العظيم
كلمة (عظيم) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فعيل) وتعني اتصاف الشيء...
العربية
المؤلف | حسان أحمد العماري |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التاريخ وتقويم البلدان - المنجيات |
بالسمع تسمع الحق وتفرّق بينه وبين الباطل، وبالسمع تتعلم النطق والكلام، ولو وُلد أحد الناس أصم؛ فإنه لا يستطيع أن يتكلم، وبالسمع تفهم الآخرين، وترد عليهم، وبالسمع تبيع وتشتري، وتسمع الأذان والقرآن، وتنتفع بالموعظة، وتفهم الدرس، وتتعلم بسهولة ويسر؛ لذلك ربطت الآية القرآنية العلم بالسمع أولاً، ثم البصر فقال تعالى: (وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)، فأي نعمة هذه التي يغفل عن شكرها كثير من الناس؟!
الخطبة الأولى:
الحمدُ للهِ الذي أنشأَ وبَرَا، وخلقَ الماءَ والثَّرى، وأبْدَعَ كلَّ شَيْء وذَرَا، لا يَغيب عن بصرِه صغيرُ النَّمْل في الليل إِذَا سَرى، ولا يَعْزُبُ عن علمه مثقالُ ذرةٍ في الأرض ولاَ في السَّماء.
وأشهد أن لا إله إلا الله الذي لا تحيط به العقول والأوهام، المتفرد بالعظمة والبقاء والدوام، المتنزه عن النقائض ومشابهة الأنام، يرى ما في داخل العروق وبواطن العظام، ويسمع خفي الصوت ولطيف الكلام، إله رحيم كثير الإنعام، ورب قدير شديد الانتقام، قدَّر الأمور فأجراها على أحسن النظام، وشرع الشرائع فأحكمها أيما إحكام.
وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسوله أفضل الأنام، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان على الدوام، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: عبـاد الله: كل حواس الإنسان تنام ما عدا الأذن، فعندما تقرب يدك من شخص نائم، فإنه لا يستيقظ، وإذا ملأت الغرفة عطراً أو حتى غازًا سامًّا؛ فإنه يستنشقه ويموت دون أن يستيقظ..!! لكن إذا أحدثت صوتًا عاليًا، فإنه يقوم من النوم، وتبدأ وظيفة السمع بالعمل قبل وظيفة الإبصار.
فقد تبين أن الجنين يبدأ بالسمع في نهاية الحمل، وقد تأكد العلماء من ذلك بإجراء بعض التجارب؛ حيث أصدروا بعض الأصوات القوية بجانب امرأة حامل في آخر أيام حملها، فتحرك الجنين استجابةً لتلك الأصوات، بينما لا تبدأ عملية الإبصار إلا بعد الولادة بأيام، قال تعالى: (إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا) [الإنسان: 2].
وفي سورة الكهف.. يخبرنا -جل جلاله- بأن سبب نوم الفتية هذه السنين الطويلة هي أنه تعالى ضرب على آذانهم.. فأصبح النهار كالليل بلا ضجيج، قال تعالى: (فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً) [الكهف: 11]، بالسمع تسمع الحق وتفرّق بينه وبين الباطل، وبالسمع تتعلم النطق والكلام، ولو وُلد أحد الناس أصم؛ فإنه لا يستطيع أن يتكلم، وبالسمع تفهم الآخرين، وترد عليهم، وبالسمع تبيع وتشتري، وتسمع الأذان والقرآن، وتنتفع بالموعظة، وتفهم الدرس، وتتعلم بسهولة ويسر؛ لذلك ربطت الآية القرآنية العلم بالسمع أولاً، ثم البصر فقال تعالى: (وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [النحل:78]، فأي نعمة هذه التي يغفل عن شكرها كثير من الناس؟!
إنه يوجد إلى جانب ذلك 100000 مائة ألف خلية سمعية في كل أذن، مهمتها تنظيم دخول الصوت بذبذباته المختلفة، وهناك آلاف الأعصاب والأهداب والشعيرات؛ كل جزء منها يقوم بوظيفةٍ قدرها الله -سبحانه وتعالى- لذلك وجب على كل مسلم أن يستخدم هذه النعمة ويستعملها في أهم شيء في هذه الحياة، ألا وهي أوامر الدين، وتوجيهات حول الإنسان وعلاقته بربه ورسوله، والناس من حوله، والكون والحياة والموت والدنيا والآخرة، سماع تفهم وتفكر، وتدبر والتزام، وحب وعمل؛ من خلال كتاب الله وسنة رسوله محمد -صلى الله عليه وآله وسلم-؛ فأصحاب النار إنما كان سبب دخولهم فيها أنهم كانوا لا يسمعون قال تعالى: (وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ) [الملك:10].
إن عدم السماع لا يكون ممن فقد سمعه وحسب، فربما قذف الله على قلبه نور الإيمان، ورضّاه بقدره، فعاش في سعادة عظيمة، ولكن هناك مَن رزقه الله حواس سليمة من العيوب والأمراض، وأغدق عليه من النعم، ومع ذلك يمر على أوامر الدين وأحكام الشرع فيُعرض عنها.. يسمع هذا حلال، وهذا حرام فلا يستجيب.. ويسمع الأذان يناديه للصلاة فلا يبادر.. ويسمع بواجباته تجاه أولاده وأهله فلا يتحرك.. ويسمع عن دوره في حياة أمته ومجتمعه وتجاه إخوانه فلا تجده إلا مفرطًا ومقصرًا وربما متجاوزًا ومعتديًا، والله تعالى يقول: (وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ) [الأعراف: 179].
