الأول
(الأوَّل) كلمةٌ تدل على الترتيب، وهو اسمٌ من أسماء الله الحسنى،...
العربية
المؤلف | صالح بن عبد الله بن حميد |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الدعوة والاحتساب - المنجيات |
المُتأمِّل والمُتابِعُ لما يُدوَّنُ في مواقع التواصُل الاجتماعيِّ، وما تطفَحُ به وسائلُ الإعلام من عبارات التندُّر وصور الاستِهانة والغفلة، وكتابةً وصوتًا وصورةً، ومما يُلاحَظ من مسالِك بعضِ الناس من صُور البطَر ومظاهر الإسراف، والمُباهاة والتفاخُر، قد يكون ذلك كلُّه مُؤشِّرًا على كُفران النِّعم، واستيلاء الغفلة. في عباراتٍ وتدويناتٍ وتعليقاتٍ وتجاوُزاتٍ، في تكبيرٍ للصغير، وتصغيرٍ للكبير، يتتبَّعون النقائِص، ويتصيَّدون الأخطاء، وقد يكذِبون مئات الكذِبات، ويُثيرُون ألوانَ الإثارات، وبخاصَّةٍ إذا كان مثلُ هذه الإثارات والتعليقات تتعلَّقُ بهذا البلد المُبارَك، وهذا المُجتمع الطيب.
الخطبة الأولى:
الحمدُ لله، الحمدُ لله العليِّ في قَدره، المُتوحِّد في قَهره، المُتفرِّد في أمره، أحمدُه - سبحانه - وأشكرُه، وأتوبُ إليه وأستغفرُه، وأسألُه الإعانةَ على حُسن عبادته وذكرِه وشُكرِه، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له مؤمنًا بقضائِه وقدَره، خيرِه وشرِّه، وحُلوه ومُرِّه.
وأشهدُ أن سيِّدَنا ونبيَّنا محمدًا عبدُ الله ورسولُه أعزَّه بجُنده، وأيَّدَه بنصرِه، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه، وعلى آله وأصحابِه جاهَدوا في الله حقَّ جهاده، ونشروا أعلامَ الدين وراياته في برِّه وبحرِه، والتابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ ما لاحَ برقٌ في وَمضِه وما جادَ سحابٌ بقَطره، وسلَّم تسليمًا كثيرًا مزيدًا دائمًا إلى آخر دهرِه.
أما بعد:
فأُوصيكم - أيها الناس - ونفسي بتقوى الله، فاتقوا الله - رحمكم الله -، واخشَوا يومًا تُرجَعون فيه إلى الله؛ فالمُؤمن بين مخافتَين: بين أجلٍ قد مضَى لا يدري ما الله صانعٌ فيه، وأجلٍ قد بقِي لا يدري ما الله مُقدِّرٌ فيه.
والعاقلُ الحازِم من تزوَّد من دٌنياه لآخرته، وفي شبابِه قبل هرَمه، وفي صحَّته قبل سقَمه، وفي فراغه قبل شُغله، وحرِص على تقارُب القلوب؛ فليس كل غيبةٍ جفَوة، وليس كل لقاءٍ مودَّة، والتسامُح والاعتذارُ من أخلاق الكِبار.
زكاءٌ في القلوب، ونقاءٌ في السَّرائر، وسمُوٌّ في النفوس. التواضُع يرفعُ الرجال، والصمتُ يقِي من الزَّلَل، والحياءُ من الإيمان، والأشجارُ تُعرفُ من ثِمارها، (وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ * وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) [فصلت: 34- 36].
معاشر الإخوة:
لقد ضربَ الله من الأمثال ما فيه مُزدَجر، وساقَ من الأنبياء ما فيه مُعتبَر، (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ) [النحل: 112].
أيها المسلمون:
التوفيقُ طريقُ التقوى، والشكرُ سبيلُ الهُدى، ومن غفلَ عن نعم ربِّه أو استقلَّها أو جحدَها وكفرَها وكلَه الله إلى نفسه، فيستدرِجَه بهذه النِّعم حتى يُهلِكَه بها، أو يسلُبَها منه، أو يُغيِّرَها عليه بضدِّها، ولقد قال - عزَّ شأنُه - في أقوامٍ: (كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ) [سبأ: 15]، ثم قال فيهم بعدَها: (فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ) [سبأ: 16].
