الجميل
كلمة (الجميل) في اللغة صفة على وزن (فعيل) من الجمال وهو الحُسن،...
العربية
المؤلف | طالب بن عمر بن حيدرة الكثيري |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الدعوة والاحتساب - المهلكات |
إن حديث خطبتنا عن فاكهة المجالس المحرمة، عن ضيافة الفساق، قد ترى الرجل يتورع عن الفواحش والمظالم والمنكرات، فإذا حانت له الفرصة هتك في أعراض الناس، يهوي في النار بالكلمة يقولها ولا يبالي. ترى بعض المجالس، لا يطيب فيها كلامٌ لجالس، حتى تكون حديث سهرهم، وإدام سمرهم، إنها...
الخطبة الأولى:
إن دين الإسلام دين شامل كامل، في العقائد والأحكام، وفي العبادات والأخلاق، يخاطب العقل، ويسمو بالروح، ويزكي الخلق، ويرشد إلى معالي الأمور، دعا لتهذيب النفوس، وتزكيتها، حتى قال سبحانه: (يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ) [غافر: 19].
ديننا الذي ختم الله به الأديان، جاء ليخرج المسلم طاهر القلب، نقي السريرة، عف اللسان، صادق الوجدان، لا غل ولا حسد.
جاء ليوجد المجتمع المتدين، المحفوظ الحرمات، لا يؤخذ أحد فيه بالظنة، ولا تتبع فيه العورات.
مجتمعٌ يتآخى فيه أهله ويتآزرون، ويأمن الجميع على أنفسهم وأعراضهم وأموالهم.
إن حديث خطبتنا عن فاكهة المجالس المحرمة، عن ضيافة الفساق، قد ترى الرجل يتورع عن الفواحش والمظالم والمنكرات، فإذا حانت له الفرصة هتك في أعراض الناس، يهوي في النار بالكلمة يقولها ولا يبالي.
ترى بعض المجالس، لا يطيب فيها كلامٌ لجالس، حتى تكون حديث سهرهم، وإدام سمرهم.
إنها الغيبة -أيها الكرام- ذكر العيب بظهر الغيب، أن تذكر أخاك في غيبته بما يكره: "إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهتّه" هكذا بينها رسولنا -صلى الله عليه وسلم-.
والغيبة -أيها الإخوة- ذات أسماء ثلاثة، كلها في كتاب الله -عز وجل-: الغيبة، والإفك، والبهتان.
فإذا كان في أخيك ما تقول فهي الغيبة، وإذا قلت فيه ما بلغك عنه فهو الإفك، وإذا قلت فيه ما ليس فيه فهو البهتان، هكذا بيّن أهل العلم -رحمهم الله-.
وعن المطلب بن عبد الله قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: " الغيبة: أن تذكر الرجل بما فيه من خلفه" [حديث صحيح في السلسلة الصحيحة].
قال الحافظ ابن حجر -رحمه الله- في بيان الغيبةِ وتفسيرِها على التّفصيل: "هي ذكر المرء بما يكره، سواء كان ذلك في بدنه أو دينه أو دنياه، أو نفسه أو خلقه أو ماله".
وهذا هو نبينا -صلى الله عليه وسلم- ينادي هؤلاء المبتلين بهذا الداء المهلك: " يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه، لا تغتابوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم؛ فإن من تتبع عورة أخيه تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف بيته".
إن المشكلة -أيها الكرام- أن الغيبة تعددت صورها بيننا، واختلفت أشكالها، حتى صار من العسير الانفكاك عنها إلا لمن وفقه الله -تعالى-.
إن صور الغيبة قد خفت على كثير من الناس، وقد بيّن العلماء منها أشكالاً كثيرة قد لا يظن الظآن أنها من الغيبة، ومن ذلك ما ذكره ابن تيمية في فتاويه، وابن قدامة في مختصر منهاج القاصدين وغيرهم، حتى قالوا -رحمهم الله-: من عاب صنعة فقد عاب صانعها، ومن صور الغيبة المنتشرة:
1- أن يقدم بعضهم مقدمة قبل كلامه، فتسمعه يقول: فلان طيب وفيه الخير، لكنه .. ثم يبدأ بالغيبة من بعد قوله: ولكنه فيه كيت وكيت، ويقع في عرضه، فيظهر باديء الكلام الصلاح، ثم يتشفى من أخيه بذكر معايبه.
2- إن من صور الغيبة: أن تخرج الغيبة في طابع الدعابة، وهو ما يسميه بعضهم بالتنكيت، وأغلبه غيبة محرمة، غيبة لأشخاص أو عشائر أو بلدان.
