البحث

عبارات مقترحة:

الطيب

كلمة الطيب في اللغة صيغة مبالغة من الطيب الذي هو عكس الخبث، واسم...

العظيم

كلمة (عظيم) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فعيل) وتعني اتصاف الشيء...

المبين

كلمة (المُبِين) في اللغة اسمُ فاعل من الفعل (أبان)، ومعناه:...

الوسطية

إنّ من خصائص الدعوة إلى الله: أنها تقوم على التّوسّط والاعتدال ومراعاة وملاءمة الفطرة الإنسانية، فلا تميل للغلوّ، ولا تجنح للتشرّد، وتنأى عن الإفراط والتفريط. فهي تراعي العدل في التشريع، والوسطيّة في العقائد والعبادات؛ قال تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً﴾ (البقرة: 143). فمعنى الوسط في الآية، أي: عُدولاً لتتوافر في المسلمين الشهادةُ على الأمم السابقة. أو معنى الوسط: الوقوع في المنتصف بين الأمريْن، فتعاليم الإسلام وسط في الأحكام لا تُلحِقُ بالإنسان مشقّة، ولا تُنْزِل به حرجاً، ولا تُسبِّب له ضيقاً أو عنتاً. قال تعالى: ﴿مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ (المائدة: 6). إنّ السماحة والرحمة والتوسط والاعتدال هي من أخلاق الرسول ومعْلَم ظاهر في شخصيته. فقد روى البخاري عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: ((ما خُيِّر رسولُ الله بيْن أمريْن إلاّ اختار أيسرَهما ما لم يكن إثماً. فإن كان إثماً كان أبعدَ الناس منه)). وقد ذكَر القرآن الكريم: أنّ سهولة العبادات ويُسْر الطاعات أمْر مشترَك بين الرسالات السماوية، فقال تعالى: ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ﴾ (الحج: 78). وقد نهى عن التّنطّع في الدِّين، والغلوّ في الفكر، والتشدد في العبادة. فعن ابن مسعود رضي الله عنه، أن النبي قال: ((هلك المتنطعون -قالها ثلاثاً-))، رواه مسلم. والتنطع هو: المبالغة في العبادة. وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : ((إنّ مِن أحبِّكم إليّ وأقربكم منِّي مجلساً يوم القيامة: أحاسنكم أخلاقاً. وإنّ أبغضَكم إليّ وأبعدَكم منِّي مجالس يوم القيامة: الثرثارون، والمُتشدِّقون، والمُتفيْهقون))، رواه الترمذي، وقال: "حديث حسن". وعن عمر -رضي الله تعالى عنه- قال: ((نُهينا عن التّكلّف))، رواه البخاري. وقال تعالى لرسوله : ﴿قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ﴾ (ص: 86). وعن منهج الدّعوة إلى الله في التيسير وعدم التعسير، روى أنس -رضي الله تعالى عنه- عن النبي ، قال: ((يَسِّروا ولا تُعسِّروا، وبشِّروا ولا تُنَفِّروا))، متفق عليه. وقال : ((إنّ الدِّين يُسر، ولن يُشادّ أحدٌ الدِّين إلاّ غلَبه؛ فسدِّدوا وقاربوا، وأبشروا. واستعينوا بالغدْوة والرّوْحة وشيء من الدُلْجة))، رواه البخاري. وعن ابن مسعود رضي الله عنه، قال: قال رسول الله : ((ألا أخبركم بمن يَحْرمُ أو بمن تحرم عليه النار؟ تحرم على كلّ قريب هيِّن سهْل))، رواه الترمذي وقال: "حديث حسن". وإنه من الاعتقاد الخاطئ: اعتقادُ البعض أنّ اليُسر وعدم التّشدّد في الدِّين، والانفلات من قيوده وحدوده، والتكاسل عن أداء العبادات، والتساهل في القيام بالطاعات، والاندفاع نحو رغبات النفس، أمر لا حرج فيه، تحت مقولة: "الدِّين يُسر لا عُسر". وقد يرى البعض -بهتاناً وإفكاً-: أنّ مِن سماحة الإسلام ومِن عدم التشدد في الدِّين: أن يتقبّل المسلم أفكارَ الآخَرين ومعتقداتِهم وثقافاتهم وأخلاقهم التي تتعارض مع ثوابت الإسلام وخصائصه، تحت دعوى السماحة وعدم التّشدّد. فرأينا من يشارك الكفّار في أعيادهم، ومن يريد أن يخرج المرأة من حصنها الإسلامي المنيع، بدعوى أن الدين يُسر لا عسر، فيتخفّف من أمر الحجاب. .. فهذا فهم خاطئ للدِّين. .. ‌‌قواعد الاعتدال والتّوسّط. وقد وضع الإسلام قواعد الاعتدال وضوابط التّوسّط في الدِّين على النحو التالي: أولاً: الإسلام يهدف من شرائعه وأحكامه: أن يرقى بعقائد الإنسان وعباداته وأخلاقه ومعاملاته بصورة مُثلى تقارب الكمال الإنساني، ولكن بدون تشدّد في العمل وغلوّ في الاعتقاد، لأنهما يدفعان بالإنسان إلى غياهب الفكر وشطحاته. ولقد ساق القرآن الكريم حصاد الغلوّ، وما أدّت إليه المبالغة، وذلك من خلال معتقدات النصارى وغلوِّهم فيما اعتقدوه في عيسى -عليه السلام-؛ قال تعالى: ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَاّ الْحَقَّ﴾ (النساء: 171). وكمغالاة بعض الشِّيعة في حبّ علي رضي الله عنه وآل بيته الأطهار. وقد دفعت المغالاة بالبعض إلى التّطاول على صحابة الرسول . وكغلوّ بعض المتصوِّفين في الأولياء، حتى إن البعض يُنزلونهم منزلةً تتصادم مع العقيدة الإسلامية. فالإغراق في التّشدّد والمبالغة في التّطرّف يؤدِّيان إلى عواقب لا تُحمد عقباها. ولهذا كان حرْص الرسول أن يُبعد أمّته عن أي طريق يؤدِّي بها إلى متاهات الغلوّ. فعن عمر رضي الله عنه، أن رسول الله قال: ((لا تُطروني كما أطْرت النّصارى عيسى بن مريم؛ فإنّما أنا عبد الله، فقولوا: "عبْد الله ورسوله"))، مسند الإمام أحمد. وروى الإمام أحمد عن أنس بن مالك، أن رجلاً قال: يا محمد. يا سيِّدَنا وابن سيِّدِنا، وخيرنا وابن خيرنا. فقال : ((أيها الناس. عليكم بقوْلكم! ولا يستهْوِيَنَّكم الشيطان. أنا محمد بن عبد الله، عبد الله ورسوله. واللهِ! ما أحبّ أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلني الله عز وجل))، ابن كثير. ولقد كانت الرحمة واللِّين واليسر من مفاتيح القلوب لأصحابه -رضوان الله عليهم-، وسرُّ اجتماعهم عليه والتفافهم حوله. قال تعالى: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ﴾ (آل عمران: 159). ثانياً: إنّ التكاليف التي شرعها الله لعباده لا تتجاوز حدود الطاقة البشرية، وإنما هي وفْق طاقة الإنسان وقدراته؛ قال تعالى: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْراً لأَنْفُسِكُمْ﴾ (التغابن: 16). وقال : ((إذا أمَرْتُكم بأمْر فأْتُوا منه ما استطعتم. وما نهَيْتُكم عنه فانتهوا))، رواه البخاري. وتطبيقاً لهذه الأصول الإسلامية، تصبح تكاليف العبادات وغيرها من أعمال الطاعات وأمور الدنيا مقترنةً بتوافر شرط الاستطاعة. والأمثلة على ذلك كثيرة، منها ما يلي: أ- الحجّ أحد أركان الإسلام الخمسة، أداؤه يتوقف على شرط الاستطاعة المالية والبدنية وأمْن الطريق؛ قال تعالى: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً﴾ (آل عمران: 97). ب- قصْر