الوهاب
كلمة (الوهاب) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فعّال) مشتق من الفعل...
(حفظ): الحفظُ: نقيض النسيان، وهو التعاهُدُ، وقِلَّة الغفلة. "العين" للفراهيدي (3 /198).
(الدِّين): الطاعة، قال ابن فارس: «الدال والياء والنون: أصلٌ واحد إليه يَرجِع فروعه كلُّها، وهو جنسٌ من الانقياد والذُّل؛ فالدِّين: الطاعة». انظر: "مقاييس اللغة" (2 /319)، وينظر: "لسان العرب" لابن منظور (13 /171).
و(الدِّين) أيضًا: الجزاء. انظر: "العين" للفراهيدي (8 /73).
عرَّف بعضُ الأصوليِّين (الدِّين) بأنه: وضعٌ إلهيٌّ سائق لذوي العقول باختيارِهم المحمودِ إلى الخيرِ بالذات، أو إلى الصلاحِ في الحال، والفلاح في المآل. انظر: "كشف الأسرار" للبخاري (1 /5).
وعرَّفه آخَرون بأنه: مجموعُ العقائد والعبادات والأحكام والقوانين التي شرَعها اللهُ سبحانه وتعالى لتُنظِّمَ علاقةَ الناس بربهم، وعلاقتَهم بعضِهم ببعض. انظر: "علم أصول الفقه" لخلاف (ص174).
أما (حفظُ الدِّين)، فيُقصَد به: تثبيتُ أركانِ الدِّين وأحكامِه، والحرصُ على أدائها، وعدمِ التهاون بها، ونَبْذِ كلِّ ما يعارض الدِّينَ. انظر: "علم المقاصد الشرعية" للخادمي (ص79).
وقد بيَّن ابنُ عاشور المقصودَ بـ(حفظ الدِّين)، فقال: «معناه: حفظُ دِينِ كلِّ أحد من المسلمين أن يدخُلَ عليه ما يُفسِد اعتقادَه وعمله اللاحقَ بالدِّين، وحفظُ الدِّين بالنسبة لعموم الأمَّة؛ أي: دفعُ كلِّ ما شأنُه أن ينقُضَ أصولَ الدِّين القطعية». "مقاصد الشريعة الإسلامية" لابن عاشور (3 /236).
إن ما دلت عليه اللغةُ وما دلت عليه تعاريفُ الأصوليِّين لـ(حفظِ الدِّين) متفقانِ غيرُ مختلفينِ؛ ففي تعريف (الدِّين) لغةً واصطلاحًا هناك معنًى عامٌّ لـ(الدِّين)؛ إذ يُطلَق على كلِّ ما يؤمن به الإنسانُ ويعتقده، لكن المقصود هنا بـ(الدِّين): الدِّينُ الإسلامي الصحيح المنزَّل من ربِّ العالمين، والانقيادُ والطاعة لله عز وجل وحده؛ فهو الدِّين الذي لا يُقبَل من أحد سِواه، فمَن اتبَعه كان من الفائزين، ومَن أعرَض عنه كان من الخاسرين. انظر: "مقاصد الشريعة الإسلامية" لليوبي (ص193).
إن الآياتِ التي جاءت حاثَّةً على حفظِ الدِّين ووسائلِه كثيرةٌ، وقد تكفَّل اللهُ عز وجل بحفظِ الدِّين؛ قال تعالى: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا اْلذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُۥ لَحَٰفِظُونَ﴾ [الحجر: 9].
وبيَّن اللهُ عز وجل أنه لا يوجد دِينٌ صحيح غيرُ الإسلام؛ قال تعالى: ﴿وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ اْلْإِسْلَٰمِ دِينٗا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي اْلْأٓخِرَةِ مِنَ اْلْخَٰسِرِينَ﴾ [آل عمران: 85].
وقد شرَع اللهُ الجهادَ حفاظًا على الدِّين؛ قال تعالى: ﴿وَقَٰتِلُوهُمْ حَتَّىٰ لَا تَكُونَ فِتْنَةٞ وَيَكُونَ اْلدِّينُ لِلَّهِۖ فَإِنِ اْنتَهَوْاْ فَلَا عُدْوَٰنَ إِلَّا عَلَى اْلظَّٰلِمِينَ﴾ [البقرة: 193].
الأحاديث التي تحُثُّ على حفظِ الدِّين كثيرة؛ منها:
* عن عبدِ اللهِ بن عمروٍ رضي الله عنهما، أنَّ النبيَّ ﷺ قال: «بَلِّغوا عنِّي ولو آيةً». أخرجه البخاري (3461).
* عن كعبِ بن مالكٍ الأنصاريِّ رضي الله عنه، قال: قال رسولُ اللهِ ﷺ: «ما ذِئْبانِ جائعانِ أُرسِلا في غَنَمٍ بأفسَدَ لها مِن حرصِ المرءِ على المالِ والشَّرَفِ لدِينِه». أخرجه الترمذي (2376)، وأحمد (15794).
يقول ابنُ تيميَّةَ رحمه الله: «فبيَّن ﷺ أن الحرصَ على المال والشَّرف في فسادِ الدِّين لا ينقُصُ عن فساد الذِّئبين الجائعين لزَريبةِ الغَنَم... ومَن لم يكُنْ خالصًا لله، عبدًا له... كان من الغاوينَ إخوانِ الشياطين... فالقلبُ إن لم يكن حنيفًا مُقبِلًا على الله، مُعرِضًا عما سِواه، وإلا كان مشركًا». "مجموع الفتاوى" لابن تيمية (10 /215-217).
