المجيب
كلمة (المجيب) في اللغة اسم فاعل من الفعل (أجاب يُجيب) وهو مأخوذ من...
(حفظ): الحفظ: نقيضُ النسيان، وهو: التعاهُدُ وقِلَّة الغفلة. "العين" للفراهيدي (3 /198).
(النسل) لغة: الولدُ، ونسَل نَسْلًا: كثُرَ نَسْلُه، ويطلق على الخَلْقِ والذُّرية. "المصباح المنير" للفيومي (ص932).
(النسل) في الاصطلاح معناه: الولَدُ والذُّرية التي تعقُبُ الآباءَ، وتخلُفُهم في بقاء المسيرة الطويلة للنوع البشري. انظر: "المقاصد العامة" للعالم (ص391).
أما (حفظ النسل) فمعناه: التناسُلُ والتوالد لإعمار الكون. انظر: "علم المقاصد الشرعية" للخادمي (ص83).
يقول ابنُ عاشور: «وأما (حفظُ الأنساب)، ويُعبَّر عنه بـ(حفظ النسل): فقد أطلَق العلماءُ ولم يُبيِّنوا المقصودَ منه، ونحن نفصِّل القول فيه؛ وذلك أنه إن أريد به (حفظ الأنساب) - أي النسل - من التعطيل: فظاهرٌ عَدُّه من الضروري؛ لأن (النسل) هو خِلْفةُ أفراد النوع؛ فلو تعطَّل يؤُولُ تعطيله إلى اضمحلالِ النوع وانتقاصه». "مقاصد الشريعة الإسلامية" لابن عاشور (3 /239).
يأتي (النَّسْلُ) في اللغة والاصطلاح بالمعنى نفسه؛ أي: الوَلَدِ والذُّرية، والتناسُلِ والتوالد من أجلِ استبقاء الأصل البشري.
* قال تعالى: ﴿فَاْنكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ اْلنِّسَآءِ مَثْنَىٰ وَثُلَٰثَ وَرُبَٰعَۖ﴾ [النساء: 3].
ففي هذه الآيةِ مشروعيةُ النكاح والتعدُّد فيه، ولازم ذلك: تكثير (النَّسل) وزيادته؛ قال البخاري رحمه الله: «باب الترغيب في النكاح؛ لقوله تعالى: ﴿فَاْنكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ اْلنِّسَآءِ﴾ [النساء: 3] الآية». "الصحيح" (7 /2).
* أمر رسولُ الله ﷺ بالباءة، وحَثَّ على نكاحِ الوَلُود:
عن أنسِ بن مالكٍ رضي الله عنه، قال: «كان رسولُ اللهِ ﷺ يأمُرُ بالباءةِ، ويَنهَى عن التبتُّلِ نهيًا شديدًا، ويقولُ: «تَزوَّجوا الوَدُودَ الوَلُودَ؛ إنِّي مُكاثِرٌ الأنبياءَ يومَ القيامةِ»». أخرجه أحمد (12613).
دل الحديثُ على أن تكثيرَ (النسل) أمرٌ مقصود للشارع.
* وقد حث النبيُّ ﷺ على نكاحِ الأبكار في أحاديثَ كثيرة - لِما يُحقِّقه من مقاصد النكاح الشرعية؛ ومنها: تكثير النسل -؛ منها:
عن جابرِ بن عبدِ اللهِ رضي الله عنهما، أنَّ رسولَ اللهِ ﷺ قال: «فهَلَّا بِكْرًا تُلاعِبُها وتُلاعِبُك». أخرجه البخاري (5247).
أجمَع العلماءُ على مشروعيَّة النكاح وعلى استحبابه، وهو ما يحصُلُ به تكثيرُ (النسل) والمحافظةُ عليه. انظر: "مقاصد الشريعة الإسلامية" لليوبي (ص259).
كما أجمعت الأمَّةُ على أن الشريعةَ إنما جاءت لحفظ (الضرورات الخمس)؛ يقول الشاطبيُّ رحمه الله: «فقد اتفَقت الأمَّةُ - بل سائرُ المِلَل - على أن الشريعةَ وُضِعت للمحافظة على الضَّرورات الخَمس؛ وهي: الدِّين، والنفس، والنَّسْل، والمال، والعقل.
وعِلْمُها عند الأمة كالضروريِّ، ولم يثبُتْ لنا ذلك بدليلٍ معيَّن، ولا شَهِد لنا أصلٌ معيَّن يمتاز برجوعها إليه؛ بل عُلِمتْ ملاءمتُها للشريعة بمجموعةِ أدلةٍ لا تنحصِرُ في بابٍ واحد». "الموافقات" للشاطبي (1 /31).
(حفظُ النسل) ضروري؛ لأنه يَترتَّب على فقدِه انقطاعُ الوجود الإنساني وإنهاؤه، وخرابُ العالَم وفساده. انظر: "مقاصد الشريعة الإسلامية" لليوبي (ص254).