عباد الله:
إن نعمَ الله ما حُفِظ موجودُها بمثلِ عبادته، وما استُجلِبَ مفقودُها، وطُلِب مزيدُها بمثل شُكره وطاعته، يقول - عزَّ شأنُه - في قاعدةٍ ربَّانيةٍ لا تتخلَّف: (لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ) [إبراهيم: 7].
قاعدةٌ هي صمَّام الأمان لبقاء النِّعم، وهي السبيلُ المُقيم لزيادتِها وبركتِها. فحذارِ ثم حذارِ - يرحمُكم الله - من التنكُّر والجُحود والغفلَة، (كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ). احذَروا التبرُّم الممزوجَ بالمقت والتسخُّط: (فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ).
يُقال ذلك - يا عباد الله - والمُتأمِّل والمُتابِعُ لما يُدوَّنُ في مواقع التواصُل الاجتماعيِّ، وما تطفَحُ به وسائلُ الإعلام من عبارات التندُّر وصور الاستِهانة والغفلة، وكتابةً وصوتًا وصورةً، ومما يُلاحَظ من مسالِك بعضِ الناس من صُور البطَر ومظاهر الإسراف، والمُباهاة والتفاخُر، قد يكون ذلك كلُّه مُؤشِّرًا على كُفران النِّعم، واستيلاء الغفلة.
في عباراتٍ وتدويناتٍ وتعليقاتٍ وتجاوُزاتٍ، في تكبيرٍ للصغير، وتصغيرٍ للكبير، يتتبَّعون النقائِص، ويتصيَّدون الأخطاء، وقد يكذِبون مئات الكذِبات، ويُثيرُون ألوانَ الإثارات، وبخاصَّةٍ إذا كان مثلُ هذه الإثارات والتعليقات تتعلَّقُ بهذا البلد المُبارَك، وهذا المُجتمع الطيب.
عباد الله:
إن المسؤولية والشُّكر والخوف والحذَر كلُّها تقتضِي النظرَ والتفكير والتدبُّر، لا تقتُلوا أنفسَكم، ولا تُمزِّقُوا مُجتمعَكم، ولا تكفُروا نعمَ ربِّكم، ولا تهزُّوا استقرارَ وطنِكم بانفِعالاتٍ وتغريداتٍ مُهلِكة.
حافِظوا على اتِّزانِكم، والتزِموا براقيات المبادئ، وشامِخات القِيَم، بل في مثل هذه الظروف يجبُ أن يُشرِق نورُ التلاحُم، وتتلاشَى ظُلُمات المُشاحنَات، وتتجلَّى مظاهرُ الشُّكر، والإحسانُ في الصَّرف، والترشيدُ في الإنفاق.
معاشر الأحبَّة:
كم هو جميلٌ أن يعود المُجتمع على نفسِه بالنقد والمُحاسَبة. فكما تُنقدُ الدول والحكومات تُنتقَدُ الشعوبُ والمُجتمعات، ومع الأسَف فإن الثقافة المُعاصِرة جعلَت نقدَها الحُكومات هو الأسهل، وتعجزُ وتضعُفُ أن تنتقِد نفسَها أو مُجتمعها، أو تُراجِع مسالِكَها وتصرُّفاتها.
معاشر الإخوة:
وفي ميدان الشُّكر والمُحاسَبة تأمَّلوا هذا الحديثَ العجيبَ، الذي أخرجه الإمامان البخاري ومسلمٌ - رحمهما الله - من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «ثلاثةٌ لا يُكلِّمُهم الله يوم القيامة، ولا يُزكِّيهم، ولهم عذابٌ أليم ..»، وذكرَ منهم: «رجلٌ بايَعَ إمامًا لا يُبايِعُه إلا لدُنياه، إن أعطاه ما يُريدُ وفَى له، وإلا لم يفِ له».
أيُّ وعيدٍ شديدٍ يتضمَّنُه هذا الحديثُ العظيم لمن يربِطُ ولاءَه وطاعتَه ورِضاه عن وُلاة أمره بالمصالِح الماديَّة؟! فإذا كان هذا الوعيد في حقِّ من سخِط، فكيف بمن ضمَّ إلى سخَطه الإثارة، والسعيَ في إشعال الفتن، والتنكُّر للنِّعم؟!
