المتعالي
كلمة المتعالي في اللغة اسم فاعل من الفعل (تعالى)، واسم الله...
صفةٌ فعليَّةٌ لله -عزَّ وجلَّ - ثابتةٌ له بالكتاب، والسنة، ومعناها الصّفح عن الذنوب، قال تعالى :ﭽﭻﭼﭽﭾﭿ﴾ﭼ التوبة : ٤٣ ، وفي حديث عائشة رضي الله عنها: "اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك ." مسلم :486، والْعَفُوُّ الذي لم يزل، ولا يزال بالعفو معروفاً .
السَّمَاحُ وَالصَّفْحُ وَعَدَمُ المُعَاقَبَةِ، يُقَالُ: عَفَا عَنِ الجَانِي يَعْفُو عَفْوًا فَهُوَ عَافٍ إِذَا سَامَحَهُ وَلَمْ يُعَاقِبْهُ، وَكُلُّ مَنِ اسْتَحَقَّ عُقُوبَةً فَلَمْ تُعاقِبْهُ فَقَدْ عَفَوْتَ عَنْهُ، وَالمَعْفُوَّاتُ: الأَشْيَاءُ التِّي لا يُعَاقَبُ عَلَيْهَا، وَأَصْلُ العَفْوِ: التَّرْكُ وَالإِسْقَاطُ، تَقُولُ: عَفَا ظَهْرُ البَعِيرِ عَفْوًا وَإِعْفَاءً إِذَا تُرِكَ لَا يُرْكَبُ، وَيَأْتِي العَفْوُ بِمَعْنَى: المَحْوُ وَالطَّمْسُ، كَقَوْلِهِمْ: عَفَتْ الرِّيحُ آثَارَهُمْ أَيْ مَحَتْهَا وَطَمَسْتْهَا، وَمِنْ مَعَانِي العَفْوِ أَيْضًا: الكَثْرَةُ، تَقُولُ: عَفَا الشَّعْرُ إِذَا كَثُرَ، وَالعَفَاءُ: مَا كَثُرَ وَطَالَ، وَسُمِّيَ السَّمَاحُ وَالصَّفْحُ عَفْوًا؛ لِإِسْقَاطِ العُقُوبَةِ عَلَى صَاحِبِهِ وَمَحْوِهَا عَنْهُ.
يَذْكُرُ الفُقَهَاءُ مُصْطَلَحَ (العَفْوِ) فِي مَوَاطِنَ مُخْتَلِفَةٍ مِنْهَا: كِتَابُ النِّكَاحِ فِي بَابِ الصَّدَاقِ، وَكِتَابُ القَرْضِ فِي بَابِ أَحْكَامِ القَرْضِ، وَكِتَابُ الحُدُودِ فِي بَابِ إِقَامَةِ الحُدُودِ، وَغَيْرِهَا. وَيُسْتَعْمَلُ العَفْوُ أَيْضًا فِي مَوَاطِنَ أُخْرَى بِمَعْنَى: (إِسْقَاطُ حُكْمِ الشَّيْءِ عَنِ المُكَلَّفِ وَعَدَمُ المُؤَاخَذَةِ عَلَيْهِ لِوُجُودِ سَبَبٍ أَوْ عُذْرٍ كَالعَفْوِ عَنِ النَّاسِي وَالمُخْطِئِ وَنَحْوِ ذَلِكَ)، مِنْ ذَلِكَ: كِتَابُ الطَّهَارَةِ فِي بَابِ النَّجَاساتِ، وَكِتَابُ الصَّوْمِ فِي بَابِ المُفَطِّراتِ، وَغَيْرِهَا. وَيُطْلَقُ فِي العَقِيدَةِ فِي بَابِ الصِّفاتِ وَيُرادُ بِهِ: صِفَةٌ مِنْ صِفَاتِ اللهِ تَعَالَى، وَمَعْنَاهَا: مَحْوُ السَّيِّئَاتِ وَالتَّجَاوُزُ عَنِ المَعَاصِي. وَيُطلَقُ في أصولِ الفقهِ بمعنى: ما سكت الشَّارع عنه، وهو عندَ الجمهورِ من ألقابِ الإباحةِ.
عفو
التَّجَاوُزُ عَنِ الذَّنْبِ وَإِسْقَاطُ العِقَابِ عَلَيْهِ.
السَّمَاحُ وَالصَّفْحُ وَعَدَمُ المُعَاقَبَةِ، وَأَصْلُ العَفْوِ: التَّرْكُ وَالإِسْقَاطُ، وَمِنْ مَعَانِي العَفْوِ أَيْضًا: المَحْوُ وَالطَّمْسُ وَالكَثْرَةُ، وَسُمِّيَ السَّمَاحُ وَالصَّفْحُ عَفْوًا؛ لِإِسْقَاطِ العُقُوبَةِ عَلَى صَاحِبِها وَمَحْوِهَا عَنْهُ.
الإسْقَاط، والتَّجَاوُز، والمسامحة.
* الصحاح : 2433/6 - معجم مقاييس اللغة : 56/4 - تاج العروس : 68/39 - الصحاح : 2433/6 - التوقيف على مهمات التعاريف : ص243 - الكليات : ص53 - الذريعة إلى مكارم الشريعة : 241/1 - الفروق اللغوية : ص362 - الذخيرة للقرافـي : 196/1 -
التَّعْرِيفُ:
1 - مِنْ مَعَانِي الْعَفْوِ فِي اللُّغَةِ الإِْسْقَاطُ، قَال تَعَالَى: {وَاعْفُ عَنَّا} (1) ، وَالْكَثْرَةُ، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {حَتَّى عَفَوْا} (2) . أَيْ: كَثُرُوا، وَالذَّهَابُ وَالطَّمْسُ وَالْمَحْوُ، وَمِنْهُ قَوْل لَبِيدٍ: عَفَتِ الدِّيَارُ، وَالإِْعْطَاءُ، قَال ابْنُ الأَْعْرَابِيِّ: عَفَا يَعْفُو: إِذَا أَعْطَى، وَقِيل: الْعَفْوُ مَا أَتَى بِغَيْرِ مَسْأَلَةٍ.
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: يَسْتَعْمِل الْفُقَهَاءُ الْعَفْوَ غَالِبًا بِمَعْنَى الإِْسْقَاطِ وَالتَّجَاوُزِ
(3) الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الصَّفْحُ:
2 - الصَّفْحُ تَرْكُ الْمُؤَاخَذَةِ، وَأَصْلُهُ: الإِْعْرَاضُ بِصَفْحَةِ الْوَجْهِ عَنِ التَّلَفُّتِ إِلَى مَا كَانَ مِنْهُ، قَال تَعَالَى: {فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيل} (4) . قَال الرَّاغِبُ: وَالصَّفْحُ أَبْلَغُ مِنَ الْعَفْوِ وَلِذَلِكَ قَال تَعَالَى: {فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} (5) وَقَدْ يَعْفُو الإِْنْسَانُ وَلاَ يَصْفَحُ (6) .
ب - الْمَغْفِرَةُ:
3 - الْمَغْفِرَةُ مِنَ الْغَفْرِ مَصْدَرُ غَفَرَ، وَأَصْلُهُ السَّتْرُ، وَمِنْهُ يُقَال: الصَّبْغُ أَغْفَرُ لِلْوَسَخِ، أَيْ أَسْتَرُ.
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: أَنْ يَسْتُرَ الْقَادِرُ الْقَبِيحَ الصَّادِرَ مِمَّنْ هُوَ تَحْتَ قُدْرَتِهِ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْعَفْوِ وَالْمَغْفِرَةِ أَنَّ الْعَفْوَ يَقْتَضِي إِسْقَاطَ اللَّوْمِ وَالذَّمِّ وَلاَ يَقْتَضِي إِيجَابَ الثَّوَابِ، وَالْمَغْفِرَةَ تَقْتَضِي إِسْقَاطَ الْعِقَابِ وَهُوَ: إِيجَابُ الثَّوَابِ، فَلاَ يَسْتَحِقُّهَا إِلاَّ الْمُؤْمِنُ الْمُسْتَحِقُّ لِلثَّوَابِ (7)
ج - الإِْسْقَاطُ:
4 - الإِْسْقَاطُ: هُوَ إِزَالَةُ الْمِلْكِ أَوِ الْحَقِّ لاَ إِلَى مَالِكٍ.
وَالْعَفْوُ عَلَى إِطْلاَقِهِ أَعَمُّ مِنَ الإِْسْقَاطِ لِتَعَدُّدِ اسْتِعْمَالاَتِهِ (8) د - الصُّلْحُ:
5 - الصُّلْحُ عَقْدٌ يَرْفَعُ النِّزَاعَ (9)
وَالْعَلاَقَةُ بَيْنَ الْعَفْوِ وَالصُّلْحِ الْعُمُومُ وَالْخُصُوصُ، فَالصُّلْحُ أَعَمُّ مِنَ الْعَفْوِ.
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
6 - يَخْتَلِفُ الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ لِلْعَفْوِ بِاخْتِلاَفِ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْحَقُّ، فَإِنْ كَانَ الْحَقُّ خَالِصًا لِلْعَبْدِ فَإِنَّهُ يُسْتَحَبُّ الْعَفْوُ عَنْهُ، وَإِنْ كَانَ حَقًّا لِلَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كَالْحُدُودِ مَثَلاً، فَإِنَّهُ لاَ يَجُوزُ الْعَفْوُ عَنْهُ بَعْدَ رَفْعِ الأَْمْرِ إِلَى الْحَاكِمِ.
وَإِنْ كَانَ الْحَقُّ لِلَّهِ تَعَالَى فِي غَيْرِ الْحُدُودِ فَإِنَّهُ يَقْبَل الْعَفْوَ فِي الْجُمْلَةِ لِلأَْسْبَابِ الَّتِي يَعْتَبِرُهَا الشَّارِعُ مُؤَدِّيَةً إِلَى ذَلِكَ تَفَضُّلاً مِنْهُ وَرَحْمَةً وَرَفْعًا لِلْحَرَجِ
وَلِلتَّفْصِيل انْظُرْ مُصْطَلَحَ: (إِسْقَاط ف 39 وَمَا بَعْدَهَا) .
