المحسن
كلمة (المحسن) في اللغة اسم فاعل من الإحسان، وهو إما بمعنى إحسان...
(حفظ): الحفظ: نقيضُ النسيان، وهو التعاهُدُ وقِلَّة الغفلة. "العين" للفراهيدي (3 /198).
(النَّفْس): الرُّوح، و(النَّفْس): ما يكون به التمييزُ، و(النَّفْس): الدم؛ فـ(النَّفْس) الأُولى: هي التي تزُولُ بزوال الحياة، و(النفس) الثانية: التي تزُولُ بزوال العقل، وإنما سُمِّي الدمُ نفسًا؛ لأنها تخرُجُ بخروجه، و(النَّفْس) يُعبَّر عنها بالإنسان جميعِه؛ كقولهم: عندي ثلاثةُ أنفُسٍ.
وسُمِّيت (النَّفْس) نفسًا لتولُّدِ النَّفَسِ منها، واتصالِه بها؛ يقول الزَّجاج: «لكلِّ إنسان نَفْسان: إحداهما: نفسُ التمييز، وهي التي تفارِقُه إذا نام، فلا يَعقِلُ بها، يَتوفَّاها اللهُ؛ كما قال تعالى، والأخرى: نفسُ الحياة، وإذا زالت زالَ معها النَّفَسُ، والنائم يَتنفَّس؛ وهذا الفرقُ بين تَوفِّي نفسِ النائم في النوم، وتَوفِّي نفسِ الحيِّ». و(النَّفْس): الجسد، و(النَّفَسُ): خروجُ الرِّيح من الأنفِ والفمِ، والجمع: أنفاس. انظر: "لسان العرب" لابن منظور (6 /233-237).
تُطلَق (النفس) في اصطلاح الأصوليِّين على: مجموعِ النَّفْسِ والبدن، أو الرُّوحِ والجسد معًا. انظر: "تأصيل فقه الأولويات" لمحمد همام (ص105).
والمقصودُ من الأنفُسِ التي عُنِيت الشريعةُ بحفظها: هي الأنفُسُ المعصومة بالإسلام، أو الجِزْية، أو الأمان. انظر: "روضة الطالبين" للنووي (9 /148)، "مقاصد الشريعة الإسلامية" لابن عاشور (3 /237).
وأما غيرُ ذلك - كنفس المحارِبِ - فليست مما عُنِيت الشريعةُ الإسلامية بحفظِه.
ومعنى (حفظ النفس): «حفظُ الأرواح من التَّلَفِ أفرادًا وعمومًا؛ لأن العالَمَ مركَّبٌ من أفراد الإنسان، وفي كلِّ نَفْسٍ خصائصُها التي بها بعضُ قِوَام العالَم». "مقاصد الشريعة الإسلامية" لابن عاشور (3 /236).
إن ما دلت عليه اللغةُ والاصطلاح لـ(النَّفْسِ) متفقانِ غيرُ مختلِفين؛ فـ(النَّفْسُ) في اللغة وفي اصطلاح الأصوليِّين تُطلَق على الرُّوح والجسد، لكنها خُصِّصت في هذا المبحثِ بالنَّفْسِ المعصومة بالإسلام، أو الجِزْية، أو الأمان.
اهتم الإسلامُ بالنَّفْسِ الإنسانية، وشرَع لها من الأحكام ما يَضمَن حقَّها في الحياة، والسلامة، والكرامة، والعِزَّة:
* قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِيٓ ءَادَمَ﴾ [الإسراء: 70].
* وقال تعالى: ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا اْلْإِنسَٰنَ فِيٓ أَحْسَنِ تَقْوِيمٖ﴾ [التين: 4].
كما جاءت نصوصٌ كثيرة تُحرِّم الاعتداءَ على (النفس)، وتَتوعَّد قاتِلَ (النفس) بالعقاب الأليم؛ منها:
* قوله تعالى: ﴿وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنٗا مُّتَعَمِّدٗا فَجَزَآؤُهُۥ جَهَنَّمُ خَٰلِدٗا فِيهَا وَغَضِبَ اْللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُۥ وَأَعَدَّ لَهُۥ عَذَابًا عَظِيمٗا﴾ [النساء: 93].
