍ جليلةٍ عظيمةٍ، لا يُمكِنُهم البلوغُ إليها إلا بالخبَرِ مِن اللهِ تعالى، وليست وظيفةُ الأنبياءِ إرشادَ الناسِ إلى ما يُمكِنُهم إدراكُهُ بعقولِهم، أو بجُهْدِهِمُ الإنسانيّ.
فإن مِن أعظمِ وظائفِ الأنبياءِ تعريفَ الناسِ بخالِقِهم وبصفاتِه، وبكمالِهِ وجلالِه، وتعريفَهم بالأعمالِ التي تَضبِطُ عَلاقَتَهم مع اللهِ كما بيَّنَّا، وما يُصلِحُ آخِرتَهم ومآلَهم بعد الموت.
فالنبوَّةُ إذَنْ تتعلَّقُ - مِن حيثُ الأساسُ - بمجالاتٍ لا يُمكِنُ الوصولُ إليها تفصيلًا إلا عن طريقِ النبوَّةِ فقطْ، وتَلِجُ في قضايا مُغلَقةٍ أمامَ كلِّ الطرُقِ إلا طريقَها.
فمِن أين للعِلمِ أن يأتيَ بما فيه معرفةُ اللهِ وما يقرِّبُ منه؟! وكيف تكونُ عبادتُه؟! فعبادةُ اللهِ هي علَّةُ وجودِ الخلقِ في هذه الدنيا.
وحياةُ الإنسانِ لا شَكَّ أنها أوسعُ بكثيرٍ مِن أن يستوعِبَها منهجٌ تجريبيٌّ لا يُمكِنُهُ إدراكُ ما خرَجَ عن الأمورِ الحسِّيَّةِ في هذا العالَمِ المشهودِ، بل العلمُ الحديثُ قاصرٌ عن الإحاطةِ بالكونِ الحسِّيِّ؛ فكيف سيُمكِنُهُ فهمُ وإدراكُ ما هو أعلى منه وأجلُّ؛ وهو عالَمُ الغيب؟!
فهذا المَسلَكُ العِلْمَويُّ - حتمًا ولا شكَّ - له آثارٌ بالغةُ الخطورةِ؛ إن اعتمَدَ الإنسانُ عليه فقطْ في حياتِه، وسيؤُولُ إلى القضاءِ على الإنسانِ ذاتِه.
وقد أحسَنَ بعضُهم إذْ يقولُ:«الرسالةُ ضروريَّةٌ للعبادِ لا بدَّ لهم منها، وحاجتُهم إليها فوقَ حاجتِهم إلى كلِّ شيءٍ، والرسالةُ رُوحُ العالَمِ ونُورُهُ وحياتُهُ؛
فأيُّ صلاحٍ للعالَمِ إذا عَدِمَ الرُّوحَ والحياةَ والنُّور؟! والدنيا مظلِمةٌ ملعونةٌ إلا ما طلَعَتْ عليه شمسُ الرسالة، وكذلك العبدُ: ما لم تُشرِقْ في قلبِهِ شمسُ الرسالةِ،
وينالُهُ مِن حياتِها ورُوحِها، فهو في ظُلْمةٍ، وهو مِن الأموات!».