الشكور
كلمة (شكور) في اللغة صيغة مبالغة من الشُّكر، وهو الثناء، ويأتي...
لم يثبُتْ في القرآن الكريم ولا في الأحاديث الصحيحة شيءٌ عن أسماءِ آباء نوح عليه السلام، ولا عن سلسلةِ النَّسب بينه وبين آدمَ عليه السلام. انظر: "القصص القرآني" لصلاح الخالدي (1 /157).
(نوحٌ): اسمُ علمٍ أعجميٌّ، ليس عربيًّا ولا مشتقًّا؛ لأنَّ العرب لم يكونوا قد وُجِدوا في عهده عليه السلام، ولم تكن اللغةُ العربية قد ظهرت؛ فلا نبحثُ في معنى اسم (نوح) في العربية، ولا في مادةِ اشتقاقه. انظر: "القصص القرآني" لصلاح الخالدي (1 /157).
ورَد ذكرُ نوح عليه السلام في القرآن الكريم ثلاثًا وأربعين مرة، والسُّوَرُ التي وردت فيها مشاهدُ ولقطاتٌ من قصة نوح عليه السلام هي: «الأعراف»، و«يونس»، و«هود»، و«الأنبياء»، و«المؤمنون»، و«الشعراء»، و«العنكبوت»، و«الصافات»، و«القمر»، و«نوح».
وقد جاء ذكرُه عليه السلام في القرآن على حالتين:
* الأولى: ذكرُ اسمِه مجردًا أو مضافًا إلى قومه ضمن الحديث عن قصَّتِه؛ وذلك في إحدى وعشرين مرةً؛ قال تعالى: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ * قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ * قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلَالَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ * أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ * أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ * فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ﴾ [الأعراف: 59-64]، وقال تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَىٰ قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ * أَن لَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ ۖ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ * فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِّثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَىٰ لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ * قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِّنْ عِندِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنتُمْ لَهَا كَارِهُونَ *وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا ۖ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ ۚ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا ۚ إِنَّهُم مُّلَاقُو رَبِّهِمْ وَلَٰكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ * وَيَا قَوْمِ مَن يَنصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِن طَرَدتُّهُمْ ۚ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ * وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَن يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا ۖ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنفُسِهِمْ ۖ إِنِّي إِذًا لَّمِنَ الظَّالِمِينَ * قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ * قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُم بِهِ اللَّهُ إِن شَاءَ وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ * وَلَا يَنفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدتُّ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِن كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ ۚ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ ۖ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِّمَّا تُجْرِمُونَ * وَأُوحِيَ إِلَىٰ نُوحٍ أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلَّا مَن قَدْ آمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ * وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا ۚ إِنَّهُم مُّغْرَقُونَ * وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِّن قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ ۚ قَالَ إِن تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ * فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ * حَتَّىٰ إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ ۚ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ * وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا ۚ إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ * وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَىٰ نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَب مَّعَنَا وَلَا تَكُن مَّعَ الْكَافِرِينَ * قَالَ سَآوِي إِلَىٰ جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ ۚ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَن رَّحِمَ ۚ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ * وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ ۖ وَقِيلَ بُعْدًا لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَنَادَىٰ نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ * قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ ۖ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ ۖ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ۖ إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ * قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ ۖ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُن مِّنَ الْخَاسِرِينَ * قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِّنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَىٰ أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَ ۚ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُم مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [هود: 25-48]، وقال تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَىٰ قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُ ۖ أَفَلَا تَتَّقُونَ * فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَوْمِهِ مَا هَٰذَا إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُرِيدُ أَن يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنزَلَ مَلَائِكَةً مَّا سَمِعْنَا بِهَٰذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ * إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّىٰ حِينٍ * قَالَ رَبِّ انصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ * فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ ۙ فَاسْلُكْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ ۖ وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا ۖ إِنَّهُم مُّغْرَقُونَ * فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنتَ وَمَن مَّعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَقُل رَّبِّ أَنزِلْنِي مُنزَلًا مُّبَارَكًا وَأَنتَ خَيْرُ الْمُنزِلِينَ * إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ وَإِن كُنَّا لَمُبْتَلِينَ * ثُمَّ أَنشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ﴾ [المؤمنون: 23-31]، وقال تعالى: ﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُم مَّقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنظِرُونِ * فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍ ۖ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ ۖ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾ [يونس: 71-72]، وقال تعالى: ﴿وَنُوحًا إِذْ نَادَىٰ مِن قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ * وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا ۚ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ﴾ [الأنبياء: 76-77]، وقال تعالى: ﴿كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلَا تَتَّقُونَ * إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ ۖ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَىٰ رَبِّ الْعَالَمِينَ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ* قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَىٰ رَبِّي ۖ لَوْ تَشْعُرُونَ * وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ * إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُّبِينٌ * قَالُوا لَئِن لَّمْ تَنتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ * قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ * فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا وَنَجِّنِي وَمَن مَّعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * فَأَنجَيْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ * ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ * إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً ۖ وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ﴾ [الشعراء: 111-121]، وقال تعالى: ﴿كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ * فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانتَصِرْ * فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُّنْهَمِرٍ * وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَىٰ أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ * وَحَمَلْنَاهُ عَلَىٰ ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ * تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِّمَن كَانَ كُفِرَ * وَلَقَد تَّرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ * فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ * وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ﴾ [القمر: 9-17].
