البحث

عبارات مقترحة:

المقيت

كلمة (المُقيت) في اللغة اسم فاعل من الفعل (أقاتَ) ومضارعه...

الله

أسماء الله الحسنى وصفاته أصل الإيمان، وهي نوع من أنواع التوحيد...

المجيب

كلمة (المجيب) في اللغة اسم فاعل من الفعل (أجاب يُجيب) وهو مأخوذ من...

داء الجهل

العربية

المؤلف صلاح الدين بورنان
القسم خطب الجمعة
النوع نصي
اللغة العربية
المفردات الدعوة والاحتساب - نوازل الأحوال الشخصية وقضايا المرأة
عناصر الخطبة
  1. خطر الجهل وفضل العلم .
  2. تفشي الجهل في العصر الحاضر .
  3. مظاهر الجهل في الوقت الحاضر .
  4. العلم الذي لا يعذر المسلم بجهله .
  5. تيسير سبل العلم والمعرفة في الوقت الحاضر .

اقتباس

إن الجهل داء خطير، ومرض عضال، إذا أصاب العبد كان صاحبه على خطر عظيم، وعلى شفير هاوية، وإن لم يتدارك نفسه، ونور عقله، بالعلم النافع؛ كان صاحبه في عداد الهلكى والموتى الأحياء، فالجاهل طريقه مظلم، ومستقبله غامض، ولا يرجى من ورائه أمل، والجاهل قد يكون يقرأ ويكتب، ويفهم الخطاب، وربما يحسن اللغات الأجنبية الأخرى، لكنه...

الخطبة الأولى:

إن الحمد لله، نحمدُه ونستغفره ونستعينه ونستهديه، ونعوذُ بالله من شرورِ أنفسنا، ومن سيئاتِ أعمالنا، من يهْدِ اللهُ فلا مضِلَّ له ومن يضلل فلا هادي له.

وأشهد أنْ لا إله إلا اللهُ وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمداً عبدُه ورسولُه، بعثه اللهُ رحمةً للعالمين، هادياً ومبشراً ونذيراً، بلّغ الرسالة، وأدّى الأمانة، ونصحَ الأمّةَن فجزاهُ اللهُ خيرَ ما جزى نبياً من أنبيائه، صلواتُ اللهِ وسلامه عليه، وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، وعلى صحابته وآل بيته، وعلى من أحبهم إلى يوم الدين.

أيها المؤمنون: أوصيكم ونفسي بتقوى الله -عز وجل-: (وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ) [الطلاق: 2- 3].

(وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ) [البقرة 197].

أيها الناس: إن مما أوقع الناس فيما وقعوا فيه من معاص وفتن، ومصائب ومحن، وضعف في الدين: الجهل الذي هو أكبر عدو للعبد، وصدق من قال: "يفعل الجاهل بنفسه ما لا يفعل العدو بعدوه".

فالعبد عندما يكون جاهلا بأمور دينه ودنياه، لا يمكن أن يتصرف تصرفا صحيحا، ولا يمكن كذلك أن يعرف مواطن الخلل والزلل، فهو في هذه الحالة يتصرف حسبما يملي عليه هواه، ونفسه الأمارة بالسوء.

إن الجهل داء خطير، ومرض عضال، إذا أصاب العبد كان صاحبه على خطر عظيم، وعلى شفير هاوية، وإن لم يتدارك نفسه، ونور عقله، بالعلم النافع، كان صاحبه في عداد الهلكى والموتى الأحياء، فالجاهل طريقه مظلم، ومستقبله غامض، ولا يرجى من ورائه أمل، والجاهل قد يكون يقرأ ويكتب، ويفهم الخطاب، وربما يحسن اللغات الأجنبية الأخرى، لكنه جاهل، تصرفاته وتحركاته وطريقة كلامه طريقة إنسان جاهل؛ ولهذا جاء ديننا يحثنا على طلب العلم النافع الذي ينفع صاحبه في الدنيا والآخرة: "من سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله له به طريقا إلى الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضا بما يصنع".

وأول ما نزل من القرآن: الدعوة إلى التعلم: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ) [العلق: 1- 2].

