القريب
كلمة (قريب) في اللغة صفة مشبهة على وزن (فاعل) من القرب، وهو خلاف...
إزالة كل ما يؤدي إلى مشقة غير معتادة في البدن، أو النفس، أو المال . ومن أمثلته : من عجز عن الصلاة قائماً يصلي قاعداً . ومن شواهده شواهده قوله تَعَالَى : ﭽﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰﱪالحج : ٧٨ . وفي الحديث الشريف : "صلِّ قائماً، فإن لم تستطع، فقاعداً، فإن لم تستطع، فعلى جنْب ." البخاري :1066.
يَرِد مُصْطلَح (رَفْع الـحَرَج) في الفقه في مَواضِعَ كَثِيرَةٍ، منها: كتاب الطَّهارَةِ، باب: التَّيَمُّم، وكتاب الصَّوْمِ، باب: الأَعْذار الـمُبِيحَةِ لِلْفِطْرِ، وفي كتاب الزَّكاةِ، باب: زَكاة الدَّيْنِ، وفي كتاب الحَجِّ، باب: شُروط الحَجِّ، وفي كتاب الجِهادِ، باب: شُروط الجِهادِ، وغَيْر ذلك مِن الأبواب. والفُقَهاءُ والأُصُولِيون قد يُطْلِقونَ على رَفْعِ الـحَرَجِ أيضاً: دَفْعُ الحَرَجِ، ونَفْيُ الحَرَجِ.
إزالة كل ما يؤدي إلى مشقة غير معتادة في البدن، أو النفس، أو المال.
* المغرب في ترتيب المعرب : (ص 109، و ص193)
* قواعد الأحكام في مصالح الأنام : (2/12) وما بعدها - الـمجموع الـمذهب في قواعد الـمذهب : (1/97) وما بعدها - إعلام الموقعين : (3/191) -
التَّعْرِيفُ -
رَفْعُ الْحَرَجِ: مُرَكَّبٌ إِضَافِيٌّ، تَتَوَقَّفُ مَعْرِفَتُهُ عَلَى مَعْرِفَةٍ لَفْظِيَّةٍ، فَالرَّفْعُ لُغَةً: نَقِيضُ الْخَفْضِ فِي كُل شَيْءٍ، وَالتَّبْلِيغُ، وَالْحَمْل، وَتَقْرِيبُكَ الشَّيْءَ، وَالأَْصْل فِي مَادَّةِ الرَّفْعِ الْعُلُوُّ، يُقَال: ارْتَفَعَ الشَّيْءُ ارْتِفَاعًا إِذَا عَلاَ، وَيَأْتِي بِمَعْنَى الإِْزَالَةِ. يُقَال: رُفِعَ الشَّيْءُ: إِذَا أُزِيل عَنْ مَوْضِعِهِ.
قَال فِي الْمِصْبَاحِ الْمُنِيرِ: الرَّفْعُ فِي الأَْجْسَامِ حَقِيقَةٌ فِي الْحَرَكَةِ وَالاِنْتِقَال، وَفِي الْمَعَانِي مَحْمُولٌ عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ الْمَقَامُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ ﷺ رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلاَثَةٍ (1) وَالْقَلَمُ لَمْ يُوضَعْ عَلَى الصَّغِيرِ، وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ لاَ تَكْلِيفَ، فَلاَ مُؤَاخَذَةَ (2) .
وَالْحَرَجُ فِي اللُّغَةِ: الْمَكَانُ الضَّيِّقُ الْكَثِيرُ الشَّجَرِ، وَالضِّيقُ وَالإِْثْمُ، وَالْحَرَامُ، وَالأَْصْل فِيهِ الضِّيقُ. قَال ابْنُ الأَْثِيرِ: الْحَرَجُ فِي الأَْصْل: الضِّيقُ، وَيَقَعُ عَلَى الإِْثْمِ وَالْحَرَامِ.
تَقُول رَجُلٌ حَرِجٌ وَحَرَجٌ إِذَا كَانَ ضَيِّقَ الصَّدْرِ. وَقَال الزَّجَّاجُ: الْحَرَجُ فِي اللُّغَةِ أَضْيَقُ الضِّيقِ، وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ ضَيِّقٌ جِدًّا.
فَرَفْعُ الْحَرَجِ فِي اللُّغَةِ: إِزَالَةُ الضِّيقِ، وَنَفْيُهُ عَنْ مَوْضِعِهِ. ثُمَّ إِنَّ مَعْنَى الرَّفْعِ فِي الاِصْطِلاَحِ لاَ يَخْرُجُ عَنْ مَعْنَاهُ اللُّغَوِيِّ (3) .
وَالْحَرَجُ فِي الاِصْطِلاَحِ مَا فِيهِ مَشَقَّةٌ وَضِيقٌ فَوْقَ الْمُعْتَادِ (4) ، فَهُوَ أَخَصُّ مِنْ مَعْنَاهُ اللُّغَوِيِّ. وَرَفْعُ الْحَرَجِ: إِزَالَةُ مَا فِي التَّكْلِيفِ الشَّاقِّ مِنَ الْمَشَقَّةِ بِرَفْعِ التَّكْلِيفِ مِنْ أَصْلِهِ أَوْ بِتَخْفِيفِهِ أَوْ بِالتَّخْيِيرِ فِيهِ، أَوْ بِأَنْ يُجْعَل لَهُ مَخْرَجٌ، كَمَا سَبَقَ فِي الْمَوْسُوعَةِ فِي مُصْطَلَحِ (تَيْسِير) .
فَالْحَرَجُ وَالْمَشَقَّةُ مُتَرَادِفَانِ، وَرَفْعُ الْحَرَجِ لاَ يَكُونُ إِلاَّ بَعْدَ الشِّدَّةِ خِلاَفًا لِلتَّيْسِيرِ. وَالْفُقَهَاءُ وَالأُْصُولِيُّونَ قَدْ يُطْلِقُونَ عَلَيْهِ أَيْضًا " دَفْعَ الْحَرَجِ " " وَنَفْيَ الْحَرَجِ (5) ". الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - التَّيْسِيرُ:
2 - التَّيْسِيرُ: السُّهُولَةُ وَالسِّعَةُ، وَهُوَ مَصْدَرُ يَسَّرَ، وَالْيُسْرُ ضِدُّ الْعُسْرِ، وَفِي الْحَدِيثِ: إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ (6) أَيْ أَنَّهُ سَهْلٌ سَمْحٌ قَلِيل التَّشْدِيدِ، وَالتَّيْسِيرُ يَكُونُ فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَفِي التَّنْزِيل الْعَزِيزِ قَوْلُهُ: {فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى} (7) . وَقَوْلُهُ: {فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} (8) .
