الرحيم
كلمة (الرحيم) في اللغة صيغة مبالغة من الرحمة على وزن (فعيل) وهي...
العربية
المؤلف | عمر بن عبد الله المقبل |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المهلكات - نوازل الأحوال الشخصية وقضايا المرأة |
إن مما جبلت عليه النفوس، وتعلقت به القلوب، بل هو زينة من زينة الحياة: المال: (وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا) [الفجر: 20]. وكم كان لهذا الحب من أثر في تجاوز الحدّ في التعامل معه! فحصل البغي والحسد، ووقع الظلم والعدوان، فتكبّر بسبب حيازته قوم، وكفَر آخرون، وما قصة قارون عنا ببعيد!. ولهذا جاءت الشريعة بضبط حدود هذا المال، لما ...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله ...
أما بعد:
فإن مما جبلت عليه النفوس، وتعلقت به القلوب، بل هو زينة من زينة الحياة: المال: (وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا) [الفجر: 20].
وكم كان لهذا الحب من أثر في تجاوز الحدّ في التعامل معه! فحصل البغي والحسد، ووقع الظلم والعدوان، فتكبّر بسبب حيازته قوم، وكفَر آخرون، وما قصة قارون عنا ببعيد!.
ولهذا جاءت الشريعة بضبط حدود هذا المال، لما سبق في علم الله -تعالى- من الشح والبغي في ذلك، حتى إن الله -تعالى- توّلى قسمةَ المواريث والغنائم بنفسه؛ لينقطع قولُ كلِّ قائل مؤمن.
ومن جملة ما أحاطته الشريعة بهذا المال: حدّ السرقة، الذي يحفظ الحق، ويردع ضعاف النفوس الذين تُسوِّل لهم التعدي على أموال غيرهم.
ومن جملة ذلك: ضبط بيت المال، وتولية الإمام الأعظم عليه؛ ليديره بما يحقق مصلحة المسلمين، ويختار لذلك من الموظفين مَن يعينه على تنميته والمحافظة عليه، وقطع الطريق على المتحايلين باسم الدولة لمصلحة أنفسهم.
ولهذا حين اتسعت رقعة الدولة الإسلامية في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم-، كان يبعث بعضَ أصحابه لجباية الصدقات من القرى والنواحي، وكان ممن استعمل صلى الله عليه وسلم رجلاً يقال له: "ابن اللتبية" على الصدقة، فلما قَدِم قال: هذا لكم، وهذا لي، أُهدي لي! قال: فقام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على المنبر وهو مغضبٌ، فحمد الله، وأثنى عليه، وقال: "ما بال عامل أبعثه، فيقول: هذا لكم، وهذا أُهدي لي! أفلا قعد في بيت أبيه، أو في بيت أمه، حتى ينظر أيُهدى إليه أم لا؟ والذي نفس محمد بيده، لا ينال أحدٌ منكم منها شيئاً إلا جاء به يوم القيامة يحمله على عنقه بعير له رغاء، أو بقرة لها خوار، أو شاة تيعر" واليعار: هو صوت الشاة إذا ارتفع، ثم رفع يديه حتى رأينا عُفرتي إبطيه، ثم قال: "اللهم، هل بلغت؟" مرتين [صحيح البخاري ح(6979)، صحيح مسلم ح(1832)].
قال الأصمعي وآخرون: "عفرة الإبط هي البياض ليس بالناصع، بل فيه شيء كلون الأرض، قالوا: وهو مأخوذ من عفر الأرض وهو وجهها".
إنها حرب مبكرة، وإغلاق قوي لمنافذ التخوض في مال الله، وإيصاد لمسارب الفساد المالي، الذي قد يفعله بعض الناس، إنه حكم صريح، وإغلاق صارم لأبواب التأويل في التصرف في أموال المسلمين باسم الهدايا مرةً، أو باسم تخفيف الضرر -وهي رشوة صلعاء-، أو بغير ذلك من الأسماء، تنوعت الأسماء والهدف واحد!.