الْعَفْوُ فِي الْعِبَادَاتِ:
أَوَّلاً - الْعَفْوُ عَنْ بَعْضِ النَّجَاسَاتِ:
7 - اخْتَلَفَتْ آرَاءُ الْفُقَهَاءِ فِيمَا يُعْفَى عَنْهُ مِنَ النَّجَاسَاتِ، كَمَا اخْتَلَفَتْ آرَاؤُهُمْ فِي التَّقْدِيرَاتِ الَّتِي تُعْتَبَرُ فِي الْعَفْوِ. فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى التَّفْرِقَةِ بَيْنَ النَّجَاسَةِ الْمُخَفَّفَةِ وَالنَّجَاسَةِ الْمُغَلَّظَةِ (10) وَقَالُوا: إِنَّهُ يُعْفَى عَنِ الْمُغَلَّظَةِ إِذَا أَصَابَتِ الثَّوْبَ أَوِ الْبَدَنَ بِشَرْطِ أَنْ لاَ تَزِيدَ عَنِ الدِّرْهَمِ، قَال الْمَرْغِينَانِيُّ: وَقَدْرُ الدِّرْهَمِ وَمَا دُونَهُ مِنَ النَّجَسِ الْمُغَلَّظِ كَالدَّمِ وَالْبَوْل وَالْخَمْرِ وَخُرْءِ الدَّجَاجِ وَبَوْل الْحِمَارِ، جَازَتِ الصَّلاَةُ مَعَهُ (11) .
أَمَّا النَّجَاسَةُ الْمُخَفَّفَةُ فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي الْقَدْرِ الَّذِي يُعْفَى عَنْهُ مِنْهَا عَلَى رِوَايَاتٍ: قَال الْمَرْغِينَانِيُّ: إِنْ كَانَتْ كَبَوْل مَا يُؤْكَل لَحْمُهُ جَازَتِ الصَّلاَةُ مَعَهَا حَتَّى يَبْلُغَ رُبُعَ الثَّوْبِ (12) .
وَقَال الْكَاسَانِيُّ: حَدُّ الْكَثِيرِ الَّذِي لاَ يُعْفَى عَنْهُ مِنَ النَّجَاسَةِ الْخَفِيفَةِ هُوَ: الْكَثِيرُ الْفَاحِشُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ (13) .
وَفَرَّقَ الْمَالِكِيَّةُ بَيْنَ الدَّمِ - وَمَا مَعَهُ مِنْ قَيْحٍ وَصَدِيدٍ - وَسَائِرِ النَّجَاسَاتِ، فَيَقُولُونَ بِالْعَفْوِ عَنْ قَدْرِ دِرْهَمٍ مِنْ دَمٍ وَقَيْحٍ وَصَدِيدٍ، وَالْمُرَادُ بِالدِّرْهَمِ الدِّرْهَمُ الْبَغْلِيُّ وَهُوَ الدَّائِرَةُ السَّوْدَاءُ الْكَائِنَةُ فِي ذِرَاعِ الْبَغْل، قَال الصَّاوِيُّ: إِنَّمَا اخْتَصَّ الْعَفْوُ بِالدَّمِ وَمَا مَعَهُ؛ لأَِنَّ الإِْنْسَانَ لاَ يَخْلُو عَنْهُ، فَالاِحْتِرَازُ عَنْ يَسِيرِهِ عَسِرٌ دُونَ غَيْرِهِ مِنَ النَّجَاسَاتِ كَالْبَوْل وَالْغَائِطِ وَالْمَنِيِّ وَالْمَذْيِ (14) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى الْعَفْوِ عَنِ الْيَسِيرِ مِنَ الدَّمِ وَالْقَيْحِ وَمَا يَعْسُرُ الاِحْتِرَازُ عَنْهُ وَتَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى، كَدَمِ الْقُرُوحِ وَالدَّمَامِل وَالْبَرَاغِيثِ وَمَا لاَ يُدْرِكُهُ الطَّرْفُ، وَمَا لاَ نَفْسَ لَهُ سَائِلَةً، وَغَيْرُ ذَلِكَ، وَالضَّابِطُ فِي الْيَسِيرِ وَالْكَثِيرِ الْعُرْفُ (15) .
وَأَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَقَدْ صَرَّحُوا بِأَنَّهُ لاَ يُعْفَى عَنْ يَسِيرِ نَجَاسَةٍ وَلَوْ لَمْ يُدْرِكْهَا الطَّرْفُ كَالَّذِي يَعْلَقُ بِأَرْجُل ذُبَابٍ وَنَحْوِهِ، وَإِنَّمَا يُعْفَى عَنْ يَسِيرِ الدَّمِ وَمَا يَتَوَلَّدُ مِنْهُ مِنَ الْقَيْحِ وَالصَّدِيدِ إِلاَّ دَمَ الْحَيَوَانَاتِ النَّجِسَةِ فَلاَ يُعْفَى عَنْ يَسِيرِ دَمِهَا كَسَائِرِ فَضَلاَتِهَا، وَلاَ يُعْفَى عَنِ الدِّمَاءِ الَّتِي تَخْرُجُ مِنَ الْقُبُل وَالدُّبُرِ؛ لأَِنَّهَا فِي حُكْمِ الْبَوْل أَوِ الْغَائِطِ.
وَظَاهِرُ مَذْهَبِ أَحْمَدَ أَنَّ الْيَسِيرَ مَا لاَ يَفْحُشُ فِي الْقَلْبِ (16)
. وَمِمَّا بَحَثَهُ الْفُقَهَاءُ فِي الْعَفْوِ عَنِ النَّجَاسَاتِ: أ - الْعَفْوُ عَنْ يَسِيرِ الدَّمِ:
8 - يَرَى أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ الْعَفْوَ عَنْ يَسِيرِ الدَّمِ فِي الْجُمْلَةِ (17) .
وَيُقَيِّدُ الشَّافِعِيَّةُ الْعَفْوَ عَنْ يَسِيرِ الدَّمِ بِقُيُودٍ عَبَّرَ عَنْهَا الْبَيْجُورِيُّ بِقَوْلِهِ: خَرَجَ بِالْيَسِيرِ الْكَثِيرُ، فَإِنْ كَانَ مِنَ الشَّخْصِ نَفْسِهِ وَلَمْ يَكُنْ بِفِعْلِهِ وَلَمْ يَخْتَلِطْ بِأَجْنَبِيٍّ وَلَمْ يُجَاوِزْ مَحَلَّهُ، عُفِيَ عَنْهُ وَإِلاَّ فَلاَ، (18) وَمَحَل الْعَفْوِ عَنْ يَسِيرِ الدَّمِ فِي الثَّوْبِ عِنْدَهُمْ إِنِ احْتَاجَ إِلَيْهِ الإِْنْسَانُ وَلَوْ لِلتَّجَمُّل وَكَانَ مَلْبُوسًا، بِخِلاَفِ مَا لَوْ لَمْ يَحْتَجْ إِلَيْهِ وَمَا لَوْ فَرَشَهُ وَصَلَّى عَلَيْهِ أَوْ حَمَلَهُ وَصَلَّى بِهِ فَلاَ يُعْفَى عَنْهُ (19) .
وَقَال الْحَطَّابُ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: قَدِ اخْتُلِفَ فِي الْيَسِيرِ الْمَذْكُورِ، هَل يُغْتَفَرُ مُطْلَقًا عَلَى جَمِيعِ الْوُجُوهِ حَتَّى يَصِيرَ كَالْمَائِعِ الطَّاهِرِ أَوِ اغْتِفَارُهُ مَقْصُورٌ عَلَى الصَّلاَةِ فَلاَ يَقْطَعُهَا لأَِجْلِهِ إِذَا ذَكَرَهُ فِيهَا وَلاَ يُعِيدُهَا، وَأَمَّا قَبْل الصَّلاَةِ فَيُؤْمَرُ بِغَسْلِهِ عَلَى جِهَةِ النَّدْبِ، قَالَهُ فِي التَّوْضِيحِ، وَالأَْوَّل مَذْهَبُ الْعِرَاقِيِّينَ. قَال ابْنُ عَبْدِ السَّلاَمِ: وَهُوَ الأَْظْهَرُ كَغَيْرِهِ مِنَ النَّجَاسَاتِ الْمَعْفُوِّ عَنْهَا، وَالثَّانِي عَزَاهُ ابْنُ عَبْدِ السَّلاَمِ وَالْمُصَنِّفُ لِلْمُدَوَّنَةِ، وَعَزَاهُ صَاحِبُ الطِّرَازِ وَابْنُ عَرَفَةَ نَاقِلاً عَنِ الْمَازِرِيِّ لاِبْنِ حَبِيبٍ كَذَلِكَ ابْنُ نَاجِي، قَال صَاحِبُ الطِّرَازِ: هُوَ خِلاَفُ ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ (20) ، وَصَرَّحَ ابْنُ وَهْبٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ بِأَنَّ قَلِيل دَمِ الْحَيْضِ وَكَثِيرَهُ نَجِسٌ (21) .
وَأَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَقَدْ قَيَّدُوا الْعَفْوَ عَنْ يَسِيرِ الدَّمِ بِأَنْ يَكُونَ مِنْ حَيَوَانٍ طَاهِرٍ فِي الْحَيَاةِ، آدَمِيًّا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ، يُؤْكَل كَالإِْبِل وَالْبَقَرِ أَوْ لاَ كَالْهِرِّ، بِخِلاَفِ الْحَيَوَانِ النَّجِسِ كَالْكَلْبِ وَالْبَغْل وَالْحِمَارِ فَلاَ يُعْفَى عَنْ شَيْءٍ مِمَّا ذُكِرَ مِنْهُ، وَلاَ يُعْفِي عَنْ يَسِيرِ الدَّمِ الْخَارِجِ مِنَ السَّبِيلَيْنِ عَلَى الْوَجْهِ الصَّحِيحِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ. وَفِي الْوَجْهِ الثَّانِي يُعْفَى عَنْ يَسِيرِهِ (22) . كَمَا يُعْفَى عَنْ يَسِيرِ دَمِ الْحَيْضِ وَكَذَا دَمُ النِّفَاسِ عَلَى الْوَجْهِ الصَّحِيحِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَفِي الْوَجْهِ الثَّانِي لاَ يُعْفَى عَنْ يَسِيرِهِ (23) .