* وقوله تعالى: ﴿قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْۖ أَلَّا تُشْرِكُواْ بِهِۦ شَيْـٔٗاۖ وَبِاْلْوَٰلِدَيْنِ إِحْسَٰنٗاۖ وَلَا تَقْتُلُوٓاْ أَوْلَٰدَكُم مِّنْ إِمْلَٰقٖ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْۖ وَلَا تَقْرَبُواْ اْلْفَوَٰحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَۖ وَلَا تَقْتُلُواْ اْلنَّفْسَ اْلَّتِي حَرَّمَ اْللَّهُ إِلَّا بِاْلْحَقِّۚ ذَٰلِكُمْ وَصَّىٰكُم بِهِۦ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ [الأنعام: 151].
* وقوله تعالى: ﴿وَلَا تَقْتُلُواْ اْلنَّفْسَ اْلَّتِي حَرَّمَ اْللَّهُ إِلَّا بِاْلْحَقِّۗ وَمَن قُتِلَ مَظْلُومٗا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِۦ سُلْطَٰنٗا فَلَا يُسْرِف فِّي اْلْقَتْلِۖ إِنَّهُۥ كَانَ مَنصُورٗا﴾ [الإسراء: 33].
جاءت نصوصٌ كثيرة في السُّنة بتحريمِ الاعتداء على النفس، وعَدِّ ذلك من كبائرِ الذنوب؛ منها:
* عن عبدِ اللهِ بن مسعودٍ رضي الله عنه، قال: قال رسولُ اللهِ ﷺ: «لا يَحِلُّ دَمُ امرئٍ مسلمٍ، يَشهَدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وأنِّي رسولُ اللهِ، إلا بإحدى ثلاثٍ: النَّفْسِ بالنَّفْسِ، والثيِّبِ الزاني، والمارقِ مِن الدِّينِ التاركِ للجماعةِ». أخرجه البخاري (6878).
* عن ابنِ عباسٍ رضي الله عنهما: أنَّ رسولَ اللهِ ﷺ خطَبَ الناسَ يومَ النَّحْرِ، فقال: «يا أيُّها الناسُ، أيُّ يومٍ هذا؟»، قالوا: يومٌ حرامٌ، قال: «فأيُّ بلدٍ هذا؟»، قالوا: بلدٌ حرامٌ، قال: «فأيُّ شهرٍ هذا؟»، قالوا: شهرٌ حرامٌ، قال: «فإنَّ دماءَكم وأموالَكم وأعراضَكم عليكم حرامٌ؛ كحُرْمةِ يومِكم هذا، في بلدِكم هذا، في شهرِكم هذا»، فأعادَها مِرارًا، ثم رفَعَ رأسَه، فقال: «اللهمَّ هل بلَّغْتُ، اللهمَّ هل بلَّغْتُ! - قال ابنُ عباسٍ رضي الله عنهما: فوالذي نفسي بيدِه، إنَّها لَوَصِيَّتُه إلى أمَّتِه - فَلْيُبلِغِ الشاهدُ الغائبَ: لا تَرجِعوا بعدي كفَّارًا، يَضرِبُ بعضُكم رقابَ بعضٍ». أخرجه البخاري (1739).
* عن أنسٍ رضي الله عنه، قال: سُئِلَ النبيُّ ﷺ عن الكبائرِ، قال: «الإشراكُ باللهِ، وعقوقُ الوالدَينِ، وقتلُ النَّفْسِ، وشَهادةُ الزُّورِ». أخرجه البخاري (2653).
* عن الأحنَفِ بن قيسٍ، قال: «ذهَبْتُ لأنصُرَ هذا الرجُلَ، فلَقِيَني أبو بَكْرةَ، فقال: أين تريدُ؟ قلتُ: أنصُرُ هذا الرجُلَ، قال: ارجِعْ؛ فإنِّي سَمِعْتُ رسولَ اللهِ ﷺ يقولُ: «إذا التقى المسلمانِ بسَيْفَيْهما، فالقاتلُ والمقتولُ في النارِ»، فقلتُ: يا رسولَ اللهِ، هذا القاتلُ، فما بالُ المقتولِ؟! قال: «إنَّه كان حريصًا على قتلِ صاحبِه»». أخرجه البخاري (31).