وإذا كان الوعيدُ على هذه القضية الفردية، فكيف إذا ارتقَت إلى ما هو أكبرُ منها؟!
معاشر الأحبَّة:
إن أيَّة دعوةٍ أو كلمةٍ أو تعليقٍ أو تدوينٍ يُولِّدُ حقدًا، أو يبعثُ على فُرقة، أو يُورِثُ نَعرَة، فهو دعوةٌ جاهليَّة.
وإن من واجبِ الشُّكر والاعتراف بالنِّعم أن يستشعِر الجميعُ الحفاظَ على هيبَة الدولة. هذه الدولةُ المَهيبة التي تُريدُ بكل جديَّة وحزمٍ وصرامةٍ فرضَ الأمن والاستقرار ومُحاربةَ الإرهاب، وكل من تُسوِّلُ له نفسُه زعزعةَ الأمن أو تكديرَ صفو عيش الناس.
كم هو جميلٌ لدى العاقل المُتبصِّر الذي يشكُر النِّعَم، ويخشَى حُلُولَ النِّقَم أن يُقارِن بين ما تبذُلُه الدولةُ في سبيل عزَّة الأمة وقوَّتها والدفاع عنها وعن دينها ومُقدَّساتها، ومُحاولات النَّيل من مكانتها وقوَّتها، وبين بعض مظاهر الإسراف في بعض الناس في مآكلِهم ومشاربِهم وملابسِهم ومراكبِهم، في صُورٍ من البطَر والمُبالغَات والمُفاخرَات.
يُخشَى - والله - منها زوالُ النعمة، وتحوُّل العافية، وفُجاءةُ النِّقمة، وحلُول السَّخَط.
ناهِيكم بهذا الأمن الوارِف الذي يعيشُه أهلُ هذه البلاد والمُقيمون فيها في أنفسهم وأهلِيهم وبيوتهم وأسواقهم، في كل أرجاء البلاد، حاضِرَتها وباديَتها، مُواطنِيها ومُقيميها.
إن من الديانة والعقل والحكمة والشُّكر: إظهارَ مزيدٍ من الالتِفاف حول القيادة، والمزيدَ من صُور الرِّضا والطاعة والشُّكر، والتضرُّع إلى الله بدوامِ التسديد والتوفيق والثبات والنصر لجُنودنا في كل رُتَبهم، وفي القوات كافَّة على الحدود وداخل الحدود.
أمة الإسلام:
ولعلَّه قد أدركَ المُتابِع أن عواصِف الحزم ورايات الأمل هي التي تُجسِّدُ مصالِح الأمة الحقيقية. إن "عاصفة الحزم" دلَّلت على أن هذه الدولة خلالَ عقودٍ - ولله الحمد - قد بنَت قُدراتٍ بشريَّة، وكفاءاتٍ وطنيَّة، ورِجالاتٍ أشاوِس في مُختلَف القِطاعات والتخصُّصات.
إنه مشروعُ بناء دولةٍ قويَّة ضارِبة الجُذور، تقِفُ دون أطماع الطامِعين، وأحلام الحالِمين، وتحولُ دون من يُخطِّطُ من أجل تمزيق هذا الكِيان إلى دُويلاتٍ مُتفرِّقةٍ مُتناحِرة، كما يفعَلون في بعضِ دُول الجِوار.
معاشر الإخوة:
هذه الدولةُ المُبارَك دولةٌ كبيرةٌ غنيَّةٌ - بفضل الله -، قادرةٌ - بإذن الله - على حماية نفسِها والمُقيمين على أرضِها، وفيها كفاءاتُها ورِجالاتُها. إن هذه الدولة المُبارَكة تُديرُ حربًا ضَروسًا ضدَّ الأعداء أعداء الأمة، وأعداء الإسلام، كما تُديرُ تحالُفًا خليجيًّا وعربيًّا وإسلاميًّا، وهي - ولله الحمدُ - تُديرُ ذلك كلَّه بتوفيقٍ من الله، من خلال مِصداقيَّتها وما كُتِب لها من قَبول، كما تُديرُه بشجاعة وحُسن سياسة، واقتصادٍ متين، ورصيدٍ قويٍّ لم يتأثَّر بالظروف والمُتغيِّرات - ولله الحمدُ والمنَّة -.