* الثانية: ذكرُ اسمِه مجردًا أو مضافًا إلى قومه لكن ليس ضمنَ الحديثِ عن قصَّتِه؛ وإنما في إشارةٍ سريعة إليه، أو إلى رسالته، أو إلى شريعتِه، أو إلى كفرِ قومه وتكذيبِهم، وذلك بما يتفق مع موضوع السورة، أو الوَحْدة التي وردت فيها الإشارةُ، وذُكِرَ ذلك في اثنتين وعشرين مرة. انظر: "القصص القرآني" لصلاح الخالدي (1 /151).
ذُكِرَ نبيُّ الله نوحٌ عليه السلام كثيرًا في الأحاديث النبوية وآثار الصحابة؛ ومن أمثلة ذلك:
* ما ورَد أنه أولُ رسولٍ أرسله اللهُ إلى أهل الأرض، وأن اللهَ سماه عبدًا شكورًا، واستشفاع الناس به يوم القيامة:
عن أنسِ بن مالكٍ رضي الله عنه، عن النبي ﷺ، قال: «… فيأتون آدمَ، فيقولون: يا آدمُ، أمَا تَرى الناسَ؟! خلَقَك اللهُ بيدِهِ، وأسجَدَ لك ملائكتَهُ، وعلَّمَك أسماءَ كلِّ شيءٍ، اشفَعْ لنا إلى رَبِّنا حتى يُرِيحَنا مِن مكانِنا هذا! فيقولُ: لستُ هناك، ويذكُرُ لهم خطيئتَهُ التي أصابَها، ولكنِ ائتوا نوحًا؛ فإنه أوَّلُ رسولٍ بعَثَهُ اللهُ إلى أهلِ الأرضِ، فيأتون نوحًا، فيقولُ: لستُ هُنَاكم، ويذكُرُ خطيئتَهُ التي أصابَ، ولكنِ ائتُوا إبراهيمَ خليلَ الرَّحمنِ…». أخرجه البخاري (7410)، ومسلم (193)، واللفظ للبخاري.
وعن أبي هُرَيرةَ رضي الله عنه، عن النبيِّ ﷺ، قال: «فيأتون نوحًا، فيقولون: يا نوحُ، أنت أوَّلُ الرُّسُلِ إلى أهلِ الأرضِ، وسمَّاك اللهُ عبدًا شكورًا، أمَا ترى إلى ما نحن فيه، ألَا ترى إلى ما بلَغَنا، ألَا تَشفَعُ لنا إلى رَبِّك؟! فيقولُ: رَبِّي غَضِبَ اليومَ غَضَبًا لم يَغضَبْ قبله مِثْلَهُ، ولا يَغضَبُ بعده مِثْلَهُ، نَفْسي نَفْسي، ائتوا النبيَّ ﷺ». أخرجه البخاري (3340).
* ما ورَد موقوفًا على ابن عباس في المدةِ الزَّمنية بين آدمَ ونوحٍ عليهما السلام:
عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: «كان بَيْنَ آدمَ ونوحٍ عشَرةُ قرونٍ، كلُّهم على شريعةٍ مِن الحقِّ، فلمَّا اختلَفوا بعَثَ اللهُ النَّبيِّينَ والمرسَلِينَ، وأنزَلَ كتابَهُ؛ فكانوا أمَّةً واحدةً». أخرجه الحاكم (3654)، وقال فيه: «هذا حديثٌ صحيح على شرط البخاري، ولم يخرجاه»، ووافقه الذهبي.
* ما ورَد عن النبي ﷺ أن نوحًا عليه السلام أنذَرَ قومَه الدَّجَّالَ:
عن ابنِ عُمَرَ رضي الله عنهما، قال: قامَ رسولُ اللهِ ﷺ في الناسِ، فأثنى على اللهِ بما هو أهلُهُ، ثم ذكَرَ الدَّجَّالَ، فقال: «إنِّي لَأُنذِرُكُموه، وما مِن نبيٍّ إلا أنذَرَهُ قومَهُ؛ لقد أنذَرَ نوحٌ قومَهُ، ولكنِّي أقولُ لكم فيه قولًا لم يقُلْهُ نبيٌّ لقومِهِ: تَعلَمون أنَّه أعوَرُ، وأنَّ اللهَ ليس بأعوَرَ». أخرجه البخاري (3337)، ومسلم (169).
وعن أبي هُرَيرةَ رضي الله عنه، قال: قال رسولُ اللهِ ﷺ: «ألَا أُحدِّثُكم حديثًا عن الدَّجَّالِ ما حدَّثَ به نبيٌّ قومَهُ؟! إنَّه أعوَرُ، وإنَّه يَجيءُ معه بمثالِ الجنَّةِ والنارِ؛ فالتي يقولُ: إنَّها الجنَّةُ هي النارُ، وإنِّي أُنذِرُكم كما أنذَرَ به نوحٌ قومَهُ». أخرجه البخاري (3338)، ومسلم (2936)، واللفظ للبخاري.
* ما ورَد في الأصنام التي عبَدَها قومُ نوحٍ عليه السلام:
عن عبدِ اللهِ بن عبَّاسٍ رضي الله عنهما، قال: «صارت الأوثانُ التي كانت في قومِ نوحٍ في العَرَبِ بعدُ؛ أمَّا وَدٌّ كانت لكَلْبٍ بدَوْمةِ الجَنْدلِ، وأمَّا سُوَاعٌ كانت لهُذَيلٍ، وأمَّا يَغُوثُ فكانت لمُرَادٍ، ثم لبني غُطَيفٍ بالجَوْفِ عند سَبَإٍ، وأمَّا يَعُوقُ فكانت لهَمْدانَ، وأمَّا نَسْرٌ فكانت لِحِمْيَرٍ لآلِ ذِي الكَلَاعِ؛ أسماءُ رجالٍ صالحين مِن قومِ نوحٍ، فلمَّا هلَكوا، أوحى الشيطانُ إلى قومِهم: أنِ انصِبُوا إلى مَجالِسِهم التي كانوا يَجلِسون أنصابًا، وسَمُّوها بأسمائِهم، ففعَلوا، فلم تُعبَدْ، حتى إذا هلَكَ أولئك وتَنسَّخَ العِلْمُ عُبِدتْ». أخرجه البخاري (4920).