* عن أمِّ الدَّرْداءِ رضي الله عنها، قالت: سَمِعْتُ أبا الدَّرْداءِ يقولُ: سَمِعْتُ رسولَ اللهِ ﷺ يقولُ: «كلُّ ذَنْبٍ عسى اللهُ أن يَغفِرَه، إلا مَن ماتَ مشرِكًا، أو مَن قتَلَ مؤمِنًا متعمِّدًا». أخرجه أبو داود (4270).
* عن عبدِ اللهِ بن عمرٍو، أنَّ النبيَّ ﷺ قال: «لَزَوالُ الدُّنيا أهوَنُ على اللهِ مِن قَتْلِ رجُلٍ مسلمٍ». أخرجه الترمذي (1395).
بل قد بلَغَ مِن محافظةِ الشريعةِ على النفوس، والوفاءِ بالعهود: أن حرَّمتْ قَتْلَ المعاهَدِ - وهو مَن له عهدٌ مع المسلمين بعقدِ جِزْيةٍ، أو هُدْنةٍ، أو أمانٍ من مسلم - إلا أن ينقُضَ العهدَ، فيكونَ حلالَ الدمِ:
* عن عبدِ اللهِ بن عمرٍو رضي الله عنهما، عن النبيِّ ﷺ قال: «مَن قتَلَ معاهَدًا، لم يَرَحْ رائحةَ الجنَّةِ، وإنَّ رِيحَها توجَدُ مِن مسيرةِ أربعين عامًا». أخرجه البخاري (3166).
أجمعت الأمَّةُ على أن الشريعةَ إنما جاءت لحفظِ (الضرورات الخمس)؛ يقول الشاطبيُّ رحمه الله: «فقد اتفَقت الأمَّةُ - بل سائرُ المِلَل - على أن الشريعةَ وُضِعت للمحافظة على الضَّرورات الخَمس؛ وهي: الدِّين، والنفس، والنَّسْل، والمال، والعقل.
وعِلْمُها عند الأمة كالضروريِّ، ولم يثبُتْ لنا ذلك بدليلٍ معيَّن، ولا شَهِد لنا أصلٌ معيَّن يمتاز برجوعها إليه؛ بل عُلِمتْ ملاءمتُها للشريعة بمجموعةِ أدلةٍ لا تنحصِرُ في بابٍ واحد». "الموافقات" للشاطبي (1 /31).
اهتم الإسلامُ بـ(حفظ النفس)، واعتنى بذلك عنايةً فائقة؛ وذلك لأنه بتعريض (النفس) للهلاكِ والضياع يُفقَد المكلَّفُ، وبذلك يَضِيع (الدِّين).
كما أن كثرةَ النصوص الواردة في الكتاب والسُّنة في تحريم الاعتداء على النفس، وتشديد العقوبة على القاتل: تدل على أهميةِ (النفس) في الإسلام؛ فلا يُعقَل أن يُقدِمَ مسلمٌ عاقل صادق الإيمان على القتل العدوان بعد كلِّ هذه النصوص؛ لأن احترامَ المسلمِ الحقِّ للنصوص الشرعية يَمنَعه من مخالفةِ أمر الله، وارتكاب ما نهى عنه، كما أن المسلمَ يحبُّ ما أحب اللهُ، ويُبغِض ما يُبغِضه اللهُ عز وجل، إضافة إلى أن الترهيبَ الوارد في النصوص من أعظَمِ الزواجر للمسلم عما حرَّم الله، والترغيب الوارد في الكفِّ عن قتل النفس، وإنقاذِها من الهلاك: يدفع المسلمَ إلى الكفِّ عن ذلك؛ لشدةِ رغبته فيما عند الله. انظر: "مقاصد الشريعة الإسلامية" لليوبي (ص211، و216).
عُنِيت الشريعةُ الإسلامية بـ(النفس) عنايةً فائقة؛ فشرَعت من الأحكامِ ما يجلبُ المصالحَ لها، ويدفع المفاسدَ عنها؛ وذلك مبالغة في حفظِها وصيانتها، ودرءِ الاعتداء عليها؛ لأنه بتعريضِ الأنفس للضياع والهلاك يُفقَد المكلَّف الذي يَتعبَّد لله سبحانه وتعالى، وذلك بدوره يؤدي إلى ضياعِ الدِّين. "مقاصد الشريعة الإسلامية" لليوبي (ص211).