يقول الشاطبيُّ رحمه الله: «ولو عُدِمَ (النَّسْلُ)، لم يكُنْ في العادةِ بقاءٌ». "الموافقات" للشاطبي (2 /32).
(النَّسْلُ) سببُ بقاء النوع الإنساني في أجياله المتعاقِبة إلى الزمن المقدَّر لهذا الوجود، ويَترتَّب على فقدِه انقطاعُ الوجود الإنساني وإنهاؤه، وخرابُ العالَم وفساده؛ لذلك اهتم الإسلامُ بـ(النسل) وشرَع كلَّ ما من شأنه أن يَحفَظَه، ومنَع كلَّ ما يُعرِّضه للتهلكة.
ينظر: "مقاصد الشريعة الإسلامية" لليوبي (ص254)، "المقاصد العامة للشريعة الإسلامية" لابن زغيبة (ص131).
يكون (حفظُ النسل) من جانبين:
* جانب الوجود: وذلك بالحثِّ على ما يحصل به استمرارُه، وبقاؤه، وتكثيره. وقد حرَص الإسلام على ذلك؛ فحَثَّ على النكاح، ورغَّب فيه في نصوصٍ كثيرة في الكتاب والسُّنة. انظر: "المقاصد العامة للشريعة الإسلامية" لابن زغيبة (ص131-132)، "مقاصد الشريعة الإسلامية " لليوبي (257-260).
* جانب العَدَم: وذلك بمنعِ ما يَقطَعه بالكلية أو يُقلِّله، أو يُعدِم وجودَه؛ وذلك من خلال تحريم الزِّنا، وعقوبةُ مرتكِبه (الرَّجْمُ) إن كان محصنًا، و(الجَلْدُ والتغريب) إن لم يكن محصنًا، وكذلك منعُ الإجهاض، والاختصاءِ الذي كان يفعله بعضُ من يريد التبتُّلَ، ومنعُ نكاح السِّر، كما حرَّم الإسلامُ كشفَ العورة، والاختلاطَ، والخَلْوة بالأجنبية، وحرَّم التبرُّج؛ وذلك لِما يفضي إليه من مفاسدَ قد تؤدي إلى ارتكابِ الزنا. انظر: "مقاصد الشريعة الإسلامية" لليوبي (260-276)، "مقاصد الشريعة عند ابن تيمية" للبدوي (ص473-479).
عَدَّ ابنُ تيمية (حفظ النسل) مكمِّلًا لحفظِ (الدِّين) و(النفس)؛ فذكَر أن أكبَرَ الكبائر ثلاثٌ: الكفر، ثم قتلُ النفس بغير الحق ، ثم الزِّنا. انظر: "مقاصد الشريعة عند ابن تيمية" للبدوي (ص472).
وبيَّن الشاطبيُّ أن (حفظ النسل) يدخل في (حفظ النفس)؛ فكلُّ ما ورد في (حفظ النفس) كان حفظًا للنسلِ؛ يقول الشاطبيُّ: «وقد دخَل (حفظُ النسل) في هذا القسم». "الموافقات" للشاطبي (4 /348).
ويَقصِد بـ(هذا القسم): (حفظ النفس)؛ فكلُّ ما ورد في (حفظ النفس) حفظٌ للنسل؛ وذلك بإقامة أصلِه بشرعية التناسل، وحفظِ بقائه بعد خروجه من العدمِ إلى الوجود. "تأصيل فقه الأولويات" لمحمد همام (ص116).
وكذلك ابن عاشور؛ فقد عَدَّ (حفظ النسل) من (حفظ النفس)؛ فبعد أن عرَّف (حفظ النسل)، ذكَر أنه يعادِل حفظ النفوس؛ قال رحمه الله: «وأما (حفظُ الأنساب)، ويُعبَّر عنه بـ(حفظ النسل): فقد أطلَق العلماءُ ولم يُبيِّنوا المقصودَ منه، ونحن نفصِّل القول فيه؛ وذلك أنه إن أريد به (حفظ الأنساب) - أي النسل - من التعطيل: فظاهرٌ عَدُّه من الضروري؛ لأن (النسل) هو خِلْفةُ أفراد النوع؛ فلو تعطَّل يؤُولُ تعطيله إلى اضمحلالِ النوع وانتقاصه؛ فبهذا المعنى لا شُبْهةَ في عَدِّه من الكُلِّيات؛ لأنه يعادِلُ حفظَ النفوس». "مقاصد الشريعة" لابن عاشور (3 /239).
ومِن الأصوليِّين مَن قدَّم (حفظ النسل) على (حفظ العقل) لهذا السبب؛ فعَدَّ (حفظ النسل) راجعًا إلى (حفظ النفس)، وبذلك يكون مقدَّمًا على (العقل).
ومنهم مَن جعَل (حفظ العقل) مقدَّمًا على (حفظ النسل)؛ لأن (النفسَ) تفُوتُ بفوات (العقل)؛ فهو راجعٌ إلى (حفظ العقل) أيضًا.