وَقَال الْحَسَنُ: كَثِيرُ الدَّمِ وَقَلِيلُهُ سَوَاءٌ. وَنَحْوُهُ عَنْ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ؛ لأَِنَّهُ نَجَاسَةٌ فَأَشْبَهَ الْبَوْل. وَحُكْمُ الْقَيْحِ وَالصَّدِيدِ حُكْمُ الدَّمِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ (24) . ب - الْعَفْوُ عَنْ طِينِ الشَّوَارِعِ:
9 - يَرَى الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ الْعَفْوَ عَنْ يَسِيرِ طِينِ الشَّارِعِ النَّجِسِ لِعُسْرِ تَجَنُّبِهِ، قَال الزَّرْكَشِيُّ تَعْلِيقًا عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيَّةِ فِي الْمَوْضُوعِ: وَقَضِيَّةُ إِطْلاَقِهِمُ الْعَفْوَ عَنْهُ وَلَوِ اخْتَلَطَ بِنَجَاسَةِ كَلْبٍ أَوْ نَحْوِهِ - وَهُوَ الْمُتَّجِهُ لاَ سِيَّمَا فِي مَوْضِعٍ يَكْثُرُ فِيهِ الْكِلاَبُ - لأَِنَّ الشَّوَارِعَ مَعْدِنُ النَّجَاسَاتِ (25) .
وَمَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ قَرِيبٌ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إِذْ قَالُوا: إِنَّ طِينَ الشَّوَارِعِ الَّذِي فِيهِ نَجَاسَةٌ عَفْوٌ إِلاَّ إِذَا عُلِمَ عَيْنُ النَّجَاسَةِ (26) ، وَالاِحْتِيَاطُ فِي الصَّلاَةِ غَسْلُهُ (27) .
وَيَقُول الْمَالِكِيَّةُ: الأَْحْوَال أَرْبَعَةٌ: الأُْولَى وَالثَّانِيَةُ: كَوْنُ الطِّينِ أَكْثَرَ مِنَ النَّجَاسَةِ أَوْ مُسَاوِيًا لَهَا تَحْقِيقًا أَوْ ظَنًّا، وَلاَ إِشْكَال فِي الْعَفْوِ فِيهِمَا، وَالثَّالِثَةُ: غَلَبَةُ النَّجَاسَةِ عَلَى الطِّينِ تَحْقِيقًا أَوْ ظَنًّا، وَهُوَ مَعْفُوٌّ عَنْهُ عَلَى ظَاهِرِ الْمُدَوَّنَةِ، وَيَجِبُ غَسْلُهُ عَلَى مَا مَشَى عَلَيْهِ الدَّرْدِيرُ تَبَعًا لاِبْنِ أَبِي زَيْدٍ. وَالرَّابِعَةُ: أَنْ تَكُونَ عَيْنُهَا قَائِمَةً وَهِيَ لاَ عَفْوَ فِيهَا اتِّفَاقًا (28)
ج - الْعَفْوُ عَنْ مَا لاَ يُدْرِكُهُ الطَّرْفُ مِنَ النَّجَاسَاتِ:
10 - يَرَى الشَّافِعِيَّةُ أَنَّهُ يُعْفَى عَنِ النَّجَاسَةِ الَّتِي لاَ يُدْرِكُهَا الطَّرْفُ (29) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: لاَ يُعْفَى عَنْ يَسِيرِ نَجَاسَةٍ وَلَوْ لَمْ يُدْرِكْهَا الطَّرْفُ كَالَّذِي يَعْلَقُ بِأَرْجُل ذُبَابٍ (30) وَنَحْوِهِ؛ لِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} (31)
د - الْعَفْوُ عَنْ دَمِ مَا لاَ نَفْسَ لَهُ سَائِلَةً:
11 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ دَمَ الْبَرَاغِيثِ وَالْبَقِّ وَالْقَمْل وَنَحْوِهَا مِنْ كُل مَا لاَ نَفْسَ لَهُ سَائِلَةً طَاهِرٌ (32) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: دَمُ الْبَرَاغِيثِ يُعْفَى عَنْ قَلِيلِهِ فِي الثَّوْبِ وَالْبَدَنِ، وَفِي كَثِيرِهِ وَجْهَانِ: أَصَحُّهُمَا الْعَفْوُ، وَيَجْرِي الْوَجْهَانِ فِي دَمِ الْقَمْل وَالْبَعُوضِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ (33) . وَفِي ذَلِكَ كُلِّهِ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (نَجَاسَة)
ثَانِيًا - الْعَفْوُ فِي الزَّكَاةِ:
12 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا بَيْنَ النِّصَابَيْنِ مِنَ الأَْنْعَامِ هَل فِيهِ زَكَاةٌ أَمْ لاَ؟
فَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَمَالِكٌ فِي الصَّحِيحِ، وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْصَحِّ عِنْدَهُمْ وَأَحْمَدُ إِلَى أَنَّ الْفَرْضَ فِي النِّصَابِ فَقَطْ، وَمَا بَيْنَهُمَا مِنَ الأَْوْقَاصِ عَفْوٌ (34) .
وَذَهَبَ مُحَمَّدٌ وَزُفَرُ وَمَالِكٌ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْهُ، وَالْبُوَيْطِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ إِلَى أَنَّ الْفَرْضَ يَتَعَلَّقُ بِالْجَمِيعِ.
(35) أَمَّا مَا عَدَا ذَلِكَ مِنَ الأَْمْوَال الزَّكَوِيَّةِ فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَصَاحِبَا أَبِي حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّ الْعَفْوَ يَخْتَصُّ فِي زَكَاةِ السَّائِمَةِ، بِخِلاَفِ غَيْرِهَا مِنْ أَمْوَال الزَّكَاةِ كَالنَّقْدَيْنِ وَالزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ، فَإِنَّهُ يَجِبُ فِيمَا زَادَ عَلَى النِّصَابِ بِحِسَابِهِ (36) .
وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ وَزُفَرُ: إِنَّ الْعَفْوَ يَجْرِي فِي كُل الأَْحْوَال حَتَّى فِي النَّقْدَيْنِ، وَمَا زَادَ عَلَى مِائَتَيْ دِرْهَمٍ عَفْوٌ مَا لَمْ يَبْلُغْ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا فَفِيهَا دِرْهَمٌ آخَرُ (37) .
وَالتَّفْصِيل فِي: (أَوْقَاص ف 4 وَمَا بَعْدَهَا) وَفِي: (زَكَاة ف 72)
ثَالِثًا - الْعَفْوُ فِي الصِّيَامِ:
13 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ لَوْ وَصَل جَوْفَ الصَّائِمِ ذُبَابٌ أَوْ غُبَارُ الطَّرِيقِ، أَوْ غَرْبَلَةُ الدَّقِيقِ، أَوْ مَا تَبَقَّى بَيْنَ الأَْسْنَانِ مِنْ طَعَامٍ، فَجَرَى بِهِ رِيقُهُ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ وَعَجَزَ عَنْ تَمْيِيزِهِ وَمَجِّهِ - لَمْ يُفْطِرْ فِي كُل ذَلِكَ؛ لأَِنَّ التَّحَرُّزَ عَنْ ذَلِكَ مِمَّا يَعْسُرُ (38) .
وَكَذَا لَوْ دَمِيَتْ لِثَتُهُ وَلَمْ يَجِدْ مَاءً وَشَقَّ عَلَيْهِ الْبَصْقُ عُفِيَ عَنْ أَثَرِهِ، وَقَال الأَْذْرَعِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: لاَ يَبْعُدُ أَنْ يُقَال فِيمَنْ عَمَّتْ بَلْوَاهُ بِذَلِكَ بِحَيْثُ يَجْرِي دَائِمًا أَوْ غَالِبًا، أَنْ يُسَامَحَ بِمَا يَشُقُّ الاِحْتِرَازُ مِنْهُ فَيَكْفِي بَصْقُهُ الدَّمَ وَيُعْفَى عَنْ أَثَرِهِ (39) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (صَوْم ف 76 وَمَا بَعْدَهَا) رَابِعًا - الْعَفْوُ فِي الْحَجِّ:
14 - قَال الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: إِنْ لَبِسَ الْمُحْرِمُ الْمَخِيطَ أَوْ تَطَيَّبَ أَوْ غَطَّى رَأْسَهُ نَاسِيًا أَوْ جَاهِلاً أَوْ مُكْرَهًا فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ، لِقَوْلِهِ ﷺ: إِنَّ اللَّهَ وَضَعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ. (40)
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ بِوُجُوبِ الْجَزَاءِ عَلَى مَنْ فَعَل شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ نَاسِيًا أَوْ جَاهِلاً أَوْ مُكْرَهًا.
وَفَصَّل الْحَنَفِيَّةُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الطِّيبُ كَثِيرًا أَوْ قَلِيلاً (41) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (تَطَيُّب ف 12 وَ 15)
الْعَفْوُ فِي الْمُعَامَلاَتِ:
أَوَّلاً - الْعَفْوُ عَنِ الشُّفْعَةِ:
15 - الْعَفْوُ عَنِ الشُّفْعَةِ فِي حَقِّ الْمُكَلَّفِ الرَّشِيدِ بِلاَ عِوَضٍ جَائِزٌ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ، وَأَجَازَ الْمَالِكِيَّةُ - وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ - الاِعْتِيَاضَ عَنْ تَرْكِ الأَْخْذِ بِالشُّفْعَةِ (42)
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (إِسْقَاط ف 41 وَ 42) (وَشُفْعَة ف 55 وَمَا بَعْدَهَا)
ثَانِيًا - الْعَفْوُ عَنِ الْمَدِينِ:
16 - لِلدَّائِنِ أَنْ يَعْفُوَ عَنِ الْمَدِينِ وَتَبْرَأُ بِذَلِكَ ذِمَّتُهُ مِنَ الدَّيْنِ (43)
انْظُرْ مُصْطَلَحَ: (إِبْرَاء ف 40 وَمَا بَعْدَهَا) .