الحمدُ لله، ثم الحمدُ لله. الشدائِدُ فيها العِبر، وفيها يتبيَّنُ العدوُّ من الصديق، والقويُّ من الضعيف، والهشُّ من المتين.
عباد الله:
النِّعمةُ الحقيقية - بعد حفظِ الدين - هي نعمةُ الصحة والأمن، ورغَد العيش الذي يعيشُه أهلُ البلاد - ولله الحمد -، ويفتقِدُه من يفتقِدُه، وبخاصَّة بعضُ دُول الجِوار، رفعَ الله عنهم كربَهم، وجمعَ كلمتَهم، وحفِظَهم، ولمَّ شملَهم، وحفِظَ بلادَهم.
هذه الدولةُ - ولله الحمدُ - غنيَّةٌ وقويَّة، وهي تسعَى لترشيد الإنفاق وكفاءَته، وليس لتقليله أو تقليصِه. فالتنمية مُستمرَّة، والمشاريعُ قائمة، مع إصلاحاتٍ اقتصاديَّةٍ وماليَّة، واستِشرافٍ للمُستقبل، وترسيخٍ للدور الرقابيِّ.
أيها الإخوة في الله:
ليس ضامنًا للأمن - بإذن الله - إلا العلاقةُ الوثيقة بين الدولة والأمة المبنيَّةُ على السمع والطاعة، والنُّصح والرِّضا والشُّكر، والاعتراف بنِعَم الله الوارِفة، والحذَرُ من البطَر والإسراف والتباهِي.
نعم، إن حفظَ الدين، وعزَّ الأمة، وشدَّ اللُّحمة يستحِقُّ كلَّ ثمَن. والريالُ يحفَظُه ويُنمِّيه الرِّجال؛ بل إن حفظَ الدين وعزَّ الأمة لا يُستكثرُ عليه الفداءُ بالأنفُس والدماء، فكيف بالدراهِم والدنانير؟!
وبعدُ حفِظَكم الله:
فاحذَروا أن يكون الثمنُ المدفوع هو ضياع الدين، وسلامة الوطن وأمنه ووحدته وتبديد ثرواته، واستذكِروا الحكمة البالِغة: رُبَّ يومٍ بكيتُ منه، فلما صِرتُ في غيره بكيتُ عليه!
لا تدَعوا فُرصةً للحاقِدين، والمُغرِضين، والموتُورين، والمُتربِّصين، والكائِدين، من الذين يتصيَّدون الأخطاء، ويتناسَون الإنجازات، لينالُوا من هذه الوحدة المُبارَكة والاستقرار والعيش الرَّغيد.
وأكثِروا من رسائل الشُّكر، وتغريدات الرِّضا، وتذكَّروا النِّعم، والثقة، والولاء، والوحدة. وتصدَّقوا وأحسِنوا، والله يُحبُّ المُحسنين، ويجزِي المُتصدِّقين.
واعلَموا أن الحفاظَ على الدولة لا يتعارَضُ مع المُطالَبة بالأفضل، والتطلُّع إلى الأحسن، ولكن المُصلِح الصادق هو الذي لا تُحرِّكُه مصالِحُه الشخصية، ولا هو بالمُتشفِّي، ولا الذي يستهدِفُ ثوابتَ الدولة وهويَّتَها وعوامل قوَّتها وثباتها.
السعيُ في الإصلاح ليس بكسر الأضلاع، وليس من النقد أن يُظهِرَ الناقدُ ولدَه وكأنه لا خيرَ فيه، ومن حُرِم العدل حُرِم التقوى.
كثيرون يدَّعون حبَّ بلادهم وهم يفعلون ما يهدِمُه، وآخرون تحترِقُ قلوبُهم من أجلِه من غير أن يُسمَع لهم جلَبَةٌ أو ضَجيج، والعاقلُ لا يهدِمُ بيتَه لأنه قد غضِبَ من أخيه.
اللهم لك الحمدُ حتى ترضَى، اللهم لك الحمدُ حتى ترضَى، ولك الحمدُ إذا رضيتَ، ولك الحمدُ بعد الرِّضا، اللهم إنا نعوذُ بك من زوال نعمتِك، وتحوُّل عافيتِك، وفُجاءَة نقمتِك، ومن جميع سخَطِك.
