العربية
المؤلف | خالد القرعاوي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الدعوة والاحتساب - نوازل الأحوال الشخصية وقضايا المرأة |
لا يُمكِنُ لِأَيِّ مُجتَمَعِ أَنْ يَكُونَ آمِنَاً مُسْتَقِرًّا إلاَّ بِتَحقِيقِ مَبْدَأِ الثَّوَابِ وَالعِقَابِ، في كَافَّةِ أَحْوَالِهِ؛ فِي عِبَادَاتِهِ وَمَعُامَلاتِهِ وَسُلُوكِهِ وأخْلاقِهِ. عَلى الذَّكَرِ وَالأُنْثَى، وَالشَّرِيفِ وَالوَضِيعِ، فَالعَدْلُ: أنْ نَقُولَ لِلمُحسِنِ: أَحسَنْتَ، وَلِلمُسِيءِ: أَسَأْتَ، دُونَ نِفَاقٍ أَوْ شِقَاق...
الخطبة الأولى:
الحَمْدُ للهِ العَلَيِّ الأَعلى، أَشهدُ ألاَّ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لا شَريكَ لَهُ، عَالمُ السِّرِ والنَّجوى، وَأَشْهدُ أنَّ نَبيَّنا مُحمَّدًا عبدُ اللهِ وَرَسُولُه, مَا تَرَكَ خَيرًا إلاَّ دَلَّنا عَليهِ، وَلا شَرًّا إلاَّ حَذَّرَنَا مِنْهُ، صلَّى اللهُ وسلَّم وبَاركَ عَليه وَعلى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ، والتَّابِعِينَ وَمَنْ تَبِعَهُم بإحسانٍ وإيمانٍ إلى يَومِ الجَزَاءِ.
أَمَّا بَعْدُ: (فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)[التوبة:100].
أَيُّها المُسلِمُونَ: مَنْ تَأَمَّلَ الدُّنْيا وجَدَ فِيها الخَيرَ وَالشَّرَّ، وَالطَّاعَةَ وَالمَعْصِيَةَ، وَهذا مِنْ كَمالِ حِكْمَةِ اللهِ وعَدْلِهِ، وَبِهذا قَامَتِ السَّمَواتُ والأَرْضُ، وَكَانتِ الجَنَّةُ والنَارُ؛ فَالثَّوَابُ لِكُلِّ مُؤمِنٍ مُتَّقٍ مُطِيعٍ، والعِقَابُ لِكُلِّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ، وَهَذا مَا يَدْفَعُ المُؤمِنَ لِعَمَلِ الصَّالِحاتِ وَيَحْجِزُهُ عن مُقَارَفَةِ المُحَرَّمَاتِ. أَمَّا مَنْ ضَعُفَ إيمَانُهُمْ، وَقَلَّ حَياؤُهُمْ فَيَحْتَاجُونَ إلى يَدٍ حَازِمَةٍ، وَسُلطانٍ مَهِيبٍ.
وَلْنَتَأَمَّلَ: كيفَ أَبَانَ اللهُ لَنَا الخَيرَ وَجَزَاءَهُ، وَالشَّرَ وَسُوءَ عَاقِبَتِهِ. قَالَ اللهُ -تَعَالَى-: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ)[فصلت:46]. وَقَالَ -تَعالى-: (وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ)[فصلت:34].
عِبَادَ اللهِ: وَمِنْ حِكْمَةِ اللهِ -تَعَالى- وَرَحْمَتِهِ وَعَدْلِهِ أَنْ فَرَّقَ بَينَ الفَرِيقَينِ؛ كَمَا قَالَ -سُبْحَانَهُ-: (أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ)[ص:28]. كُلُّ ذَلِكَ لِدَفْعِ الإنْسانِ عَلى الْتِزَامِهِ بِكُلِّ خَيرٍ، وَزَجْرِه عَنْ كُلِّ شَرٍّ، وَرَسُولُنَا -صَلَّى اللهُ عَليهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- إنَّما "بُعِثَ لِيُتَمِّمَ صَالِحَ الأَخْلاقِ".