ومتى كانت الغيبة وسيلة للترويح عن النفس؟ وأين يذهب المرء من الله -تعالى- إذا جاء بأهل بلاد كلهم اغتابهم وهو يمزح!.
3- إن بعض الناس يخرج الغيبة في قالب التعجب أو التأسف، فتجده يقول: كيف يفعل فلان كذا، وما ظننت أنه يفعل كذا، وما صدقت أنه يقع في كذا من المعايب، فيخرج غيبته في معرض تعجبه واغتمامه، وهو يريد احتقاره وازدراءه.
4- وبعض الناس يخرج الغيبة على صورة الغيرة على سنة رسول الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فيفري في أعراض بعض الأفاضل بحجة أنه يُبين الخطأ، ويتجاوز به الأمر، فيطعن في عرضه أو أهله وأشياء كثيرة، ولو أنه أراد الحق لاكتفى بما يدل عليه، لكنها أمراض القلوب -عافنا الله وإياكم-.
5- ومما ذكره أهل العلم من صور الغيبة أن يقول: دعونا منه، الله يغفر لنا وله، أو يقول: نسأل الله السلامة، اللهم لا تبتلينا، أو يقول: الحمد لله الذي هدانا، اللهم لا شماتة، وهو لا يريد بذاك الدعاء، وإنما التنقص والسخرية بأخيه، وتزكية النفس ومدحها.
6- وبعضهم -أيها الإخوة-: يحتال ليخادع نفسه وليس هو بمخادع الله، فتراه يذكر رجلاً لا يسميه باسمه، لكنه يصفه بصفات يعلم من حضر أنه إنما يقصد فلاناً بعينه، فإذا نهيته عن ذلك، قال: أنا لم أذكر اسمه،، وليس ذلك بمنجيه من إثمها وقد احتقر أخاه المسلم.
7- والبعض الآخر يعتذر بما هو ليس بعذر ليسوغ غيبته، فإذا قلت له: اتق الله، قال: أنا مستعد أن أذكر هذا في وجهه، أو يقول لك: لقد قلت له هذا الكلام في وجهه، وليس هذا مبررًا له أن يهتك عرض أخيه متى شاء، بل لو كان صادقًا في جرأته، فليذهب إليه، ولينصحه بآداب النصيحة، لعله أن ينتفع بنصحه.
8- ومن الغيبة المنتشرة بيننا للأسف الشديد قول البعض: هذا بدوي، هذا من آل كذا، هؤلاء ما عليهم لوم.
ويقول أحدهم: هذا شمالي، ويقول الآخر: هذا جنوبي.
وكلها -وربي- من الأمور العظيمة أن تُسب القبيلة بذنب الرجل والرجلين.
ثم أليس فيهم صالحون وأتقياء وعلماء خير منا؟ فلماذا هذا التعميم الذي لا يقصد البعض منهم التحذير والبيان، ولكن يريد احتقار الآخرين وانتقاصهم؟
9- ومن الغيبة المحرمة أيضًا: غيبة الهمز واللمز، فيغتابه دون أن يتكلم؛ بإخراج اللسان، أو تمييل الشفه، أو نفض اليد، أو نحو ذلك، وهذه عائشة -رضي الله عنها- قالت: قلت للنبي -صلى الله عليه وسلم-: حسبك من صفية كذا وكذا، قال بعض الرواة: تعني قصيرة، فقال: "لقد قلت كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته".
11- ومن ذلك أيضًا: محاكاة الناس وتقليدهم، في أصواتهم أو حركاتهم أو طريقة أكلهم أو لبسهم، قالت عائشة -رضي الله عنه-: "وحكيت له إنسانًا، فقال: ما أحب أن حكيت لي إنسانًا، وأن لي كذا وكذا" [رواه أبو داود والترمذي].
12- إن أكثر ما تنشر الغيبة -أيها الكرام- في مجالس النساء، فيذكرن فلانة وفلانة، ويتناقلن هذه الأخبار، حتى تعاد على أسماع الحاضرات عشرات المرات.
ألا فلتتق الله كل أخت تسمع هذا الكلام، ولنقم نحن -معاشر الرجال- بواجب القوامة على زوجاتنا، فننهاهم عن الشر، ونحثهم على مجالس الخير، ونكون قدوات لهن في اجتناب الغيبة.
وفقنا الله وإياكم للخير، وجنبنا وإياكم منكرات الأخلاق، اللهم آمين.
واستغفر الله لي ولكم من كل ذنب، والتائب من الذنب كمن لا ذنب له.