الصلاة وجمْعها في السفر، وفي ميادين الجهاد، وأداؤها من قعود إذا تعذّر القيام. قال تعالى: ﴿وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ (النساء: 101). ج- الصوم حينما يعجز المسلم عن صيامه لِمرض أو سفر، فيباح له الفطر، ثم القضاء. فإن عجز عن القضاء لِعِلّة مُزمنة، وجبت الفدية، وهي إطعام مسكين عن كلّ يوم أفطره. قال تعالى: ﴿فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ﴾ (البقرة: 184). وقال تعالى: ﴿فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾ (البقرة: 185). د- وكذلك فريضة الزكاة لا تجب إلاّ على من يملك النّصاب، وحالَ عليه الحوْل. هـ- راعى الإسلام طبيعة المرأة وقدّر خصائصها، فأسقط عنها بعض التكاليف الشرعية التي قد يشقّ عليها أداؤها، كإسقاط فريضة الصلاة عند الدورة الشهرية وخلال فترة الولادة والنفاس، ولم يوجب الإسلام عليها القضاء. كما أباح لها الإفطار في رمضان بسبب الولادة والرضاعة أو خلال فترة الحيض والنفاس، وأوجب عليها القضاء بعد زوال هذه الأسباب. وفي شؤون الحياة وأمور الدنيا، دعا الإسلام إلى التوسط والاعتدال في كل شيء، ومن ذلك ما يلي: 1 - الإنفاق المالي يضع الإسلام قواعده الاقتصادية، فلا يمسك الإنسان يده عن الإنفاق ويكنز المال ويحرم منه نفسه وأهله، ولا يبعثره في تبذير وسَفه ذات اليمين وذات الشمال. قال تعالى مبيِّناً ضوابط الإنفاق، وألاّ يتجاوز حدّ التوسط والاعتدال: ﴿وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً﴾ (الإسراء: 29). وبيّن القرآن الكريم أنّ من صفات المتّقين من عباده: الاعتدال في الإنفاق، قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً﴾ (الفرقان: 67). 2 - في مجال الأكل والشرب، فإن الاعتدال فيهما هو ميزان صحّة الإنسان وسلامته، قال تعالى: ﴿وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ﴾ (الأعراف: 31). ثالثاً: ذمّ الإسلام أن يبالغ الإنسان في أداء العبادات وأنواع الطاعات إلى الحدّ الذي يُخرجها عن حدود ما شرعه الله وسَنّهُ الرسول ، ويفوق الطاقة البشرية، ويصِل بها إلى الإجهاد البدني؛ لذلك نهى النبي عن الابتداع في الدِّين، فقال : ((مَن أحدث في أمْرنا هذا ما ليس منه، فهو ردّ))، متفق عليه. لهذا كان يرقب أصحابه، فإذا رأى غلواً أو تشدّداً في الطاعات نبّه عليه، وحذّر من عواقبه؛ ومن ذلك: 1 - عن أنس رضي الله عنه قال: جاء ثلاثة رهطٍ إلى بيوت أزواج النبي يسألون عن عبادة النبي . فلمّا أُخبِروا، كأنهم تقالّوها، وقالوا: وأين نحن من النبي ؟ قد غُفر له ما تقدّم من ذنبه وما تأخّر. قال أحدهم: أمّا أنا فأصلي اللّيل أبداً. وقال الآخَر: وأنا أصوم الدّهر ولا أفطر. وقال الآخر: وأنا أعتزل الناس فلا أتزوج أبداً. فجاء إليهم رسول الله فقال: ((أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟ أمَا والله، إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصومُ وأُفطِرُ، وأصلِّي وأرقد، وأتزوّج النساء. فمن رغِب عن سنّتي فليس مني))، متفق عليه. 2 - عن أنس -رضي الله تعالى عنه- قال: دخل النبي المسجد، فإذا حبلٌ ممدود بين الساريتيْن، فقال: ((ما هذا الحبل؟)) قالوا: هذا حبلٌ لزينب، فإذا فتَرَتْ تعلّقت به. فقال النبي : ((لا. حُلُّوه! لِيُصَلِّ أحدُكم نشاطَه، فإذا فتَر فلْيرقُدْ!))