ثَالِثًا - الْعَفْوُ عَنِ الصَّدَاقِ:
17 - الصَّدَاقُ حَقٌّ خَالِصٌ لِلزَّوْجَةِ لِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} (44)
وَلِلزَّوْجَةِ أَنْ تَعْفُوَ عَنِ الصَّدَاقِ كُلِّهِ أَوْ بَعْضِهِ، كَمَا أَنَّ لِلزَّوْجِ أَنْ يَعْفُوَ عَنِ الصَّدَاقِ، وَعَفْوُهُ يَكُونُ بِإِكْمَال الصَّدَاقِ عِنْدَ الطَّلاَقِ قَبْل الدُّخُول، وَلأَِوْلِيَاءِ النِّكَاحِ الْعَفْوُ كَذَلِكَ لِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {إِلاَّ أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} (45) . وَفِي ذَلِكَ خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (مَهْر)
الْعَفْوُ فِي الْعُقُوبَاتِ:
أَوَّلاً - الْعَفْوُ عَنِ الْقِصَاصِ:
18 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى مَشْرُوعِيَّةِ الْعَفْوِ عَنِ الْقِصَاصِ لِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ} (46) ؛
وَلأَِنَّ الْقِيَاسَ يَقْتَضِيهِ إِذْ أَنَّ الْقِصَاصَ حَقٌّ، فَجَازَ لِمُسْتَحِقِّهِ تَرْكُهُ كَسَائِرِ الْحُقُوقِ.
وَنَصَّ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ عَلَى نَدْبِ الْعَفْوِ وَاسْتِحْبَابِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ} (47) قَال الْجَصَّاصُ: نَدَبَهُ إِلَى الْعَفْوِ وَالصَّدَقَةِ، وَلِحَدِيثِ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ: مَا رَأَيْتُ النَّبِيَّ ﷺ رُفِعَ إِلَيْهِ شَيْءٌ فِيهِ قِصَاصٌ إِلاَّ أَمَرَ فِيهِ بِالْعَفْوِ. (48)
وَقَال ابْنُ تَيْمِيَّةَ: الْعَفْوُ إِحْسَانٌ وَالإِْحْسَانُ هُنَا أَفْضَل، وَاشْتُرِطَ أَلاَّ يَحْصُل بِالْعَفْوِ ضَرَرٌ، فَإِذَا حَصَل مِنْهُ ضَرَرٌ فَلاَ يُشْرَعُ. وَقَال الْمَالِكِيَّةُ بِجَوَازِ الْعَفْوِ إِلاَّ فِي قَتْل الْغِيلَةِ، وَهُوَ الْقَتْل لأَِخْذِ الْمَال؛ لأَِنَّهُ فِي مَعْنَى الْحِرَابَةِ، وَالْمُحَارِبُ إِذَا قَتَل وَجَبَ قَتْلُهُ، وَلاَ يَجُوزُ الْعَفْوُ عَنْهُ؛ لأَِنَّ الْقَتْل لِدَفْعِ الْفَسَادِ فِي الأَْرْضِ، فَالْقَتْل هُنَا حَقٌّ لِلَّهِ لاَ لِلآْدَمِيِّ، وَعَلَى هَذَا يُقْتَل حَدًّا لاَ قَوَدًا (49) .
19 - وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي مُوجِبِ الْعَمْدِ فِي النَّفْسِ:
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَابْنُ الْقَاسِمِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَهُوَ الْمَشْهُورُ فِي الْمَذْهَبِ إِلَى أَنَّ مُوجِبَ الْعَمْدِ فِي النَّفْسِ الْقِصَاصُ عَيْنًا، حَتَّى لاَ يَمْلِكَ وَلِيُّ الدَّمِ أَنْ يَأْخُذَ الدِّيَةَ مِنَ الْقَاتِل مِنْ غَيْرِ رِضَاهُ، وَلَوْ مَاتَ الْقَاتِل أَوْ عَفَا الْوَلِيُّ سَقَطَ الْمُوجِبُ أَصْلاً.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَرِوَايَةُ أَشْهَبَ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: إِلَى أَنَّ الْوَاجِبَ إِمَّا الْقِصَاصُ أَوِ الدِّيَةُ أَحَدُهُمَا لاَ بِعَيْنِهِ، فَلِلْوَلِيِّ خِيَارُ التَّعْيِينِ، إِنْ شَاءَ اسْتَوْفَى الْقِصَاصَ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ الدِّيَةَ (50) .
وَأَظْهَرُ الْقَوْلَيْنِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ مُوجِبَ الْقَتْل الْعَمْدِ هُوَ الْقَوَدُ وَأَنَّ الدِّيَةَ بَدَلٌ عِنْدَ سُقُوطِهِ، وَلِلْوَلِيِّ الْعَفْوُ عَنِ الْقَوَدِ عَلَى الدِّيَةِ بِغَيْرِ رِضَا الْجَانِي (51) .
وَاسْتَدَل الْحَنَفِيَّةُ وَمَنْ وَافَقَهُمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ} (52) وَالْمَكْتُوبُ لاَ يُتَخَيَّرُ فِيهِ؛ وَلأَِنَّهُ مُتْلَفٌ يَجِبُ بِهِ الْبَدَل فَكَانَ بَدَلُهُ مُعَيَّنًا كَسَائِرِ أَبْدَال الْمُتْلَفَاتِ، وَحَدِيثُ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ فِي قِصَّةِ سِنِّ الرُّبَيِّعِ أَنَّ رَسُول اللَّهِ ﷺ قَال: كِتَابُ اللَّهِ الْقِصَاصُ (53) فَعُلِمَ بِدَلِيل الْخِطَابِ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ إِلاَّ الْقِصَاصُ، وَلَمْ يُخَيِّرِ الْمَجْنِيَّ عَلَيْهِ بَيْنَ الْقِصَاصِ وَالدِّيَةِ فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ الَّذِي يَجِبُ بِكِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ فِي الْعَمْدِ الْقِصَاصُ (54) .
وَاسْتَدَل الْحَنَابِلَةُ وَمَنْ وَافَقَهُمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} (55) أَوْجَبَ الاِتِّبَاعَ بِمُجَرَّدِ الْعَفْوِ وَلَوْ أَوْجَبَ الْعَمْدَ بِالْقِصَاصِ عَيْنًا لَمْ تَجِبِ الدِّيَةُ عِنْدَ الْعَفْوِ الْمُطْلَقِ، فَيُخَيَّرُ الْوَلِيُّ بَيْنَهُمَا، فَإِنْ شَاءَ اقْتَصَّ وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ الدِّيَةَ وَلَوْ لَمْ يَرْضَ الْجَانِي لِقَوْل ابْنِ عَبَّاسٍ ﵄: كَانَ فِي بَنِي إِسْرَائِيل الْقِصَاصُ وَلَمْ يَكُنْ فِيهِمُ الدِّيَةُ، فَأَنْزَل اللَّهُ هَذِهِ الآْيَةَ {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ} الآْيَةَ، وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: مَنْ قُتِل لَهُ قَتِيلٌ فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ إِمَّا أَنْ يُودَى وَإِمَّا أَنْ يُقَادَ (56) وَاسْتَدَلُّوا مِنَ الْمَعْقُول بِأَنَّ فِي الإِْلْزَامِ بِأَحَدِهِمَا عَلَى التَّعْيِينِ مَشَقَّةً، وَبِأَنَّ الْجَانِيَ مَحْكُومٌ عَلَيْهِ فَلاَ يُعْتَبَرُ رِضَاهُ كَالْمُحَال عَلَيْهِ وَالْمَضْمُونِ عَنْهُ (57) .
وَاسْتَدَل الشَّافِعِيَّةُ فِي أَظْهَرِ الْقَوْلَيْنِ بِأَنَّ نَفْسَ الْقَتِيل مَضْمُونَةٌ أَصْلاً بِالْقَوَدِ، وَالضَّمَانُ يَكُونُ بِجِنْسِ الْمُتْلَفِ فَكَانَ الْقَوَدُ هُوَ مُوجِبَ الْقَتْل الْعَمْدِ، فَإِنْ سَقَطَ الْجِنْسُ وَهُوَ الْقَوَدُ وَجَبَ الْبَدَل وَهُوَ الدِّيَةُ حَتَّى لاَ يَفُوتَ ضَمَانُ النَّفْسِ الْمَعْصُومَةِ (58) . الْعَفْوُ عَنِ الْقَاتِل:
20 - إِذَا عَفَا وَلِيُّ الدَّمِ عَنِ الْقَاتِل مُطْلَقًا صَحَّ وَلَمْ تَلْزَمْهُ عُقُوبَةٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَابْنِ الْمُنْذِرِ وَأَبِي ثَوْرٍ؛ لأَِنَّهُ كَانَ عَلَيْهِ حَقٌّ وَاحِدٌ وَقَدْ أَسْقَطَهُ مُسْتَحِقُّهُ فَلَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ شَيْءٌ آخَرُ.
وَقَال مَالِكٌ وَاللَّيْثُ وَالأَْوْزَاعِيُّ: يُعَزَّرُ بِالضَّرْبِ وَالْحَبْسِ سَنَةً (59) .