أعوذُ بالله من الشيطان الرجيم: (رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ) [إبراهيم: 37].
نفعَني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبهدي محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، وأقولُ قولي هذا، وأستغفِرُ الله لي ولكم ولسائر المُسلمين من كل ذنبٍ وخطيئة، فاستغفِروه، إنه هو الغفورُ الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمدُ لله، الحمدُ لله مُثيب الطائعين أجزلَ الثواب، ومُجيب الداعِين وهو أكرمُ من أجاب، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةَ مُخلصٍ غير مُرتاب.
وأشهد أن سيِّدَنا ونبيَّنا محمدًا عبدُ الله ورسولُه أرسلَه بالهُدى والحقِّ وأنزلَ عليه خيرَ كتاب، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه، وعلى آلِهِ وأصحابِه خيرِ آلٍ وأكرم أصحاب، والتابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ ما أغطشَ ليلٌ وأضاءَ شهاب، وسلَّم تسليمًا كثيرًا مزيدًا إلى يوم الحساب.
أما بعد، يا أيها المُسلمون:
بلادُ الحرمين الشريفين هي قلبُ العالم الإسلامي، وما يصدُرُ منها تتردَّدُ أصداؤُه في أرجاء العالَم في الدين، والاقتصاد، والسياسة. بلدٌ أنعمَ الله على أهله بالأمن والاستقرار، وأكرمَهم بتطبيق شرع الله، فعلى الجميع الحرصُ على الاستِمساك بهذه المُكتسَبات، فيكونون يدًا واحدة ضدَّ كل من يُريدُ تقويضَ هذا البُنيان، أو زعزعَة هذا الكِيان.
دولةٌ مُباركةٌ حازِمة وراءَها شعبٌ عظيم، لا يستفِزُّه مُروِّجُو الشُّبهات، ولا مُفتعِلُو المُشكِلات. شعبٌ كريم، حذِرٌ ويقِظ، يقِظٌ من إرجاف المُرجِفين، وما يصدُرُ من كلماتٍ أو كتابات، وهذه المواقف واليقظة - ولله الحمدُ - أشدُّ على الأعداء من أصوات المدافِع ودوِيِّ القنابل.
وفي كلمةٍ لقائد هذه البلاد الملك الشَّهم أبي الحَزم وأخي العزم، يقول في إحدى مُحاضراته - حفِظَه الله -: "إن شرعيَّة هذه الدولة هو منهجُها، وفي تاريخها الطويل الذي يبدأُ ببيعةٍ شرعيَّة للالتِزام بالدين الصحيح، منهجًا وسُلوكًا، في الحُكم والبناء السياسيِّ والاجتماعيِّ، وليس في آحاد ذات الفكر المُستورَد، أو الفوضَى، أو التخبُّط الفكريِّ الذي لا نهايةَ لجدَله، ولا فائدةَ من مبادئِه، (فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ) [الرعد: 17]".
ألا فاتَّقوا الله - رحمكم الله -، وتوبوا إلى ربِّكم، وأسلِموا له، والجأوا إليه، وأحسِنوا الظنَّ به، واصدُقوا في التوكُّل عليه والرِّضا عنه، وسلُوه دوامَ هذه النِّعم، واحذَروا عقوبتَه وسخطَه وكُفرانَ نعمِه.
هذا، وصلُّوا وسلِّموا على الرحمةِ المُهداة، والنعمةِ المُسدَاة: نبيِّكم محمدٍ رسول الله، فقد أمرَكم بذلك ربُّكم في مُحكَم تنزيلِه، فقال - وهو الصادقُ في قِيله - قولاً كريمًا: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب: 56].
اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدك ورسولك نبيِّنا محمدٍ الحبيب المُصطفى، والنبي المُجتبى، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى أزواجه أمهات المؤمنين، وارضَ اللهم عن الخلفاء الأربعة الراشدين: أبي بكرٍ، وعُمر، وعُثمان، وعليٍّ، وعن الصحابة أجمعين، والتابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بعفوك وجُودك وإحسانِك وكرمِك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وأذِلَّ الشرك والمشركين، واخذُل الطغاةَ والملاحدةَ وسائرَ أعداء الملَّة والدين.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلِح أئمَّتنا وولاةَ أمورنا، واجعل اللهم ولايتَنا فيمن خافَك واتَّقاك، واتَّبَع رضاك يا رب العالمين.