إنني -وأنا أقرأ هذا الحديث والخطبة البليغة المؤثرة والإنكار الشديد منه صلى الله عليه وسلم على هذا الصنيع- لأتساءل: كم هو الذي أُهدي لهذا الرجل؟ وما وزنه في جانب ما جَلَب؟ ثم انتقلتُ من ذلك العصر إلى عصرنا الحاضر؛ لأتأمل فيمن يسرقون أو يأخذون أموالاً عظيمةً من بيت مال المسلمين بأسماء متنوعة والغاية واحدة! وليسوا متأولين كما فعل هذا المُصّدّق الذي بعثه النبي -صلى الله عليه وسلم- يا الله! كم هي الأموال التي سيأتون بها يوم القيامة على رقابهم؟!
لقد تنوعت صور العبث بالمال -خاصة بيت مال المسلمين- في عصرنا بشكل مذهل، وقد سمعت من أسئلة الناس ما يفطّر الفؤاد!.
- هذا مقاول في الطرق، يقع في عمله قصور، وبدلاً من أن يقوم المهندس المكلّف من قِبَل الدولة بتحرير مخالفة تكشف قصور هذا المقاول؛ يأتي المقاول ليغري هذا المهندس بمئات الآلاف ليكتب تقريراً سليماً! وهنا يبدأ مسلسل الخيانة لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم، وكثير من مشاريع الطرق شاهدٌ لا يكذب على ذلك.
- مثال آخر: وضعت البلديات مراقبين على الأسواق ومحلات الأطعمة، وغيرها، فيأتي المراقب ليحرِّر مخالفةً على هذا المحل، فيلمح له بأن تدفع كذا وكذا، وإلا! فيدفع المخالِفُ، وتقع الخيانة، ويستمر الفساد!.
- مثال ثالث: يكثر وقوعه في إدارات التربية والتعليم -خاصة قسم النساء-: حين تحتاج معلّمةٌ ما إلى التعيين، أو نقلها من مكان إلى آخر، فلا أحصي -والله- كم هي الأسئلة التي تقول: إن الموظف طلب أتعابه! عجباً أيّ أتعاب يطلبها؟ وهو موظف يأخذ راتباً من الدولة؟ إن كان هذا التعيين أو النقل ممكناً فيجب عليه فعله بلا مِنّة، وإن لم يكن ممكناً -نظاماً- وجب عليه الاعتذار، لعدم إمكانه نظاماً.
وكل هذه صور متنوعة يجمعها: الرشوة، التي لعن النبي -صلى الله عليه وسلم- فاعلها.
في سنن الترمذي ح(1337): عن أبي سلمة، عن عبد الله بن عمرو قال: "لعن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الراشي والمرتشي" قال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح".
كم تعطّلت من مشاريع للدولة بسبب الرشوة؟!
وكم تأخرت من مصالح للمسلمين بسبب الفساد المالي الذي يغلَّف بأسماء كثيرة؟!
علقّ شيخنُا العثيمين -رحمه الله- على حديث ابن اللتبية الذي ذكرته آنفاً بقوله: "وصدق النبي -عليه الصلاة والسلام- أنه لم يُهد لهذا العامل -الذي هو تابع للدولة- إلا من أجل أنه عامل، ولو كانوا يريدون أن يهدوا إليه لشخصه لأهدوا إليه في بيت أبيه وأمه، ومن هذا الحديث نعرف عظيم قبح الرشوة، وأنها من عظائم الأمور التي أدت إلى أن يقوم النبي -عليه الصلاة والسلام- خطيباً يخطب في الناس، ويحذرهم من هذا العمل؛ لأنه إذا فشت الرشوة في قوم هلكوا، وصار كل واحدٍ منهم لا يقول الحق، ولا يحكم بالحق، ولا يقوم بالعدل إلا إذا رشي -والعياذ بالله-" [شرح رياض الصالحين، ص: 187)].
إن من يقرأ الأنظمة الموضوعة في مكافحة الرشوة والفساد المالي والإداري في بلدنا؛ يجدها أنظمة صارمة وقوية، لكننا نجد فئاماً من الناس يتحايلون على ذلك بأسماء مختلفة كما أشرتُ آنفا! فما سبب ذلك؟ وكيف يعالج؟
والجواب عن هذا أن يقال: إن الأسباب كثيرة، لكن من أبرزها ثلاثة أسباب:
السبب الأول: ضعف الإيمان والوازع الديني -الذي يعبِّر عنه بعضُ المعاصرين برقابة الضمير-.
