الغفار
كلمة (غفّار) في اللغة صيغة مبالغة من الفعل (غَفَرَ يغْفِرُ)،...
العربية
المؤلف | طالب بن عمر بن حيدرة الكثيري |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الدعوة والاحتساب - المهلكات |
المبتلى بها ذو قلبٍ متقلبٍ، وفؤادٍ مظلمٍ، انطوى على بغض الخلق، وكراهية الخير، لا يعنيه نفع نفسه، بقدر ما يعنيه ضرر غيره. راحته وهناؤه أن يرى المحنة في أخيه واقعة، والنعمة عنه زائلة. يسره أن يرى الخير عن أخيه ممنوعًا، والمصائب به نازلة. المبتلى بها غيظه وغمه أن يصيبك خيرٌ، أو يحالفك توفيق، أو يتيسر لك رزقٌ، أو يجري على يديك نفع. المبتلى بها...
الخطبة الأولى:
معاشر المؤمنين: عن أبي موسى -رضي الله عنه- قال: قلت يا رسول الله أي المسلمين أفضل؟ قال: "من سلم المسلمون من لسانه ويده" [متفق عليه].
وقال أيضاً عليه الصلاة والسلام كما في الصحيحين: "من يضمن لي ما بين لحييه ورجليه أضمن له الجنة".
فكيف نتجنب خطر الغيبة؟ وكيف نعالج ألسنتنا من هذا العدوى المتفشية؟
وأول العلاج: الشعور بخطر الذنب:
أخذ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بلسان نفسه، وقال: "كف عليك هذا" قال معاذ: قلت: يا رسول الله وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ فقال: "ثكلتك أمك يا معاذ، وهل يكب الناس في النار إلا حصائد ألسنتهم؟".
الغيبة، وما أدراكم ما الغيبة؟
وقد علم أن المبتلى بها ذو قلبٍ متقلبٍ، وفؤادٍ مظلمٍ، انطوى على بغض الخلق، وكراهية الخير، لا يعنيه نفع نفسه، بقدر ما يعنيه ضرر غيره.
راحته وهناؤه أن يرى المحنة في أخيه واقعة، والنعمة عنه زائلة.
يسره أن يرى الخير عن أخيه ممنوعًا، والمصائب به نازلة.
المبتلى بها غيظه وغمه أن يصيبك خيرٌ، أو يحالفك توفيق، أو يتيسر لك رزقٌ، أو يجري على يديك نفع.
المبتلى بها قلبه مؤتفك، مريض بأفتك مرض، يحسد في السراء، ويشمت في الضراء، على الهم مقيم، وللحقد ملازم، تسؤوه المسرة، وتسره المساءة.
غلٌ وحقدٌ وضغينة، أسماء مترادفة في عداوة متمكنة، يمتلئ بها صدر صاحبها، ويتربص لها الفرص لينفث سمومه، ويرمي سهامه.
هل من شأن المؤمن -أيها المؤمنون- أن ينطوي على كل هذه الضغينة لأخيه؟! وكأنه يأنس بخذلانه، ووصول النقمة إليه، ولا تخطر له أخوة الإيمان ببال: (أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً) [الحجرات: 12].
هل أتاك حديث المغتاب؟
فالمغتاب همزة لمزة، مشاء بنميم، ويلٌ له ثم ويلٌ له، يتكلم بالكلمة يزل بها في النار أبعد ما بين المشرق والمغرب.
المغتابون ما أدراك ما المغتابون؟
لا يذكر عظيم إلا انتقصوه، ولا يظهر كريم إلا شتموه، ولا يبرز صالح إلا اتهموه، ولا يتميز مسؤول إلا مقتوه، يمشون بالكذب والتدليس، والمغالطة والتشويش، يتهمون الثقات، ويقعون في الصالحين: هذا طويل، وهذا قصير، وهذا جاهل، وهذا فاسق، وهذا عميل، وهذا مشبوه، العين غمازة، واللسان همازة، والكلمات لمازة، مجالسهم شر، وصحبتهم ضر، وفعلهم عدوان، وحديثهم بذاء.
الله أكبر -يا عباد الله- هل من شأن المؤمن أن يحمل كل هذا الضغن لأخيه؟!