، متفق عليه. 3 - عن عائشة رضي الله عنها: أن النبي دخل عليها وعندها امرأة قال: ((من هذه؟))، قالت: فلانة تذكر من صلاتها. قال: ((مَهْ! عليكم بما تطيقون! فوالله لا يمَلّ الله حتى تمَلّوا))، متفق عليه. ((مهْ)): كلمة نهْي وزجْر. 4 - عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: بينما النبي يخطب، إذ هو برجل قائم، فسأل عنه، فقالوا: أبو إسرائيل، نذَر أن يقوم في الشمس ولا يقعد ولا يستظل، ولا يتكلّم، ويصوم. فقال النبي : ((مُروه فلْيتكلّمْ، ولْيستظلّ، ولْيقعدْ، وليتمّ صومه))، رواه البخاري. 5 - عن أبي عبد الله جابر بن سمُرة رضي الله عنهما، قال: ((كنت أصلِّي مع رسول الله الصّلوات، فكانت صلاته قصداً، وخطبتُه قصداً))، رواه مسلم. ومعنى قصداً: أي: متوسطة بين الطول والقِصَر. رابعاً: رفَع الإسلام التكليف في الأمور التي لا يَملك الإنسان دفْعها، ومنها: أحوال النسيان والخطإ والإكراه؛ فهي أمور قد تعترض الإنسان فتُوقعه في بعض الأخطاء التي ينأى عن فِعْلها إذا كان في غير هذه الحالات الثلاث. ومن رحمة الله بعباده أنْ رفَع عنهم الحرج والمشقّة؛ قال : ((وُضع عن أمّتي الخطأ، والنسيان، وما استُكرهوا عليه))، لأن هذه من العوارض التي تعتري الإنسان، ولا يملك لها دفعاً. ﴿رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾ (البقرة: 286). أمّا النّسيان المتعمَّد لأوامر الله، والاستخفاف المستمرّ بشرع الله، فهذه أمور لا ينبغي على الإنسان أن ينساها ولا يتناساها طوال عمره. قال تعالى: ﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ (الحشر: 19). ويدخل في قسم النّسيان والخطإ الذي لا يُعذر صاحبهما: كلّ نسيان أو خطإ ناشئ عن التّهاون والإهمال والتقصير وعدم المبالاة؛ ولذلك أمَر القرآن الإنسان إذا ما نسي تذكّر الله تعالى: ﴿وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ﴾ (الكهف: 24)، وأن يبادر إذا ما أخطأ بالتوبة والاستغفار، قال : ((كلّ بني آدم خطّاء، وخيْر الخطّائين التّوابّون)). ولذلك خفّف الإسلام من عقوبة القتل الخطإ، وأثاب على اجتهاد الحكّام والعلماء، وجعل لهم أجراً عن الخطإ وأجريْن عن الصواب؛ فعن عمر بن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : ((إذا حَكَم الحاكم فاجتهد ثم أصاب، فله أجران. وإذا حَكَم فاجتهد ثم أخطأ، فله أجْر))، رواه الشيخان. كذلك من أمَارات دفْع الحرج ودفْع المشقّة: رفْع المؤاخذة عن المُكره إذا أُُرغم على قوْل أو فعْل يخالف الإسلام، ولم يستطع الصّمود والمقاومة؛ قال تعالى: ﴿مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَاّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ (النحل: 106). ‌‌أمَارات الوسطيّة والاعتدال في الدّعوة خامساً: من أمَارات الوسطية والاعتدال في الدّعوة إلى الله: مراعاة غرائز الإنسان، وتحقيق مطالب النّفْس والجسد. لقد أودع الله داخل الإنسان أنواعاً من الغرائز تتفاعل داخل كيانه، وتتدافع في تعادل دقيق وتوازن مُعجز، وهي