المقيت
كلمة (المُقيت) في اللغة اسم فاعل من الفعل (أقاتَ) ومضارعه...
العربية
المؤلف | سعود بن ابراهيم الشريم |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الدعوة والاحتساب - أهل السنة والجماعة |
ألا وإن العالمَ الإسلاميَّ اليوم ليمرّ بحالة عصيبةٍ وخطوب مستعصِية، والأمّة المسلمة برُمّتها شاخصة ببصرها ألمًا وحيرةً وذهولاً، بل يزداد ألمها وفاجعتُها حينما ترجع البصر كرّاتٍ ومرّات، ثم ينقلبُ إليها البصر خاسئًا وهو حسير، فإذا بالضّربات تتوالى عليها وتتقاذف كحُمَم بركانيّة لا تجد الأمّة أمامها ملجأً أو مغاراتٍ أو مدَّخلاً يحميها من الظلم الطاغي والإرهاب الدولي المقنَّن، بل إنها تتلقّى تلك الضربات تلو الضربات ثم هي تُصرَع أمامها، ذلك كلُّه كان سببًا...
الخطبة الأولى:
أمّا بعد: فأوصيكم ـ أيها الناس ـ ونفسي بتقوى الله سبحانه، واللجوء إليه في السرّاء والضراء والسَّعَة والضيق، فما خاب من اتقاه، ولا أيِس من رجاه، ولا ذلّ من اعتصم به، (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ) [الطلاق:2، 3].
أيها المسلمون، يقول الله جل وعلا في محكم التنزيل: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمْ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا) [النور:55].
لقد صدق الله وعدَه وهو أصدق القائلين، وأنجز لنبيّه صلى الله عليه وسلم- ما وعده به. ومن هنا حمل هذا الدينَ رجالٌ وقادة علّمهم نبيُّهم أن لا يخافَ العبدُ إلاّ ربَّه، وأن لا يذلّ إلا لمن ذلّ له كلّ شيء وخلق كلَّ شيء ولمن بيده أسبابُ الخوف وأسبابُ الأمن وحدَه، (إِنَّمَا ذَلِكُمْ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِي إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) [آل عمران:175].
ألا وإن العالمَ الإسلاميَّ اليوم ليمرّ بحالة عصيبةٍ وخطوب مستعصِية، والأمّة المسلمة برُمّتها شاخصة ببصرها ألمًا وحيرةً وذهولاً، بل يزداد ألمها وفاجعتُها حينما ترجع البصر كرّاتٍ ومرّات، ثم ينقلبُ إليها البصر خاسئًا وهو حسير، فإذا بالضّربات تتوالى عليها وتتقاذف كحُمَم بركانيّة لا تجد الأمّة أمامها ملجأً أو مغاراتٍ أو مدَّخلاً يحميها من الظلم الطاغي والإرهاب الدولي المقنَّن، بل إنها تتلقّى تلك الضربات تلو الضربات ثم هي تُصرَع أمامها..
ذلك كلُّه كان سببًا ولا شكَّ في أن يغشى الأمّةَ وهمٌ يوقفها أمام مرآةِ المزعجات ومجنى المفزِعات، حتى لقد بلغ الوهمُ في صفوفها مبلغًا مثّل لها الضعيفَ قويًّا والقريبَ بعيدًا والمأمنَ مخافًا والموئل مهلكًا، فجعلت تتخبَّط إزاءَ هذا الوهم تخبُّطَ المصروع؛ لا يرى ماذا أدركه وماذا تركه.
أيّها المسلمون، إننا نعيش في زمن بُلِيت فيه أمّة الإسلام بتفريق الكلمةِ وتصارُع الأهواء، وحُجبت بالجهل والكبت عن معرفةِ أحوال عدوّهم وصنائِعهم وعوائدهم، ما جعلها تستسلِم للمحتلِّ الباطش ببعض غرائب سلاحِهم المدجَّج الذي أثار فيها خواطرَ الوهم بأنها أمام قوّةٍ لا يُمكن أن تُغلَب، بل هي حاكمة على أقطارٍ واسعة وأنحاء شاسعةٍ، وهي جميعُها في عين عديم الوهم ضعيفةٌ واهنة لا تستطيع ذودًا ولا دِفاعًا.
وإن أخفَّ حركةٍ تنبثق هنا أو هناك توجب زعزعةً في تلك القوّةِ إن لم توجب هدمَها بالمرّة في حين رجفةٍ على أملاكها وخيفةٍ من غرقها وضياعها. إنّ تلك القوى لتتوجّس من كلّ حركةٍ في العالم، وكلُّ ملمّة تلمّ بالعالم الإسلامي والعربي توجب بحدوثها زلزلةً في قوى الظلم والجبروت المنتشرة في الأنحاء الضعيفة من أرجاء البلاد الإسلامية.
