الشهيد
كلمة (شهيد) في اللغة صفة على وزن فعيل، وهى بمعنى (فاعل) أي: شاهد،...
(حفظ): الحفظُ: نقيضُ النسيان، وهو التعاهُدُ، وقِلَّة الغفلة. "العين" للفراهيدي (3 /198).
(العقل): «العين والقاف واللام: أصلٌ واحد منقاس مطرد، يدل عُظْمُه على حُبْسةٍ في الشيء، أو ما يقارِبُ الحُبْسةَ؛ من ذلك: العقلُ». "مقاييس اللغة" لابن فارس (4 /69).
و«العقل: نقيض الجهل». "العين" للفراهيدي (1 /159).
ويأتي بمعنى: «الحِجْر، والنُّهَى». "لسان العرب" لابن منظور (11 /458).
يُطلَق (العقلُ) في الاصطلاح على معانٍ كثيرة:
* منها ما ذكره الجُرْجاني في "التعريفات": «العقل: جوهرٌ رُوحاني خلَقه اللهُ تعالى متعلِّقًا ببدن الإنسان... العقل: نورٌ في القلب يَعرِف الحقَّ والباطل». "التعريفات" للجرجاني (ص151-152).
* ومنها ما جاء عن الأصمَعيِّ: «العقلُ: هو الإمساكُ عن القبيح، وقَصْرُ النفس وحبسُها على الحَسَن». "المخصص" لابن سِيده (1 /250).
* كذلك يُطلَق العقلُ على القلب والرُّوح؛ فالعقلُ الذي تبدأ منه الإرادةُ إنما هو الرُّوح، وهو المُعبَّر عنه في كتابِ الله عز وجل بالقلب، أما الدِّماغ الذي في الرأس فما هو إلا آلةٌ يستخدمها العقلُ، مَثَلُه مثل الجسد الذي هو آلةٌ تُحرِّكه الرُّوحُ. انظر: "تأصيل فقه الأوليات" لمحمد همام (ص112).
أما (حفظُ العقل)، فمعناه: «حفظُ عقولِ الناس من أن يدخُلَ عليها خَلَلٌ؛ لأن دخول الخلل على العقل مؤدٍّ إلى فسادٍ عظيم». "مقاصد الشريعة الإسلامية" لابن عاشور (3 /238).
المعنى اللُّغَوي والاصطلاحي لـ(العقل) متفقانِ؛ فـ(العقل) يَحبِس النفسَ عن الوقوع في المهالك، ويَمنَعها من القولِ والفعل القبييحَينِ.
ذكَر اللهُ تعالى (العقل) في كتابه في مواضعَ كثيرةٍ؛ منها: قوله تعالى: ﴿إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ﴾ [آل عمران: 118]، وقوله تعالى: ﴿أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي اْلْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٞ يَعْقِلُونَ بِهَآ أَوْ ءَاذَانٞ يَسْمَعُونَ بِهَاۖ فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى اْلْأَبْصَٰرُ وَلَٰكِن تَعْمَى اْلْقُلُوبُ اْلَّتِي فِي اْلصُّدُورِ﴾ [الحج: 46]، وقوله تعالى: ﴿وَقَالُواْ لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِيٓ أَصْحَٰبِ اْلسَّعِيرِ﴾ [الملك: 10].
وأحيانًا يذكُرُ ما يدلُّ عليه: كالأفئدة، أو القلوب؛ لأنها محَلُّ العقل؛ قال تعالى: ﴿إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَذِكْرَىٰ لِمَن كَانَ لَهُۥ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى اْلسَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٞ﴾ [ق: 37].
وأحيانًا يذكُرُ ما هو صفةٌ من صفاته: كالتفكُّر، والاعتبار؛ قال تعالى: ﴿إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَٰتٖ لِّقَوْمٖ يَتَفَكَّرُونَ﴾ [الجاثية: 13].