المراقبة التي إذا غابت عن الإنسان سرق، ورشى وارتشى، وغصب، وجحد، ولا دواء لذلك إلا أن يتذكر الإنسانُ أن لعنات رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تلاحقه وهو يأكل ويشرب، وهو قائم ونائم، وهو مسافر ومقيم! ألا يكفي هذا رادعاً لتركها؟ ماذا يساوي أن يدخل في رصيدك -مليون وليس عشرة آلاف- ثم تطاردك لعناته صلى الله عليه وسلم؟! كيف يهنأ هذا بحياته؟
تأملوا معي هذا الموقف: حين عادت جيوش المسلمين بعد معركة القادسية، طرِحتْ بين يدي أمير المؤمنين عمر -رضي الله عنه- كنوزٌ عظيمة من غنائم الفرس، وفيها ثياب كسرى، وبساط إيوانه، فلما رآها، قال: "إن قوماً أَدَّوا هذا لأُمناء"، فقال له علي: "عففت فعفوا، ولو رتعت لرتعوا" ثم أَلبسَ ثيابَ كسرى خشبةً كانت عنده، وذكر الدنيا وزينتها، وحقارتها [انظر: الكامل في التاريخ (2/ 344)، فتوح الشام (2/ 192)، البداية والنهاية، ط، إحياء التراث (7/ 78)].
السبب الثاني: الجهل بأن تبعة الأخذ من بيت المال عظيمة جداً: "السرقة من بيت مال المسلمين أعظم من ملك واحد معين؛ وذلك لأن سرقته خيانة لكل مسلم، بخلاف سرقةِ أو خيانةِ رجلٍ معينٍ، فإنه بإمكانك أن تتحلَّل منه وتَسلَم" [الشرح الممتع على زاد المستقنع (14/ 354)].
يوضّح شيخنا -رحمه الله- هذا المعنى بشكل أكبر، فيقول: "الريال الذي تأخذه من شخص واحد سيكون خصمك وحدك يوم القيامة، أما الريال الذي تأخذه من بيت المال -بأي صورة- فخصمك فيه جميع المسلمين، حتى العجوز في قعر بيتها!.
فبا الله عليك -أيها المسلم- هل ستتحمل خصومة عشرات الملايين من المسلمين يوم القيامة؟!
أما -والله- لو كان الخصم واحداً لحُقّ لك أن تخاف، فكيف لو كانوا بهذا العدد؟!
الخطبة الثانية:
السبب الثالث: ضعف الإيمان بالآخرة، الذي إذا غشي القلبَ صدرت منه الأفعال الشنيعة، تأمل في سورة الماعون: (أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ) [الماعون: 1]؟ فماذا يفعل من غفل عن الآخر؟
(فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ * وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ * فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ * الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ * وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ) [الماعون: 2 - 7].
وفي صحيح البخاري: "إن رجالاً يتخوّضون في مال الله بغير حق! فلهم النار يوم القيامة" [صحيح البخاري ح(3118).
"يتخوضون" من الخوض وهو المشي في الماء وتحريكه، والمراد هنا التخليط في المال وتحصيله من غير وجهه كيفما أمكن".
أما -والله- لو كانت الآخرة حاضرة في قلوب المرتشين والغاصبين والسارقين لما تهنوا بطعام ولا شراب، وهم يسمعون هذا الوعيد من أصدق من بلّغ عن الله.
ولا أدري كيف يهنأ المرتشي والرائش بطعام وشراب، ولعنات النبي -صلى الله عليه وسلم- تطارده أينما حلّ؟ "لعن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الراشي والمرتشي!".
فاتقوا الله -عباد الله- واحذروا أسبابَ سخطه وسخط رسوله، وطيّبوا مكاسبكم تصلح قلوبكم، وتُستجب دعواتكم.