وَإِذَا عَفَا وَلِيُّ الدَّمِ عَنِ الْقَوَدِ مُطْلَقًا، فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْمَذْهَبِ إِلَى أَنَّهُ لاَ قِصَاصَ وَلاَ دِيَةَ عَلَى الْجَانِي، وَقَيَّدَ الْمَالِكِيَّةُ هَذَا بِأَلاَّ يَظْهَرَ مِنْ وَلِيِّ الدَّمِ بِقَرَائِنِ الأَْحْوَال مَا يَدُل عَلَى إِرَادَةِ الدِّيَةِ عِنْدَ الْعَفْوِ؛ لأَِنَّ مُوجِبَ الْقَتْل الْعَمْدِ الْقِصَاصُ عَيْنًا، فَإِذَا سَقَطَ بِالْعَفْوِ لاَ تَجِبُ الدِّيَةُ؛ لأَِنَّ الْعَفْوَ إِسْقَاطُ ثَابِتٍ لاَ إِثْبَاتُ مَعْدُومٍ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ إِنْ عَفَا مُطْلَقًا بِأَنْ لَمْ يُقَيِّدْهُ بِقَوَدٍ وَلاَ دِيَةٍ فَلَهُ الدِّيَةُ لاِنْصِرَافِ الْعَفْوِ إِلَى الْقَوَدِ؛ لأَِنَّهُ فِي مُقَابَلَةِ الاِنْتِقَامِ، وَالاِنْتِقَامُ إِنَّمَا يَكُونُ بِالْقَتْل؛ وَلأَِنَّ الْوَاجِبَ أَحَدُ شَيْئَيْنِ، فَإِذَا سَقَطَ الْقَوَدُ تَعَيَّنَتِ الدِّيَةُ، وَإِذَا قَال وَلِيُّ الدَّمِ لِلْجَانِي: عَفَوْتُ عَنْكَ أَوْ عَنْ جِنَايَتِكَ، فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ (60)
عَفْوُ بَعْضِ الْمُسْتَحِقِّينَ:
21 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا كَانَ مُسْتَحِقَّ الْقِصَاصِ اثْنَانِ أَوْ أَكْثَرُ فَعَفَا أَحَدُهُمَا سَقَطَ الْقِصَاصُ عَنِ الْقَاتِل؛ لأَِنَّهُ سَقَطَ نَصِيبُ الْعَافِي بِالْعَفْوِ فَيَسْقُطُ نَصِيبُ الآْخَرِ ضَرُورَةً؛ لأَِنَّهُ لاَ يَتَجَزَّأُ، إِذِ الْقِصَاصُ قِصَاصٌ وَاحِدٌ فَلاَ يُتَصَوَّرُ اسْتِيفَاءُ بَعْضِهِ دُونَ بَعْضٍ، وَيَنْقَلِبُ نَصِيبُ الآْخَرِ مَالاً بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ الْكِرَامِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ ﵄ أَنَّهُمَا أَوْجَبَا عِنْدَ عَفْوِ بَعْضِ الأَْوْلِيَاءِ عَنِ الْقِصَاصِ لِلَّذِينَ لَمْ يَعْفُوا عَنْهُ نَصِيبَهُمْ مِنَ الدِّيَةِ، (61) وَذَلِكَ بِمَحْضَرٍ مِنَ الصَّحَابَةِ ﵃ وَلَمْ يُنْقَل أَنَّهُ أَنْكَرَ أَحَدٌ عَلَيْهِمَا فَيَكُونُ إِجْمَاعًا (62) . وَقَال الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: الْقِصَاصُ فِي النَّفْسِ حَقٌّ لِجَمِيعِ الْوَرَثَةِ مِنْ ذَوِي الأَْنْسَابِ وَالأَْسْبَابِ وَالرِّجَال وَالنِّسَاءِ وَالصِّغَارِ وَالْكِبَارِ، فَمَنْ عَفَا مِنْهُمْ صَحَّ عَفْوُهُ وَسَقَطَ الْقِصَاصُ، قَال ابْنُ قُدَامَةَ: هَذَا قَوْل أَكْثَرِ أَهْل الْعِلْمِ، مِنْهُمْ عَطَاءٌ وَالنَّخَعِيُّ وَالْحَكَمُ وَحَمَّادٌ وَالثَّوْرِيُّ.
وَالصَّحِيحُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ ثُبُوتُ الْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ ابْتِدَاءً لِكُل وَارِثٍ مِنْ ذَوِي الْفُرُوضِ وَالْعَصَبَةِ، وَمُقَابِل الصَّحِيحِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ قَوْلاَنِ:
الأَْوَّل: أَنَّهُ يَثْبُتُ لِلْعَصَبَةِ الذُّكُورِ خَاصَّةً؛ لأَِنَّ الْقِصَاصَ لِرَفْعِ الْعَارِ فَاخْتَصَّ بِهِمْ كَوِلاَيَةِ النِّكَاحِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ يَسْتَحِقُّهُ الْوَارِثُونَ بِالنَّسَبِ دُونَ السَّبَبِ لاِنْقِطَاعِهِ بِالْمَوْتِ فَلاَ حَاجَةَ لِلتَّشَفِّي (63) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِنَّ مَنْ لَهُمُ الْعَفْوُ فِي الْجُمْلَةِ هُمُ الَّذِينَ لَهُمُ الْقِيَامُ بِالدَّمِ، وَإِنَّ الْمَقْتُول عَمْدًا إِذَا كَانَ لَهُ بَنُونَ بَالِغُونَ فَعَفَا أَحَدُهُمْ فَإِنَّ الْقِصَاصَ قَدْ بَطَل وَوَجَبَتِ الدِّيَةُ، وَقَالُوا: لَيْسَ لِلْبَنَاتِ وَلاَ الأَْخَوَاتِ قَوْلٌ مَعَ الْبَنِينَ وَالإِْخْوَةِ فِي الْقِصَاصِ أَوْ ضِدِّهِ، وَلاَ يُعْتَبَرُ قَوْلُهُنَّ مَعَ الرِّجَال، وَكَذَلِكَ الزَّوْجُ وَالزَّوْجَةُ.
وَقَالُوا: إِنَّ حَقَّ النِّسَاءِ فِي الاِسْتِيفَاءِ مَشْرُوطٌ بِثَلاَثَةِ شُرُوطٍ: أَنْ يَكُنَّ وَارِثَاتٍ، احْتِرَازًا عَنِ الْعَمَّةِ وَالْخَالَةِ، وَأَنْ لاَ يُسَاوِيَهُنَّ عَاصِبٌ فِي الدَّرَجَةِ بِأَنْ لَمْ يُوجَدْ عَاصِبٌ أَصْلاً أَوْ يُوجَدْ أَنْزَل، كَعَمٍّ مَعَ بِنْتٍ أَوْ أُخْتٍ، فَخَرَجَتِ الْبِنْتُ مَعَ الاِبْنِ وَالأُْخْتُ مَعَ الأَْخِ، فَلاَ كَلاَمَ لَهَا مَعَهُ فِي عَفْوٍ وَلاَ قَوَدٍ، وَأَنْ يَكُنَّ عَصَبَتَهُ لَوْ كُنَّ ذُكُورًا، فَلاَ كَلاَمَ لِلْجَدَّةِ مِنَ الأُْمِّ، وَالأُْخْتِ مِنَ الأُْمِّ، وَالزَّوْجَةِ، فَإِنْ كُنَّ الْوَارِثَاتِ مَعَ عَاصِبٍ غَيْرِ مُسَاوٍ فَلَهُنَّ وَلَهُ الْقَوَدُ، قَالُوا: وَلاَ يُعْتَبَرُ عَفْوٌ إِلاَّ بِاجْتِمَاعِ الْفَرِيقَيْنِ أَوْ بِوَاحِدٍ مِنْ كُل فَرِيقٍ، كَالْبَنَاتِ مَعَ الإِْخْوَةِ سَوَاءٌ ثَبَتَ الْقَتْل بِبَيِّنَةٍ أَوْ قَسَامَةٍ أَوْ إِقْرَارٍ، كَأَنْ حُزْنَ الْمِيرَاثَ كَالْبِنْتِ مَعَهَا أُخْتٌ لِغَيْرِ أُمٍّ مَعَ الأَْعْمَامِ وَثَبَتَ قَتْل مُوَرِّثِهِنَّ بِقَسَامَةٍ مِنَ الأَْعْمَامِ، فَلِكُلٍّ الْقَتْل، وَلاَ عَفْوَ إِلاَّ بِاجْتِمَاعِهِمْ، فَلَوْ ثَبَتَ بِبَيِّنَةٍ أَوْ إِقْرَارٍ فَلاَ كَلاَمَ لِلْعَصَبَةِ غَيْرِ الْوَارِثِينَ (64) .
عَفْوُ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ فِي الْقَتْل الْعَمْدِ:
22 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ الْمَقْتُول عَمْدًا إِذَا عَفَا قَبْل أَنْ يَمُوتَ اعْتُبِرَ عَفْوُهُ.
قَال الْحَنَفِيَّةُ: إِنْ عَفَا الْمَجْرُوحُ بَعْدَ الْجَرْحِ قَبْل الْمَوْتِ جَازَ الْعَفْوُ اسْتِحْسَانًا، وَلاَ يَصِحُّ قِيَاسًا؛ لأَِنَّ الْعَفْوَ عَنِ الْقَتْل يَسْتَدْعِي وُجُودَ الْقَتْل، وَالْفِعْل لاَ يَصِيرُ قَتْلاً إِلاَّ بِفَوَاتِ الْحَيَاةِ عَنِ الْمَحَل وَلَمْ يُوجَدْ، فَالْعَفْوُ لَمْ يُصَادِفْ مَحَلَّهُ. وَوَجْهُ الاِسْتِحْسَانِ: أَنَّ الْقَتْل إِنْ لَمْ يُوجَدْ لِلْحَال فَقَدْ وُجِدَ سَبَبُ وُجُودِهِ، وَهُوَ الْجُرْحُ الْمُفْضِي إِلَى فَوَاتِ الْحَيَاةِ، وَالسَّبَبُ الْمُفْضِي إِلَى الشَّيْءِ يُقَامُ مَقَامَ ذَلِكَ الشَّيْءِ فِي أُصُول الشَّرْعِ (65) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: يَجُوزُ لِلْمَقْتُول الْعَفْوُ عَنْ دَمِهِ بَعْدَ إِنْفَاذِ مَقْتَلِهِ وَقَبْل زُهُوقِ رُوحِهِ، قَال الْقَرَافِيُّ: لأَِنَّ لِلْقِصَاصِ سَبَبًا وَهُوَ إِنْفَاذُ الْمَقَاتِل وَشَرْطًا وَهُوَ زُهُوقُ الرُّوحِ، فَإِنْ عَفَا الْمَقْتُول عَنِ الْقِصَاصِ قَبْلَهُمَا لَمْ يُعْتَبَرْ عَفْوُهُ، وَعَفْوُهُ بَعْدَهُمَا مُتَعَذِّرٌ لِعَدَمِ الْحَيَاةِ، فَلَمْ يَبْقَ إِلاَّ مَا بَيْنَهُمَا فَيَنْفُذُ إِجْمَاعًا (66) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: لَوْ قُطِعَ فَعُفِيَ عَنْ قَوَدِهِ وَأَرْشِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْرِ فَلاَ شَيْءَ، وَإِنْ سَرَى لِلنَّفْسِ فَلاَ قِصَاصَ فِي نَفْسٍ وَلاَ طَرَفٍ؛ لأَِنَّ السِّرَايَةَ تَوَلَّدَتْ مِنْ مَعْفُوٍّ عَنْهُ، فَصَارَتْ شُبْهَةً دَافِعَةً لِلْقِصَاصِ (67) . وَقَال ابْنُ الْحَاجِبِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: إِنَّ عَلَيْهِ الدِّيَةَ بِنَاءً عَلَى أَنَّهَا تَجِبُ لِلْوَارِثِ ابْتِدَاءً، قَال ابْنُ رُشْدٍ: قَالَتْ طَائِفَةٌ أُخْرَى: لاَ يَلْزَمُ عَفْوُهُ، وَلِلأَْوْلِيَاءِ الْقِصَاصُ أَوِ الْعَفْوُ، وَمِمَّنْ قَال بِهِ أَبُو ثَوْرٍ وَدَاوُدُ (68) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إِنْ عَفَا الْمَجْرُوحُ عَنْ قَاتِلِهِ بَعْدَ الْجَرْحِ صَحَّ، سَوَاءٌ كَانَ الْعَفْوُ بِلَفْظِ الْعَفْوِ أَوِ الْوَصِيَّةِ أَوِ الإِْبْرَاءِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ؛ لأَِنَّهُ إِسْقَاطٌ لِلْحَقِّ، فَصَحَّ بِكُل لَفْظٍ يُؤَدِّي مَعْنَاهُ (69) .
عَفْوُ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ عَمَّا دُونَ النَّفْسِ عَمْدًا
23 - يَرَى الْفُقَهَاءُ أَنَّ الْمَجْنِيَّ عَلَيْهِ إِذَا قَال لِلْجَانِي: عَفَوْتُ عَنِ الْقَطْعِ أَوِ الْجِرَاحَةِ أَوِ الشَّجَّةِ أَوِ الضَّرْبَةِ، أَوْ قَال: عَفَوْتُ عَنِ الْجِنَايَةِ، فَإِنْ بَرِئَ مِنْ ذَلِكَ صَحَّ الْعَفْوُ؛ لأَِنَّ الْعَفْوَ وَقَعَ عَنْ ثَابِتٍ وَهُوَ الْجِرَاحَةُ أَوْ مُوجِبُهَا وَهُوَ الأَْرْشُ فَيَصِحُّ الْعَفْوُ وَلاَ قِصَاصَ وَلاَ دِيَةَ، كَمَا لَوْ أَذِنَ فِي إِتْلاَفِ مَالِهِ فَلاَ ضَمَانَ بِإِتْلاَفِهِ (70) . حُكْمُ السِّرَايَةِ:
24 - وَإِنْ سَرَى الْجُرْحُ إِلَى النَّفْسِ فِي تِلْكَ الْمَسَائِل وَمَاتَ الْمُصَابُ، فَإِنْ كَانَ الْعَفْوُ بِلَفْظِ الْجِنَايَةِ أَوْ بِلَفْظِ الْجِرَاحَةِ وَمَا يَحْدُثُ مِنْهَا صَحَّ بِالإِْجْمَاعِ وَلاَ شَيْءَ عَلَى الْقَاتِل؛ لأَِنَّ لَفْظَ الْجِنَايَةِ يَتَنَاوَل الْقَتْل، وَكَذَا لَفْظُ الْجِرَاحَةِ وَمَا يَحْدُثُ مِنْهَا، فَكَانَ ذَلِكَ عَفْوًا عَنِ الْقَتْل فَيَصِحُّ، وَإِنْ كَانَ بِلَفْظِ الْجِرَاحَةِ وَلَمْ يَذْكُرْ مَا يَحْدُثُ مِنْهَا لَمْ يَصِحَّ الْعَفْوُ فِي قَوْل أَبِي حَنِيفَةَ، وَالْقِيَاسُ أَنْ يَجِبَ الْقِصَاصُ، وَفِي الاِسْتِحْسَانِ تَجِبُ الدِّيَةُ فِي مَال الْقَاتِل. وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ يَصِحُّ الْعَفْوُ وَلاَ شَيْءَ عَلَى الْقَاتِل (71) .
وَلِلْمَالِكِيَّةِ تَفْصِيلٌ فِيمَنْ قُطِعَتْ يَدُهُ ثُمَّ عَفَا ثُمَّ مَاتَ.
نَقَل الْحَطَّابُ عَنْ أَبِي الْحَسَنِ: إِنْ قَال: عَفَوْتُ عَنِ الْيَدِ، لاَ غَيْرُ، لاَ إِشْكَال، وَإِنْ قَال: عَنِ الْيَدِ وَمَا تَرَامَى إِلَيْهِ مِنْ نَفْسٍ أَوْ غَيْرِهِ، فَلاَ إِشْكَال، وَإِنْ قَال: عَفَوْتُ، فَقَطْ، فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ عَفَا عَمَّا وَجَبَ لَهُ فِي الْحَال وَهُوَ قَطْعُ الْيَدِ (72) .
وَعِنْدَهُمْ فِي الْمَسْأَلَةِ ثَلاَثَةُ أَقْوَالٍ فِي بَابِ الصُّلْحِ فِي حَقِّ الأَْوْلِيَاءِ - لاَ الْمَقْطُوعِ - إِذَا وَقَعَ الصُّلْحُ عَلَى الْجُرْحِ دُونَ مَا تَرَامَى إِلَيْهِ وَهِيَ:
أَحَدُهَا: أَنَّ لِلأَْوْلِيَاءِ أَنْ يُقْسِمُوا وَيَقْتُلُوا وَيُرَدُّ الْمَال وَيَبْطُل الصُّلْحُ.
الثَّانِي: أَنَّهُ لَيْسَ لَهُمُ التَّمَسُّكُ بِالصُّلْحِ لاَ فِي الْخَطَأِ وَلاَ فِي الْعَمْدِ.
الثَّالِثُ: الْفَرْقُ بَيْنَ الْعَمْدِ فَيُخَيَّرُونَ فِيهِ، وَالْخَطَأِ فَلاَ يُخَيَّرُونَ وَلَيْسَ لَهُمُ التَّمَسُّكُ بِهِ.
(73) وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لَوْ قُطِعَ عُضْوُ شَخْصٍ فَعَفَا عَنْ مُوجِبِ الْجِنَايَةِ قَوَدًا أَوْ أَرْشًا فَلاَ قِصَاصَ فِي النَّفْسِ، كَمَا لاَ قِصَاصَ فِي الطَّرْفِ، وَعَنِ ابْنِ سُرَيْجٍ وَابْنِ سَلَمَةَ وُجُوبُ الْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ؛ لأَِنَّهُ لَمْ يَدْخُل فِي الْعَفْوِ. (74)
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إِنْ عَفَا الْمَجْرُوحُ عَنْ قَاتِلِهِ بَعْدَ الْجَرْحِ صَحَّ، سَوَاءٌ كَانَ الْعَفْوُ بِلَفْظِ الْعَفْوِ أَوِ الْوَصِيَّةِ أَوِ الإِْبْرَاءِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ؛ لأَِنَّهُ إِسْقَاطٌ لِلْحَقِّ، فَصَحَّ بِكُل لَفْظٍ يُؤَدِّي مَعْنَاهُ، فَإِنْ قَال وَلِيُّ الْجِنَايَةِ: عَفَوْتُ عَنِ الْجِنَايَةِ وَمَا يَحْدُثُ مِنْهَا صَحَّ الْعَفْوُ؛ لأَِنَّهُ إِسْقَاطٌ لِلْحَقِّ بَعْدَ انْعِقَادِ سَبَبِهِ وَلَمْ يَضْمَنِ الْجَانِي السِّرَايَةَ لِلْعَفْوِ عَنْهَا (75) . عَفْوُ الْوَلِيِّ بَعْدَ الْجَرْحِ وَقَبْل مَوْتِ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ: 25 - نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا عَفَا الْوَلِيُّ عَنِ الْجَانِي بَعْدَ الْجَرْحِ قَبْل الْمَوْتِ فَالْقِيَاسُ أَلاَّ يَصِحَّ عَفْوُهُ، وَفِي الاِسْتِحْسَانِ يَصِحُّ، وَجْهُ الْقِيَاسِ: أَنَّ الْعَفْوَ عَنِ الْقَتْل يَسْتَدْعِي وُجُودَ الْقَتْل، وَالْفِعْل لاَ يَصِيرُ قَتْلاً إِلاَّ بِفَوَاتِ الْحَيَاةِ عَنِ الْمَحَل وَلَمْ يُوجَدْ، فَالْعَفْوُ لَمْ يُصَادِفْ مَحَلَّهُ فَلَمْ يَصِحَّ.
أَمَّا الاِسْتِحْسَانُ فَلَهُ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْجُرْحَ مَتَى اتَّصَلَتْ بِهِ السِّرَايَةُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ وَقَعَ قَتْلاً مِنْ حِينِ وُجُودِهِ. فَكَانَ عَفْوًا عَنْ حَقٍّ ثَابِتٍ فَيَصِحُّ.
الثَّانِي: أَنَّ الْقَتْل إِنْ لَمْ يُوجَدْ لِلْحَال فَقَدْ وُجِدَ سَبَبُ وُجُودِهِ وَهُوَ الْجُرْحُ الْمُفْضِي إِلَى فَوَاتِ الْحَيَاةِ، وَالسَّبَبُ الْمُفْضِي إِلَى الشَّيْءِ يُقَامُ مَقَامَ ذَلِكَ الشَّيْءِ فِي أُصُول الشَّرْعِ؛ وَلأَِنَّهُ إِذَا وُجِدَ سَبَبُ وُجُودِ الْقَتْل كَانَ الشَّرْعُ تَعْجِيل الْحُكْمِ بَعْدَ وُجُودِ سَبَبِهِ، وَأَنَّهُ جَائِزٌ (76)
عَفْوُ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ عَنِ الْجِنَايَةِ الْخَطَأِ:
26 - إِذَا كَانَتِ الْجِنَايَةُ خَطَأً وَعَفَا الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ، فَإِنْ بَرِئَ مِنْ ذَلِكَ صَحَّ الْعَفْوُ وَلاَ شَيْءَ عَلَى الْجَانِي، سَوَاءٌ كَانَ بِلَفْظِ الْجِنَايَةِ أَوِ الْجِرَاحَةِ، وَسَوَاءٌ يَذْكُرُ مَا يَحْدُثُ مِنْهَا أَمْ لَمْ يَذْكُرْ.