ومع هذا كلّه فإننا نرى الأمرَ لم يزل خفيًّا على جمهور أهلِ الإسلام، محجوبًا عنهم بحجاب الوهم. ولو دقّقنا النظرَ لوجَدنا أنّ قوى الشرِّ نفسَها تحسّ بضعفِها أكثرَ من إحساسِنا نحن بضعفِنا، لكنها في الوقت نفسه تبذل وُسعَها جاهدةً في سَتر ضعفها، ولا ستارَ أشدّ كثافةً من الوهم، ولذا نراهم في كلّ حادثة يجلبون ويصيحون ويزمجرون ليثيروا بالضوضاء هواجسَ الأوهام، فتحول دونَ استطلاعِ الحقيقة، وإلاّ فإنّ قليلاً من الالتفات الواعي كفيلٌ بأن يكشفَ ذلك ويميط اللثامَ عنه.
عبادَ الله، إنّ البشرَ جميعًا يشتركون في إمكانيّة حصول البلاء لهم، دون فرقٍ في الانتماء الدينيّ أو العرقيّ، بيد أنّ المسلمين إذا ابتُلوا فإنهم يتقلّبون في جناحَي خير وسكينةٍ إن هم استحضروا أمرَ الله وخلقَه، فيكون أمرهم كلُّه لهم خيرًا لهم، إن أصابتهم سرّاء شكروا فكان خيرًا لهم، وإن أصابتهم ضرّاء صبروا فكان خيرًا لهم، ولا يكون ذلك إلا لأمّة الإسلام، ولذلك قال الله تعالى: (أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) [القلم:35، 36]، (أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ) [ص:28].
إنّ الأوجاعَ التي تصيب المسلمين في مقتلهم في هذا العصر والأوخاز التي لم تسلم منها براجمهم لهم في أشدّ الحاجةِ إلى أن يقِفوا أمامها وقفةَ ناشدٍ للإصلاح، مستحضِرةً الأمّةُ أمامها عدّةَ أمور، يكمُن أهمّها في الآتي:
الأمر الأوّل: الرضا بالله وبقدر الله، وأنَ ما أصاب الأمةَ لم يكن ليخطئها، وأنّ ما أخطأها لم يكن ليصيبها، وأنّ الإقدام والشجاعةَ والنصر لا يكون إلا مع البلاء والضيق والكرب، وأنّ مع العُسر يسرًا، (إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا) [الشرح:6]، وأنه لن يغلبَ عُسرٌ يُسرين.
الأمر الثاني عباد الله: أن تعملَ هذه الأمةُ جاهدةً في وحدةِ صفِّها وجمع كلمتِها وتوحيد مصدر التلقي عندها إن هي أرادت النجاةَ، بحيث تكون المصدريّة متمثّلةً في كتاب الله وسنّة رسوله ، والعزم على إقصاء كلِّ الشعارات العصبيّة والأهواء العِبِّيّة. كما أنّ على الأمة الاعترافَ بأخطائها وما ارتكبته من تقصير في جنب الله وتهميشٍ لشريعته الخالدة عن واقع الحياة.
الأمر الثالث: أن الندبَ وحدَه لا يجدي شيئًا، فكيف بالشّجب والاستنكار إذًا؟! لأننا من خلال هذا الحديث لسنا ننقّب عن نائحةٍ مستأجرَة تُسمعنا نحِيبها أو تفجعنا بلطم خدَّيها، ولسنا نبحَث أيضًا عن ظئر عاريةٍ مؤدّاة تودع قضايانا سرائبها فلا ترى النور، أو هي تكتفي بالبكاء وحدَه؛ لأنّ البكاءَ لا يحيي الميّت، والأسف لا يردّ الغائب، ولكن العملَ مفتاح النجاح، والصدقَ والإخلاص مع متابعة الرسول ليُعَدّ سُلَّم الفلاح ودَرَجه، (وَقُلْ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ) [التوبة:105].
ورابع الأمور عباد الله: أنّ الأمةَ المسلمة بحاجةٍ ماسّة إلى احتساب المصائب التي تطالها عند الله تعالى، وأن تعلمَ أنها على أجرٍ ومثوبة إن هي صبرت وجاهدت، فما يصيب المرءَ من نصَب ولا وَصَب حتى الشوكة يُشاكها إلا كتَب الله له بها أجرًا كما ذكر ذلك النبيّ –صلى الله عليه وسلم-. (أخرجه مسلم في صحيحه).