وَلاَ يَخْرُجُ مَعْنَاهُ الاِصْطِلاَحِيُّ عَنْ مَعْنَاهُ اللُّغَوِيِّ. وَالنِّسْبَةُ بَيْنَ التَّيْسِيرِ وَرَفْعِ الْحَرَجِ أَنَّ رَفْعَ الْحَرَجِ لاَ يَكُونُ إِلاَّ بَعْدَ شِدَّةٍ.
ب - الرُّخْصَةُ:
3 - الرُّخْصَةُ: التَّسْهِيل فِي الأَْمْرِ وَالتَّيْسِيرُ، يُقَال: رَخَّصَ الشَّرْعُ لَنَا فِي كَذَا تَرْخِيصًا وَأَرْخَصَ إِرْخَاصًا إِذَا يَسَّرَهُ وَسَهَّلَهُ. وَرَخَّصَ لَهُ فِي الأَْمْرِ: أَذِنَ لَهُ فِيهِ بَعْدَ النَّهْيِ عَنْهُ، وَتَرْخِيصُ اللَّهِ لِلْعَبْدِ فِي أَشْيَاءَ: تَخْفِيفُهَا عَنْهُ، وَالرُّخْصَةُ فِي الأَْمْرِ وَهُوَ خِلاَفُ التَّشْدِيدِ (9) . فَالرُّخْصَةُ فُسْحَةٌ فِي مُقَابَلَةِ التَّضْيِيقِ وَالْحَرَجِ (10) .
ج - الضَّرَرُ:
4 - الضَّرَرُ فِي اللُّغَةِ ضِدُّ النَّفْعِ، وَهُوَ النُّقْصَانُ يَدْخُل فِي الشَّيْءِ (11) ، فَالضَّرَرُ قَدْ يَكُونُ أَثَرًا مِنْ آثَارِ عَدَمِ رَفْعِ الْحَرَجِ.
رَفْعُ الْحَرَجِ مِنْ مَقَاصِدِ الشَّرِيعَةِ:
5 - رَفْعُ الْحَرَجِ مَقْصِدٌ مِنْ مَقَاصِدِ الشَّرِيعَةِ وَأَصْلٌ مِنْ أُصُولِهَا، فَإِنَّ الشَّارِعَ لَمْ يَقْصِدْ إِلَى التَّكْلِيفِ بِالشَّاقِّ وَالإِْعْنَاتِ فِيهِ، وَقَدْ دَل عَلَى ذَلِكَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَانْعَقَدَ الإِْجْمَاعُ عَلَى ذَلِكَ.
فَمِنَ الْكِتَابِ قَوْله تَعَالَى: {وَمَا جَعَل عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (12) وقَوْله تَعَالَى: {لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} وقَوْله تَعَالَى (13) : {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَل عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ} (14) وقَوْله تَعَالَى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} (15) وقَوْله تَعَالَى: {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِْنْسَانُ ضَعِيفًا} (16) .
وَمِنَ السُّنَّةِ قَوْل النَّبِيِّ: بُعِثْتُ بِالْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ (17) . وَحَدِيثُ عَائِشَةَ: مَا خُيِّرَ رَسُول اللَّهِ ﷺ بَيْنَ أَمْرَيْنِ إِلاَّ اخْتَارَ أَيْسَرَهُمَا مَا لَمْ يَكُنْ إِثْمًا (18) .
وَانْعَقَدَ الإِْجْمَاعُ عَلَى عَدَمِ وُقُوعِ الْحَرَجِ فِي التَّكْلِيفِ، وَهُوَ يَدُل عَلَى عَدَمِ قَصْدِ الشَّارِعِ إِلَيْهِ، وَلَوْ كَانَ وَاقِعًا لَحَصَل فِي الشَّرِيعَةِ التَّنَاقُضُ وَالاِخْتِلاَفُ، وَذَلِكَ مَنْفِيٌّ عَنْهَا، فَإِنَّهُ إِذَا كَانَ وَضْعُ الشَّرِيعَةِ عَلَى قَصْدِ الإِْعْنَاتِ وَالْمَشَقَّةِ، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهَا مَوْضُوعَةٌ عَلَى قَصْدِ الرِّفْقِ وَالتَّيْسِيرِ، كَانَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا تَنَاقُضًا وَاخْتِلاَفًا، وَهِيَ مُنَزَّهَةٌ عَنْ ذَلِكَ.
ثُمَّ مَا ثَبَتَ أَيْضًا مِنْ مَشْرُوعِيَّةِ الرُّخَصِ، وَهُوَ أَمْرٌ مُتَطَوَّعٌ بِهِ، وَمِمَّا عُلِمَ مِنْ دِينِ الأُْمَّةِ بِالضَّرُورَةِ، كَرُخَصِ الْقَصْرِ، وَالْفِطْرِ، وَالْجَمْعِ، وَتَنَاوُل الْمُحَرَّمَاتِ فِي الاِضْطِرَارِ. فَإِنَّ هَذَا نَمَطٌ يَدُل قَطْعًا عَلَى مُطْلَقِ رَفْعِ الْحَرَجِ وَالْمَشَقَّةِ.
وَكَذَلِكَ مَا جَاءَ مِنَ النَّهْيِ عَنْ التَّعَمُّقِ وَالتَّكَلُّفِ فِي الاِنْقِطَاعِ عَنْ دَوَامِ الأَْعْمَال. وَلَوْ كَانَ الشَّارِعُ قَاصِدًا لِلْمَشَقَّةِ فِي التَّكْلِيفِ لَمَا كَانَ ثَمَّ تَرْخِيصٌ وَلاَ تَخْفِيفٌ؛
وَلأَِجْل ذَلِكَ لَمْ يَجِبْ شَيْءٌ مِنَ الأَْحْكَامِ عَلَى الصَّبِيِّ الْعَاقِل لِقُصُورِ الْبَدَنِ، أَوْ لِقُصُورِهِ وَقُصُورِ الْعَقْل، وَلاَ عَلَى الْمَعْتُوهِ الْبَالِغِ لِقُصُورِ الْعَقْل. وَلَمْ يَجِبْ قَضَاءُ الصَّلاَةِ فِي الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ، وَانْتَفَى الإِْثْمُ فِي خَطَأِ الْمُجْتَهِدِ، وَكَذَا فِي النِّسْيَانِ وَالإِْكْرَاهِ.
قَال الشَّاطِبِيُّ: إِنَّ الأَْدِلَّةَ عَلَى رَفْعِ الْحَرَجِ فِي هَذِهِ الأُْمَّةِ بَلَغَتْ مَبْلَغَ الْقَطْعِ (19) .
أَقْسَامُ الْحَرَجِ:
يَنْقَسِمُ الْحَرَجُ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ إِلَى قِسْمَيْنِ:
6 - الأَْوَّل: حَقِيقِيٌّ، وَهُوَ مَا كَانَ لَهُ سَبَبٌ مُعَيَّنٌ وَاقِعٌ، أَوْ مَا تَحَقَّقَ بِوُجُودِهِ مَشَقَّةٌ خَارِجَةٌ عَنِ الْمُعْتَادِ كَحَرَجِ السَّفَرِ وَالْمَرَضِ.
الثَّانِي: تَوَهُّمِيٌّ، وَهُوَ مَا لَمْ يُوجَدِ السَّبَبُ الْمُرَخِّصُ لأَِجْلِهِ، وَلَمْ تَكُنْ مَشَقَّةٌ خَارِجَةٌ عَنِ الْمُعْتَادِ عَلَى وَجْهٍ مُحَقَّقٍ (20) .
وَالْقِسْمُ الأَْوَّل هُوَ الْمُعْتَبَرُ بِالرَّفْعِ وَالتَّخْفِيفِ؛ لأَِنَّ الأَْحْكَامَ لاَ تُبْنَى عَلَى الأَْوْهَامِ، وَالْحَرَجُ الْحَقِيقِيُّ يَنْقَسِمُ مِنْ حَيْثُ وَقْتِ تَحَقُّقِهِ إِلَى قِسْمَيْنِ:
الأَْوَّل: الْحَرَجُ الْحَالِيُّ: وَهُوَ مَا كَانَتْ مَشَقَّتُهُ مُتَحَقِّقَةً فِي الْحَال، كَالشُّرُوعِ فِي عِبَادَةٍ شَاقَّةٍ فِي نَفْسِهَا، وَكَالْحَرَجِ الْحَاصِل لِلْمَرِيضِ بِاسْتِعْمَال الْمَاءِ، أَوِ الْحَاصِل لِغَيْرِ الْمُسْتَطِيعِ عَلَى الْحَجِّ أَوْ رَمْيِ الْجِمَارِ بِنَفْسِهِ إِنْ مَنَعْنَاهُ مِنَ الاِسْتِنَابَةِ (21) .
الثَّانِي: الْحَرَجُ الْمَالِيُّ: وَهُوَ مَا يَلْحَقُ الْمُكَلَّفَ بِسَبَبِ الدَّوَامِ عَلَى فِعْلٍ لاَ حَرَجَ مِنْهُ. كَمَا كَانَ مِنْ شَأْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَقَال: كُنْتُ أَصُومُ الدَّهْرَ، وَأَقْرَأُ الْقُرْآنَ كُل لَيْلَةٍ فَإِمَّا ذَكَرْتُ لِلنَّبِيِّ ﷺ وَإِمَّا أَرْسَل إِلَيَّ فَأَتَيْتُهُ، فَقَال لِي: أَلَمْ أُخْبَرْ أَنَّكَ تَصُومُ الدَّهْرَ، وَتَقْرَأُ الْقُرْآنَ كُل لَيْلَةٍ؟ فَقُلْتُ: بَلَى يَا رَسُول اللَّهِ، وَلَمْ أُرِدْ بِذَلِكَ إِلاَّ الْخَيْرَ، قَال: فَإِنَّ بِحَسْبِكَ أَنْ تَصُومَ مِنْ كُل شَهْرٍ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ فَقُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ إِنِّي أُطِيقُ أَفْضَل مِنْ ذَلِكَ. قَال: فَإِنَّ لِزَوْجِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلِزَوْرِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلِجَسَدِكَ عَلَيْكَ حَقًّا. قَال: فَصُمْ صَوْمَ دَاوُدَ نَبِيِّ اللَّهِ ﷺ فَإِنَّهُ كَانَ أَعْبَدَ النَّاسِ، قَال: فَقُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ وَمَا صَوْمُ دَاوُدَ؟ قَال: كَانَ يَصُومُ يَوْمًا وَيُفْطِرُ يَوْمًا. قَال: وَاقْرَأِ الْقُرْآنَ فِي كُل شَهْرٍ قَال: قُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ إِنِّي أُطِيقُ أَفْضَل مِنْ ذَلِكَ، قَال: فَاقْرَأْهُ فِي كُل عِشْرِينَ قَال: فَقُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ إِنِّي أُطِيقُ أَفْضَل مِنْ ذَلِكَ، قَال: فَاقْرَأْهُ فِي كُل عَشْرٍ قَال: قُلْتُ يَا نَبِيَّ اللَّهِ إِنِّي أُطِيقُ أَفْضَل مِنْ ذَلِكَ. قَال: فَاقْرَأْهُ فِي كُل سَبْعٍ وَلاَ تَزِدْ عَلَى ذَلِكَ. فَإِنَّ لِزَوْجِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلِزَوْرِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلِجَسَدِكَ عَلَيْكَ حَقًّا. قَال: فَشَدَّدْتُ، فَشَدَّدَ اللَّهُ عَلَيَّ، قَال: وَقَال لِيَ النَّبِيُّ ﷺ: إِنَّكَ لاَ تَدْرِي لَعَلَّكَ يَطُول بِكَ عُمُرٌ. قَال: فَصِرْتُ إِلَى الَّذِي قَال لِيَ النَّبِيُّ ﷺ. فَلَمَّا كَبِرْتُ وَدِدْتُ أَنِّي كُنْتُ قَبِلْتُ رُخْصَةَ نَبِيِّ اللَّهِ ﷺ (22) .
قَال الشَّاطِبِيُّ: إِنَّ دُخُول الْمَشَقَّةِ وَعَدَمَهُ عَلَى الْمُكَلَّفِ فِي الدَّوَامِ أَوْ غَيْرِهِ لَيْسَ أَمْرًا مُنْضَبِطًا بَل هُوَ إِضَافِيٌّ مُخْتَلِفٌ بِحَسَبِ اخْتِلاَفِ النَّاسِ فِي قُوَّةِ أَجْسَامِهِمْ أَوْ فِي قُوَّةِ عَزَائِمِهِمْ، أَوْ فِي قُوَّةِ يَقِينِهِمْ (23) .
وَيَنْقَسِمُ الْحَرَجُ مِنْ حَيْثُ الْقُدْرَةُ عَلَى الاِنْفِكَاكِ وَعَدَمِهِ إِلَى عَامٍّ وَخَاصٍّ.
فَالْحَرَجُ الْعَامُّ هُوَ الَّذِي لاَ قُدْرَةَ لِلإِْنْسَانِ فِي الاِنْفِكَاكِ عَنْهُ غَالِبًا كَالتَّغَيُّرِ اللاَّحِقِ لِلْمَاءِ بِمَا لاَ يَنْفَكُّ عَنْهُ غَالِبًا، كَالتُّرَابِ وَالطُّحْلُبِ وَشِبْهِ ذَلِكَ.
وَالْحَرَجُ الْخَاصُّ هُوَ مَا كَانَ فِي قُدْرَةِ الإِْنْسَانِ الاِنْفِكَاكُ عَنْهُ غَالِبًا، كَتَغَيُّرِ الْمَاءِ بِالْخَل وَالزَّعْفَرَانِ وَنَحْوِهِ. 7 - هَذَا تَقْسِيمُ الشَّاطِبِيِّ، وَهُنَاكَ مَنْ يُقَسِّمُ الْحَرَجَ إِلَى عَامٍّ وَخَاصٍّ مِنْ حَيْثُ شُمُول الْحَرَجِ وَعَدَمِهِ. فَالْعَامُّ مَا كَانَ عَامًّا لِلنَّاسِ كُلِّهِمْ، وَالْخَاصُّ مَا كَانَ بِبَعْضِ الأَْقْطَارِ، أَوْ بَعْضِ الأَْزْمَانِ، أَوْ بَعْضِ النَّاسِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ.
قَال ابْنُ الْعَرَبِيِّ: إِذَا كَانَ الْحَرَجُ فِي نَازِلَةٍ عَامَّةٍ فِي النَّاسِ فَإِنَّهُ يَسْقُطُ، وَإِذَا كَانَ خَاصًّا لَمْ يُعْتَبَرْ عِنْدَنَا، وَفِي بَعْضِ أُصُول الشَّافِعِيِّ اعْتِبَارُهُ ".
كَمَا يُمْكِنُ تَقْسِيمُ الْحَرَجِ إِلَى بَدَنِيٍّ وَنَفْسِيٍّ.
فَالْبَدَنِيُّ: مَا كَانَ أَثَرُهُ وَاقِعًا عَلَى الْبَدَنِ كَوُضُوءِ الْمَرِيضِ الَّذِي يَضُرُّهُ الْمَاءُ، وَصَوْمِ الْمَرِيضِ، وَكَبِيرِ السِّنِّ، وَتَرْكِ الْمُضْطَرِّ أَكْل الْمَيْتَةِ.
وَالنَّفْسِيُّ: مَا كَانَ أَثَرُهُ وَاقِعًا عَلَى النَّفْسِ، كَالأَْلَمِ وَالضِّيقِ بِسَبَبِ مَعْصِيَةٍ أَوْ ذَنْبٍ صَدَرَ مِنْهُ، وَقَدْ قَال ابْنُ عَبَّاسٍ فِي قَوْله تَعَالَى {وَمَا جَعَل عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} إِنَّمَا ذَلِكَ سِعَةُ الإِْسْلاَمِ مَا جَعَل اللَّهُ مِنَ التَّوْبَةِ وَالْكَفَّارَاتِ (24) .
شُرُوطُ الْحَرَجِ الْمَرْفُوعِ:
8 - لَيْسَ كُل حَرَجٍ مَرْفُوعًا. بَل هُنَاكَ شُرُوطٌ لاَ بُدَّ مِنْ تَحَقُّقِهَا لاِعْتِبَارِ رَفْعِ الْحَرَجِ وَهِيَ:
(24) أَنْ يَكُونَ الْحَرَجُ حَقِيقِيًّا، وَهُوَ مَا لَهُ سَبَبٌ مُعَيَّنٌ وَاقِعٌ، كَالْمَرَضِ وَالسَّفَرِ، أَوْ مَا تَحَقَّقَ بِوُجُودِهِ مَشَقَّةٌ خَارِجَةٌ عَنِ الْمُعْتَادِ. وَمِنْ ثَمَّ فَلاَ اعْتِبَارَ بِالْحَرَجِ التَّوَهُّمِيِّ، وَهُوَ الَّذِي لَمْ يُوجَدِ السَّبَبُ الْمُرَخِّصُ لأَِجْلِهِ، إِذْ لاَ يَصِحُّ أَنْ يُبْنَى حُكْمٌ عَلَى سَبَبٍ لَمْ يُوجَدْ بَعْدُ، كَمَا أَنَّ الظُّنُونَ وَالتَّقْدِيرَاتِ غَيْرِ الْمُحَقَّقَةِ رَاجِعَةٌ إِلَى قِسْمِ التَّوَهُّمَاتِ، وَهِيَ مُخْتَلِفَةٌ. وَكَذَلِكَ أَهْوَاءُ النَّاسِ، فَإِنَّهَا تُقَدِّرُ أَشْيَاءَ لاَ حَقِيقَةَ لَهَا. فَالصَّوَابُ أَنَّهُ لاَ اعْتِبَارَ بِالْمَشَقَّةِ وَالْحَرَجِ حِينَئِذٍ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ التَّوَهُّمَ غَيْرُ صَادِقٍ فِي كَثِيرٍ مِنَ الأَْحْوَال (26) .
(27) أَنْ لاَ يُعَارِضَ نَصًّا. فَالْمَشَقَّةُ وَالْحَرَجُ إِنَّمَا يُعْتَبَرَانِ فِي مَوْضِعٍ لاَ نَصَّ فِيهِ، وَأَمَّا فِي حَال مُخَالَفَةِ النَّصِّ فَلاَ يُعْتَدُّ بِهِمَا (27) .
وَهُنَاكَ تَفْصِيلٌ وَخِلاَفٌ يَأْتِي فِي تَعَارُضِ رَفْعِ الْحَرَجِ مَعَ النَّصِّ.
(29) أَنْ يَكُونَ عَامًّا. قَال ابْنُ الْعَرَبِيِّ: إِذَا كَانَ الْحَرَجُ فِي نَازِلَةٍ عَامَّةٍ فِي النَّاسِ فَإِنَّهُ يَسْقُطُ، وَإِذَا كَانَ خَاصًّا لَمْ يُعْتَبَرْ عِنْدَنَا، وَفِي بَعْضِ أُصُول الشَّافِعِيِّ اعْتِبَارُهُ، وَذَلِكَ يُعْرَضُ فِي مَسَائِل الْخِلاَفِ (29) .
وَقَدْ فَسَّرَ الشَّاطِبِيُّ الْحَرَجَ الْعَامَّ بِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي لاَ قُدْرَةَ لِلإِْنْسَانِ عَلَى الاِنْفِكَاكِ عَنْهُ، كَالتَّغَيُّرِ اللاَّحِقِ لِلْمَاءِ بِالتُّرَابِ وَالطُّحْلُبِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا لاَ يَنْفَكُّ عَنْهُ غَالِبًا، وَالْخَاصُّ هُوَ مَا يَطَّرِدُ الاِنْفِكَاكُ عَنْهُ مِنْ غَيْرِ حَرَجٍ كَتَغَيُّرِ الْمَاءِ بِالْخَل وَالزَّعْفَرَانِ وَنَحْوِهِ (31) .
أَسْبَابُ رَفْعِ الْحَرَجِ:
9 - أَسْبَابُ رَفْعِ الْحَرَجِ هِيَ السَّفَرُ، وَالْمَرَضُ، وَالإِْكْرَاهُ، وَالنِّسْيَانُ، وَالْجَهْل، وَالْعُسْرُ، وَعُمُومُ الْبَلْوَى، وَالنَّقْصُ، وَتَفْصِيلُهَا فِي مُصْطَلَحِ (تَيْسِير (2)) .
قَال النَّوَوِيُّ: وَرُخَصُ السَّفَرِ ثَمَانِيَةٌ:
مِنْهَا: مَا يَخْتَصُّ بِالطَّوِيل قَطْعًا وَهُوَ الْقَصْرُ، وَالْفِطْرُ، وَالْمَسْحُ أَكْثَرَ مِنْ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ.
وَمِنْهَا: مَا لاَ يَخْتَصُّ بِهِ قَطْعًا، وَهُوَ تَرْكُ الْجُمُعَةِ، وَأَكْل الْمَيْتَةِ.
وَمِنْهَا: مَا فِيهِ خِلاَفٌ، وَالأَْصَحُّ اخْتِصَاصُهُ بِهِ وَهُوَ الْجَمْعُ.
وَمِنْهَا: مَا فِيهِ خِلاَفٌ، وَالأَْصَحُّ عَدَمُ اخْتِصَاصِهِ بِهِ، وَهُوَ التَّنَفُّل عَلَى الدَّابَّةِ، وَإِسْقَاطُ الْفَرْضِ بِالتَّيَمُّمِ.
وَاسْتَدْرَكَ ابْنُ الْوَكِيل رُخْصَةً تَاسِعَةً، صَرَّحَ بِهَا الْغَزَالِيُّ وَهِيَ:
مَا إِذَا كَانَ لَهُ نِسْوَةٌ وَأَرَادَ السَّفَرَ، فَإِنَّهُ يُقْرِعُ بَيْنَهُنَّ، وَيَأْخُذُ مَنْ خَرَجَتْ لَهَا الْقُرْعَةُ، وَلاَ يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ لِضَرَّاتِهَا إِذَا رَجَعَ. (ر: تَيْسِير) .
كَيْفِيَّةُ رَفْعِ الْحَرَجِ:
رَفْعُ الْحَرَجِ ابْتِدَاءً:
10 - لاَ يَتَعَلَّقُ التَّكْلِيفُ بِمَا فِيهِ الْحَرَجُ ابْتِدَاءً فَضْلاً مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَلِذَلِكَ لَمْ يَجِبْ شَيْءٌ مِنَ الأَْحْكَامِ عَلَى الصَّبِيِّ الْعَاقِل، وَلاَ عَلَى الْمَعْتُوهِ الْبَالِغِ، وَلَمْ يَجِبْ قَضَاءُ الصَّلاَةِ فِي الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ (32) . كَمَا أَنَّ هُنَاكَ الْكَثِيرَ مِنَ الأَْحْكَامِ وَالتَّشْرِيعَاتِ الَّتِي جَاءَتْ ابْتِدَاءً لِرَفْعِ الْحَرَجِ وَالْمَشَقَّةِ عَنِ النَّاسِ، وَلَوْلاَهَا لَوَقَعَ النَّاسُ فِيهِمَا. وَمِنْهَا مَشْرُوعِيَّةُ الْخِيَارِ، إِذْ إِنَّ الْبَيْعَ يَقَعُ غَالِبًا مِنْ غَيْرِ تَرَوٍّ وَيَحْصُل فِيهِ النَّدَمُ فَيَشُقُّ عَلَى الْعَاقِدِ، فَسَهَّل الشَّارِعُ ذَلِكَ عَلَيْهِ بِجَوَازِ الْفَسْخِ فِي مَجْلِسِهِ وَمِنْهَا الرَّدُّ بِالْعَيْبِ وَالتَّحَالُفُ وَالإِْقَالَةُ وَالْحَوَالَةُ وَالرَّهْنُ وَالضَّمَانُ وَالإِْبْرَاءُ وَالْقَرْضُ وَالشَّرِكَةُ وَالصُّلْحُ وَالْحَجْرُ وَالْوَكَالَةُ وَالإِْجَارَةُ وَالْمُزَارَعَةُ وَالْمُسَاقَاةُ وَالْمُضَارَبَةُ وَالْعَارِيَّةُ الْوَدِيعَةُ لِلْحَرَجِ وَالْمَشَقَّةِ الْعَظِيمَةِ فِي أَنَّ كُل وَاحِدٍ لاَ يَنْتَفِعُ إِلاَّ بِمَا هُوَ مِلْكُهُ، وَلاَ يَسْتَوْفِي إِلاَّ مِمَّنْ عَلَيْهِ حَقُّهُ، وَلاَ يَأْخُذُهُ إِلاَّ بِكَمَالِهِ، وَلاَ يَتَعَاطَى أُمُورَهُ إِلاَّ بِنَفْسِهِ، فَسَهُل الأَْمْرُ بِإِبَاحَةِ الاِنْتِفَاعِ بِمِلْكِ الْغَيْرِ بِطَرِيقِ الإِْجَارَةِ وَالإِْعَارَةِ وَالْقَرْضِ، وَبِالاِسْتِعَانَةِ بِالْغَيْرِ وَكَالَةً وَإِيدَاعًا وَشَرِكَةً وَمُضَارَبَةً وَمُسَاقَاةً، وَبِالاِسْتِيفَاءِ مِنْ غَيْرِ الْمَدْيُونِ حَوَالَةً، وَبِالتَّوْثِيقِ عَلَى الدَّيْنِ بِرَهْنٍ وَكَفِيلٍ وَضَمَانٍ وَحَجْرٍ، وَبِإِسْقَاطِ بَعْضِ الدَّيْنِ صُلْحًا أَوْ كُلِّهِ إِبْرَاءً.
وَمِنْ تِلْكَ الأَْحْكَامِ الَّتِي جَاءَتْ لِرَفْعِ الْحَرَجِ وَالْمَشَقَّةِ أَيْضًا جَوَازُ الْعُقُودِ غَيْرِ اللاَّزِمَةِ؛ لأَِنَّ لُزُومَهَا شَاقٌّ فَتَكُونُ سَبَبًا لِعَدَمِ تَعَاطِيهَا، وَمِنْهَا لُزُومُ الْعُقُودِ اللاَّزِمَةِ، وَإِلاَّ لَمْ يَسْتَقِرَّ بَيْعٌ وَلاَ غَيْرُهُ.
وَمِنْهَا مَشْرُوعِيَّةُ الطَّلاَقِ لِمَا فِي الْبَقَاءِ عَلَى الزَّوْجِيَّةِ مِنَ الْمَشَقَّةِ وَالْحَرَجِ عِنْدَ التَّنَافُرِ، وَكَذَا مَشْرُوعِيَّةُ الْخُلْعِ وَالاِفْتِدَاءِ وَالرَّجْعَةِ فِي الْعِدَّةِ قَبْل الثَّلاَثِ، وَلَمْ يُشْرَعْ دَائِمًا لِمَا فِيهِ مِنَ الْمَشَقَّةِ عَلَى الزَّوْجَةِ (33) .
رَفْعُ الْحَرَجِ عِنْدَ تَحَقُّقِ وُجُودِهِ:
11 - قَدْ يَأْتِي الْحَرَجُ وَالْمَشَقَّةُ فِي التَّكَالِيفِ مِنْ أَسْبَابٍ خَارِجِيَّةٍ، إِذْ إِنَّ نَفْسَ التَّكْلِيفِ لَيْسَ فِيهِ مَشَقَّةٌ وَحَرَجٌ بَل فِيهِ كُلْفَةٌ أَيْ مَشَقَّةٌ مُعْتَادَةٌ، وَإِنَّمَا يَأْتِي الْحَرَجُ بِسَبَبِ اقْتِرَانِ التَّكْلِيفِ بِأُمُورٍ أُخْرَى كَالْمَرَضِ وَالسَّفَرِ، وَلِلشَّارِعِ أَنْوَاعٌ مُتَعَدِّدَةٌ مِنَ التَّخْفِيفَاتِ تُنَاسِبُ تِلْكَ الْمَشَاقَّ وَتَكُونُ تِلْكَ التَّخْفِيفَاتُ بِالإِْسْقَاطِ أَوِ التَّنْقِيصِ أَوِ الإِْبْدَال أَوِ التَّقْدِيمِ أَوِ التَّأْخِيرِ أَوِ التَّرْخِيصِ أَوِ التَّغْيِيرِ، وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (رُخْصَة) وَمُصْطَلَحِ (تَيْسِير) .
تَعَارُضُ رَفْعِ الْحَرَجِ مَعَ النَّصِّ:
12 - النَّصُّ إِمَّا أَنْ يَكُونَ قَطْعِيًّا أَوْ ظَنِّيًّا، وَالظَّنِّيُّ إِمَّا أَنْ يَشْهَدَ لَهُ أَصْلٌ قَطْعِيٌّ أَوْ لاَ. وَلاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي عَدَمِ اعْتِبَارِ الْحَرَجِ الْمُعَارِضِ لِلنَّصِّ الْقَطْعِيِّ، وَكَذَا الظَّنِّيُّ الرَّاجِعُ إِلَى أَصْلٍ قَطْعِيٍّ، فَيَجِبُ حِينَئِذٍ الأَْخْذُ بِالنَّصِّ وَتَرْكُ الْحَرَجِ (34) .
ثُمَّ إِنَّ الْفُقَهَاءَ قَدِ اخْتَلَفُوا فِي الظَّنِّيِّ الْمُعَارِضِ لأَِصْلٍ قَطْعِيٍّ كَرَفْعِ الْحَرَجِ، وَلاَ يَشْهَدُ لَهُ أَصْلٌ قَطْعِيٌّ.
فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى الأَْخْذِ بِالنَّصِّ وَعَدَمِ اعْتِبَارِ الْحَرَجِ، قَال ابْنُ نُجَيْمٍ فِي الأَْشْبَاهِ: الْمَشَقَّةُ وَالْحَرَجُ إِنَّمَا يُعْتَبَرَانِ فِي مَوْضِعٍ لاَ نَصَّ فِيهِ، وَأَمَّا مَعَ النَّصِّ بِخِلاَفِهِ فَلاَ، وَلِذَا قَال أَبُو حَنِيفَةَ، وَمُحَمَّدٌ: بِحُرْمَةِ رَعْيِ حَشِيشِ الْحَرَمِ وَقَطْعِهِ إِلاَّ الإِْذْخِرَ لِقَوْل النَّبِيِّ ﷺ: إِنَّ هَذَا الْبَلَدَ حَرَّمَهُ اللَّهُ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَْرْضَ. . لاَ يُعْضَدُ شَوْكُهُ، وَلاَ يُنَفَّرُ صَيْدُهُ، وَلاَ تُلْتَقَطُ لُقَطَتُهُ إِلاَّ مَنْ عَرَّفَهَا، وَلاَ يُخْتَلَى خَلاَهَا (35) .
قَال السَّرَخْسِيُّ: وَإِنَّمَا تُعْتَبَرُ الْبَلْوَى فِي مَوْضِعٍ لاَ نَصَّ فِيهِ بِخِلاَفِهِ، فَأَمَّا مَعَ وُجُودِ النَّصِّ فَلاَ يُعْتَدُّ بِهِ.
وَقَال أَبُو يُوسُفَ: لاَ بَأْسَ بِالرَّعْيِ؛ لأَِنَّ الَّذِينَ يَدْخُلُونَ الْحَرَمَ لِلْحَجِّ أَوِ الْعُمْرَةِ يَكُونُونَ عَلَى الدَّوَابِّ وَلاَ يُمْكِنُهُمْ مَنْعُ الدَّوَابِّ مِنْ رَعْيِ الْحَشِيشِ فَفِي ذَلِكَ مِنَ الْحَرَجِ مَا لاَ يَخْفَى فَيُرَخَّصُ فِيهِ لِدَفْعِ الْحَرَجِ.
وَنَقَل الشَّاطِبِيُّ عَنِ ابْنِ الْعَرَبِيِّ قَوْلَهُ: إِذَا جَاءَ خَبَرُ الْوَاحِدِ مُعَارِضًا لِقَاعِدَةٍ مِنْ قَوَاعِدِ الشَّرْعِ هَل يَجُوزُ الْعَمَل بِهِ أَمْ لاَ؟ فَقَال أَبُو حَنِيفَةَ: لاَ يَجُوزُ الْعَمَل بِهِ، وَقَال الشَّافِعِيُّ يَجُوزُ، وَتَرَدَّدَ مَالِكٌ فِي الْمَسْأَلَةِ. قَال: وَمَشْهُورُ قَوْلِهِ وَاَلَّذِي عَلَيْهِ الْمُعَوَّل أَنَّ الْحَدِيثَ إِنْ عَضَّدَتْهُ قَاعِدَةٌ أُخْرَى قَال بِهِ، وَإِنْ كَانَ وَحْدَهُ تَرَكَهُ. قَال الشَّاطِبِيُّ: وَلَقَدِ اعْتَمَدَهُ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ لِصِحَّتِهِ فِي الاِعْتِبَارِ، كَإِنْكَارِهِ لِحَدِيثِ إِكْفَاءِ الْقُدُورِ الَّتِي طُبِخَتْ مِنَ الإِْبِل وَالْغَنَمِ قَبْل قَسْمِ الْغَنِيمَةِ، تَعْوِيلاً عَلَى أَصْل رَفْعِ الْحَرَجِ الَّذِي يُعَبَّرُ عَنْهُ بِالْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ، فَأَجَازَ أَكْل الطَّعَامِ قَبْل الْقَسْمِ لِمَنِ احْتَاجَ إِلَيْهِ، وَإِلَى هَذَا الْمَعْنَى أَيْضًا يَرْجِعُ قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ خِيَارِ الْمَجْلِسِ (36) .
حَيْثُ قَال بَعْدَ ذِكْرِهِ: وَلَيْسَ لِهَذَا عِنْدَنَا حَدٌّ مَعْرُوفٌ وَلاَ أَمْرٌ مَعْمُولٌ بِهِ فِيهِ " إِشَارَةً إِلَى أَنَّ الْمَجْلِسَ مَجْهُول الْمُدَّةِ، وَلَوْ شَرَطَ أَحَدٌ الْخِيَارَ مُدَّةً مَجْهُولَةً لَبَطَل إِجْمَاعًا، فَكَيْفَ يَثْبُتُ بِالشَّرْعِ حُكْمٌ لاَ يَجُوزُ شَرْطًا بِالشَّرْعِ؟ فَقَدْ رَجَعَ إِلَى أَصْلٍ إِجْمَاعِيٍّ، وَأَيْضًا فَإِنَّ قَاعِدَةَ الضَّرَرِ وَالْجَهَالَةِ قَطْعِيَّةٌ، وَهِيَ تُعَارِضُ هَذَا الْحَدِيثَ الظَّنِّيَّ (37) .
قَوَاعِدُ الأَْدِلَّةِ الأُْصُولِيَّةِ وَالْقَوَاعِدُ الْفِقْهِيَّةُ الْمُرَاعَى فِيهَا رَفْعُ الْحَرَجِ:
13 - لَمَّا كَانَ رَفْعُ الْحَرَجِ مَقْصِدًا مِنْ مَقَاصِدِ الشَّرِيعَةِ، وَأَصْلاً مِنْ أُصُولِهَا، فَقَدْ ظَهَرَ فِي كَثِيرٍ مِنَ الأَْدِلَّةِ الأُْصُولِيَّةِ وَالْقَوَاعِدِ الْفِقْهِيَّةِ.
فَمِنَ الأَْدِلَّةِ الأُْصُولِيَّةِ الْمُرَاعَى فِيهَا رَفْعُ الْحَرَجِ الْمَصَالِحُ الْمُرْسَلَةُ. قَال الشَّاطِبِيُّ: إِنَّ حَاصِل الْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ يَرْجِعُ إِلَى حِفْظِ أَمْرٍ ضَرُورِيٍّ، وَرَفْعِ حَرَجٍ لاَزِمٍ فِي الدِّينِ (38) .
وَكَذَا الاِسْتِحْسَانُ، قَال السَّرْخَسِيُّ: كَانَ شَيْخُنَا الإِْمَامُ يَقُول: الاِسْتِحْسَانُ تَرْكُ الْقِيَاسِ وَالأَْخْذُ بِمَا هُوَ أَوْفَقُ لِلنَّاسِ، وَقِيل: الاِسْتِحْسَانُ طَلَبُ السُّهُولَةِ فِي الأَْحْكَامِ فِيمَا يُبْتَلَى فِيهِ الْخَاصُّ وَالْعَامُّ، وَقِيل: الأَْخْذُ بِالسِّعَةِ وَابْتِغَاءُ الدَّعَةِ، ثُمَّ قَال: وَحَاصِل هَذِهِ الْعِبَارَاتِ أَنَّهُ تَرْكُ الْعُسْرِ لِلْيُسْرِ، وَهُوَ أَصْلٌ فِي الدِّينِ قَال اللَّهُ تَعَالَى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} (39) . وَقَال ﷺ لِعَلِيٍّ وَمُعَاذٍ ﵄ حِينَ وَجَّهَهُمَا إِلَى الْيَمَنِ: يَسِّرَا وَلاَ تُعَسِّرَا، وَبَشِّرَا وَلاَ تُنَفِّرَا (40) .
وَمِنَ الْقَوَاعِدِ الْفِقْهِيَّةِ فِي ذَلِكَ قَاعِدَةُ: الْمَشَقَّةُ تَجْلُبُ التَّيْسِيرَ. وَقَال الْعُلَمَاءُ: يَتَخَرَّجُ عَلَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ جَمِيعُ رُخَصِ الشَّرْعِ وَتَخْفِيفَاتِهِ. وَبِمَعْنَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ قَوْل الشَّافِعِيِّ: إِذَا ضَاقَ الأَْمْرُ اتَّسَعَ. قَال ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ: وُضِعَتِ الأَْشْيَاءُ فِي الأُْصُول عَلَى أَنَّهَا إِذَا ضَاقَتِ اتَّسَعَتْ، وَإِذَا اتَّسَعَتْ ضَاقَتْ.
وَيَنْدَرِجُ تَحْتَ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ الرُّخَصُ، وَهِيَ مَشْرُوعَةٌ لِدَفْعِ الْحَرَجِ وَنَفْيِهِ عَنِ الأُْمَّةِ. وَكَذَا قَاعِدَةُ الضَّرَرُ يُزَال، وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهَذِهِ الْقَاعِدَةِ مِنْ قَوَاعِدَ، كَالضَّرُورَاتِ تُبِيحُ الْمَحْظُورَاتِ وَالْحَاجَةُ تَنْزِل مَنْزِلَةَ الضَّرُورَةِ.
وَمِنَ الأُْمُورِ الَّتِي تَنْفِي الْحَرَجَ النَّفْسِيَّ لَدَى الْمُذْنِبِ التَّوْبَةُ، وَالإِْسْلاَمُ يَجُبُّ مَا قَبْلَهُ، وَالْكَفَّارَاتُ بِأَنْوَاعِهَا الْمُخْتَلِفَةِ، قَال ابْنُ عَبَّاسٍ ﵄ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَمَا جَعَل عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (41) إِنَّمَا ذَلِكَ سِعَةُ الإِْسْلاَمِ مَا جَعَل اللَّهُ مِنَ التَّوْبَةِ وَالْكَفَّارَاتِ (42) .
__________
(1) حديث: " رفع القلم عن ثلاثة. . . . " أخرجه أبو داود (4 / 558 - تحقيق عزت عبيد دعاس) ، والحاكم (2 / 59 - ط دائرة المعارف العثمانية) من حديث عائشة، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.
(2) لسان العرب والقاموس المحيط والمصباح المنير ولسان العرب، مادة: (رفع) .
(3) الكليات 2 / 388 منشورات وزارة الثقافة والإرشاد القومي - دمشق 1975 م، المغرب 193 دار الكتاب العربي.
(4) الموافقات للشاطبي تعليق الشيخ عبد الله دراز 2 / 159 المكتبة التجارية 1955م
(5) فواتح الرحموت 1 / 156 دار صادر، الأشباه والنظائر لابن نجيم 80، أحكام القرآن لابن العربي 2 / 302 دار الكتاب العربي.
(6) حديث: " إن الدين يسر. . . . " أخرجه البخاري (الفتح 1 / 93 - ط السلفية) من حديث أبي هريرة.
(7) سورة الليل / 7.
(8) سورة الليل / 10.
(9) لسان العرب، والمصباح المنير مادة: (رخص) .
(10) المستصفى 1 / 98 دار صادر.
(11) لسان العرب والمصباح المنير مادة: (ضرر) .
(12) سورة الحج: 78
(13) سورة البقرة / 286.
(14) سورة المائدة / 6.
(15) سورة البقرة / 185.
(16) سورة النساء / 28.
(17) حديث: " بعثت بالحنيفية السمحة " أخرجه ابن سعد في الطبقات (1 / 192 - ط دار صادر) من حديث حبيب بن أبي ثابت مرسلاً.
(18) حديث: " ما خير رسول الله ﷺ بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثمًا " أخرجه البخاري (الفتح 12 / 86 - ط السلفية) ، ومسلم (4 / 1813 - ط الحلبي) .
(19) الموافقات 1 / 340 المكتبة التجارية الكبرى 1955 م، مسلم الثبوت 1 / 168 دار صادر بذيل المستصفى.
(20) الموافقات 1 / 333، 334 وما بعدها المكتبة التجارية الكبرى.
(21) الأشباه والنظائر للسيوطي ص 77 دار الكتب العلمية 1983 م.
(22) حديث عبد الله بن عمرو قال: " كنت أصوم الدهر " أخرجه مسلم (2 / 813 - 814 - ط الحلبي) .
(23) الاعتصام للشاطبي 1 / 244، 249، 255 المكتبة التجارية الكبرى 1955 م
(24) الموافقات للشاطبي 2 / 159 وما بعدها، وأحكام القرآن لابن العربي 3 / 310.
(25) الموافقات للشاطبي 2 / 159 وما بعدها، وأحكام القرآن لابن العربي 3 / 310.
(26) الموافقات 1 / 333 وما بعدها.
(27) الأشباه والنظائر لابن نجيم 83
(28) الأشباه والنظائر لابن نجيم 83
(29) أحكام القرآن لابن العربي 3 / 310.
(30) أحكام القرآن لابن العربي 3 / 310.
(31) الموافقات 2 / 159 وما بعدها.
(32) تيسير التحرير 2 / 253 مصطفى البابي الحلبي 1350 هـ، مسلم الثبوت 1 / 169 دار صادر.
(33) الأشباه والنظائر لابن نجيم 69، 80 دار مكتبة الهلال 1980 م، الأشباه والنظائر للسيوطي 78، 79 دار الكتب العلمية 1983 م الطبعة الأولى.
(34) الموافقات 3 / 15، 16 المكتبة التجارية الكبرى بتعليق الشيخ عبد الله دراز.
(35) حديث: " إن هذا البلد حرمه الله. . . . . . . " أخرجه البخاري (الفتح 4 / 46 - 47 - ط السلفية) ومسلم (2 / 986 - 987 - ط الحلبي) من حديث ابن عباس واللفظ لمسلم.
(36) حديث خيار المجلس نصه: " البيعان بالخيار ما لم يتفرقا " أخرجه البخاري (الفتح 4 / 328 - ط السلفية) ، ومسلم (3 / 1164 - ط الحلبي) من حديث حكيم بن حزام.
(37) الموافقات 3 / 17 وما بعدها، المبسوط للسرخسي 4 / 105 دار المعرفة الطبعة الثانية، الأشباه والنظائر لابن نجيم 83 دار مكتبة الهلال 1980 م
(38) الاعتصام 2 / 114 المكتبة التجارية.
(39) سورة البقرة / 185.
(40) حديث: " يسرا ولا تعسرا وبشرا ولا تنفرا " أخرجه البخاري (الفتح 10 / 524 - ط السلفية) ، ومسلم (3 / 1359 - ط الحلبي) من حديث أبي موسى الأشعري.
(41) سورة الحج / 78.
(42) المبسوط 10 / 145، الأشباه والنظائر للسيوطي 76 وما بعدها و 83 وما بعدها، دار الكتب العلمية 1983 م، والأشباه والنظائر لابن نجيم 75 و 85 وما بعدها، دار الهلال 1980 م. والموافقات 2 / 158 المكتبة التجارية الكبرى.
الموسوعة الفقهية الكويتية: 282/ 22