أَمَّا إِنْ سَرَتِ الْجِنَايَةُ إِلَى النَّفْسِ، فَقَال الْحَنَفِيَّةُ: إِنْ كَانَ الْعَفْوُ بِلَفْظِ الْجِنَايَةِ أَوِ الْجِرَاحَةِ وَمَا يَحْدُثُ مِنْهَا صَحَّ، ثُمَّ إِنْ كَانَ الْعَفْوُ فِي حَال صِحَّةِ الْمَجْرُوحِ بِأَنْ كَانَ يَذْهَبُ وَيَجِيءُ وَلَمْ يَصِرْ صَاحِبَ فِرَاشٍ، يُعْتَبَرُ مِنْ جَمِيعِ مَالِهِ، وَإِنْ كَانَ فِي حَال الْمَرَضِ بِأَنْ صَارَ صَاحِبَ فِرَاشٍ، يُعْتَبَرُ عَفْوُهُ مِنْ ثُلُثِ مَالِهِ؛ لأَِنَّ الْعَفْوَ تَبَرُّعٌ مِنْهُ، وَتَبَرُّعُ الْمَرِيضِ مَرَضَ الْمَوْتِ يُعْتَبَرُ مِنْ ثُلُثِ مَالِهِ، فَإِنْ كَانَ قَدْرُ الدِّيَةِ يَخْرُجُ مِنَ الثُّلُثِ سَقَطَ ذَلِكَ الْقَدْرُ عَنِ الْعَاقِلَةِ، وَإِنْ كَانَ لاَ يَخْرُجُ كُلُّهُ مِنَ الثُّلُثِ فَثُلُثُهُ يَسْقُطُ عَنِ الْعَاقِلَةِ وَثُلُثَاهُ يُؤْخَذُ مِنْهُمْ، وَإِنْ كَانَ بِلَفْظِ الْجِرَاحَةِ وَلَمْ يَذْكُرْ مَا يَحْدُثُ مِنْهَا، لَمْ يَصِحَّ الْعَفْوُ وَالدِّيَةُ عَلَى الْعَاقِلَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَهُمَا يَصِحُّ الْعَفْوُ (77) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: عَفْوُ الْمَقْتُول - وَلَوْ قَبْل إِنْفَاذِ شَيْءٍ مِنْ مَقَاتِلِهِ - عَنْ قَاتِلِهِ عَلَى وَجْهِ الْخَطَأِ جَائِزٌ، وَيَكُونُ مِنْهُ وَصِيَّةً بِالدِّيَةِ لِلْعَاقِلَةِ، فَتَكُونُ فِي ثُلُثِهِ، فَإِنْ حَمَلَهَا نَفَذَتْ قَهْرًا عَلَى الْوَرَثَةِ، مِثْل أَنْ يَكُونَ عِنْدَهُ أَلْفَانِ مِنَ الدَّنَانِيرِ وَدِيَتُهُ أَلْفٌ فَإِنَّ الدِّيَةَ تَسْقُطُ عَنْ عَاقِلَةِ الْقَاتِل، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ مَالٌ سَقَطَ عَنِ الْقَاتِل مَعَ عَاقِلَتِهِ ثُلُثُ الدِّيَةِ، إِلاَّ أَنْ تُجِيزَ الْوَرَثَةُ الزَّائِدَ كَسَائِرِ الْوَصَايَا بِالْمَال (78) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: إِذَا جَرَحَ حُرٌّ رَجُلاً خَطَأً فَعَفَا عَنْهُ ثُمَّ سَرَتِ الْجِنَايَةُ إِلَى النَّفْسِ، بُنِيَ عَلَى أَنَّ الدِّيَةَ فِي قَتْل الْخَطَأِ تَجِبُ عَلَى الْعَاقِلَةِ ابْتِدَاءً أَمْ عَلَى الْقَاتِل ثُمَّ تَتَحَمَّلُهَا الْعَاقِلَةُ؟ وَفِيهِ خِلاَفٌ، فَإِنْ قَال: عَفَوْتُ عَنِ الْعَاقِلَةِ، أَوْ: أَسْقَطْتُ الدِّيَةَ عَنْهُمْ، أَوْ قَال: عَفَوْتُ عَنِ الدِّيَةِ، فَهَذَا تَبَرُّعٌ عَلَى غَيْرِ الْقَاتِل فَيَنْفُذُ إِذَا وَفَّى الثُّلُثُ بِهِ، وَيُبَرَّءُونَ سَوَاءٌ جَعَلْنَاهُمْ مُتَأَصِّلِينَ أَمْ مُتَحَمِّلِينَ، وَإِنْ قَال لِلْجَانِي: عَفَوْتُ عَنْكَ، لَمْ يَصِحَّ. وَقِيل: إِنْ قُلْنَا: يُلاَقِيهِ الْوُجُوبُ ثُمَّ يُحْمَل عَنْهُ، صَحَّ، وَالْمَذْهَبُ الأَْوَّل؛ لأَِنَّهُ بِمُجَرَّدِ الْوُجُوبِ يَنْتَقِل عَنْهُ فَيُصَادِفُهُ الْعَفْوُ وَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ، هَذَا إِذَا ثَبَتَتِ الْجِنَايَةُ بِالْبَيِّنَةِ أَوْ بِاعْتِرَافِ الْعَاقِلَةِ، فَأَمَّا إِذَا أَقَرَّ الْقَاتِل وَأَنْكَرَتِ الْعَاقِلَةُ فَالدِّيَةُ عَلَى الْقَاتِل، وَيَكُونُ الْعَفْوُ تَبَرُّعًا عَلَى الْقَاتِل فَفِيهِ الْخِلاَفُ. وَلَوْ عَفَا الْوَارِثُ بَعْدَ مَوْتِ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ عَنِ الْعَاقِلَةِ أَوْ مُطْلَقًا صَحَّ، وَلَوْ عَفَا عَنِ الْجَانِي لَمْ يَصِحَّ؛ لأَِنَّهُ لاَ شَيْءَ عَلَيْهِ، فَإِنْ ثَبَتَ بِإِقْرَارِهِ صَحَّ (79) . وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إِذَا عَفَا وَلِيُّ الْجِنَايَةِ عَنِ الْجَرْحِ الْخَطَأِ اعْتُبِرَ خُرُوجُ الْجِنَايَةِ وَسِرَايَتُهَا مِنَ الثُّلُثِ كَالْوَصِيَّةِ، وَإِنْ لَمْ تَخْرُجْ مِنَ الثُّلُثِ سَقَطَ عَنِ الْجَانِي مِنْ دِيَةِ السِّرَايَةِ مَا احْتَمَلَهُ الثُّلُثُ، وَإِنْ أَبْرَأَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ الْجَانِيَ مِنَ الدِّيَةِ أَوْ وَصَّى لَهُ بِهَا فَهُوَ وَصِيَّةٌ لِقَاتِلٍ، وَتَصِحُّ لِتَأَخُّرِهَا عَنِ الْجِنَايَةِ، بِخِلاَفِ مَا لَوْ وَصَّى لَهُ ثُمَّ قَتَلَهُ.
وَتُعْتَبَرُ الْبَرَاءَةُ مِنَ الدِّيَةِ أَوِ الْوَصِيَّةُ بِهَا لِلْقَاتِل مِنَ الثُّلُثِ كَسَائِرِ الْعَطَايَا فِي الْمَرَضِ وَالْوَصَايَا.
وَإِنْ أَبْرَأَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ أَوْ وَارِثُهُ الْقَاتِل مِنَ الدِّيَةِ الْوَاجِبَةِ عَلَى عَاقِلَتِهِ لَمْ يَصِحَّ الإِْبْرَاءُ؛ لأَِنَّهُ أَبْرَأَهُ مِنْ حَقٍّ عَلَى غَيْرِهِ؛ لأَِنَّ الدِّيَةَ الْوَاجِبَةَ عَلَى الْعَاقِلَةِ غَيْرُ وَاجِبَةٍ عَلَى الْقَاتِل، وَإِنْ أَبْرَأَ الْعَاقِلَةَ صَحَّ؛ لأَِنَّهُ أَبْرَأَهَا مِنْ حَقٍّ عَلَيْهَا كَالدَّيْنِ الْوَاجِبِ عَلَيْهَا.
وَمَنْ صَحَّ عَفْوُهُ مَجَّانًا فَإِنْ أَوْجَبَ الْجُرْحُ مَالاً عَيْنِيًّا كَالْجَائِفَةِ وَجِنَايَةِ الْخَطَأِ فَكَوَصِيَّةٍ، يُعْتَبَرُ مِنَ الثُّلُثِ؛ لأَِنَّهُ تَبَرُّعٌ بِمَالٍ (80)
عَفْوُ مَحْجُورٍ عَلَيْهِ:
27 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي الْعَافِي أَنْ يَكُونَ عَاقِلاً بَالِغًا، فَلاَ يَصِحُّ الْعَفْوُ مِنَ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ وَإِنْ كَانَ الْحَقُّ ثَابِتًا لَهُمَا؛ لأَِنَّهُ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ الْمُضِرَّةِ فَلاَ يَمْلِكَانِهِ (81) ، وَيَنْظُرُ لِلصِّغَارِ وَلِيُّهُمْ فِي الْقَوَدِ وَالْعَفْوِ عَلَى مَالٍ (82) .