* ما ورَد في موقفِ نوح عليه السلام مع قومِه يوم القيامة، وشَهادةِ أمَّةِ مُحمَّد ﷺ لنوحٍ بتبليغ الرسالة:
عن أبي سعيدٍ الخُدْريِّ رضي الله عنه، قال: قال رسولُ اللهِ ﷺ: «يَجيءُ نوحٌ وأُمَّتُه، فيقولُ اللهُ تعالى: هل بلَّغْتَ؟ فيقولُ: نعم أيْ رَبِّ، فيقولُ لأمَّتِهِ: هل بلَّغَكم؟ فيقولون: لا، ما جاءنا مِن نبيٍّ! فيقولُ لنوحٍ: مَن يَشهَدُ لك؟ فيقولُ: مُحمَّدٌ ﷺ وأمَّتُهُ، فنَشهَدُ أنَّه قد بلَّغَ، وهو قولُهُ جلَّ ذِكْرُهُ: ﴿وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَٰكُمْ أُمَّةٗ وَسَطٗا لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى اْلنَّاسِ﴾ [البقرة: 143]، والوَسَطُ: العَدْلُ». أخرجه البخاري (3399).
* ما ورَد في وفاته عليه السلام ووصيَّتِه لابنِه المؤمن:
عن عبدِ اللهِ بن عمرٍو رضي الله عنهما، قال: «كنَّا عند رسولِ اللهِ ﷺ، فجاءَ رَجُلٌ مِن أهلِ الباديةِ، عليه جُبَّةُ سِيجانٍ مَزْرُورةٌ بالدِّيباجِ، فقال: «ألَا إنَّ صاحِبَكم هذا قد وضَعَ كلَّ فارسٍ ابنِ فارسٍ»، قال: يريدُ أن يضعَ كلَّ فارسٍ ابنِ فارسٍ، ويَرفَعَ كلَّ راعٍ ابنِ راعٍ، قال: فأخَذَ رسولُ اللهِ ﷺ بمَجامِعِ جُبَّتِهِ، وقال: «ألَا أرى عليك لِباسَ مَن لا يَعقِلُ؟!»، ثم قال: «إنَّ نبيَّ اللهِ نوحًا ﷺ لمَّا حضَرتْهُ الوفاةُ، قال لابنِهِ: إنِّي قاصٌّ عليك الوصيَّةَ: آمُرُك باثنتَينِ، وأنهاك عن اثنتَينِ:
- آمُرُك بـ«لا إلهَ إلا اللهُ»؛ فإن السمواتِ السبعَ والأرَضِينَ السبعَ لو
وُضِعتْ في كِفَّةٍ، ووُضِعتْ «لا إلهَ إلا اللهُ» في كِفَّةٍ؛ رجَحتْ بهنَّ «لا إلهَ إلا اللهُ»، ولو
أنَّ السمواتِ السبعَ والأرَضِينَ السبعَ كُنَّ حَلْقةً مُبهَمةً، قصَمتْهنَّ «لا إلهَ إلا اللهُ، وسُبْحانَ اللهِ وبحَمْدِه»؛ فإنَّها صلاةُ كلِّ شيءٍ، وبها يُرزَقُ الخَلْقُ.
- وأنهاك عن
الشِّرْكِ والكِبْرِ».
قال: قلتُ - أو قيل -: يا رسولَ اللهِ، هذا الشِّرْكُ قد عرَفْناه، فما الكِبْرُ؟ قال: الكِبْرُ: أن يكونَ لأحدِنا نَعْلانِ حسَنتانِ لهما شِراكانِ حسَنانِ؟! قال: «لا»، قال: هو أن يكونَ لأحدِنا حُلَّةٌ يَلبَسُها؟ قال: «لا»، قال: الكِبْرُ: هو أن يكونَ لأحدِنا دابَّةٌ يَركَبُها؟ قال: «لا»، قال: أفهو أن يكونَ لأحدِنا أصحابٌ يَجلِسون إليه؟ قال: «لا»، قيل: يا رسولَ اللهِ، فما الكِبْرُ؟ قال: «سَفَهُ الحَقِّ، وغَمْصُ الناسِ»». أخرجه أحمد (6583).
ينظر: "الأحاديث الصحيحة من أخبار وقصص الأنبياء" لإبراهيم العلي (ص 38-44)، "القصص القرآني" لصلاح الخالدي (1 /208- 211).
اتصَفَ نوحٌ عليه السلام بعدَّةِ صفاتٍ؛ منها:
* اصطفاءُ الله عز وجل له عليه السلام على العالَمِين:
قال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَىٰ آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾ [آل عمران: 33].
* كان عليه السلام شاكرًا لنِعَمِ الله تعالى:
قال تعالى: ﴿إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا﴾ [الإسراء: 3]؛ أي: كان عبدًا شكورًا لله تعالى على نِعَمِه.
* كان عليه السلام نبيًّا صابرًا ذا عزيمةٍ؛ فقد دعا قومَه ألفَ سنةٍ إلا خمسين عامًا دون يأسٍ:
قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَىٰ قَوْمِهِۦ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامٗا فَأَخَذَهُمُ اْلطُّوفَانُ وَهُمْ ظَٰلِمُونَ﴾ [العنكبوت: 14].