وبمثل هذا الاستحضارِ تبرز الشجاعةُ وينبثق الإقدام والتسليم بأقدار اليوم والغد وبأن العزةَ والقوة لله جميعا، (الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنْ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ) [آل عمران:173، 174].
إنه بمثل هذا تتعالى صيحاتُ الذادّين عن حياضهم والحامين لدينهم حين يلاقون قوى الشرّ والظلم قائلين لهم: (قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُونَ) [التوبة:51]، وقائلين لهم أيضًا: (قُلْ هَلْ تَربَّصُونَ بِنَا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ) [التوبة:52]، يعنون بذلك كسبَ المعركة بالنصر على الأعداء، وقوى الظلم والجبروت أو الموت دون الظفَر بالنصر وهو حسَن كذلك؛ لأنّ ما عند الله خير وأبقى، بخلاف أعداءِ الدين وقوى الشرّ والظلم فهم إن انتصَروا أو انهزموا بين عذابين: آجلٍ أو عاجل، (وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمْ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ) [التوبة:52].
ألا فإنّ سنّةَ المداولة الربانية ماضيةٌ لا محالة، فالحرب سِجال، والله يقول: (إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ) [آل عمران:140، 141]، فاتخاذ الشهداءِ فضلٌ من الله ومِنّة، إذ الشهادةُ ليست رزيَّة ولا خسارة، وإنما هي اختيارٌ وانتقاء وتكريم واختصاص، ومن هنا برز قولُ الفاروق لأبي سفيان رضي الله عنهما في أُحُد حينما قال أبو سفيان -رضي الله عنه- قبل أن يسلِم: "يومٌ بيوم بدر والحربُ سجال"، فقال عمر: "لا سواء، قتلانا في الجنّة وقتلاكم في النار".
أما الأمر الخامس عباد الله: فعلى الأمّة أن تعيَ جيِّدًا أنّ منطقَ المجرمين واحد، وأنّ السياسة الفرعونية تُذكَى بين الحين والآخر، وأنّ أهلَ الكفر والظلم مهما زعَموا أنهم أهلُ إصلاح ودعاةُ حرية فهم في الحقيقة أهل دمارٍ وخراب، ودعاةٌ لمصالحهم الشخصيّة ولذائذهم الذاتية البشِعة، كيف لا وقد وصفهم الله بقوله: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) [البقرة:6]، إلى أن قال سبحانه: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلا إِنَّهُمْ هُمْ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ) [البقرة:11، 12].
والواقع ـ عباد الله ـ خيرُ شاهدٍ على هذا، ولنا أن نتساءل إذًا: أيّ حرية يُرادُ جلبُها للعراق الجريح وفلسطين المغتصَبَة؟! أيّ سعادةٍ ستطال أهلَها بفُوَّهاتِ المدافع وصريخ الرشّاشات؟! أيّ حياةٍ هانئةٍ جاؤوا يبشّرون بها لا تقوم إلا على الأشلاء والقتلِ والدمار وهدمٍ لبيوت العبادةِ والنسُك؟! والذي نستطيع أن نعلمه جيِّدًا أنّ الطباعَ العقليّة لم تنقلب معاييرها بحيث نظنّ بأنّ الدمارَ إصلاح والقتلَ حياةٌ والفوضى نظام والظلمَ عدل.
إن الألباب لتتّفِق جميعًا على أنّ هذا ما هو إلا منطقٌ فرعونيّ يتلوه المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها منذ قرونٍ في قول الله تعالى: (قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلاَّ مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشَادِ) [غافر:29].
أفيُعقل إذًا أنّ قتلَ أربعةٍ جريمةٌ غير مغتفَرة وقتل شعبٍ كاملٍ مسألةٌ ليست إلاّ محتقرة؟! أفيُعقل إذًا أن تقابَل إرادات الشعوب والمجتمعات الدوليّة في إدانة قتل العُزّل والاحتلال والاغتصاب وقتل الأطفال والشيوخ والمجاهدين أيُعقَل أن تُقابل بحقّ النقض ضدَّ التصويتِ وما يسمّى بلغة العصر "الفيتو"، فترجع إرادةُ العالم القهقرى؟!
أين حقوقُ الإنسان المزعومة؟! وأين الحريّة التي يدعو إليها أولئك؟! أفتكون دعاوى الحقوق والرحمة والعدل منصبَّةً على دعم وتحصين المنظَّمات العالمية لمحبِّي الكلاب والحيوانات الأليفة؟! أفتكون الكلاب المكلَّبة أهمَّ وأعظم من طفلٍ رضيع، بله قطر إسلاميّ برمّته؟! تالله وبالله، بمثل هذا تموت الحقوق وتبلغ القاع.
