العربية
المؤلف | عبد الله اليابس |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - |
إننا نعيش الأيام العشر من ذي الحجة، العمل الصالح في هذه الأيام يكون من أفضل العمل في أيام أفضل من يوم عاشوراء, وأفضل من الأيام البيض, بل حتى أفضل من أيام شهر رمضان. نعم، العمل الصالح في هذه الأيام أفضل من العمل الصالح في أيام رمضان, أخرج...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ) [آل عمران: 102]. (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء: 1].
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب: 70- 71].
أما بعد:
ما رأيكم لو أن تاجرًا للأدوات القرطاسية، لما اقترب موعد بدء العام الدراسي سألناه عما يريد أن يجنيه خلال هذا الموسم التجاري؟
فأجاب: بأنه يريد أن يستثمره بما يعود عليه بالربح الوفير, فمثل هذا الموسم لا يتكرر في العام إلا مرة واحدة, وهو لا يريد أن يضيع عليه هباءً, وأخذ يتحدث عن أهمية الموسم بالنسبة له, وأنه لن يسمح لهذه الفرصة أن تفوت عليه, لكن هذا التاجر مع قرب الموسم لم نشاهده يستعد له استعدادًا إضافيًا, فالبضائع على حالها, ومتابعتها كوضعها في سائر الأيام, فلما حلَّ الموسم لم يُحصِّل فيه شيئًا إضافيًا يذكر على غيره من سائر الأيام؟
لو سألتكم عن موقف هذا التاجر، وتضييعه لفرصة ذهبية نادرة لا تتكرر لمثله, مع علمه بأهميتها، وأنه ينبغي عليه اغتنامها, لو سألتكم عن سبب فوات هذه الفرصة عليه, فإن الإجابة: أنه لا يكفي معرفة أهمية الفرصة وفضلها, وإنما ينبغي الاستعداد لها والعمل لأجلها عملاً إضافيًا.
أيها الأحبة: أريدكم أن تضعوا هذا الموقف، وهذا التساؤل في أذهانكم.
وأريد أن أبشركم وأنتم من طلاب الجنة, من أصحاب التجارة مع الله, أننا نعيش هذه الأيام موسمًا من مواسم الخير والطاعة، ومضاعفة الحسنات, لا يتكرر في العام إلا مرة واحدة.
إننا نعيش الأيام العشر من ذي الحجة، العمل الصالح في هذه الأيام يكون من أفضل العمل في أيام أفضل من يوم عاشوراء, وأفضل من الأيام البيض, بل حتى أفضل من أيام شهر رمضان.
نعم، العمل الصالح في هذه الأيام أفضل من العمل الصالح في أيام رمضان, أخرج البخاري من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله من هذه الأيام" يعني أيام العشر، قالوا: يا رسول الله ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: "ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجلا خرج بنفسه وماله لم رجع من ذلك بشيء".
قال ابن رجب -رحمه الله-: "وقد دل حديث ابن عباس على مضاعفة جميع الأعمال الصالحة في العشر من غير استثناء شيء منها".
أيها الأخ المبارك: هل تتذكر أيام شهر رمضان؟ هل تتذكر حماسك في أول الشهر لختم القرآن عدة مرات؟ هل تتذكر مكثك بعد صلاة العصر تتلو آيات القرآن، وتتأمل في معانيه؟ أما زلت تذكر بقاءك في مصلاك بعد صلاة الفجر حتى تطلع الشمس؟ لماذا كنت تفعل ذلك؟ أليس؛ لأن شهر رمضان موسم عظيم من مواسم الخيرات؟
فها قد أتتك عشر مباركات! العمل الصالح فيها أفضل من تلك الأيام على عظم فضل تلك الأيام, وليكن لسان حالك:
ومن خير ما فينا من الخير أننا | متى نلق يومًا موطن الصبر نصبر |
يا أمة محمد -صلى الله عليه وسلم-: إن من يريد الاستفادة الحقيقية من هذه الأيام العشر، فينبغي له: أن يحسن التجهيز والترتيب لذلك, حتى لا يكون حاله كحال التاجر الذي ذُكر في أول الخطبة.
وإنه مما يحسن بالمسلم أن يتعرف على بعض الأعمال التي تستحب في هذه الأيام العشر, فمن ذلك: التكبير المطلق, بأن يحرص المسلم والمسلمة على كثرة التكبير في كل مكان, في البيت، والسوق, والشارع، والعمل, والسيارة، والمسجد, في كل مكان, يجهر بالتكبير, وتسر به المرأة حال وجود رجال أجانب.