* كان عليه السلام نبيًّا رحيمًا ذا شفقةٍ؛ فكان مِن أرحم الناس على قومه:
قال تعالى: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَىٰ قَوْمِهِۦ فَقَالَ يَٰقَوْمِ اْعْبُدُواْ اْللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُۥٓ إِنِّيٓ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٖ﴾ [الأعراف: 59]، وقال تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَىٰ قَوْمِهِۦٓ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٞ مُّبِينٌ * أَن لَّا تَعْبُدُوٓاْ إِلَّا اْللَّهَۖ إِنِّيٓ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٖ﴾ [هود: 25-26].
* كان عليه السلام ثابتًا على الحق:
قال تعالى: ﴿وَاْتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِۦ يَٰقَوْمِ إِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُم مَّقَامِي وَتَذْكِيرِي بِـَٔايَٰتِ اْللَّهِ فَعَلَى اْللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوٓاْ أَمْرَكُمْ وَشُرَكَآءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةٗ ثُمَّ اْقْضُوٓاْ إِلَيَّ وَلَا تُنظِرُونِ * فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍۖ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اْللَّهِۖ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ اْلْمُسْلِمِينَ﴾ [يونس: 71-72].
كما اتصَف عليه السلام بصفات أخرى كثيرة؛ كعلوِّ الهمَّة، والتواضع، والحِلم.
بعدما بلَّغ نوحٌ عليه السلام رسالتَه إلى قومه، ومكث فيهم دهرًا طويلًا يدعوهم إلى عبادةِ الله وتوحيده: أصَرَّ قومُه على عنادِهم وكفرِهم بالله، فكذَّبوا نوحًا، واتَّهَموه بالجنون، وخالَفوا أمرَ ربِّهم، واستعجَلوا عذابه، وقالوا: ﴿فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ﴾ [هود: 32]، وطلَبوا منه طردَ أتباعِه المؤمنين المستضعَفين؛ قال تعالى: ﴿وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ * إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُّبِينٌ﴾ [الشعراء: 114-115]، وهدَّدوه بالرَّجم إن لم ينتهِ عمَّا يدعو إليه؛ قال تعالى: ﴿قَالُوا لَئِن لَّمْ تَنتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ﴾ [الشعراء: 116]، فواجَههم نوحٌ عليه السلام، ولم يضعُفْ أمامهم، ولم يستسلِمْ أو يتنازل، وقابَل تهديدَهم بتحدٍّ وثبات، وعزمٍ واستعلاء؛ قال تعالى: ﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُم مَّقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنظِرُونِ * فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍ ۖ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ ۖ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾ [يونس: 71-72]، واستنصَر نوحٌ عليه السلام رَبَّه، وطلب منه الفتحَ والنصر؛ قال تعالى: ﴿فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانتَصِرْ﴾ [القمر: 10]، وقال تعالى: ﴿وَنُوحًا إِذْ نَادَىٰ مِن قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ * وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا ۚ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ﴾ [الأنبياء: 76-77]، وقال تعالى: ﴿قَالَ رَبِّ انصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ﴾ [المؤمنون: 26]؛ عند ذلك أمَر اللهُ نوحًا عليه السلام أن يصنعَ السفينة، وينتظر الفَرَجَ والنصر من الله؛ قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ * وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ﴾ [الصافات: 75-76]، وقال تعالى: ﴿وَأُوحِيَ إِلَىٰ نُوحٍ أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلَّا مَن قَدْ آمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ * وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا ۚ إِنَّهُم مُّغْرَقُونَ﴾ [هود: 36-37]، فبدأ نوحٌ عليه السلام بصُنْعِ السفينة بأمر الله ووحيِه، وفي رعايته وحفظِه، وصار الملأُ من قومه يمُرُّون عليه وهو يصنع السفينةَ ويستغربون، ويَسخَرون منه، فيقول لهم نوحٌ عليه السلام: ﴿قَالَ إِن تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ * فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ﴾ [هود: 38- 39]، ولا نجد وصفًا لسفينة نوحٍ إلا في قوله تعالى: ﴿وَحَمَلْنَاهُ عَلَىٰ ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ﴾ [القمر: 13]، وهنا قد انتهت الفرصةُ الممنوحة للإيمان، وأُغلِق البابُ، وعند ذلك دعا نوحٌ على قومه الكفار: ﴿وَقَالَ نُوحٌ رَّبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا * إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا﴾ [نوح: 26-27]، ﴿قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ * فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا وَنَجِّنِي وَمَن مَّعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الشعراء: 117-118]، فاستجاب اللهُ دعاءَ نوحٍ ونِدَاه، فنصَره وأنجاه، وأوقَع بأسه وعذابه بالكفار؛ فكان الطوفانُ، وكان نوحٌ ينتظر علامة بَدء الطوفان، وكانت علامةُ بَدء الطوفان فَوَرانَ الماء من التنور: ﴿فَإِذَا جَآءَ أَمْرُنَا وَفَارَ اْلتَّنُّورُ﴾ [المؤمنون: 27]، وهو الفُرْنُ الذي يُخبَز فيه، فعندما فار الماء من وسط التنُّور، امتد ليشمل باقيَ المناطق على وجه الأرض، وفجَّر اللهُ وجهَ الأرض عيونًا، ثم أمر اللهُ السماءَ أن ترسلَ الماء مِدرارًا إلى وجه الارض، وهكذا بدأ الطوفان، والتقى ماءُ السماء وماءُ الأرض على القوم الكافرين؛ قال تعالى: ﴿فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُّنْهَمِرٍ * وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَىٰ أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ﴾ [القمر: 11-12].
