القيوم
كلمةُ (القَيُّوم) في اللغة صيغةُ مبالغة من القِيام، على وزنِ...
العربية
المؤلف | علي بن يحيى الحدادي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | أركان الإيمان - أهل السنة والجماعة |
ومن إكرام الله له -صلى الله عليه وسلم- أن أكرم به أهل بيته ورفع قدرهم ومقامهم بشرف انتسابهم إليه. وأهل بيته هم زوجاته أمهات المؤمنين -رضي الله عنهن-، وكل مسلم ومسلمة من نسل عبدالمطلب بن هاشم. فأعمامه وعماته وذريتهم ممن أسلم كلهم أهل بيته عليه الصلاة والسلام. وقد جاء التنويه بشأنهم والحث على إكرامهم وتوقيرهم في كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-...
الخطبة الأولى:
أما بعد:
فإن الله –تعالى- يصطفي من يشاء من عباده ويختار، وله في ذلك الحكمة البالغة، ومن ذلك أنه اصطفى محمداً -صلى الله عليه وسلم- على سائر بني آدم فهو سيد ولد آدم كما ثبت عنه -صلى الله عليه وسلم-، ومن إكرام الله له أن أكرم به أهل بيته ورفع قدرهم ومقامهم بشرف انتسابهم إليه.
وأهل بيته هم زوجاته أمهات المؤمنين -رضي الله عنهن-، وكل مسلم ومسلمة من نسل عبدالمطلب بن هاشم. فأعمامه وعماته وذريتهم ممن أسلم كلهم أهل بيته عليه الصلاة والسلام.
وقد جاء التنويه بشأنهم والحث على إكرامهم وتوقيرهم في كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-.
فمن ثناء الله على أزواج نبيه -رضي الله عنهن- قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا * وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا * يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا * وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا * يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا * وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا * وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا) [الأحزاب: 28- 34].
وقوله تعالى: (النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ) [الأحزاب: 6]، فوصفهن بأنهن أمهات المؤمنين أي: لهن عليهم حق التوقير والتقدير والإجلال. ولا يحل لأحد الزواج منهن بعد موت النبي -صلى الله عليه وسلم- لقوله تعالى: (وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا) [الأحزاب: 53] فهن زوجاته في الدنيا وفي الآخرة في الجنة.
ومن ثناء النبي -صلى الله عليه وسلم- على أهل بيته قوله -صلى الله عليه وسلم-: "إنَّ اللهَ اصطفى كِنانَةَ مِن ولدِ إسماعيل، واصطفى قريشاً من كِنَانَة، واصطفى مِن قريشٍ بَنِي هاشِم، واصطفانِي مِن بَنِي هاشِم" (أخرجه مسلم).
وأخرج أبضاً عن عائشةَ -رضي الله عنها- أنها قالت: "خرج النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- غداةً وعليه مِرْطٌ مُرَحَّل مِن شَعر أسود –أي: كساء-، فجاء الحسن بن علي فأدخله، ثمَّ جاء الحُسين فدخل معه، ثمَّ جاءت فاطمةُ فأدخلَها، ثمَّ جاء عليٌّ فأدخله، ثمَّ قال: (إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ البَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا)"؛ أي: يريد سبحانه بما أمركم به من طاعته وطاعة رسوله أن يذهب عنكم الذنوب والآثام والخبث لتكونوا طاهرين مُطَّهَرين.
وأخرج مسلم أيضاً عن زيد بن أرقم قام رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- يوماً فينا خطيباً بماءٍ يُدعى خُمًّا، بين مكة والمدينة، فحمِد اللهَ وأثنى عليه، ووعظ وذكَّر، ثم قال:"أمَّا بعد، ألا أيُّها الناس فإنَّما أنا بشرٌ يوشك أن يأتي رسولُ ربِّي فأُجيب، وأنا تاركٌ فيكم ثَقَلَيْن؛ أوَّلُهما كتاب الله، فيه الهُدى والنُّور، فخذوا بكتاب الله، واستمسكوا به، فحثَّ على كتاب الله ورغَّب فيه، ثم قال: وأهلُ بَيتِي، أُذكِّرُكم اللهَ في أهل بيتِي، أُذكِّرُكم اللهَ في أهل بيتِي، أُذكِّرُكم اللهَ في أهل بيتِي".
ومنها قوله -صلى الله عليه وسلم-: "كل سبب ونسب منقطع يوم القيامة إلا سببي ونسبي"، روي عن جماعة من الصحابة.
وفي بعضها أن هذا الحديث هو الذي دفع عمرَ -رضي الله عنه- أن يتزوج أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب وبنت فاطمة بنت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فزوَّجه عليٌّ إياها على صغر سنها.
ومنها أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان ربما خص أهل بيته بالذكر في التشهد في الصلاة ففي مسند أحمد عن رجل من أصحاب النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-، عن النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- أنَّه كان يقول: "اللَّهمَّ صلِّ على محمَّدٍ وعلى أهل بيته وعلى أزواجِه وذريَّتِه، كما صلَّيتَ على آل إبراهيم إنَّك حميدٌ مجيدٌ، وبارِك على محمَّدٍ وعلى أهل بيته وعلى أزواجِه وذريَّتِه، كما بارَكتَ على آل إبراهيم إنَّك حميدٌ مجيدٌ".