أجمَعت الأمَّةُ على أن الشريعةَ إنما جاءت لحفظِ (الضَّرورات الخَمس)؛ يقول الشاطبيُّ رحمه الله: «فقد اتفَقت الأمَّةُ - بل سائرُ المِلَل - على أن الشريعةَ وُضِعت للمحافظة على الضَّرورات الخَمس؛ وهي: الدِّين، والنفس، والنَّسْل، والمال، والعقل.
وعِلْمُها عند الأمة كالضروريِّ، ولم يثبُتْ لنا ذلك بدليلٍ معيَّن، ولا شَهِد لنا أصلٌ معيَّن يمتاز برجوعها إليه؛ بل عُلِمتْ ملاءمتُها للشريعة بمجموعةِ أدلةٍ لا تنحصِرُ في بابٍ واحد». "الموافقات" للشاطبي (1 /31).
الواقعُ والعقل خيرُ دليلٍ على أهمية (حفظ الدِّين)؛ فنحن نرى الدُّولَ الكافرة أو التي لا تُطبِّق الشريعةَ كيف أن أنظمتها مختلَّة، وكيف تَضِيعُ المقاصد الأخرى فيها تحت الشعارات؛ فتكثُرُ فيها الجرائم، ويكثُرُ فيها القتلُ وسلبُ الأموال؛ وذلك لتعدُّد الأنظمة والدِّيانات فيها، وعدمِ وجود دستور موحَّد يحكُمُهم، فلو كان احتكامُهم إلى الدِّين، وإلى مبادئِ الشريعة الإسلامية؛ لَمَا سادت مثلُ هذه الفوضى. انظر: "مقاصد الشريعة الإسلامية" لليوبي (ص211).
(حفظُ الدِّين) أهَمُّ مقصدٍ من مقاصد الشريعة، وهو أكبَرُ (الكُلِّيات الخَمس) وأرقاها؛ فلا يمكن أن يكونَ هذا المقصدُ العظيم مُعرَّضًا للضَّياع والتحريف والتبديل؛ لأن في ذلك ضياعًا للمقاصد الأخرى؛ فـ(الدِّين) المراد حفظُه خاصَّةٌ من خواصِّ الإنسان الفرد، وظاهرةٌ من ظواهر المجتمع، يسمو بها إلى معاني الإنسانية ، كما أنه يُمثِّل عناصرَ النظام التي تُنظِّم علاقةَ الإنسان بخالقه، وبغيرِه من الأفراد؛ أي إن (الدِّين) يُمثِّل النظامَ الذي يُسيِّر المجتمعَ، ويَضمَن سلامة سيره؛ فإذا اختَلَّ هذا النظامُ، اختَلَّ المجتمعُ وفسَد. انظر: "المقاصد العامة للشريعة الإسلامية" لعز الدين بن زغيبة (ص124)، "مقاصد الشريعة الإسلامية" لليوبي (ص193).
يكون (حفظُ الدِّين) من جانبينِ:
* جانب الوجود: وذلك بالمحافظةِ على ما يُقِيم أركانَه، ويُثبِّت قواعده: من النُّطق بالشَّهادتين، والإيمانِ بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وأصولِ العبادات: من صلاةٍ وصيام وزكاة وحجٍّ.
ويكون ذلك بالعملِ به، والجهاد من أجله، والدعوة إليه، والحُكْمِ به، ورَدِّ كلِّ ما يخالفه.
* جانب العَدَمِ: وذلك بدَرْءِ الفساد الواقع أو المتوقَّع عليه، ورَدِّ كلِّ ما يخالِفه من الأهواء والبِدَع.
ويكون ذلك بإقامةِ واجب الجهاد الأكبر، المتمثِّل في تخليصِ النفس من خيوط الشيطان، وسلطان الهوى، ومحاربةِ مَن يقف عقَبةً في سبيل الدعوة، كما جعَل الدِّينُ عقوبةً لمن يَرجِع عن دِينه، وعقوبةً لمن يبتدع ويُحدِث في الدِّين ما ليس منه. انظر: "مقاصد الشريعة الإسلامية" لليوبي (ص194 وما بعدها)، "مقاصد الشريعة عند ابن تيمية" للبدوي (ص447-460).
وقد أشار الشاطبيُّ إلى وسائلِ (حفظ الدِّين)، فقال: «فإنَّ (حِفْظَ الدِّين) حاصلُه في ثلاثة معانٍ؛ وهي: الإسلام، والإيمان، والإحسان.
وأصلُ هذه في الكتاب، وبيانها في السُّنة على الكمال.
ومكمِّله ثلاثةُ أشياء؛ وهي:
الدعاء إليه بالترغيب والترهيب، وجهادُ مَن عانده أو رامَ إفساده، وتَلافي النقصانِ الطارئ في أصله». "الموافقات" للشاطبي (4 /347).
(حفظُ الدِّين) أصلُ المقاصد كلِّها، وهو أعظَمُها ضرورةً وأهمية؛ فإذا ذهب (الدِّين) فسَدت الدنيا بأسرها، وذهَبت المقاييسُ الصحيحة، والموازين العادلة؛ لأنه إذا لم يكُنْ هناك دِينٌ يَضبِط المصالح، ويُنظِّم الحياة: فإن كلَّ شخص سيفعل ما يراه مناسبًا بحسَبِ ما يُملِي عليه هواه.
وبذلك تختلُّ المقاصد الأخرى؛ فيحصُلُ الاعتداء على الأموال، والأنفس، والأعراض، والأنساب.
ينظر: "الموافقات" للشاطبي" (2 /40)، "مقاصد الشريعة الإسلامية" لليوبي (ص209).