وكان اللهُ عزوجل أمر نوحًا عليه السلام إذا ما بدأ الطوفانُ، وفار الماءُ من التنُّور: أن يدخلوا السفينةَ فورًا، وكانت حمولتُها من المؤمنين فقط من أهله ومن قومه، كما أمَره اللهُ أن يأخذ معه زوجَينِ من كل المخلوقات الحيَّةِ على الإطلاق؛ قال تعالى: ﴿فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ ۙ فَاسْلُكْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ ۖ وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا ۖ إِنَّهُم مُّغْرَقُونَ﴾ [المؤمنون: 27]، ﴿حَتَّىٰ إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ ۚ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ﴾ [هود: 40].
ورَكِبَ نوحٌ عليه السلام السفينةَ والمؤمنون معه والأحياء، وبدأت السفينةُ تجري وسَطَ أمواج الطوفان، وهنا دعا نوحٌ عليه السلام رَبَّهُ وحَمِدَه: ﴿فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنتَ وَمَن مَّعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَقُل رَّبِّ أَنزِلْنِي مُنزَلًا مُّبَارَكًا وَأَنتَ خَيْرُ الْمُنزِلِينَ﴾ [المؤمنون: 28- 29]، وقال لأتباعه المؤمنين: ﴿ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا ۚ إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ [هود: 41]، ونظَر نوحٌ عليه السلام بين الأمواج، فرأى ابنَه الكافر من بعيد، فدعاه إلى ركوب السفينة، لكنه أبى؛ قال تعالى: ﴿وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَىٰ نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَب مَّعَنَا وَلَا تَكُن مَّعَ الْكَافِرِينَ * قَالَ سَآوِي إِلَىٰ جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ ۚ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَن رَّحِمَ ۚ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ﴾ [هود: 42-43].
أوقَعَ اللهُ العذابَ بالكفار، وأغرَقهم جميعًا بسبب عصيانهم وكفرهم؛ قال تعالى: ﴿مِّمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُم مِّن دُونِ اللَّهِ أَنصَارًا﴾ [نوح: 25]، وحقَّق اللهُ إرادته في إهلاك الكافرين.
وكما بدأ الطوفانُ بأمر الله، انتهى بأمر الله؛ قال تعالى: ﴿وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ ۖ وَقِيلَ بُعْدًا لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾ [هود: 44]، واستقرت سفينةُ نوح عليه السلام على (الجُوديِّ)، وهو جبلٌ مطلٌّ على الجزيرة، قريبٌ من مدينة (المَوْصِل) العراقية اليوم.
ولما استقرت السفينةُ على جبل (الجُوديِّ)، نزَل منها نوحٌ عليه السلام والمؤمنون معه، واستُؤنفت الحياةُ على وجه الأرض من جديد؛ قال تعالى: ﴿قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِّنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَىٰ أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَ ۚ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُم مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [هود: 48].
وجعل اللهُ قصةَ الطوفان والسفينة والهلاك والنجاة آيةً وعِبْرة، ودعا الناسَ ليعتبروا ويتعظوا: ﴿فَأَنجَيْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ * ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ * إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً ۖ وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ﴾ [الشعراء: 119-121]، ﴿إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ وَإِن كُنَّا لَمُبْتَلِينَ * ثُمَّ أَنشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ﴾ [المؤمنون: 30-31]، ﴿وَلَقَد تَّرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ * فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ * وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ﴾ [القمر: 15-17]؛ قال البخاري في "صحيحه" في (كتاب التفسير، تفسير سورة القمر، باب ﴿تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَآءٗ لِّمَن كَانَ كُفِرَ 14 وَلَقَد تَّرَكْنَٰهَآ ءَايَةٗ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٖ﴾ [القمر: 14-15]): «قال قتادةُ: «أبقى اللهُ سفينةَ نوحٍ حتى أدرَكَها أوائلُ هذه الأمَّةِ»». (6 /143).
ينظر: "القصص القرآني" لصلاح الخالدي (1 /182- 208).
نوحٌ عليه السلام نبيٌّ كريم، ورسولٌ من أُولي العزم من الرُّسل، بعَثه اللهُ ليدعوَ قومه إلى عبادة الله وتوحيده بعد أن ظهَرَ فيهم الكفرُ والعصيان؛ قال تعالى: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَىٰ قَوْمِهِۦ فَقَالَ يَٰقَوْمِ اْعْبُدُواْ اْللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُۥٓ إِنِّيٓ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٖ﴾ [الأعراف: 59].
وقد أرسَل اللهُ نوحًا عليه السلام إلى قومه خاصةً؛ قال تعالى: ﴿إِنَّآ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَىٰ قَوْمِهِۦٓ أَنْ أَنذِرْ قَوْمَكَ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٞ﴾ [نوح: 1]؛ شأنُه في ذلك شأنُ كلِّ نبي ورسول؛ أنه يُبعَث إلى قومه خاصة، إلا محمدًا ﷺ؛ فقد أرسَله اللهُ إلى الناس كافةً؛ قال تعالى: ﴿وَمَآ أَرْسَلْنَٰكَ إِلَّا كَآفَّةٗ لِّلنَّاسِ بَشِيرٗا وَنَذِيرٗا وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ اْلنَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [سبأ: 28].
ينظر: "القصص القرآني" لصلاح الخالدي (1 /156).