وردت في السُّنة أحاديثُ كثيرة في فضل (العقل)؛ منها:
* عن أبي مسعودٍ رضي الله عنه، قال : «كان رسولُ اللهِ ﷺ يَمسَحُ مناكِبَنا في الصلاةِ، ويقولُ: استَوُوا، ولا تختلِفوا؛ فتختلِفَ قلوبُكم، لِيَلِني منكم أولو الأحلامِ والنُّهَى، ثم الذين يَلُونهم، ثم الذين يَلُونهم»». أخرجه مسلم (432).
و(أولو الأحلامِ والنُّهَى): هم العقلاءُ؛ قال النوويُّ: «و(أولو الأحلام): هم العقلاء، وقيل: البالغون، و(النُّهَى) بضم النون: العقول. فعلى قولِ من يقول: أولو الأحلامِ: العقلاءُ، يكون اللفظانِ بمعنًى، فلما اختلَف اللفظ، عطف أحدهما على الآخَر تأكيدًا، وعلى الثاني معناه: البالغون العقلاء». "شرح مسلم" (4 /155).
* عن ابنِ عباسٍ رضي الله عنهما، قال: «قال رسولُ الله ﷺ للأشَجِّ أشَجِّ عبدِ القيسِ: «إنَّ فيك خَصْلتَينِ يُحِبُّهما اللهُ: الحِلْمُ، والأناةُ»». أخرجه مسلم (17، و18).
قال النووي: «أما (الحِلْمُ): فهو العقل، وأما (الأناة): فهي التثبُّت، وتركُ العجَلة». "شرح مسلم" (1 /189).
ولمكانةِ (العقل) في الإسلام، حرَّم رسولُ الله ﷺ ما مِن شأنه أن يضُرَّ به:
* فعن ابنِ عُمَرَ رضي الله عنهما، قال: قال رسولُ اللهِ ﷺ: «كلُّ مُسكِرٍ خمرٌ، ، وكلُّ مُسكِرٍ حرامٌ». أخرجه مسلم (2003).
المحافظةُ على سلامة (العقل) أمرٌ متفَق عليه في بداهة العقول، وقد جاءت جميعُ الشرائع بالمحافظة عليه. انظر: "حكمة تحريم الخمر" (ص51).
كما أجمعت الأمَّةُ على أن الشريعةَ إنما جاءت لحفظِ (الضَّرورات الخَمس)؛ يقول الشاطبيُّ: «فقد اتفَقت الأمَّةُ - بل سائرُ المِلَل - على أن الشريعةَ وُضِعت للمحافظة على الضَّرورات الخَمس؛ وهي: الدِّين، والنفس، والنَّسْل، والمال، والعقل.
وعِلْمُها عند الأمة كالضروريِّ، ولم يثبُتْ لنا ذلك بدليلٍ معيَّن، ولا شَهِد لنا أصلٌ معيَّن يمتاز برجوعها إليه؛ بل عُلِمتْ ملاءمتُها للشريعة بمجموعةِ أدلةٍ لا تنحصِرُ في بابٍ واحد». "الموافقات" للشاطبي (1 /31).
أعطى اللهُ (العقلَ) أهميةً بالغة؛ لكونِه وسيلةَ التأمُّل والتفكُّر في آيات الله، وجعَله قِوامَ كلِّ فعلٍ تتعلق به مصلحةٌ. انظر: "البحر المحيط" للزركشي (7 /266).
كما جعَل اللهُ (العقلَ) مناطَ التكليف، وحرَّم كلَّ ما يُفسِده؛ وهذا يدل على عنايةِ الشريعة الإسلامية بـ(حفظِ العقل)، والحرصِ على تحريم كلِّ ما من شأنه أن يُفسِدَه، أو يُدخِلَ الخَلَلَ عليه. انظر: "مقاصد الشريعة الإسلامية" لليوبي (ص228).
(العقلُ) هو قِوامُ كلِّ فعل تتعلق به مصلحةٌ؛ فاختلالُه يؤدي إلى مفاسدَ عظيمة، وهو مناطُ التكليف؛ فكان لا بد من الحفاظِ عليه وتحصينِه مما يمكن أن يدخُلَ على عقلِ الفرد من خَلَلٍ يفضي إلى فسادٍ جزئي، أو على عقولِ الجماعات وعموم الأمة من فسادٍ أعظم.
وعلى هذا، يجب على كلِّ فرد أن يَعلَم أن عقلَه ليس حقًّا خالصًا له؛ بل للمجتمع حقٌّ فيه، وهو حقُّ الله في عقله؛ ومن هنا وجَبت المحافظةُ عليه، وعدمُ تعريضه للتلف.
ينظر: "المقاصد العامة للشريعة الإسلامية" لابن زغيبة (ص129)، "مقاصد الشريعة الإسلامية" لابن عاشور (2 /139).
يكون (حفظُ العقل) من جانبينِ:
* جانب الوجود: وذلك بالتنمية؛ فـ(العقلُ) جزءٌ من (النفس)، وكلُّ ما شُرِع لـ(حفظ النفس) فهو عائدٌ على (العقل) بالحفظ، كما يتحقق (حفظُ العقل) بأداءِ فريضة التفكير، التي تُعَد مُحرِّكَه في مسالكِ الاستمرار للإنتاج والعطاء، ويحصُلُ (حفظُ العقل) أيضًا بتيسيرِ سبل العلم والمعرفة، وتوفيرِ وسائلها لتغذية العقول؛ فـ(العقل) إن لم يكُنْ طريقًا للوصول إلى فهمِ كلام الله وكلام نبيِّه ﷺ، والتفكُّرِ في بديع صُنْعِ الله وعظمتِه: فإن وجودَه كعَدَمِه.
* جانب العدم: وذلك بالتحصُّن، وإزالةِ الخَلَلِ؛ لأن ذلك يفضي إلى الاضطرابِ في التصرفات، وفِقْدانِ انضباطها؛ لذلك حرَّم الإسلامُ تعاطيَ الخمر، وحرَّم كلَّ مُسكِرٍ: قليلِه وكثيره، ومنَع كلَّ السُّبل المؤدِّية إليه، وأبعَدُ من هذا: فإن لعنةَ الله تلحق كلَّ مَن يساهِمُ في تسهيلِ تناولها، وتوفيرِها.
ينظر: "مقاصد الشريعة الإسلامية" لليوبي (ص236)، "المقاصد العامة للشريعة الإسلامية" لابن زغيبة (ص129-130).
يعد (حفظُ الدِّين) أساسَ (حفظ العقل)؛ فلولا الرسالةُ لم يهتدِ (العقل) إلى تفاصيلِ النافع والضار، وكما أن نورَ العين لا يَرى إلا مع ظهور نورٍ قُدَّامه، كذلك (العقلُ) لا يهتدي إلا إذا طلَعتْ عليه شمسُ الرسالة؛ فـ(العقل) إنما غذاؤه الوحيُ والرسالة. انظر: "مقاصد الشريعة عند ابن تيمية" للبدوي (ص466).
كذلك فإن (العقل) جزءٌ من (النفس)؛ فكلُّ ما يؤدي إلى حفظِه فهو يؤدي إلى (حفظ النفس)؛ يقول التفتازاني: «إن النفسَ تفُوتُ بفوات العقل من جهةِ انتفاء ما يصُونُها عن تعرُّض الآفات». "حاشية التفتازاني على شرح العضد" للتفتازاني (3 /675).
أما بالنسبة لترتيب (حفظ العقل والنسل): فقد قدَّم بعضُ الأصوليين (حفظ العقل) على (النسل)؛ وحُجَّتهم في ذلك: أن (النفس) تفُوتُ بفوات (العقل)؛ فهو راجعٌ إلى (حفظ النفس). وأما مَن قدَّم (حفظ النسل) على (العقل): فاحتَج بأن (حفظ النسل) راجعٌ إلى (حفظ النفس)؛ لأنه من أجلِ الاعتناء بالولد؛ حتى لا يبقى ضائعًا. انظر: "مقاصد الشريعة الإسلامية" لليوبي (ص313 -315).
وفي المجمل، فإن اختلالَ (العقل) يعد خطرًا على (الضرورات الخمس)؛ فالخطرُ المترتِّب على شرب الخمرِ يتعدى اختلال (العقل) إلى سفكِ الدَّمِ، وانتهاك الأعراض، وضياع الأموال.