إخوتِي الكِرَامُ: وَمَعَ هذهِ الحَقِيقَةِ الواضِحَةِ. فَإنَّ أُنَاساً يَسْلُكُونَ طَرِيقَ الشَّيطَانِ الرَّجيمِ؛ فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي اللهُ عنه- أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَليهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "كُلُّ أُمَّتِي يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَنْ أَبَى"، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، وَمَنْ يَأْبَى؟ قَالَ: "مَنْ أَطَاعَنِي دَخَلَ الْجَنَّةَ، وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ أَبَى".
عِبَادَ اللهِ: وإذا كَانَ الأمْرُ كَذلِكَ فَإنَّهُ لا يُمكِنُ لِأَيِّ مُجتَمَعِ أَنْ يَكُونَ آمِنَاً مُسْتَقِرًّا إلاَّ بِتَحقِيقِ مَبْدَأِ الثَّوَابِ وَالعِقَابِ، في كَافَّةِ أَحْوَالِهِ؛ فِي عِبَادَاتِهِ وَمَعُامَلاتِهِ وَسُلُوكِهِ وأخْلاقِهِ. عَلى الذَّكَرِ وَالأُنْثَى، وَالشَّرِيفِ وَالوَضِيعِ، فَالعَدْلُ: أنْ نَقُولَ لِلمُحسِنِ: أَحسَنْتَ، وَلِلمُسِيءِ: أَسَأْتَ، دُونَ نِفَاقٍ أَوْ شِقَاقٍ؛ رَوى الإمَامُ أحْمَدُ -رَحِمَهُ اللهُ- بِسَنَدِهِ أَنَّ نَبِيَّنا -صَلَّى اللهُ عَليهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: "إِذَا رَأَيْتُمْ أُمَّتِي تَهَابُ الظَّالِمَ أَنْ تَقُولَ أَنْتَ ظَالِمٌ فَقَدْ تُوُدِّعَ مِنْهُمْ".
وَواللهِ: مَا اخْتَلَّ مَبدَأُ الثَّوابِ والعِقَابِ، والأمْرُ بِالمَعْرُوفِ والنَّهيُ عَن المُنكَرِ فَي مُجتَمَعٍ، إلاَّ صَارَ بَأْسُهُم بَينَهُم شَدِيدًا، وَلَعَنَ بَعضُهُم بَعْضًا، تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى.
بَارَكَ اللهُ لَنَا في القُرآنِ العَظيمِ، وَنَفعَنا بِآياتِ الذِّكرِ الحَكِيمِ، وَأستَغفِرُ اللهَ إنَّهُ هُو الغَفُورُ الرِّحيمُ.
الخُطبَةُ الثَّانية :
الحَمدُ للهِ يَقْضِي بِالحقِّ وَهُو أَحكَمُ الحَاكِمِينَ، أَشهَدُ ألاَّ إِلَهَ إلاَّ اللهُ وَحدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ مَلِكِ يَومِ الدِّينِ، وأَشْهَد أنَّ مُحمَّداً عبدُ اللهِ وَرَسُولُهُ صلَّى اللهُ وسلَّمَ وَبَارَكَ عَليه وعلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهَ أجمَعِينَ.
أمَّا بَعدُ: أيُّها المُسلِونَ: اتَّقُوا اللهَ -تَعَالَى-، واعْلَمُوا أنَّهُ لا أَمْنَ لِلبِلادِ وَلا أَمَانَ لِلعِبَادِ إلاَّ بِتَطْبِيقِ شَعِيرَةِ الأَمْرِ بالمَعْرُوفِ والنَّهيِّ عن المُنْكَرِ. كَمَا قَرَّرَ ذلِكَ وُلاةُ أمْرِنَا في غَيرِ ما مَحفَلٍ، وَدَعَمُوا ذَلِكَ وسانَدُوهُ، فاللهَ اللهَ يا وُلاةَ أُمُورِنَا سِيرُوا على نَهجِكُمُ القَوِيمُ واحَمَدُوا اللهَ بِهَذَا الدِّينِ القَويِمِ والصِّرَاطِ المُستَقِيمِ، فلا عِزَّ لنَا ولا نَصْرَ ولا تَمكِينَ إلاَّ إذَا حَقَّقْنا مَا أَمَرَنَا اللهُ بِقَولِهِ: (الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ)[الحج:41].