لمَّا جاء نوحٌ عليه السلام إلى قومه، وجدهم يعبدون أصنامًا وأوثانًا؛ فنهاهم عن عبادتها، وطلب منهم طلبًا واحدًا؛ وهو عبادةُ الله وحده وتوحيدُه؛ قال تعالى: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَىٰ قَوْمِهِۦ فَقَالَ يَٰقَوْمِ اْعْبُدُواْ اْللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُۥٓ إِنِّيٓ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٖ﴾ [الأعراف: 59]، ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَىٰ قَوْمِهِۦ فَقَالَ يَٰقَوْمِ اْعْبُدُواْ اْللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُۥٓۚ أَفَلَا تَتَّقُونَ﴾ [المؤمنون: 23]، ﴿قَالَ يَٰقَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٞ مُّبِينٌ * أَنِ اْعْبُدُواْ اْللَّهَ وَاْتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ * يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَىٰٓ أَجَلٖ مُّسَمًّىۚ إِنَّ أَجَلَ اْللَّهِ إِذَا جَآءَ لَا يُؤَخَّرُۚ لَوْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [نوح: 2-4].
وكان مضمونُ رسالته: ﴿فَقُلْتُ اْسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ إِنَّهُۥ كَانَ غَفَّارٗا * يُرْسِلِ اْلسَّمَآءَ عَلَيْكُم مِّدْرَارٗا * وَيُمْدِدْكُم بِأَمْوَٰلٖ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّٰتٖ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَٰرٗا * مَّا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارٗا * وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا * أَلَمْ تَرَوْاْ كَيْفَ خَلَقَ اْللَّهُ سَبْعَ سَمَٰوَٰتٖ طِبَاقٗا * وَجَعَلَ اْلْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورٗا وَجَعَلَ اْلشَّمْسَ سِرَاجٗا * وَاْللَّهُ أَنۢبَتَكُم مِّنَ اْلْأَرْضِ نَبَاتٗا * ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجٗا * وَاْللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ اْلْأَرْضَ بِسَاطٗا * لِّتَسْلُكُواْ مِنْهَا سُبُلٗا فِجَاجٗا﴾ [نوح: 10-20].
واستخدَم نوحٌ عليه السلام أساليبَ مختلِفة في الدعوة؛ فقد انتقَل من أسلوب الترغيب، إلى أسلوب التحبيب، إلى أسلوب الترهيب، إلى أسلوب البرهان، إلى الدعوة السِّرية، وإلى الدعوة العَلَنية، إلى الدعوة في الليل، إلى الدعوة في النهار؛ قال تعالى: ﴿قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلٗا وَنَهَارٗا * فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَآءِيٓ إِلَّا فِرَارٗا * وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوٓاْ أَصَٰبِعَهُمْ فِيٓ ءَاذَانِهِمْ وَاْسْتَغْشَوْاْ ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّواْ وَاْسْتَكْبَرُواْ اْسْتِكْبَارٗا * ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارٗا * ثُمَّ إِنِّيٓ أَعْلَنتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارٗا﴾ [نوح: 5-9].
واستمر نوحٌ عليه الصلاة والسلام في دعوتِه لقومه إلى عبادة الله ألفَ سنة إلا خمسين عامًا؛ قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَىٰ قَوْمِهِۦ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامٗا فَأَخَذَهُمُ اْلطُّوفَانُ وَهُمْ ظَٰلِمُونَ﴾ [العنكبوت: 14]، لكنَّ الملأَ من قومه رفَضوا دعوته، وأصَرُّوا على الكفرِ والعصيان والعناد، ولم يستجيبوا له، وعصَوْا أمره، واتَّهَموه بأنه في ضلالٍ مبين؛ يقول الله تعالى: ﴿قَالَ اْلْمَلَأُ مِن قَوْمِهِۦٓ إِنَّا لَنَرَىٰكَ فِي ضَلَٰلٖ مُّبِينٖ * قَالَ يَٰقَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلَٰلَةٞ وَلَٰكِنِّي رَسُولٞ مِّن رَّبِّ اْلْعَٰلَمِينَ * أُبَلِّغُكُمْ رِسَٰلَٰتِ رَبِّي وَأَنصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اْللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ * أَوَعَجِبْتُمْ أَن جَآءَكُمْ ذِكْرٞ مِّن رَّبِّكُمْ عَلَىٰ رَجُلٖ مِّنكُمْ لِيُنذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُواْ وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ [الأعراف: 60-63].
وذكَروا له أنه بَشَرٌ مثلهم، وليس رسولًا من عند الله، وأن الذين اتبعوه هم المستضعَفون من القوم؛ قال الله تعالى: ﴿فَقَالَ اْلْمَلَأُ اْلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِۦ مَا نَرَىٰكَ إِلَّا بَشَرٗا مِّثْلَنَا وَمَا نَرَىٰكَ اْتَّبَعَكَ إِلَّا اْلَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ اْلرَّأْيِ وَمَا نَرَىٰ لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلِۭ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَٰذِبِينَ﴾ [هود: 27]، وقال تعالى: ﴿قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ * إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَىٰ رَبِّيۖ لَوْ تَشْعُرُونَ * وَمَآ أَنَا۠ بِطَارِدِ اْلْمُؤْمِنِينَ * إِنْ أَنَا۠ إِلَّا نَذِيرٞ مُّبِينٞ﴾ [الشعراء: 112-115].