وروي عن معاذ بن جبل أنه قال: "تعلموا العلم، فإن تعلمه لله خشية، وطلبه عبادة، ومدارسته تسبيح، والبحث عنه جهاد، وتعليمه لمن لا يعلم صدقة، وبذله لأهله قربة؛ لأنه معالم الحلال والحرام، والأنيس في الوحشة، والصاحب في الخلوة، والدليل على السراء والضراء، والزين عند الأخلاء، والقرب عند الغرباء، يرفع الله به أقواما فيجعلهم في الخلق قادة يقتدى بهم، وأئمة في الخلق تقتص آثارهم، وينتهى إلى رأيهم، وترغب الملائكة في حبهم، بأجنحتها تمسحهم، حتى كل رطب ويابس لهم مستغفر، حتى حيتان البحر وهوامه، وسباع البر وأنعامه، والسماء ونجومها؛ لأن العلم حياة القلوب من العمى، ونور الأبصار من الظلم، وقوة الأبدان من الضعف، يبلغ به العبد منازل الأحرار، ومجالسة الملوك، والدرجات العلى في الدنيا والآخرة، والفكر به يعدل بالصيام، ومدارسته بالقيام، به يطاع الله -عز وجل-، وبه يعبد الله -عز وجل-، وبه توصل الأرحام، وبه يعرف الحلال من الحرام، إمام العمل، والعمل تابعه، يلهمه السعداء، ويحرمه الأشقياء".

وقد كثرت مظاهر الجهل في وقتنا الحاضر، وكأننا نعيش في عصور ما قبل البعثة، كما قال جعفر بن أبي طالب: "أيها الملك، كنا قومًا أهل جاهلية، نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، يأكل القويُّ منا الضعيف، فكنا على ذلك حتى بعث الله -عز وجل- إلينا رسولًا منا، نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه، فدعانا إلى الله -عز وجل- لنوحده ونعبده، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، وكفٍ عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش، وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنة، وأمرنا أن نعبد الله لا نشرك به شيئا، وأمرنا بالصلاة، والزكاة، والصيام، فصدّقناه، وآمنا به، فعبدنا الله -عز وجل- وحده لم نشرك به شيئًا، وحرَّمنا ما حرّم علينا، وأحللنا ما أحل لنا، فعدا علينا قومنا فعذّبونا وفَتنونا على ديننا ليردونا إلى عبادة الأوثان، وأن نستحل ما كنا نستحل من الخبائث، فلما قهرونا وظلمونا، وشقوا علينا، وحالوا بيننا وبين قومنا، خرجنا إلى بلدك، فاخترناك على من سواك، ورغبنا في جوارك، ورجونا أن لا نظلم عندك".                         

من مظاهر الجهل التي عمت في حاضرنا: هجر القرآن والسنة، تجد عموم الناس هاجري القرآن والسنة، لا قراءة ولا تدبر، ولا تأمل، في صفحات المصحف، ولا تطبيق لأحكامه، بل أصبح القرآن زينة معلقة في الجدران والسيارات، مع أن القرآن الكريم كان هو سر نجاح وفوز الأولين من الصحابة والتابعين، والرجال المخلصين والفاتحين، وسيبقى هو سر نجاح المؤمنين على مر الدهور والسنين إذا تمسكوا به.

وكذا هجروا السنة النبوية، ترى أغلب الناس قد زهدوا في السنة والسيرة، وكأنها هي سر تخلفنا، وتأخرنا عن الركب، فلا تطبيق للسنة، ولا متابعة لما جاء به سيد الخلق من آداب وأخلاق وسنن، وقد أوصى سيد الخلق -صلى الله عليه وسلم- بلزوم السنة، ومتابعة نهج الصحابة عند تغير الأحوال والزمان، وهذا عند فساد أحوال الناس، وظهور الفتن: "فعليكم بسنتي".

ومن مظاهر الجهل: تضييع المسؤوليات، ترى العبد الآن يتقلد المسؤوليات العظام ثم تراه بعد ذلك قد ضيعها وضيع معها حقوق الناس، وتراه إنسانا عاديا غير خائف ولا وجل، وكأنه قد قدم خدمات جليلة لمجتمعه، والنبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: "ما من عبد يسترعيه الله رعيه ثم يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة".

ومن مظاهر الجهل: انقلاب الموازين والمقاييس عند الناس، صار الكذاب هو الصادق، والصادق هو الكذاب، والأمين هو الخائن، والخائن هو المؤتمن، والعابد الورع التقي هو المغفل الذي لا يعرف شيئا، ولا يعرف مصالحه، والعبد المضيع للحقوق والواجبات، والمتجاوز لحدود الله، والمنتهك لحرمات الله، هو الحاذق والشاطر، وهو الرجل الشهم.

