التواب
التوبةُ هي الرجوع عن الذَّنب، و(التَّوَّاب) اسمٌ من أسماء الله...
العربية
المؤلف | سعد بن تركي الخثلان |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - المنجيات |
إنك أيها الإنسان الآن في دار يتمناها الأموات لكي يعملوا صالحاً، وما من ميت يموت إلا وقد ندم؛ إن كان محسنًا ندم ألا يكون قد ازداد، وإن كان مسيئًا ندم ألا يكون قد استعتب وأناب.. رُئي بعض الموتى في المنام فقال: "نحن أيها الأموات نعلم ولا نستطيع أن نعمل. وأنتم أيها الأخيار تعلمون ولا تعملون، والله لتسبيحة واحدة يجدها أحدنا في صحيفته خير من الدنيا وما فيها"...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله نحمده، ونستعينه ونستغفره، ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: فقد أخرج مسلم في صحيحه عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول -صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاثة: إلا من صدقة جارية، أو علم يُنتفع به، أو ولد صالح يدعو له".
في هذا الحديث العظيم يبين النبي -صلى الله عليه وسلم- أن عمل الإنسان ينقطع بالموت؛ فإن من مات فقد انقطع عن دار العمل، وانتقل إلى دار الجزاء والحساب، ولذلك فإن الحياة فرصة عظيمة للأحياء في أن يعملوا، وأن يتزودوا بالأعمال الصالحة؛ فرصة لأن ينيبوا إلى الله -تعالى- ويرجعوا إليه.
إنك أيها الإنسان الآن في دار يتمناها الأموات لكي يعملوا صالحاً، وما من ميت يموت إلا وقد ندم؛ إن كان محسنًا ندم ألا يكون قد ازداد، وإن كان مسيئًا ندم ألا يكون قد استعتب وأناب...
رُئي بعض الموتى في المنام فقال: "نحن أيها الأموات نعلم ولا نستطيع أن نعمل. وأنتم أيها الأخيار تعلمون ولا تعملون، والله لتسبيحة واحدة يجدها أحدنا في صحيفته خير من الدنيا وما فيها".
ولذلك فقد نُهِي عن تمني الموت؛ لأنه بالموت تنقطع الأعمال، ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا يتمنين أحدكم الموت لضرّ نزل به؛ إن المؤمن إذا مات انقطع عمله، وإن المؤمن لن يزيده عمره إلا خيراً".
أيها الإخوة في الله: وفي هذا الحديث العظيم يخبر الصادق المصدوق -صلى الله عليه وسلم- بأن أموراً ثلاثة لا تنقطع بالموت، وإنما يجري للإنسان أجرها وثوابها بعد موته...نعم إن الموت تنقطع به الأعمال، لكن هذه الأمور الثلاثة لا تنقطع بالموت.
الأمر الأول: صدقة جارية، والصدقة الجارية هي الوقف والتسبيل في أمور الخير، فما وقفه المسلم لله -تعالى- فهو من الصدقة الجارية التي يستمر ثوابها له بعد مماته، كعمارة المساجد، والأوقاف التي تسبّل وتوقف للفقراء والمحتاجين والمعوزين، ونحو ذلك من الأوقاف في أمور الخير.
والوقف -يا عباد الله- هو تحبيس الأصل وتسبيل المنفعة، فلا يُباع ولا يُورَث ولا يُوهَب، وهو من أفضل القُرَب إذا كان في أمور الخير، ويكفي في بيان فضله أن ثوابه يستمر للإنسان بعد مماته، ولذلك فقد أشار به النبي -صلى الله عليه وسلم- على عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- لما استشاره في أنفس مالٍ أصابه؛ ماذا يفعل به؟
ففي الصحيحين عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: "أصاب عمر أرضاً بخيبر فأتى النبي -صلى الله عليه وسلم- يستأمره فيها فقال: يا رسول الله إني أصبت أرضاً بخيبر لم أصب مالاً قط هو أنفس عندي منه فما تأمرني به؟ قال: "إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها" –أي: أوقفتها- قال: فتصدق بها عمر أنه لا يُباع أصلها ولا يُبتاع ولا يُورث ولا يُوهب، قال: "فتصدق بها عمر في الفقراء وفي القربى وفي الرقاب وفي سبيل الله وابن السبيل والضيف، لا جناح على من وليها أن يأكل منها بالمعروف أو يطعم صديقاً".
فتأملوا -رحمكم الله- هذه القصة، وكيف أشار النبي -صلى الله عليه وسلم- على عمر في أنفس مال أصابه بأن يوقفه، فأوقف عمر أرضه على الفقراء، وعلى أقاربه، وفي الرقاب، وفي سبيل الله، وابن السبيل والضيف؛ ولهذا فقد حرص الصحابة -رضي الله عنهم- على الوقف.