أمر مشترك بين البشر جميعاً؛ غير أنهم متفاوتون فيها، إما بانضباطها والارتقاء بها والاعتدال في ممارستها، أو الانحراف بها عن الطريق السّويّ والسلوك المهذّب. فالغرائز استعداد فطري لا يحتاج إلى تعلّم، تدفع الكائن إلى القيام بسلوك خاص. والدوافع التي تكمن وراء الغرائز صنّفها العلماء إلى أربعة أنواع. النوع الأول: دوافع تَكْفل المحافظة على بقاء الفرد، كالجوع والعطش اللّذان يُحرِّكان غريزة البحث عن الطعام. النوع الثاني: دوافع تَكْفل المحافظة على بقاء النوع، كالجنس والأبوّة اللّذان يدفعان غريزتَيْ تجاذب الرّجُل للمرأة من خلال الحبّ الفطري الذي يوثِّقه عقد الزواج. النوع الثالث: دوافع الطوارئ، وهي وثيقة الصّلة بالمحافظة على بقاء الفرد والنوع، كدافع المقاتلة، والخوف، والهرب. النوع الرابع: دوافع تمكّن الفرْد من التّعرّف على البيئة التي حوله، كدافع الاجتماع، والتّعاون، وحبّ الاستطلاع. وهذه الغرائز إن لم تُحكم بميزان الشّرع أو تُضبط بمقاييس العقل السليم، فإنها تنطلق مسعورةً لإشباع حاجاتها دون رويّة وتدبّر، ودون الْتفات لأوامر الله، متجاهلة الأحكام الشرعية، ومحطِّمة للتقاليد الاجتماعية. ولقد وضع الإسلام هذه الغرائز في حدود ما خلَقها الله مِن أجْله، ووضَع لها الضوابط وفْقَ ما شرعه الله من ثواب وعقاب وإقامة الحدود، وجعل السلوك الإنساني في إشباع تلك الغرائز يسير حسب سنن الفطرة، دون كبْت أو حرمان أو قهرٍ لها. ولم يترك الإسلام لها الحبْل على الغارب، لتندفع هائجة تُحطِّم القِيَم وتنتهك الأعراض. فغريزة الجنس وضَع لها الإسلام الضوابط، حيث جعَل علاقة الرجل بالمرأة لا يتمّ إلاّ في إطار عقد الزواج، وسمّاه: ﴿مِيثَاقاً غَلِيظاً﴾ (الأحزاب: 7)، ويسّر سُبل الزواج، وأباح التّعدّد لِمَن يقدر على ذلك. وأيّ علاقة بين الرجُل والمرأة بعيدة عن علاقات الزوجيّة فهي علاقة آثمة، ومن الكبائر التي توجب إقامة الحدّ في الدنيا وعذاب الله في الآخِرة، إن لم يعلن ذوو هذه العلاقة عن توبتهما. وغريزة حبّ المال وجمْعه وإنفاقه، وضَع لها الإسلام النّظم والتشريعات التي تُشبع هذه الغريزة؛ فجعل جمْعه لا يكون إلاّ من حلال، ولا يُنفق إلاّ على الأهل أو في وجوه الخير، مع الاعتدال في النفقة. وقد أباح الإسلام حرّيّة التّملّك والتّصرّف، ولكن في حدود ضوابط الشرع وأحكامه. وكذلك حرّم الله بعض المطعومات والمشروبات التي تَدفع بالإنسان إلى ضياع عقْله وهلاك صحّته، لتستقيم بذلك حياةُ الإنسان في تعادل وتناسق وتوازن يتلاءم مع فطرة الله التي فطر الإنسان عليها. قال تعالى: ﴿فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾ (الروم: 30). ولهذا حرّم الإسلام بعض الأمور التي قد تعود على الإنسان بالضرر، قال نعالى: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالأَزْلامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ﴾ (المائدة: 3). هذه بعضُ خصائص الدّعوة إلى الله التي تفرّد بها وتتميّز عن كافّة الشرائع والنُّظم الأخرى، قال تعالى: ﴿صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ﴾ (البقرة: 138). "أصول الدعوة وطرقها" جامعة المدينة العالمية.