وذكروا أيضًا أنه لو شاء اللهُ لأنزل ملائكة؛ قال الله تعالى: ﴿فَقَالَ اْلْمَلَؤُاْ اْلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِۦ مَا هَٰذَآ إِلَّا بَشَرٞ مِّثْلُكُمْ يُرِيدُ أَن يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَآءَ اْللَّهُ لَأَنزَلَ مَلَٰٓئِكَةٗ مَّا سَمِعْنَا بِهَٰذَا فِيٓ ءَابَآئِنَا اْلْأَوَّلِينَ * إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلُۢ بِهِۦ جِنَّةٞ فَتَرَبَّصُواْ بِهِۦ حَتَّىٰ حِينٖ﴾ [المؤمنون: 24-25].
فأقام نوحٌ عليه السلام عليهم الحُجَّةَ، وأكثَرَ من تقديم الأدلة والبراهين لهم، وجادَلهم فأكثَرَ جدالهم؛ قال تعالى: ﴿قَالُواْ يَٰنُوحُ قَدْ جَٰدَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَٰلَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ إِن كُنتَ مِنَ اْلصَّٰدِقِينَ * قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُم بِهِ اْللَّهُ إِن شَآءَ وَمَآ أَنتُم بِمُعْجِزِينَ * وَلَا يَنفَعُكُمْ نُصْحِيٓ إِنْ أَرَدتُّ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِن كَانَ اْللَّهُ يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْۚ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ [هود: 32-34]، وعصى قومُ نوحٍ نبيَّهم، وكفَروا به، واتبعوا الملأَ، وساروا مع الشياطين، ومكَر الملأ المعانِدون مِن قومه به وبدعوته؛ قال تعالى: ﴿قَالَ نُوحٞ رَّبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاْتَّبَعُواْ مَن لَّمْ يَزِدْهُ مَالُهُۥ وَوَلَدُهُۥٓ إِلَّا خَسَارٗا 21 وَمَكَرُواْ مَكْرٗا كُبَّارٗا﴾ [نوح: 21-22]، فلم يؤمِنْ بنوحٍ عليه السلام إلا عددٌ قليل من قومه؛ قال تعالى: ﴿وَمَآ ءَامَنَ مَعَهُۥٓ إِلَّا قَلِيلٞ﴾ [هود: 40].
فلمَّا أصَرَّ قومُ نوحٍ على عنادهم وكفرهم بالله، وكذَّبوا نوحًا، وخالَفوا أمر ربهم، ولَجُّوا في طغيانهم يَعمَهون: أغرَقهم اللهُ، وأنجى اللهُ نبيَّه والذين آمنوا معه.
ينظر: "القصص القرآني" لصلاح الخالدي (1 /167- 180).
عاش نوحٌ عليه السلام عمرًا مديدًا طويلًا، أكثرَ من ألفِ سنةٍ، وقد أخبرنا الله عن بعض مقدار عمرِه، لا عنه كلِّه؛ قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَىٰ قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ﴾ [العنكبوت: 14].
وكان عُمُرُه على ثلاثِ مراحلَ:
الأولى: ما بين ولادته ونُبوَّته.
والثانية: ما بين نُبوَّته والطوفان.
والثالثة: ما بين نزوله من السفينة ووفاته، ثم تُوفِّي عليه السلام بعدها.
* شرحُ ما جاء في القرآن الكريم مِن دعائه عليه السلام على قومِه:
ذكَر اللهُ في كتابه الكريم أن نوحًا عليه السلام دعا على قومه قائلًا: ﴿رَّبِّ لَا تَذَرْ عَلَى اْلْأَرْضِ مِنَ اْلْكَٰفِرِينَ دَيَّارًا﴾ [نوح: 26]، وقد جاء في التفسير: أنه ما دعا عليهم إلا بعدما يَئِسَ من إيمانِه، وأوحى اللهُ إليه: ﴿أَنَّهُۥ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلَّا مَن قَدْ ءَامَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ﴾ [هود: 36]، وجاء في الخبر: «أنه احتمَل أذايتَهم ألفَ سنة إلا خمسين عامًا، وهو يقول مع ذلك: رَبِّ، اهدِ قومي؛ فإنهم لا يَعلَمون.
فبينما هو ساجدٌ يومًا إذ مَرَّ به رَجُلٌ مِن كفارِ قومه، وعلى عُنُقِه حفيدٌ له، فقال الجَدُّ للحفيد: يا بنيَّ، هذا هو الشيخُ الكذَّاب الذي دعانا إلى عبادة رَبٍّ لا نَعرِفه، وأوعَدَنا وعيدًا بلا أبدٍ؛ فتحفَّظْ منه لئلا يُضِلَّك، فقال الحفيدُ له: إذا كان على هذه الحالةِ، فلم تركتموه حيًّا إلى الآن؟ فقال له الجَدُّ: وما كنا نصنع به؟! فقال: أنزِلْني حتى ترى ما أصنع به، فأنزَله، فأخَذ صخرةً فصَبَّها على رأسه، فتلقَّفَها المَلَكُ، وقيل: شَجَّ رأسَه.
فلمَّا سَمِعَ نوحٌ عليه السلام قولَه، ورأى فعلَه؛ عَلِمَ إذ ذاك أن الحفيدَ أطغى من الجَدِّ، فدعا في تلك السجدةِ، فكان ما كان، ثم نَدِمَ على دعائه، حتى إذا سُئل الشفاعةَ في الآخرة، امتنَع منها، واعتذَر بأنه دعا على قومِه بالهلاك».
ومعلومٌ أن دعاءَ المؤمن على الكافر مباحٌ لا ذنب فيه، وإذا كان ذلك كذلك، فإنه أحرى ما يكون إذا وقَع القطعُ بكفرِه.
وقد دعا النبيُّ ﷺ على مُضَرَ، ودعا موسى على فرعون ومَلَئِه.