والتكبير يكون بأي صيغة فيها تكبير لله -سبحانه وتعالى-, إلا أنه روى يزيد بن أبي زياد قال: رأيت سعيد بن جبير ومجاهدًا وعبد الرحمن بن أبي ليلى أو اثنين من هؤلاء الثلاثة، ومن رأينا من فقهاء الناس، يقولون في أيام العشر: "الله أكبر! الله أكبر! لا إله إلا الله, والله أكبر الله، أكبر ولله الحمد".
وذكر البخاري في صحيحه عن ابن عمر وأبي هريرة: "أنهما كانا يخرجان إلى السوق في العشر، فيكبران ويكبر الناس بتكبيرهما".
ورواه أبو داود، وقال: "ولا يأتيان لشيء إلا لذلك".
فأكثروا من التكبير, واجهروا به لله العلي العظيم.
وإذا كان أصحاب المعاصي لا يستحون من معصية الله في العلن أمام الناس, فإنه لا يستحي من طاعة الله, فكبروا, وذكروا الناس بالتكبير, ولتمتلئ أسواقنا وطرقاتنا بالتكبير: "الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله, الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد".
ومن الأعمال الصالحة التي يحسن استغلالها في هذه الأيام العشر: كثرة ذكر الله -سبحانه وتعالى- عمومًا؛ لحديث ابن عباس السابق: "فأكثروا فيهن من التسبيح والتحميد والتهليل والتكبير".
فاحرص على كثرة الذكر في هذه الأيام العشر, واجعل لسانك رطبًا بذكر الله, اجعله لا يفتر عن استغفار أو تسبيح أو تهليل أو تكبير, ثقل ميزان حسناتك بعبادة من أيسر العبادات, ومن أحب شيئاً أكثر من ذكره:
كيف يرجو البقاءَ إن | فارق الماءَ حوتُه |
وإن من أفضل الذكر: قراءة القرآن, وتلاوة كلام الرحيم الرحمن, فاجعل لك ختمة خلال هذه الأيام العشر, وتذكر همتك قبل أيام قلائل في شهر رمضان وحالك مع القرآن, وليكن جهدك في هذه الأيام مضاعفًا.
ومن الأعمال الصالحة التي يحسن استغلالها في هذه الأيام العشر: كثرة الصيام, فإنه يدخل في عموم الحديث: "ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله من هذه الأيام".
ولا شك أن من خير الأعمال الصيام, فإن صوم يوم في سبيل الله يباعد بين صاحبه وبين النار سبعين خريفًا، فكيف إذا كان في زمان تضاعف فيه الحسنات.
إضافة إلى أن الصيام اختص الله -تعالى- بثوابه لنفسه، قال النبي -صلى الله عليه وسلم- كما في الصحيحين: "كل عمل ابن آدم له؛ الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف, قال الله: إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به".
وجاء في المسند والسنن عن حفصة -رضي الله تعالى عنها-: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان لا يدع صيام عاشوراء، والعشر، وثلاثة أيام من كل شهر.
وروي عن بعض أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان لا يدع صيام تسع ذي الحجة.
وكان ابن عمر -رضي الله عنهما- يصوم العشر، قال ابن رجب -رحمه الله-: "وهو قول أكثر العلماء".
ويتأكد صيام يوم عرفة تأكيدًا شديدًا, ففي صحيح مسلم من حديث أبي قتادة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "صيام يوم عرفة؛ احتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله والتي بعده".
فتأمل -رعاك الله- كيف أن صيام ساعات معدودة يكفر ذنوب سنتين كاملتين؟
فيا لسعادة من وفقه الله وأعانه لصيام ذلك اليوم, وبؤسًا لحال من حال شيطانه بينه وبين صيامه.
ومما يستحب في هذه الأيام العشر: الإكثار من العمل الصالح بوجه عام, فليحرص المسلم على صلة الرحم، وبر الوالدين، واتباع الجنائز, والصدقة، والإنفاق في سبيل الله, وبذل المعروف للآخرين, وغير ذلك من الأعمال الصالحة.