عِبَادَ اللهِ: لَقَدْ صَدَقَ مَنْ قالَ: "مَنْ أَمِنَ العُقُوبَةَ أَسَاءَ الأَدَبَ"، ومَنْ قالَ: "لا يَصلُحُ النَّاسُ فَوضَى لا سَرَاةَ لَهُم"، فَبِتَطبِيقِ أَحكَامِ شَرِيعَتِنَا يَكُونُ الأَمْنُ والأمَانُ، وَبِإقَامَةِ الحُدُودِ والعُقُوبَاتِ على المُعتَدِينَ يَكُونُ العَدْلُ الأَمْنُ والأمَانُ.
يَا وُلاتَنَا الأَكَارِمُ: نَحنُ باللهِ ثُمَّ بِكُمْ، فَاسْعَوا بِكُلِّ مَا أُوتِيتُمْ مِنْ إمكَانَاتٍ لِنَصْرِ الحَقِّ وَأَهلِهِ وَحَقِّقُوا أمْنَ النَّاسِ على دِينِهمْ وَأَعْرَاضِهمْ وَأَمْوالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ وَعَقُولِهمْ، فَاللهُ -تَعَالَى- يَقُولُ: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا)[النساء:58]. وَرَسُولُنا -صَلَّى اللهُ عَليهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: "كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ فَالْإِمَامُ الَّذِي عَلَى النَّاسِ رَاعٍ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ".
إنَّ على أُمرَاءِ البِلادِ وَمُحافِظِيها وَرِجَالِ الشُّرطَةِ، وَجُنُودِ الحِسْبَةِ، أنْ يُحَافِظُوا على أَمْنِ النَّاسِ، وَيَتَفَقُّدُوا أَحْوالَهُمْ، وَأنْ يَبْحَثُوا عَنْ أَوْكَارِ المُجرِمِينَ فَيَقْطَعُوهَا، فَكَثِّفوا الأَمْنَ السِّريَّ، اسْهَرُوا وَاتْعَبُوا مِنْ أَجْلِ رَاحَةِ الجَمِيعِ، واحْذَرُوا الخِيَانَةَ وَالتَّراخِيَ فِي العَمَلِ، فَرَسُولُنا -صَلَّى اللهُ عَليهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- قَدْ قَالَ: "مَا مِنْ عَبْدٍ يَسْتَرْعِيهِ اللَّهُ رَعِيَّةً يَمُوتُ يَوْمَ يَمُوتُ وَهُوَ غَاشٌّ لِرَعِيَّتِهِ إِلَّا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ".
عِبَادَ اللهِ: أَلا وَإنَّ مِنْ أَكْبَرِ أَسْبَابِ اخْتِلالِ الأمْنِ: قِلَّةَ الخَوفِ مِن اللهِ، وَضَعْفَ هَيْبَةِ الدَّولةِ وَالسُّلْطَانِ، والتَّهَاوُنَ مَعَ المُعتَدِينَ، وَتزْيينَ البَاطِلِ لِلنَّاسِ، وَكَذَا غَفْلَةُ الأَوليَاءِ عَن الرَّقَابَةِ.
وَاللهُ خَيرٌ حَافِظَاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ. وَنَسْتَودِعُ اللهَ دِينَنَا وَأَمَانَتِنَا وَأَعرَاضِنَا وَأَهلِينا وَالمُسْلِمينَ أَجمَعِينَ.
الَّلهُمَّ صَلِّ وَسَلِّمْ وَبَارِكْ على عَبْدِكَ وَنَبِيِّكَ مُحَمَّدٍ وعلى آلِهِ وأصحَابِهِ وأتباعِهِ إلى يومِ الدِّينِ. الَّلهُمَّ احْمِ حَوزَةَ الدِّينِ، وانصُر وَوَفِّقْ عِبَادَكَ المُؤمِنينَ.
الَّلهُمَّ آتِ نُفُوسَنَا تَقْوَاهَا، زكِّهَا أَنْتَ خَيرُ مَنْ زكَّاهَا، الَّلهُمَّ وَفِّقْ وَليَّ أَمْرِنَا لِمَا تُحِبُّهُ وَتَرْضَاهُ، أَصْلِحْ لَهُ بِطَانَتَهُ وَأعِنْهُ على أَدَاءِ الأمَانَةِ.
رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ. رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.
عباد الله: اذكروا الله العظيمَ يذكركم، واشكروه على عمومِ نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.