يكون (حفظُ النفس) من جانبين:
1. جانب الوجود: وذلك بتحقيقِ ما يَضمَن بقاءها في الاستمرار؛ كتوفيرِ المأكل والمشرب اللذين يُقِيمانها من الداخل، والمَلبَس والمسكن اللذين يُقِيمانها من الخارج، واتِّقاءِ المرض، وكذلك جاءت الشريعةُ بتأخيرِ إقامة حد الزِّنا على الزانية المحصنة حتى تضعَ؛ صيانةً لنفسِ جنينها.
وبِناءً على هذا الأساس، ليست الحياةُ حقًّا للإنسان فحسب؛ بل هي واجبٌ عليه. يقول فتحي الدريني: «ولهذا كان حقُّ الحياة هو أعظَمَ حقوقِ الإنسان قيمةً، وأعلاها شأنًا، وأعظمها أثرًا، ملحوظًا فيه المعنى الاجتماعيُّ والدِّيني؛ فهو حقٌّ وواجب معًا في نظرِ الإسلام، فإذا كان من حق الإنسان أن يحيا فإن واجبَه أن يحيا كذلك، وهذا الواجب أداؤه حقٌّ خالص لله تعالى في حياة كلِّ إنسان؛ لتحقيق العبودية لله تعالى أولًا...». "دراسات وبحوث في الفكر الإسلامي المعاصر" للدريني (1 /73).
2. جانب العدم: وذلك بحمايةِ الذات الإنسانية من التَّلف، ويلحق بحفظِ النفوس من الإتلاف حفظُ أطراف الجسد وأجزائه؛ وذلك لفقدِ منفعتها عند انعدامها، واحتياجِ النفس لمن يقوم مقامها، وتأمينًا لهذا الجانب: أوجبت الشريعةُ القِصاص، وأوجبت الدِّيَة على من أتلف نفسًا أو جزءًا منها خطأ؛ جبرًا للضررِ اللاحق.
ومن الجوانبِ المعنوية التي تُحفَظ بها النفوسُ من جانب العدم: عدمُ جواز إذلال المسلم نفسَه لغيرِ المسلم. انظر: "المقاصد العامة للشريعة الإسلامية" لابن زغيبة (ص176-180).
كما جاءت الشريعةُ بتحريمِ ترويع المسلم.
يأتي (حفظُ النفس) في المرتبة الثانية من الضروريات بعد (حفظ الدِّين)؛ يقول ابن تيميَّة رحمه الله: «الفسادُ: إما في الدِّين، وإما في الدنيا؛ فأعظم فساد الدنيا: قتلُ النفوس بغير الحقِّ؛ ولهذا كان أكبَرَ الكبائر بعد أعظَمِ فساد الدِّين، الذي هو الكفرُ». "مقاصد الشريعة عند ابن تيمية" للبدوي (ص461).
فـ(حفظُ الدِّين) أهَمُّ من (حفظ النفس)، و(حفظ النفس) أهم من (حفظ العقل)؛ ولهذا أوجَبَ الإسلامُ الجهادَ وإن كان فيه تضحيةٌ بالنفس، وأبيحَ شربُ الخمر إذا أُكرِهَ على شُرْبِها بإتلاف نفسِه، أو عضوٍ منه، أو اضطُرَّ إليها في ظمأٍ شديد؛ لأن (حفظَ النفس) أَوْلى من (حفظ العقل)، وإذا أُكرِهَ على إتلاف ماله، أبيح له ذلك في سبيل الحفاظ على نفسه؛ لأن (حفظ النفس) أهَمُّ من (حفظ المال). انظر: "علم أصول الفقه" لخلاف (ص207).
وقد بيَّن فتحي الدريني مكانةَ (حفظ النفس) من المقاصدِ الأخرى، فقال: «إن حياةَ الإنسان - عند التحقيق - هي المقصدُ الأساسي الذي ترتدُّ إليه سائرُ المقاصد الأساسية في هذا التشريع؛ لتوقُّفِها جميعًا - إيجادًا وتنمية وحفظًا - على الإنسانِ نفسه، فكان طلبُ المحافظة على حقِّ الحياة وتنميتها في أعلى مراتبِ التكليف، سواءٌ في مواجهةِ المكلَّف نفسِه، أم في مواجهة الكافة». "خصائص التشريع الإسلامي" للدريني (ص205).