وتعظم الغيبة أكثر وتقبح أشد: إذا رافقها مقاصد سيئة من حسد أو نميمة أو بهتان، أو قذف أو كذب، أو إيقاع فتنة، أو تحريش بين اثنين.
أيّها المسلمون: وتزداد خطورةُ الغيبة، ويعظُم شرّها، حينما يتَّخِذها المسلم سببًا لنيلِ عرَضًا من أعراض الدنيا، وحُطامها الفاني، فرسولنا -صلى الله عليه وسلم- يقول: "مَن أكل برجلٍ مسلِم أكلةً، فإنّ الله يطعمه مثلَها من جهنَّم، ومن كسِيَ ثوبًا برجلٍ مسلم، فإنَّ الله يكسوه مثلَه من جهنم".
وأعظم الغيبة وأشدها جرمًا: الوقوع في أعراض العلماء وأكل لحومهم، العلماء الذين هم ورثة الأنبياء، فاتقوا لحوم العلماء؛ فإن لحوم العلماء مسمومة، وعادة الله في هتك أستار منتقصيهم معلومة".
يقول تعالى في الحديث القدسي: "من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب".
قيل لبعض الصالحين: "لقد وقع فيك فلان حتى أشفقنا عليك ورحمناك؟ قال: عليه فأشفقوا، وإياه فارحموا".
روي عن الحسن البصري -رحمه الله- أن رجلاً قال له: إن فلانًا قد اغتابك، فبعث إليه رُطَبًا؟ وقال: قد بلغني أنك أهديت إليّ من حسناتك، فأردت أن أُكُافِئَكَ عليها، فاعْذرني فإني لا أقدرُ أن أكافئَك على التمام.
وجاء عن عبدالله بن المبارك -رحمه الله- أنه قال: "لو كنت مغتابًا أحدًا لاغتبت والديَّ لأنهما أحق بحسناتي".
وقال رجل للحسن: بلغني أنك تغتابني؟ فقال: لم يبلغ قدرك عندي أن أحكمك في حسناتي.
وثاني العلاج: تزكية النفس:
اذكر أخاك إذا غاب عنك بما تحب أن يذكرك به، وأعفه مما تحب أن يعفيك منه، اعمل عمل رجل يرى أنه مجازى بالإحسان مأخوذ بالإجرام.
ومتى خطر لك خاطر سوءٍ على مسلم، فينبغي أن تزيد في مراعاته والدعاء له بالخير، فإن ذلك يغيظ الشيطان ويدفعه عنك.
وإذا تحققت هفوة من مسلم فانصحه ولا تفضحه.
ثالث العلاج: تجنب مغريات الغيبة:
الغيرة في أمر من الأمور الدنيوية أو الدينية، وخصوصًا من الأقران من أعظم أسباب الوقوع في الغيبة، فاطرد عنك داء الحسد الذي أكل قلب المغتاب، وفتك بحسناته.
وقد تكون موافقة الجلساء ومجاملة الأصدقاء، أو التقرب والتزلف لدى الوجهاء والأغنياء والملأ؛ طمعًا في عطاياهم وإرضاء لأهوائهم، من الأسباب الداعية للغيبة؛ فتجنب.
ثم إياك والفراغ القاتل، فالنفس إذا لم تشغلها بالطاعة شغلتك بالمعصية، وأصحاب الهمم الكبيرة ليس لديهم وقت لثرثرة المغتابين.
ورابع العلاجات: تطهير اللسان:
يجب على المسلم ألا يعود لسانه على الغيبة مطلقًا؛ فلا يغتاب مسلمًا ولا غير مسلم، ولا إنسانًا ولا حيوانًا؛ لأن الذي يغتاب غير المسلمين كثيرًا سيتعود لسانه على حب الغيبة، ثم سينال من المسلمين، علمًا بأن غيبة غير المسلم إذا لم يكن فيها فائدة شرعية، فهي من اللغو وإضاعة الوقت بما لا ينفع.