إنه بمثل هذا قُلبَت المعايير العقليّة حتى لقد صار الغبيّ حقًّا هو من يحاوِل أن ينالَ حقَّه باسم العدالة أو الرحمة الدولية، وصار المغبون حقًّا هو ذلك الضعيف المهزول الجاثي على ركبتَيه المهزولتين أمام تلك القوى الظالمة الغاشمة يستجديها حقّه ويسألها إنصافَه ويطلب إليها بالمدمَع لا بالمدفَع، فصار لا يوجد العدل الدوليّ إلا حيث يوجد الجور، ولا يوجد السِّلم إلا حيث توجد الحرب، وصارت القوى الظالمة لا تذكر العدالةَ ولا الحقوقَ الإنسانيّة إلا إذا تحدّثت إلى الأقوياء الباطشين أمثالها، وهم في ذلك كلِّه يجعلون المالك الطريد في أرضه إرهابيًّا لا حقَّ له، واللصَّ الغالب على الأرض والحقوقِ والمقدّسات ربَّ بيتٍ محترمًا، مالكًا للأرض لا بالإحياء الشرعي بل بالإماتة الجماعية والقهر النفسيّ، ولو بقي فيهم بصيصُ رحمة وإنصاف مزعوم فسيجعلون المنكوبَ المغتصَب يقول لهم بلسان حاله:
إذا مرِضنا أتيناكم نعودكمُ | وتخطئون فنأتيكم ونعتذر |
بمثلِ هذا ـ عبادَ الله ـ انفصَمت علائق الآمال لدى المشرئبّين لعَود حقوقهم السليبة بعد أن مسَّهم الضرّ من إفراطِ قوى الظلم والجبروت، حتى ردّوهم عن بلوغ الأرب وهمّوا بما لم ينالوا، ثم وقرت أسماعهم عن حسيسِ همسات الغيلة، فكانت الداهية ما منها بدّ، فلا حول ولا قوة إلا بالله.
(لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ) [آل عمران: 196، 197].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، قد قلت ما قلت، إن صوابًا فمن الله، وإن خطًا فمن نفسي والشيطان، وأستغفر الله إنه كان غفارًا.
الخطبة الثانية:
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبيّ بعده.
وبعد: فاتقوا الله معاشرَ المسلمين، واعلموا أنّ الله كتب العزّة والرفعة والعلوَّ لعباده المؤمنين، فالمسلمون هم الأعلَون بدينهم وعقيدتهم ومبادئهم وإن هُزمُوا عسكريًّا ووطئتهم قوّةُ الاحتلال، فالله جل وعلا يقول: (وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) [آل عمران:139]، ولما قال أبو سفيان -رضي الله عنه- يومَ أحد: اعلُ هُبل، قال رسول الله : "ألا تجيبوه؟!" قالوا: ما نقول؟ قال: "قولوا: الله أعلى وأجلّ"، ثم قال أبو سفيان: لنا العُزّى ولا عُزّى لكم، قال رسول الله : "ألا تجيبوه؟!" قالوا: ما نقول؟ قال: "قولوا: الله مولانا ولا مولَى لكم" (أخرجه البخاري في الجهاد (3039) عن البراء بن عازب رضي الله عنه).
فالنصر قادمٌ بإذن الله لأمّة الإسلام، وإن تباطأ مجيئُه لحكمةٍ يريدُها الباري -جلّ شأنه-؛ لأنّ وعدَ الله واقعٌ لا محالةَ وكلمتَه قائمة: (وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمْ الْمَنصُورُونَ وَإِنَّ جُندَنَا لَهُم الْغَالِبُونَ) [الصافات:171-173].
وما علينا نحن -معاشر المسلمين- إلاّ أن نستكمل الأسبابَ الجالبةَ لوعد الله؛ لأنّ شعوبًا لا تعرف إلا الله لن يغلبَها من لا يعرف الله، وإنّ شعوبًا لا تعرف إلاّ الحقّ لن يغلبَها من لا يعرف إلا الباطل.
(إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ فِي الأَذَلِّينَ * كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ) [المجادلة:20، 21].
هذا، وصلّوا ـ رحمكم الله ـ على خير البرية وأزكى البشرية محمد بن عبد الله بن عبد المطلب صاحب الحوض والشفاعة، فقد أمركم الله بأمر بدأ فيه بنفسه، وثنى بملائكته المسبّحة بقدسه، وأيّه بكم أيها المؤمنون، فقال عزّ من قائل عليم: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب:56].
اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد...