الأول
(الأوَّل) كلمةٌ تدل على الترتيب، وهو اسمٌ من أسماء الله الحسنى،...
(حفظ): الحفظُ: نقيض النسيان، وهو التعاهُدُ وقلة الغفلة. "العين" للفراهيدي (3 /198).
(المال): قال ابن منظور: «المال: معروف، ما ملَكْتَه من جميع الأشياء... قال ابن الأثير: المال في الأصل: ما يُملَك من الذهب والفضة، ثم أطلق على كلِّ ما يُقتنى ويُملَك من الأعيان، وأكثَرُ ما يُطلَق المالُ عند العرب على الإبل؛ لأنها كانت أكثَرَ أموالهم... ويقال: تموَّل فلانٌ مالًا: إذا اتخَذ قينةً». انظر: "لسان العرب" (11 /635-636).
وفي "معجم اللغة العربية المعاصرة" (3 /2139): أنه «كلُّ ما يَملِكه الفرد أو الجماعة من متاع، أو عُرُوض تجارة، أو عَقَار، أو نقود، أو حيوان».
(المال): كلُّ ما يَتموَّله الإنسانُ من متاعٍ أو نقد أو غيره، وليس هو خاصًّا بالنَّقْدَينِ. انظر: "مقاصد الشريعة الإسلامية" لليوبي (ص283).
يقول الشاطبيُّ: «وأعني بـ(المال): ما يقع عليه المِلْكُ، ويستبِدُّ به المالكُ عن غيره إذا أخذه من وجهه، ويستوفي ذلك الطعامَ والشراب واللِّباس على اختلافها، وما يؤدي إليها من جميع المتموَّلات». "الموافقات" (2 /32).
ومعنى (حفظ المال): «حفظُ أموالِ الأمَّة من الإتلاف، ومن الخروج إلى أيدي غيرِ الأمة بدون عِوَض، وحفظُ أجزاء المال المعتبَرة عن التلف بدون عِوَض». "مقاصد الشريعة الإسلامية" لابن عاشور (3 /238).
جاء تعريفُ الأصوليِّين لـ(المال) موافِقًا لِما جاءت به اللغة؛ فهو مستخلَصٌ منه غالبًا، وإن تعدَّدتْ في بعض الأحيان ألفاظُهم، واختلفت عباراتُهم.
(المال) عصبُ الحياة، وبه قيامُ مصالحها؛ قال تعالى: ﴿وَلَا تُؤْتُواْ اْلسُّفَهَآءَ أَمْوَٰلَكُمُ اْلَّتِي جَعَلَ اْللَّهُ لَكُمْ قِيَٰمٗا﴾ [النساء: 5]، وقد ورَد في كتابِ الله تعالى الكثيرُ من الآيات الحاثَّةِ على السعي في طلبِ الرِّزق:
* قال تعالى: ﴿فَإِذَا قُضِيَتِ اْلصَّلَوٰةُ فَاْنتَشِرُواْ فِي اْلْأَرْضِ وَاْبْتَغُواْ مِن فَضْلِ اْللَّهِ﴾ [الجمعة: 10].
* وقال تعالى: ﴿فَاْمْشُواْ فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُواْ مِن رِّزْقِهِۦۖ﴾ [الملك: 15].
* وقال تعالى: ﴿وَءَاخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي اْلْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اْللَّهِ﴾ [المزمل: 20].
كما وردت آياتٌ حاثَّةٌ على الحفاظِ على الأموال، وتحريمِ الاعتداء عليها، أو الحصولِ عليها بطُرُقٍ غير مشروعة:
* قال تعالى: ﴿وَلَا تَأْكُلُوٓاْ أَمْوَٰلَكُم بَيْنَكُم بِاْلْبَٰطِلِ وَتُدْلُواْ بِهَآ إِلَى اْلْحُكَّامِ لِتَأْكُلُواْ فَرِيقٗا مِّنْ أَمْوَٰلِ اْلنَّاسِ بِاْلْإِثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: 188].
* وقال تعالى: ﴿وَءَاتُواْ اْلْيَتَٰمَىٰٓ أَمْوَٰلَهُمْۖ وَلَا تَتَبَدَّلُواْ اْلْخَبِيثَ بِاْلطَّيِّبِۖ وَلَا تَأْكُلُوٓاْ أَمْوَٰلَهُمْ إِلَىٰٓ أَمْوَٰلِكُمْۚ إِنَّهُۥ كَانَ حُوبٗا كَبِيرٗا﴾ [النساء: 2].
* وقال تعالى: ﴿وَاْلسَّارِقُ وَاْلسَّارِقَةُ فَاْقْطَعُوٓاْ أَيْدِيَهُمَا جَزَآءَۢ بِمَا كَسَبَا نَكَٰلٗا مِّنَ اْللَّهِۗ وَاْللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٞ﴾ [المائدة: 38].
* صاحبُ المال يُحمَد ويُثنَى عليه - بشرط أن يُنفِقَه في خدمةِ الدِّين -:
- عن أبي هُرَيرةَ رضي الله عنه، أنَّ رسولَ اللهِ ﷺ قال: «لا حَسَدَ إلا في اثنتَينِ: رجُلٍ علَّمَه اللهُ القرآنَ، فهو يتلوه آناءَ الليلِ وآناءَ النهارِ، فسَمِعَه جارٌ له، فقال: ليتَني أُوتيتُ مِثْلَ ما أُوتيَ فلانٌ، فعَمِلْتُ مِثْلَ ما يَعمَلُ. ورجُلٍ آتاه اللهُ مالًا، فهو يُهلِكُه في الحقِّ، فقال رجُلٌ: ليتَني أُوتيتُ مِثْلَ ما أُوتيَ فلانٌ، فعَمِلْتُ مِثْلَ ما يَعمَلُ». أخرجه البخاري (5026).
- عن عمرِو بن العاصِ رضي الله عنه، قال: قال رسولُ اللهِ ﷺ: «يا عمرُو، نِعْمَ المالُ الصالحُ مع الرجُلِ الصالحِ». أخرجه ابن حبان (3210).
* مَن مات دُونَ ماله دفاعًا عنه فهو شهيدٌ:
- عن عبدِ اللهِ بن عمرٍو رضي الله عنهما، قال: سَمِعتُ النبيَّ ﷺ يقولُ: «مَن قُتِلَ دُونَ مالِه، فهو شهيدٌ». أخرجه البخاري (2480).
- عن أبي هُرَيرةَ رضي الله عنه، قال: «جاءَ رجُلٌ إلى رسولِ اللهِ ﷺ، فقال: يا رسولَ اللهِ، أرأيتَ إن جاءَ رجُلٌ يريدُ أخذَ مالي؟ قال: «فلا تُعْطِه مالَك»، قال: أرأيتَ إن قاتَلَني؟ قال: «قاتِلْهُ»، قال: أرأيتَ إن قتَلني؟ قال: «فأنت شهيدٌ»، قال: أرأيتَ إن قتَلْتُه؟ قال: «هو في النارِ»». أخرجه مسلم (140).
- عن قابُوسِ بن مُخارِقٍ، عن أبيه، قال: «جاءَ رجُلٌ إلى النبيِّ ﷺ، فقال: الرجُلُ يأتيني فيريدُ مالي؟! قال: «ذَكِّرْهُ باللهِ»، قال: فإن لم يذكُرْ؟! قال: «فاستعِنْ عليه مَن حَوْلَك مِن المسلمين»، قال: فإن لم يكُنْ حَوْلي أحدٌ مِن المسلمين؟! قال: «فاستعِنْ عليه بالسلطانِ»، قال: فإن نأى السلطانُ عنِّي؟! قال: «قاتِلْ دُونَ مالِكَ حتى تكونَ مِن شُهَداءِ الآخرةِ، أو تَمنَعَ مالَكَ»». أخرجه النسائي (4081).
أجمعت الأمَّةُ على أن الشريعةَ إنما جاءت لحفظِ (الضرورات الخمس)؛ يقول الشاطبيُّ رحمه الله: «فقد اتفَقت الأمَّةُ - بل سائرُ المِلَل - على أن الشريعةَ وُضِعت للمحافظة على الضَّرورات الخَمس؛ وهي: الدِّين، والنفس، والنَّسْل، والمال، والعقل.
وعِلْمُها عند الأمة كالضروريِّ، ولم يثبُتْ لنا ذلك بدليلٍ معيَّن، ولا شَهِد لنا أصلٌ معيَّن يمتاز برجوعها إليه؛ بل عُلِمتْ ملاءمتُها للشريعة بمجموعةِ أدلةٍ لا تنحصِرُ في بابٍ واحد». "الموافقات" للشاطبي (1 /31).
إن عدمَ وجود (المال) يؤدي إلى تعطيلِ مصالح الحياة الدُّنيوية والأُخروية؛ فحياةُ الإنسان متوقِّفة على الأكل والشُّرب، وكذلك الملابس التي تَقِي من الحَرِّ والبرد، وكلُّ هذا يتطلب مالًا، فإذا فُرِض عدمُ وجوده، تُصُوِّرَ الضَّرَرُ اللاحق بالأفراد، كما أن (المال) ضروريٌّ في تجهيزِ العُدَّةِ للجهاد؛ فمِن دُونِه لا تَملِك الأمَّةُ ما تدافع به عن نفسها، وتحمي كِيانَها.
أَوْلى الإسلامُ (المالَ) اهتمامًا واضحًا لا يخفى على عاقل؛ فقد عَدَّه القرآنُ قِوَامَ الحياة الدنيا؛ قال تعالى: ﴿وَلَا تُؤْتُواْ اْلسُّفَهَآءَ أَمْوَٰلَكُمُ اْلَّتِي جَعَلَ اْللَّهُ لَكُمْ قِيَٰمٗا﴾ [النساء: 5].
ومعنى ﴿قِيَٰمٗا﴾: «تقُومُ بها معايِشُهم؛ من التجارات، وغيرِها». "تفسير ابن كثير" (2 /214).
ولم يقتصِرِ اهتمامُ الإسلام بـ(المال) على عَدِّهِ عصَبَ الحياةِ وقِوَامَها فحسبُ؛ بل جعَل زكاتَه رُكْنًا من أركان الإسلام؛ عن ابن عُمَرَ رضي الله عنهما، عن النبيِّ ﷺ، قال: «بُنِيَ الإسلامُ على خمسةٍ - وذكَرَ منها -: وإيتاءِ الزَّكاةِ». أخرجه مسلم (16).
ناهيك عن دخولِ (المال) في كثيرٍ من فرائضِ الإسلام وعباداتها؛ فـ(الحَجُّ) يَتوقَّف أمرُ فرضيَّتِه على شرطِ وجود الاستطاعة المالية، و(الجهاد في سبيلِ الله) يحتاج في إقامته إلى (المال) لتأمينِ العُدَّة والعتاد، وهكذا كثيرٌ من الفرائض والواجبات؛ تفتقِرُ إلى وجودِ (المال) لإقامتها وأدائها حقَّ الأداء؛ الأمرُ الذي يؤكد أهميةَ (المال)، ومِحْوريَّتَه في الإسلام. انظر: "علم المقاصد الشرعية" للخادمي (ص84).
يكون (حفظُ المال) من جانبين:
1. جانب الوجود: وذلك بشرعِ أصل التملُّك، والحثِّ على الكسبِ، وتنميةِ (المال) بالاستثمار حتى لا يَفنَى.
2. جانب العدم: وذلك بأمور؛ منها:
تحريمُ الاعتداء عليه، وتحريم إضاعته، وضمانُ المتلَفات، وتشريع الحدود (حد السرقة، وحد الحرابة)، حتى قال الإمام مالكٌ في أعرابٍ قطَعوا الطريق: «إن جهادَهم أحَبُّ إليَّ من جهادِ الرُّوم. وقد قال النبيُّ ﷺ: «مَن قُتِلَ دُونَ مالِه، فهو شهيدٌ»، فإذا قُتِل دُونَ مالِه ومالِ المسلمين، فهو أعظَمُ لأجرِه». نقَله ابنُ أبي زيد في "النوادر والزيادات" (14 /472). ومنها: النهيُ عن التبذيرِ، والإسراف، وإضاعة المال. انظر: "مقاصد الشرعية الإسلامية" لليوبي (286-304)، "علم المقاصد الشرعية" للخادمي (ص84).
وتحقيقًا لمقصدِ (حفظ الأموال)، قال الفقهاء بتضمينِ الصُّناع لِما تحت أيديهم، ومنعِ الغَرَرِ، وبيعِ المجهول، وأمثالها.
وللاستزادة انظر: "مقاصد الشريعة العامة" لابن زغيبة (ص140)، "تأصيل فقه الأولويات" لمحمد همام (ص122).
(حفظُ الدِّين) يستلزم الجهادَ في سبيل الله، وإعلاء كلمة الدِّين، ولا بد لذلك من عُدَّةٍ يدافع بها المسلمون عن دِينهم، ولا يكون ذلك إلا بـ(المال)؛ فـ(حفظُ المال) ضروريٌّ لـ(حفظ الدِّين).
كما أن (حفظ النفس) متوقِّف على الأكل والشُّرب؛ وهذا لا يتحصل إلا بوجود (المال)؛ وبذلك يكون (حفظ المال) أساسًا لـ(حفظ النفس).
ووجودُ (المال) في يدِ الأمَّة يغني الأمَّةَ عن أعدائها، ويَقطَع الطريقَ عليهم في محاولةِ تلويث أفكار الأمة، ونشرِ المذاهب المنحرفة الهدَّامة؛ فيكون بذلك (المال) وسيلةً لحفظِ (العقل) من الأفكارِ والمذاهب المنحرفة الضالَّة. انظر: "مقاصد الشريعة الإسلامية" لليوبي (ص283-286).
ويعُدُّ ابن تيميَّة رحمه الله (المال) مكمِّلًا للبَدَنِ، والبَدَنَ مكمِّلًا للقلب والدِّين؛ يقول رحمه الله: «(المال) مادةُ البدن، والبدنُ تابعٌ القلب، وقال النبي ﷺ: «ألَا وإنَّ في الجسدِ مُضْغةً، إذا صلَحتْ صلَحَ الجسدُ كلُّه، وإذا فسَدتْ فسَدَ الجسدُ كلُّه؛ ألَا وهي القلبُ». أخرجه البخاري (52)، ومسلم (1599).
والقلبُ هو محَلُّ ذكرِ الله تعالى، وحقيقتُه الصلاة؛ فأعظَمُ الفساد في تحريمِ الخمر والميسر: إفسادُ القلب الذي هو مَلِكُ البدن؛ أن يُصَدَّ عما خُلِقَ له من ذكرِ الله والصلاة، ويدخُلَ فيما يُفسِد من التعادي والتباغض. والصلاةُ حقُّ الحقِّ، والتحابُّ والموالاة حقُّ الخَلْقِ. وأين هذا من أكلِ مالٍ بالباطل؟
ومعلومٌ أن مصلحةَ البدن مقدَّمةٌ على مصلحة المال، ومصلحةَ القلب مقدَّمةٌ على البدن، وإنما حرمةُ المال؛ لأنه مادةُ البدن». انظر: "مجموع الفتاوى" (32 /231).