طاعة الله خير ما لزم العب | د فكن طائعًا ولا تعصيَنْهُ |
ما هلاك النفوس إلا المعاصي | فاجتنب ما نهاك لا تقرَبَنْهُ |
إن شيئًا هلاك نفسك فيه | ينبغي أن تصون نفسك عنْهُ |
بارك الله لي ولَكم في القرآنِ والسنّة، ونفعَنا بما فيهما من الآيات والحكمة.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله -تعالى- لي ولكم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله الذي جعل كلمة التوحيد لعباده حرزًا وحصنًا, وجعل البيت العتيق مثابة للناس وأمنًا, وأضافه إلى نفسه تشريفًا وتحصينًا ومنَّاً، والصلاة والسلام على نبي الرحمة، وسيد الأمة, وعلى آله وأصحابه قادة الخلق، وسادة الحق, وسلم تسليمًا كثيرًا.
أَمَّا بَعدُ:
فَاتَّقُوا اللهَ -تَعَالى- وَأَطِيعُوهُ وَلا تَعصُوهُ .
يا أمة محمد -صلى الله عليه وسلم-: بعد أن تحدثنا عن فضائل هذه الأيام العشر, والأعمال الصالحة التي يُستحب فعلها فيها, اسمحوا لي أن أضع بين أيديكم بعض البرامج العبادية، والتي أقترح أن تجعلها وردًا يوميًا لك في هذه الأيام العشر.
فأول هذه البرامج: الاستيقاظ قبل صلاة الفجر بوقت كافٍ, وصلاة ركعات لله -تبارك وتعالى-, فهو وقت تنزل الرحمات, ووقت نزول رب البريات إلى السماء الدنيا، فيعطي السائلين سؤلهم.
ثم إذا فرغت من صلاتك طبق سنة نبيك -صلى الله عليه وسلم- بالسحور, واجعل في سحورك تمرات، كما دلت على ذلك السنة النبوية.
ثم اجلس واستغفر لربك كثيرًا، حتى يؤذن الفجر, فهذا حال المؤمنين, فهم من قال الله -تعالى- فيهم: (وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ) [آل عمران: 17].
وقال عنهم: (وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) [الذاريات: 18].
ثم إذا أذن المؤذن لصلاة الفجر، فردد كما يقول المؤذن, ثم انصرف للمسجد استعدادًا لصلاة الفجر, فقد قال حبيبك -صلى الله عليه وسلم-: "بشر المشائين إلى المساجد في الظلم بالنور التام يوم القيامة".
ثم صل ركعتين سنة الفجر، فهما خير من الدنيا وما فيها، كما جاء في الحديث, واقض وقتك إلى إقامة الصلاة ما بين دعاء وذكر وتكبير، وقراءة للقرآن.
فإذا فرغت من صلاة الفجر، فاجلس في مصلاك حتى تطلع الشمس, واحرص على تلاوة وردك اليومي من القرآن في هذا الوقت, ولا تنس أذكار الصباح, فإنها بركة يومك -بإذن الله تعالى-.
ومن البرامج المقترحة: الحرص على المكث في المسجد مدة بعد صلاة الظهر أو العصر أو كليهما, لإكمال وردك اليومي من قراءة القرآن الكريم, واحرص على أذكار المساء بعد العصر, وأكثر من الدعاء قبيل الإفطار، فإنه من أوقات الإجابة.
واحرص في هذه الأيام على التخلص من كثير من المعاصي التي تلازمك, وران أثرها وغطى على قلبك, فهذه الجنة تناديك, ومواسم الطاعة والمغفرة قد أتتك.
أيضمن لي فتىً ترك المعاصي | وأرهنه الكفالة بالخلاصِ |
أطاع اللهَ قوم فاستراحوا | ولم يتجرعوا غصص المعاصي |
وأخيرًا -أيها الإخوة- أذكركم: أن من أراد ذبح الأضحية، فإنه لا يحل له أن يأخذ شيئًا من شعره أو أظفاره أو بشرته، بعد أن دخلت العشر.
تقبل الله من الجميع صالح العمل, وأعاننا جميعًا على ذكره وشكره، وحسن عبادته.
يا أمة محمد -صلى الله عليه وسلم-: اعلموا أن الله -تعالى- قد أمرنا بالصلاة على نبيه محمد -صلى الله عليه وسلم-، وجعل للصلاة عليه في هذا اليوم، والإكثار منها، مزية على غيره من الأيام، فللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا, واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك, وهيء لهم البطانة الصالحة الناصحة, واصرف عنهم بطانة السوء والفساد والإفساد، يا رب العالمين.
اللهم صل وسلم على عبدك ونبيك محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين.
عباد الله: إن الله يأمر بالعدل والإحسان، وإيتاء ذي القربى, وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي, يعظكم لعلكم تذكرون.
فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم, واشكروه على نعمه يزدكم, ولذكر الله أكبر, والله يعلم ما تصنعون.