اللهم وفِّق إمامنا ووليَّ أمرنا بتوفيقك، وأعِزَّه بطاعتك، وأعلِ به كلمتَك، واجعله نُصرةً للإسلام والمسلمين، واجمَع به كلمةَ المُسلمين على الحقِّ والهُدى، اللهم وفِّقه ونائِبَيْه وإخوانَه وأعوانَه لما تُحبُّ وترضى، وخُذ بنواصِيهم للبرِّ والتقوى.
اللهم وفِّق ولاةَ أمور المسلمين للعمل بكتابك وبسنَّة نبيِّك محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، واجعلهم رحمةً لعبادك المؤمنين، واجمَع كلمتَهم على الحق والهُدى والسنَّة يا رب العالمين.
اللهم أصلِح أحوال المُسلمين في كل مكان، اللهم أصلِح أحوال المُسلمين في كل مكان، اللهم واحقِن دماءَهم، واجمع على الحقِّ والهُدى والسنَّة كلمتَهم، وولِّ عليهم خيارَهم، واكفِهم أشرارَهم، وابسُط الأمنَ والعدلَ والرخاءَ في ديارهم، وأعِذهم من الشُّرور والفتن ما ظهرَ منها وما بطَن.
اللهم من أرادَنا وأرادَ دينَنا وديارَنا وأمَّتَنا وأمنَنا وولاةَ أمرنا وعلماءَنا وأهلَ الفضل والصلاح والاحتِساب منَّا ورجالَ أمننا وقواتنا ووحدتنا واجتماعَ كلمتنا بسُوءٍ، اللهم فأشغِله بنفسه، اللهم فأشغِله بنفسه، واجعَل كيدَه في نحره، واجعَل تدبيرَه تدميرًا عليه يا قوي يا عزيز.
اللهم يا ناصِر المُستضعَفين، اللهم يا ناصِر المُستضعَفين، ويا مُنجِي المؤمنين، انصُر وأنجِ إخوانَنا المُستضعَفين في فلسطين، وفي سُوريا، وفي بُورما، وفي أفريقيا الوسطى، وفي كل مكانٍ يا رب العالمين، اللهم انتصِر لهم، وتولَّ أمرَهم، واكشِف كربَهم، وارفع ضُرَّهم، وعجِّل فرَجَهم، وألِّف بين قلوبهم، اللهم واجمع كلمتَهم، اللهم مُدَّهم بمددك، وأيِّدهم بجُندك، وانصُرهم بنصرِك.
اللهم إنا نسألُك لهم نصرًا مُؤزَّرًا، وفرَجًا ورحمةً وثباتًا، اللهم سدِّد رأيَهم، وصوِّب رميَهم، وقوِّ عزائِمَهم.
اللهم عليك بالطُّغاة الظالمين ومن شايعَهم، ومن أعانَهم، اللهم فرِّق جمعَهم، وشتِّت شملَهم، ومزِّقهم كلَّ مُمزَّق، اللهم واجعَل تدميرَهم في تدبيرهم يا رب العالمين.
اللهم عليك باليهود الغاصِبين المُحتلِّين، اللهم عليك باليهود الغاصِبين المُحتلِّين فإنهم لا يُعجِزونك، اللهم أنزِل بهم بأسَك الذي لا يُردُّ عن القومِ المُجرمِين، اللهم إنا ندرأُ بك في نُحورِهم، ونعوذُ بك من شُرورهم.
اللهم وفِّقنا للتوبة والإنابة، وافتح لنا أبوابَ القبول والإجابة.
اللهم تقبَّل طاعاتنا، ودعاءَنا، وأصلِح أعمالَنا، وكفِّر عنَّا سيِّئاتنا، وتُب علينا، واغفِر لنا وارحَمنا يا أرحم الراحمين.
(رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ) [الأعراف: 23]، (رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) [البقرة: 201].
عباد الله:
(إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) [النحل: 90]، فاذكرُوا الله يذكُركم، واشكُروه على نعمه يزِدكم، ولذكرُ الله أكبر، والله يعلمُ ما تصنَعون.