ومن مظاهر الجهل: التنافس الشديد على زخارف الدنيا، حتى افتتن الناس، وأصبح تفكيرهم الدنيا: ماذا يلبسون؟ وماذا يأكلون؟ ومتى يسكن في الفيلا الفلانية؟ وما نوع السيارة التي سيقتنيها؟ وكيف يصل إلى أعلى المناصب؟ وغيرها من متع الدنيا، ولم يسألوا أنفسهم يوما: كيف الإقبال على الله؟ وما هو الزاد الذي سنرحل به؟ وماذا قدمنا لآخرتنا؟

ومن مظاهر الجهل: تضييع الأوقات والساعات والأيام فيما لا فائدة فيه، الزمن يتسارع، والأوقات تمر، والعبد في غفلة، وسيتحسر المؤمن على لحظات لم يغتنمها في طاعة الله في: (يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) [الشعراء: 88 - 89].

وسيسأل العبد عن عمره: فيم أفناه؟ وعن شبابه: فيم أبلاه؟

ومن مظاهر الجهل: انهيار الأخلاق الفاضلة بين الناس، وفي عدة قطاعات حيوية ذات احتكاك مباشر مع الناس.

إذا أصيب القوم في أخلاقهم

فأقم عليهم مأتما وعويلا

إنما الأمم الأخلاق ما بقيت

فإن همُ ذهبت أخلاقهم ذهبوا

الخطبة الثانية:

الحمدُ لله حمدًا كثيرًا طيّبًا مُباركًا فيهِ كَمَا يحِبّ ربّنا ويَرضَى، وأَشهَد أن لاَ إلهَ إلاَّ الله وحدَه لا شريكَ له، وأشهَد أنّ محمّدًا عبده ورسوله، صلَّى الله عليه وعلى آله وصَحبه، وسلّم تسليمًا.

ومن مظاهر الجهل: الغرور والإعجاب بالنفس، نتيجة حصول على مال كبير، أو منصب عال، أو علم ديني أو دنيوي؛ ولذا جاء في الحديث: "بَلْ ائْتَمِرُوا بِالْمَعْرُوفِ، وَتَنَاهَوْا عَنْ الْمُنْكَرِ، حَتَّى إِذَا رَأَيْتَ شُحًّا مُطَاعًا، وَهَوًى مُتَّبَعًا، وَدُنْيَا مُؤْثَرَةً، وَإِعْجَابَ كُلِّ ذِي رَأْيٍ بِرَأْيِهِ، فَعَلَيْكَ بِنَفْسِكَ، وَدَعْ عَنْكَ الْعَوَامَّ، فَإِنَّ مِنْ وَرَائِكُمْ أَيَّامَ الصَّبْرِ، الصَّبْرُ فِيها مِثْلُ قَبْضٍ عَلَى الْجَمْرِ، لِلْعَامِلِ فِيهِمْ مِثْلُ أَجْرِ خَمْسِينَ رَجُلًا يَعْمَلُونَ مِثْلَ عَمَلِهِ".

أيها المؤمنون: اعلموا أن من العلم ما لا يعذر العبد بجهله وتركه.

وضابط هذا العلم: أنه هو الذي يستقيم به دين العبد، سواء كان ذلك في العقائد، أو الأحكام.

ويجمع أصول ما يجب معرفته في العقائد والأحكام، حديث جبريل الطويل، والذي فيه: أنه سأل النبي -صلى الله عليه وسلم- عن الإسلام والإيمان والإحسان، وعن أمارات الساعة، وفي آخر الحديث قال النبي -صلى الله عليه وسلم- لأصحابه: "فإنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم".

وقد تيسرت للأمة في هذه الحقبة من التاريخ سبلُ العلم ووسائل تحصيله، فالدروس قائمة، والمحاضرات متوافرة، والأشرطة العلمية والكتب الدينية منتشرة ميسرة، فهل بعد هذا من عذر؟! أم هل بعد ذاك من مبررٍ لتفشي الجهل بين الأمة؟!

لا، ولكنه الإعراض عن الخير، والزهد في البر، والرضا بالجهل -ولا حول ولا قوة إلا بالله-.

فمن كانت هذه حاله، فإنه يُخشى أن لا يُرجى فلاحه، ولا يؤمل صلاحه، فإن من أعرض عن العلم أعرض الله عنه، ومن تركه وأدبر عنه كان ضلاله مستحكمًا، ورشاده مستبعَدًا، وكان هو الخامس الهالك الذي قال فيه علي بن أبي طالب: "اغد عالمًا، أو متعلمًا، أو مستمعًا، أو محبًا، ولا تكن الخامس فتهلِك".