على أن دعوةَ نوحٍ عليه السلام رحمةٌ علَّلها هو، فقال: ﴿إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّواْ عِبَادَكَ﴾ [نوح: 27]؛ يعني: يُضِلُّوا مَن آمَن من قومه بكثرةِ الأذاية، فربما رجَع منهم إلى مذهبهم. انظر: "تنزيه الأنبياء عما نسب إليهم حثالة الأغبياء" (ص82) وما بعدها.
* استشكَل بعضُهم قوله تعالى: ﴿وَنَادَىٰ نُوحٌ اْبْنَهُۥ وَكَانَ فِي مَعْزِلٖ يَٰبُنَيَّ اْرْكَب مَّعَنَا وَلَا تَكُن مَّعَ اْلْكَٰفِرِينَ * قَالَ سَـَٔاوِيٓ إِلَىٰ جَبَلٖ يَعْصِمُنِي مِنَ اْلْمَآءِۚ قَالَ لَا عَاصِمَ اْلْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اْللَّهِ إِلَّا مَن رَّحِمَۚ وَحَالَ بَيْنَهُمَا اْلْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ اْلْمُغْرَقِينَ﴾ [هود: 42-43]، فقال: كيف دعا نوحٌ عليه السلام ابنَه إلى السفينة وهو كافرٌ؛ هل أصابه حنانُ الأبوَّة وشفقتها فنَسِيَ نَهْيَ اللهِ له عن إركاب الكافرين من أهلِه؟
فيقال: يكمُنُ الجواب في قوله: ﴿وَكَانَ فِي مَعْزِلٖ﴾؛ لمَّا رأى نوحٌ عليه السلام ابنَه في مَعزِل، تاركًا القوم الكافرين، معتزِلًا لهم؛ ظنَّ أن ابنَه بدا له أن يتخلَّى عن الكفرِ ويدخُلَ في الإيمان؛ ولهذا دعاه إلى الركوب: ﴿يَٰبُنَيَّ اْرْكَب مَّعَنَا وَلَا تَكُن مَّعَ اْلْكَٰفِرِينَ﴾ [هود: 42]، ولو لم يكن كذلك، لَمَا دعاه إلى ركوبِ السفينة، ولم يكُنْ للشفقة دورٌ في ذلك. انظر: "القصص القرآني" لصلاح الخالدي (1 /196-198).
* وقد استشكَل بعضُهم قوله تعالى: ﴿وَنَادَىٰ نُوحٞ رَّبَّهُۥ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ اْبْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ اْلْحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ اْلْحَٰكِمِينَ * قَالَ يَٰنُوحُ إِنَّهُۥ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَۖ إِنَّهُۥ عَمَلٌ غَيْرُ صَٰلِحٖۖ فَلَا تَسْـَٔلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِۦ عِلْمٌۖ إِنِّيٓ أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ اْلْجَٰهِلِينَ﴾ [هود: 45-46]، فقال: كيف يسُوغُ لنوحٍ عليه السلام بعد معرفتِه بعدم نجاة الكافرين وأقوالُ ابنِه وأحواله تدلُّ على أنه منهم أن يقول: ﴿رَبِّ إِنَّ اْبْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ اْلْحَقُّ﴾؟
نقولُ: يحتمِلُ أن نوحًا عليه السلام ظنَّ - حين رأى ابنَه بمَعزِل عن الكفار - أنه قد بدا له كفرُه فكَرِهَه وجنَح للإيمان، ويحتمل أن يكونَ قد فَهِمَ أنه غيرُ داخل في عموم قوله تعالى له: ﵟأَنَّهُۥ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلَّا مَن قَدْ ءَامَنَﵞ [هود: 36]؛ لأنه تعالى جعَل الناجين قسمين: أهلَه إلا مَن استثنى ، ومَن آمَن من قومه؛ فجاز في فَهْمِه أن يؤمنَ مِن أهله مَن كان كافرًا؛ لأنهم قسيمٌ لقومه منهم، ووافَق هذا الفَهْمَ وقوَّاه رحمةُ الأبوَّة؛ فسأل اللهَ تعالى أن يُحقِّقَه، ولمَّا كان هذا اجتهادًا ظنيًّا لا يَليق بنبيٍّ رسولٍ من أُولي العزم أن يخاطِبَ به ربَّه، عاتَبه تعالى وأدَّبَه عليه بقوله: ﴿فَلَا تَسْـَٔلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِۦ عِلْمٌۖ﴾ [هود: 46]؛ أي: فلا تَسألْني في شيءٍ ما من الأشياء ليس لك به علمٌ صحيح أنه حقٌّ وصواب، وسمَّى دعاءه سؤالًا؛ لأنه تضمَّن ذِكْرَ الوعد بنجاة أهلِه، وما رتَّبه عليه من طلبِ نجاة ولده.
ينظر للاستزادة: "تنزيه الأنبياء عما نسب إليهم حثالة الأغبياء" لابن حمير (ص 78-81)، "القصص القرآني" لصلاح الخالدي (1 /202-205).
يستفاد من قصةِ نوح عليه السلام أن جميعَ الرُّسل متفقون على الدعوة إلى التوحيدِ ونبذِ الشرك، وأن للدعوة آدابَها وأساليبها، وأن نوحًا عليه السلام كان مخلِصًا لله في دعوتِه، وأنه ينبغي الاستعانةُ بالله في جميع التقلُّبات والحركات، وأنَّ تَقْوى اللهِ من جملة الأسباب التي تُنال بها الدُّنيا، وكثرةُ الأولاد والرِّزق، وغير ذلك.
ينظر: "مصابيح الضياء" للسعدي (ص 14-16)، "فبهداهم اقتده" لعثمان الخميس (ص 75-76).