أيها المؤمنون/ عبـاد الله: إن السماع المطلوب هو ذلك السماع بنية البحث عن الحق واتباعه، والعمل به دون أن يكون هناك حظّ للنفس والهوى، ولذلك فقد أقام الله الحجة على كل إنسان، فخلق له جهاز السمع، وجهاز البصر والفؤاد، وهو القلب، وزوَّده بالعقل وهو المخاطب بالتكاليف قال تعالى: (وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً) [الإسراء: 36].. وقال تعالى: (وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ) [المائدة:83].
وقال تعالى على لسان المؤمنين: (رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ) [آل عمران: 193]، وحذر -سبحانه وتعالى- كل مسلم وكل مؤمن من أن يكون ممن قال الله فيهم: (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ) [الأنفال: 21 -23].
لقد كان الصحابة -رضي الله عنهم- أفقه الناس، وأحرص الناس؛ كانوا إذا سمعوا في كتاب الله يا أيها الذين آمنوا أرعوا سمعهم وأنصتوا؛ فإنما هو أمر يأتمرون به أو نهي ينتهون عنه؛ فكانت لهم السيادة في الأرض، والقبول عند رب الأرض والسماء، والفوز بموعود الله الجنة، وذلك خير الجزاء؛ لأنه سبحانه علم فيهم خيراً وحرصاً وصدقاً فأسمعهم الحق وأعانهم على اتباعه..
جاء صحيح مسلم عن عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلّم- رأى خاتمًا من ذهب في يد رجل فنزعه وطرحه على الأرض فقال: «يعمد أحدكم إلى جمر من جنهم، -أو قال: النار-، فيضعه في يده!»، فلما قام رسول الله، قال الناس: خذ خاتمك انتفع به، -انتفع به يعني بعهُ، صرّفه-، فقال: "لا والله لا آخذه وقد طرحه رسول الله".. ولما نزل قول الله تعالى: (لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ) [آل عمران: 92].
سمع أبو طلحة الأنصاري هذه الآية، وكان أكثر الأنصار بالمدينة مالاً، وكان أحب أمواله إليه بيرحاء، وكانت مستقبلة المسجد، وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يدخلها ويشرب من ماء فيها طيب...
فقام أبو طلحة إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله، إن الله تعالى يقول في كتابه: (لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ)، وإن أحب أموالي إليَّ بيرحاء، وإنها صدقة لله، أرجو برّها وذخرها عند الله، فضعها يا رسول الله حيث شئت، فقال: "بخ، ذلك مال رابح، ذلك مال رابح، قد سمعت ما قلت فيها، وأرى أن تجعلها في الأقربين". قال: "أفعل يا رسول الله"، فقسمها أبو طلحة في أقاربه وبني عمه..
وهكذا في سائر العبادات والمعاملات والأخلاق والسلوك يسمع المسلم ويسارع للتنفيذ؛ لأنه يتعبد الله بذلك، ويكتب له الفوز والفلاح، والحياة الطيبة، والنصر والتمكين والأمن والرزق، وراحة النفس، وطمأنينة القلب..
فاللهم اجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.. قلت ما سمعتم وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه..
الخطبة الثانية:
عبـاد الله: إننا أمة تسمع وتطيع، بل وتجتهد في التنفيذ والتطبيق لأوامر الدين، فلماذا قست القلوب وضعفت الهمم؟ ولماذا صمت الآذان، وتجمدت الجوارح، وزاد العصيان وظهر الاستهتار وضعفت المسئولية..
نسمع أوامر الدين ونواهيه في العبادات والمعاملات، والبيع والشراء، وفي السياسة والاقتصاد والإعلام، وفي الأخلاق والسلوك وحتى في العلاقات الزوجية، ومع ذلك تجد الضعف والتساهل، واتباع الهواء وحظوظ النفس عند كثير من الناس، وذاك والله هو الحرمان، وما ساءت الأحوال وحدث الانحراف، وحلت النكبات على الأفراد والمجتمعات والدول إلا بسبب ذلك.
وما قامت الحروب والصراعات وتجرأ المسلم على أخيه المسلم إلا عندما لم نسمع أوامر الدين في التآلف والإخاء، وحفظ الدماء والأعراض، والبعد عن الشيطان وخطواته وعدم الركون إلى أعداء الأمة.. والله تعالى يقول: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ) [الأنفال:20].. ويقول سبحانه: (إِنَّ هَـذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً) [الإسراء: 9].. وقال تعالى: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [الأنعام: 153].
فلا بد من توبة وإنابة وعزم وتضرع إلى الله بصدق وإخلاص حتى يسمعنا الحق، ويوفقنا لاتباعه، ويهدينا به إلى كل خير، ويدفع عنا المصائب والفتن والحروب والبغي والعدوان والظلم والعصيان، فالله –سبحانه- يحجب الحق عن مَن لا يستحقه ولو سمعه وذاك هو الخذلان، وهو نذير للعقوبة والهلاك.
عبـاد الله: إن مَن يحسن الاستماع، ويستعمل جوارحه فيما أمُر به وخُلق من أجله؛ فإنه سيسمع يوم القيامة ما تقر به عينه، ويفرح به قلبه في جنةٍ عرضها السموات والأرض قال تعالى عنهم: (لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً إِلَّا سَلاماً وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيّاً) [مريم:62].
اللهم دلنا على الحق، وأعنا على اتباعه، وثبتنا عليه حتى نلقاك.. اللهم احفظ بلادنا واحقن دمائنا وجنبنا المصائب والفتن وردنا إلى دينك رداً جميلاً...
هذا وصلوا وسلموا رحمكم الله على الرحمة المهداة، والنعمة المسداة؛ نبينا وإمامنا وقدوتنا محمد بن عبد الله، فقد أمركم الله بالصلاة والسلام عليه بقوله: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) [الأحزاب: 56].. والحمد لله رب العالمين.