عباد الله: تحروا بمصاريف أوقافكم الفقراء والأقارب، وما تشتد الحاجة إليه "كالمساجد والكتب الدينية، ومكاتب الدعوة إلى الله، وتوعية الجاليات، ونحو ذلك، واحذر من وقف الإضرار والمحاباة كمن يقصد بالوقف إضرار شريك، أو حرمان وارث من المنفعة؛ فإن من الناس من يوقف أوقافًا بقصد حرمان بعض الورثة من الإرث؛ وهذا لا يحل لهم دون غيره من الورثة؛ فإن الوقف عبادة لله لا تصح إلا إذا خلصت لله موافقة لشرعه...
الأمر الثاني: مما يستمر أجره وثوابه للميت بعد موته: "علم يُنتفع به"، والمراد بهذا العلم: العلم المستمدّ من كتاب الله وسنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ويكون توريثه بالتعليم والتأليف والنشر، ونحو ذلك، وها نحن يا عباد الله نذكر علماء ماتوا من مئات السنين، ونترحم عليهم، وندعو لهم، هذا هو العلم النافع الذي يبقى للإنسان بعد وفاته، وكلما كان العلم أكثر نفعاً وأوسع انتشاراً؛ كلما كان أعظم ثواباً وأجراً، ويدخل في ذلك من دعا إلى هدى؛ فإن له مثل أجر من تبعه، ولو كان ذلك بعد وفاته، يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "ومن دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئًا".
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم..
الخطبة الثانية:
الحمد لله العلي الأعلى، الكامل في الأسماء الحسنى، والصفات العلى، رب السموات والأرض رب الآخرة والأولى..
عباد الله: وثالث الأعمال التي لا نتقطع بالموت "دعاء الولد الصالح"، وهنا نقف وقفة مع هذا الأمر: كيف اعتبره النبي -صلى الله عليه وسلم- عملاً للإنسان وكسباً مع أن الدعاء من عمل شخص آخر وهو الولد؟
قال أهل العلم: إن الولد يعتبر من كسب الإنسان، وفي هذا دليل على أنه ينبغي للمسلم أن يسعى لطلب الولد عن طريق الزواج؛ فان الزواج من سنن المرسلين كما قال الله -تعالى-: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِّن قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجاً وَذُرِّيَّةً..) [الرعد:38].
وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "يا معشر الشباب! من استطاع منكم الباءة فليتزوج؛ فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم؛ فإنه له وجاء"، ثم إنه ينبغي بعدما يرزقه بالولد أن يسعى في إصلاحه وتربيته، وذلك ببذل أسباب الهداية، وسؤال الله -تعالى- أن يهديه هداية الإلهام والتوفيق.
وفي هذا الحديث دليل على أن دعاء الولد الصالح لوالديه ينفعهما بعد مماتهما، قال النووي -رحمه الله- في شرح مسلم (4/11/85): "في هذا الحديث من الفوائد: أن الدعاء يصل ثوابه إلى الميت، وكذلك الصدقة وهي مجمع عليهما، وكذلك قضاء الدَّيْن، بل إن دعاء الولد لوالديه حريّ بالإجابة؛ لأن الله -تعالى- قد أمر به في قوله سبحانه (وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً) [الإسراء: 24].
قال بعض المفسرين في هذه الآية: "إن الدعاء للوالدين مستجابٌ؛ لأن الله أذن فيه"،
وحديث "إذا مات ابن ادم انقطع عمله إلا من ثلاث.."، مؤيد لذلك إذ جعل دعاء الولد عملا لأبويه. فينبغي لك أخي المسلم أن تجتهد في الدعاء لوالديك في حياتهما وبعد مماتهما، وأن الولد الذي يدعو لوالديه خاصة بعد مماتهما وانقطاع أعمالهما حريّ بأن يقيّض الله له من أولاده من يفعل ذلك ويدعو له.
إن من الناس من يموت ولا يكون له أي آثار من أعمال صالحة، بل تطوى صحيفة حسناته بموته، ومن الناس مَن يوفق فيكون له آثار من أعمال صالحة وهو في عداد الأموات، لكن ثوابها وأجرها يجري له من صدقة جارية أنفذها في حياته، أو علم يُنتفع بها بقيت آثاره بعد مماته، أو دعاء ولد صالح.
عباد الله: وكل الناس يتمنون أن يكون لهم آثار من أعمال صالحة يجري ثوابها لهم بعد مماتهم، ولكن بعض الناس يُؤتى من جهة التفريط والإمهال، وطول الأمل حتى يبغته الموت، أو يبغته مرصد الموت، فلا يستطيع حينئذ أن يقدم ما كان يتمناه، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: "وما حق امرئ مسلم يبيت ليلتين له شيء يريد أن يوصي به إلا وصيته مكتوبة عند رأسه".. قال ابن عمر -رضي الله عنها-: "ما بت ليلة إلا وصيتي مكتوبة عند رأسي".
اللهم وفقنا للعمل الصالح يا رب العالمين..
وهذا وصلوا وسلموا على نبيكم كما أمركم الله بذلك..