الخطبة الثانية:
الحمد لله ذي العرش المجيد، الفعال لما يريد، أحاط بكل شيء علمًا، وهو على كل شيء شهيد، وما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، هو أقرب إلى عبده من حبل الوريد، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله نشر أعلام التوحيد، وتركنا على الهدي السديد، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين ومن تبعهم بإحسان، وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم المزيد.
عن جابر -رضي الله عنهما- قال: كنّا مع النبي -صلى الله عليه وسلم- فارتَفَعت ريحٌ منتِنة، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: " أتدرون ما هذه الريح؟ هذه ريح الذين يغتابون الناس" [رواه أحمد، وقال ابن حجر في الفتح: "سنده صحيح"].
كفى بالغيبة إثمًا أنها تجلب البغضاء والحقد والكراهية بين المسلمين.
كفى بالغيبة أثرًا أنها تُقسي قلب العبد، وتصده عن لذة العبادة.
كفى بالغيبة ذمًا ما قاله علي بن الحسن -رحمه الله-: "إياك والغيبة، فإنها إدام كلاب الناس".
إنك ما ترى المغتاب في الدنيا إلا ترى مشهدًا فضيعًا، ترى رجلاً قاعدًا على رجل ميت، وهو يُقطع من لحمه ويأكل، فيسيل دم أخيه من فمه، وتقعقع عظامه بين أضراسه، ويتساقط لحمه من بين أصابعه، يصف لنا القرآن هذا المشهد ليكرهنا فيه: (وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ) [الحجرات: 12].
أما إنك لو رأيت المغتاب يوم القيامة لرأيت رجلاً له أظفار من نحاس، يخمش بها وجهه؛ فيقطع لحمه وينـزع جلده، ثم يخمش جسمه ويفري عظامه، فعند أبي داود من حديث أنس -رضي الله عنه- قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لما عرج بي مررت بقوم لهم أظفار من نحاس يخمشون بها وجوههم وصدورهم، فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم".
أيها الإخوة: إن الغيبة من المحرمات العظيمة، يقول الإمام البخاري -رحمه الله-: "ما اغتبت مسلمًا منذ أن علمت أن الغيبة حرام".
أيها الإخوة: إن الغيبة من كبائر الذنوب، يقول القرطبي -رحمه الله-: "والإجماع على أنها من الكبائر، وأنه يجب التوبة منها إلى الله -تعالى-".
أيكم يود أن يأتي يوم القيامة مفلسًا؟ قال صلى الله عليه وسلم:" أتدرون من المفلس؟" قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، فقال: "المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي قد شتم هذا وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا؛ فيعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته؛ فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه، ثم طرح في النار" [رواه مسلم].
أيكم يود أن يأتي يوم القيامة وهو محبوس في ردغة الخبال؛ عصارة أهل النار؟ "من قال في مؤمن ما ليس فيه أسكنه الله ردغة الخبال، حتى يخرج مما قال، وليس بخارج" [رواه أبو داود وغيره عن ابن عمر -رضي الله عنه-].
فاتقوا الغيبة، واتقوا خطرها، واحذروا من شرها، ووالله للغيبة أسرع في دين الرجل من الأكلة في الجسد.
وحديث خطبتنا القادمة -إن شاء الله- أن نتعرف كيف نعالج ألسنتنا من الغيبة؟ وكيف تكون التوبة منها؟
لكن لنعلم أن أهل العلم -رحمهم الله تعالى- ذكروا صورًا مباحة استثنوها من الغيبة المحرمة، نظمها الشاعر في قوله:
القدح ليس بغيبـة في ستـة | متظلـمٍ ومعـرفٍ ومحـذرِ |
ومجاهر فسقًا ومستفتٍ ومن | طلب الإعانة في إزالة منكرِ |
فالتظلم عند القادر على إزالة الظلم بذكر الظالم ليس من الغيبة، وكذا الاستفتاء؛ لأنه من باب أخذ الحق، وذكر العاصي المجاهر بمعصيته، والمبتدع الداعي لبدعته ليس من الغيبة؛ لأنه من بيان الحق، وتعريف الرجل للآخرين بذكر ما يُعرف به ليس من الغيبة، ما دام أنه ما قصد شينه وعيبه، لكن قصد تعريفه وتبيينه.
وما أمكنك -أخي المسلم- أن تجتنب التصريح إلى التلميح، والتسمية إلى التعريض فاسلك هذا؛ فإنه خير وأسلم، والله أعلم بالسرائر، وكفى بنفسك عليك حسيبًا ورقيبا: (بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ * وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ) [القيامة: 14- 15].
(رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ) [الحشر: 10].
اللهم واهدنا لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت، اللهم واصرف عنا سيء الأخلاق لا يصرف عنا سيئها إلا أنت.