وأما تخصيصه الأزواج والذرية فهذا ثابت في الصحيحين من حديث أبي حميد الساعدي ففيهما عنه أنهم قالوا: يا رسول الله كيف نصلي عليك؟ فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "قولوا: اللهم صلِّ على محمد وأزواجه وذريته، كما صليت على آل إبراهيم، وبارك على محمد وأزواجه وذريته، كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد".
اللهم صل على محمد وعلى أزواجه وذريته وأهل بيته وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
أما بعد: فإن من فضل الله –تعالى- على أهل السنة والجماعة أن وفقهم لحفظ وصية نبيه -صلى الله عليه وسلم- في أهل بيته فعرفوا لهم قدرهم، فمن كان من الصحابة منهم فله حق الإسلام وحق الصحبة وحق القرابة، ومن لم يكن من الصحابة كان له حق الإسلام وحق القرابة من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
وقد كان الصحابة من غير أهل البيت من أعظم الناس توقيراً وتقديراً لأهل البيت وعلى رأسهم الخلفاء الراشدون أبو بكر وعمر وعثمان.
فهذا أبو بكر يقول لعلي -رضي الله عنه-: "والذي نفسي بيدِه لَقرابةُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أحبُّ إليَّ أنْ أَصِلَ من قرابَتِي".
ويقول: "ارقُبُوا محمداً -صلى الله عليه وسلم- في أهل بيته". ومعنى ارقبوا أي: احفظوا. وكان يفدي الحسن بن علي بأبيه فكان يحمله على عاتقه وهو صبي صغير ويقول: بأبي شبيه بالنبي لا شبيه بعلي" (رواها كلها البخاري في صحيحه).
وكان عمر إذا خرج إلى صلاة الاستسقاء يقول :"اللَّهمَّ إنَّا كنَّا نتوسَّل إليك بنبيِّنا -صلى الله عليه وسلم- فتسقينا، وإنَّا نتوسَّلُ إليك بعمِّ نبيِّنا فاسقِنا، قال: فيُسقَوْن" (رواه البخاري).
واختار العباس إكراماً له لشدة قرابته من النبي -صلى الله عليه وسلم- فهو أقرب الناس إليه حتى من عليٍّ -رضي الله عنهما- مع كون عليٍّ أفضلَ منه؛ لأن العم بمنزلة الأب وهو أقرب من ابن العم.
وقال عمر للعباس: "والله لإِسلاَمُك يوم أسلمتَ كان أحبَّ إليَّ من إسلامِ الخطاب لو أسلَمَ؛ لأنَّ إسلامَك كان أحبَّ إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من إسلام الخطاب".
ومن إجلال عثمان -رضي الله عنه- لأهل بيت النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه كان إذا مر بالعباس وهو راكب نزل عن دابته إجلالاً له، وهكذا كان يفعل عمر أيضاً.
كان يحب الحسن والحسين ويكرمهما قال ابن كثير: "وكذلك كان عثمان بن عفان يُكرِمُ الحسن والحُسين ويُحبُّهما، وقد كان الحسن بن علي يوم الدار وعثمان بن عفان محصورٌ عنده ومعه السيف متقلِّداً به يُجاحف عن عثمان –أي: يدافع عنه-، فخشي عثمان عليه، فأقسم عليه ليَرجِعنَّ إلى منزلهم؛ تطييباً لقلب عليٍّ وخوفاً عليه، رضي الله عنهم".
وعلى هذه الطريقة سار الصحابة والتابعون لهم بإحسان من محبة أهل البيت وتوقيرهم وتقديرهم، مع البعد التام عن الغلو فيهم، فهم وسط بين الذين يعادون أهل البيت كلهم أو بعضهم كالناصبة والرافضة، وبين الرافضة الذين يغلون في بعض أهل البيت حتى يجعلونهم أنداداً لله يشركونهم معه في ربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته. فيدّعون لهم العصمة وينسبون إليهم الشركة مع الله في تصريف الكون وعلم الغيب، ويدْعُونهم مع الله، ويستغيثون بهم مع الله تعالى.
ثم أختم الخطبة بثلاثة تنبيهات:
الأولى:
أنه لما كان الانتساب لأهل البيت شرفاً عظيماً فقد تجرأ كثير من الناس فانتسبوا إليهم بغير حق، وهذا من كبائر الذنوب لقوله -صلى الله عليه وسلم-: "ليس مِن رجلٍ ادَّعى لغير أبيه وهو يَعلَمه إلاَّ كفر بالله، ومَن ادَّعى قوماً ليس له فيهم نسبٌ فليتبوَّأ مقعَدَه من النار" (متفق عليه).
الثانية: أن من كان من أهل البيت أو من مواليهم فإن الصدقة عليه حرام؛ لأنها أوساخ الناس، وقد طهَّرهم الله منها كما ثبتت بذلك الأحاديث عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
الثالثة: أنه لا حرج أن تُزوج الهاشمية من غير بني هاشم، فمن الأخطاء الكبيرة الضارة أن تُمنع الهاشمية عن الزواج بالمرضي دينُه وخلُقه من غير بني هاشم؛ فالنبي -صلى الله عليه وسلم- زوَّج عثمان برقية وأم كلثوم وهو ليس بهاشمي، وزوَّج أبا العاص ابن الربيع ابنته زينب وهو ليس بهاشمي، وزوَّج عليُّ بن أبي طالب عمرَ بن الخطاب بنته أم كلثوم وعمرُ ليس بهاشمي.
نسأل الله أن يوفق من ابتلي بهذه العادة القبيحة أن يتوب منها، وأن يكف عضله وإضراره بمولياته.
معاشر المؤمنين: صلوا وسلموا على المبعوث رحمة للعالمين..