ومن اللطائف -أيها الإخوة- ما جاء عن تاج الدين السبكي ابن تقي الدين السبكي أنه قال: كنت جالسًا بدهليز دارنا فأقبل كلب، فقلت: اخسأ كلب ابن كلب، يقصد كلبًا حقيقيًا، فزجرني الوالد -يقصد تقي الدين السبكي- فزجرني الوالد من داخل البيت لما سمعه، قلت: أليس هو كلب ابن كلب؟ قال: "شرط الجواز عدم قصد التحقير" فقلت: هذه فائدة.
وما أمكن البعدُ عن الغيبة في هذه المواضع، فهذا هو الأولى إذا تحقَّق المقصود بالتّعريض والتلميح.
وخامس العلاجات -معاشر المسلمين-: القيام من مجلس الغيبة.
اعلم أن المستمع للغيبة شريك فيها، والسامع أحد الشاتمين- أيها الإخوة- المستمع شريك للمغتاب، ولا ينجو من الإثم إلا أن ينكر بلسانه، فإن خاف فبقلبه، وإن قدر على القيام فليقم أو ليقطع الكلام بكلام آخر.
يقول ابن المبارك -رحمه الله-: "فِرَّ من المغتاب فرارك من الأسد".
احفظ حق أخيك، وصن عرضه، ففي الحديث: "من ذب عن عرض أخيه بالغيبة كان حقًا على الله أن يعتقه من النار".
وفي خبر آخر: "من قال في مؤمن ما ليس فيه أسكنه الله ردغة الخبال، حتى يخرج مما قال".
وقد صح عن نبينا -صلى الله عليه وسلم- كما في حديث معاذ بن أنس -رضي الله عنه- أنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من حمى مؤمنًا من منافق" قال: أراه قال: "بعث الله ملكًا يحمي لحمه يوم القيامة من نار جهنم" [رواه أبو داود].
وذكر رجلٌ رجلاً آخر بسوء أمام صاحبه، فقال له: هل غزوت الروم؟! قال: لا، قال: هل غزوت الترك؟ قال: لا، -والمقصود بالترك هنا، ليس الأتراك المعاصرين، المقصود بالترك في ذلك العصر هم الكفار ممن ينتسبون إلى الترك- قال: سلم منك الروم، وسلم منك الترك، ولم يسلم منك أخوك المسلم.
فهذه تربية عملية لترك الغيبة، ولإجابة المغتابين.
والسادس: المشارطة والمحاسبة:
يقول الله -تعالى-: (وَوُضِعَ الْكِتَـابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ ياوَيْلَتَنَا مَا لِهَـاذَا الْكِتَـابِ لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِرًا وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا) [الكهف: 49].
وتذكر قول الحق -سبحانه-: (وَكُلَّ إِنْسَـانٍ أَلْزَمْنَـاهُ طَـئِرَهُ فِى عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَـامَةِ كِتَابًا يَلْقَـاهُ مَنْشُوراً اقْرَأْ كَتَـابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا) [الإسراء: 13-14].
فعاهد نفسك على ترك الغيبة، شارطها في سائر اليوم على ذلك، ثم راقبها؛ فإن قصرت وتعدت فلا تقصر في لومها وتوبيخها أو معاقبتها علها أن تسلم لك، وتنقاد لطاعة الله.
قلت ما سمعتم، واستغفر الله لي ولكم؛ فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
التزام الصمت، فإن الكلمة لك ما لم تخرج من فيك، فإذا خرجت كانت عليك، وفي الحديث: "من يضمن لي ما بين لحييه وما بين رجليه أضمن له الجنة" [رواه البخاري].
ومن أكبر الأسباب الواقية من الغيبة: الاهتمام بالنفس، وعدم الاهتمام بالناس، فقد روى الترمذي وابن ماجة عن أبي هريرة مرفوعًا: "من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه".
فما يعنيني إذا اشترى فلان أو باع؟
الالتجاء إلى الله، والافتقار إليه، ودعاؤه -سبحانه-، بأن يقينا شرور أنفسنا، فإن التوبة منها: "ومن كانت عنده لأخيه مظلمة من عرضٍ أو مالٍ فليتحلله منها من قبل أن يأتي يوم ليس هناك دينار ولا درهم؛ تؤخذ من حسناته، فإن لم يكن أخذ من سيئات صاحبه فزيد على سيئاته ثم طرح في النار".