وَلأَِبِي الْمَعْتُوهِ أَنْ يُقِيدَ مِنْ جَانِيهِ؛ لأَِنَّ لأَِبِيهِ وِلاَيَةً عَلَى نَفْسِهِ فَيَلِيهِمَا كَالإِْنْكَاحِ، وَيُصَالِحُ لأَِنَّهُ أَنْفَعُ لِلْمَعْتُوهِ مِنَ الاِسْتِيفَاءِ، فَلَمَّا مَلَكَ الاِسْتِيفَاءَ فَلأََنْ يَمْلِكَ الصُّلْحَ أَوْلَى، هَذَا إِذَا صَالَحَ عَلَى قَدْرِ الدِّيَةِ أَوْ أَكْثَرَ مِنْهُ، وَإِلاَّ لاَ يَصِحُّ، وَتَجِبُ الدِّيَةُ كَامِلَةً، وَلاَ يَعْفُو؛ لأَِنَّهُ إِبْطَالٌ لِحَقِّهِ، وَلِلْوَصِيِّ الصُّلْحُ فَقَطْ؛ لأَِنَّ وِلاَيَةَ الْقِصَاصِ تَابِعَةٌ لِوِلاَيَةِ النَّفْسِ وَهِيَ مُخْتَصَّةٌ بِالأَْبِ، وَالصَّبِيُّ كَالْمَعْتُوهِ وَالْقَاضِي كَالأَْبِ فِي الأَْحْكَامِ الْمَذْكُورَةِ (83) .
وَأَمَّا الْحَجْرُ لِلْفَلَسِ: فَلَوْ عَفَا الْمُفْلِسُ عَنِ الْقِصَاصِ سَقَطَ، وَأَمَّا الدِّيَةُ فَإِنْ قِيل: مُوجِبُ الْقَتْل أَحَدُ الأَْمْرَيْنِ، فَلَيْسَ لَهُ الْعَفْوُ عَنِ الْمَال، وَإِذَا تَعَيَّنَ الْمَال بِالْعَفْوِ عَنِ الْقِصَاصِ دُفِعَ إِلَى غُرَمَائِهِ (84) .
وَعَفْوُ الْمَرِيضِ مَرَضَ الْمَوْتِ، وَعَفْوُ الْوَرَثَةِ عَنِ الْقِصَاصِ مَعَ نَفْيِ الْمَال إِذَا كَانَ عَلَى التَّرِكَةِ دَيْنٌ أَوْ وَصِيَّةٌ كَعَفْوِ الْمُفْلِسِ وَالْمَحْجُورِ عَلَيْهِ لِسَفَهٍ يَصِحُّ مِنْهُ إِسْقَاطُ الْقِصَاصِ وَاسْتِيفَاؤُهُ، وَفِيمَا يَرْجِعُ إِلَى الدِّيَةِ حُكْمُهُ حُكْمُ الْمُفْلِسِ عَلَى الأَْصَحِّ (85) .
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ - كَمَا قَال الْبُهُوتِيُّ - إِنْ كَانَ مُسْتَحِقُّ الْقِصَاصِ صَغِيرًا أَوْ مَجْنُونًا لَمْ يَجُزْ لآِخَرَ اسْتِيفَاؤُهُ، وَلَيْسَ لأَِبِيهِمَا اسْتِيفَاؤُهُ كَوَصِيٍّ وَحَاكِمٍ، فَإِنْ كَانَا مُحْتَاجَيْنِ إِلَى نَفَقَةٍ فَلِوَلِيِّ الْمَجْنُونِ الْعَفْوُ إِلَى الدِّيَةِ دُونَ وَلِيِّ الصَّغِيرِ نَصًّا؛ لأَِنَّ الْمَجْنُونَ لَيْسَ فِي حَالَةٍ مُعْتَادَةٍ يُنْتَظَرُ فِيهَا إِفَاقَتُهُ وَرُجُوعُ عَقْلِهِ، بِخِلاَفِ الصَّبِيِّ (86) .
أَمَّا الْمُفْلِسُ وَالْمَحْجُورُ عَلَيْهِ لِسَفَهٍ فَيَصِحُّ عَفْوُهُمَا عَنِ الْقِصَاصِ؛ لأَِنَّهُ لَيْسَ بِمَالٍ، وَإِنْ أَرَادَ الْمُفْلِسُ الْقِصَاصَ لَمْ يَكُنْ لِغُرَمَائِهِ إِجْبَارُهُ عَلَى تَرْكِهِ، وَإِنْ أَحَبَّ الْمُفْلِسُ الْعَفْوَ عَنْهُ إِلَى مَالٍ فَلَهُ ذَلِكَ؛ لأَِنَّ فِيهِ حَظًّا لِلْغُرَمَاءِ، وَلاَ يَعْفُو مَجَّانًا؛ لأَِنَّ الْمَال وَاجِبٌ وَلَيْسَ لَهُ إِسْقَاطُهُ إِذَا قُلْنَا: الْوَاجِبُ أَحَدُ شَيْئَيْنِ، وَإِنْ قُلْنَا: الْوَاجِبُ الْقَوَدُ عَيْنًا، صَحَّ عَفْوُهُ عَنْهُ مَجَّانًا.
أَمَّا السَّفِيهُ وَوَارِثُ الْمُفْلِسِ وَالْمَرِيضُ فِيمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ فَالْمَذْهَبُ صِحَّةُ الْعَفْوِ مِنْ هَؤُلاَءِ مَجَّانًا؛ لأَِنَّ الدِّيَةَ لَمْ تَتَعَيَّنْ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْمُفْلِسِ (87)
الْعَفْوُ عَنِ الْقِصَاصِ عَلَى مَالٍ:
أ - فِي الْعَمْدِ:
28 - قَال الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: الصُّلْحُ عَلَى مَالٍ فِي الْقَتْل الْعَمْدِ جَائِزٌ؛ لأَِنَّ الْقِصَاصَ حَقٌّ لِلْوَلِيِّ، وَلِصَاحِبِ الْحَقِّ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي حَقِّهِ اسْتِيفَاءً وَإِسْقَاطًا إِذَا كَانَ مِنْ أَهْل الإِْسْقَاطِ وَالْمَحَل قَابِلاً لِسُقُوطٍ، وَلِهَذَا يَتَمَلَّكُ فَيَمْلِكُ الصُّلْحَ؛ وَلأَِنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ - وَهُوَ الْحَيَاةُ - يَحْصُل بِهِ؛ لأَِنَّ الظَّاهِرَ عِنْدَ أَخْذِ الْمَال عَنْ صُلْحٍ وَتَرَاضٍ تَسْكُنُ الْفِتْنَةُ فَلاَ يَقْصِدُ الْوَلِيُّ قَتْل الْقَاتِل فَلاَ يَقْصِدُ الْقَاتِل قَتْلَهُ، فَيَحْصُل الْمَقْصُودُ مِنَ اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ بِدُونِهِ، وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} (88) الآْيَةَ، قِيل: إِنَّهَا نَزَلَتْ فِي الصُّلْحِ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ فَيَدُل عَلَى جَوَازِ الصُّلْحِ، وَسَوَاءٌ كَانَ بَدَل الصُّلْحِ قَلِيلاً أَوْ كَثِيرًا مِنْ جِنْسِ الدِّيَةِ أَوْ مِنْ خِلاَفِ جِنْسِهَا، حَالًّا أَوْ مُؤَجَّلاً بِأَجَلٍ مَعْلُومٍ أَوْ مَجْهُولٍ جَهَالَةً مُتَفَاوِتَةً كَالْحَصَادِ وَالدِّيَاسِ وَنَحْوِ ذَلِكَ (89) . وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: لَوْ عَفَا أَوْ صَالَحَ عَنِ الْقِصَاصِ عَلَى مَالٍ قَبْل أَنْ يَعْفُوَ عَنِ الدِّيَةِ، فَإِنْ كَانَ الْمُصَالَحُ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ جِنْسِ الدِّيَةِ جَازَ، سَوَاءٌ كَانَتْ قِيمَتُهُ بِقَدْرِ الدِّيَةِ أَمْ أَقَل أَوْ أَكْثَرَ، وَإِنْ كَانَ مِنْ جِنْسِهِ بِأَنْ صَالَحَ عَلَى مِائَتَيْنِ مِنَ الإِْبِل، فَإِنْ قُلْنَا: الْوَاجِبُ أَحَدُ الأَْمْرَيْنِ، لَمْ يَصِحَّ كَالصُّلْحِ مِنْ أَلْفٍ عَلَى أَلْفَيْنِ، وَإِنْ قُلْنَا: الْوَاجِبُ الْقَوَدُ بِعَيْنِهِ، صَحَّ عَلَى الأَْصَحِّ وَثَبَتَ الْمُصَالَحُ عَلَيْهِ، وَمُقَابِل الأَْصَحِّ يَقُول: الدِّيَةُ خِلْفَةً فَلاَ يُزَادُ عَلَيْهَا (90) .
ب - فِي الْخَطَأِ:
29 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ الصُّلْحُ مِنَ الدِّيَةِ عَلَى أَكْثَرَ مِمَّا تَجِبُ فِيهِ الدِّيَةُ؛ لأَِنَّ الْمَانِعَ مِنَ الْجَوَازِ هُنَا تَمَكُّنُ الرِّبَا (91)
عَفْوُ الْمُوَكِّل دُونَ عِلْمِ الْوَكِيل بِاسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ:
30 - قَال الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: لَوْ وَكَّل بِاسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ ثُمَّ عَفَا فَاقْتَصَّ الْوَكِيل جَاهِلاً عَفْوَهُ فَلاَ قِصَاصَ عَلَيْهِ لِعُذْرِهِ، وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: الأَْظْهَرُ وُجُوبُ دِيَةٍ وَأَنَّهَا عَلَيْهِ لاَ عَلَى عَاقِلَتِهِ، وَتَكُونُ حَالَّةً فِي الأَْصَحِّ مُغَلَّظَةً فِي الْمَشْهُورِ وَهِيَ لِوَرَثَةِ الْجَانِي، وَالأَْصَحُّ أَنَّهُ لاَ يَرْجِعُ بِهَا عَلَى الْعَافِي؛ لأَِنَّهُ مُحْسِنٌ بِالْعَفْوِ، وَالثَّانِي يَقُول: نَشَأَ عَنْهُ الْغُرْمُ، وَمُقَابِل الأَْظْهَرِ يَقُول: عَفْوُهُ بَعْدَ خُرُوجِ الأَْمْرِ مِنْ يَدِهِ لَغْوٌ (92) .
أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَقَدْ قَالُوا: لاَ يَجُوزُ التَّوْكِيل بِاسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ بِغَيْبَةِ الْمُوَكِّل؛ لأَِنَّهَا تَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ، وَشُبْهَةُ الْعَفْوِ ثَابِتَةٌ حَال غَيْبَتِهِ، بَل هُوَ الظَّاهِرُ لِلنَّدْبِ الشَّرْعِيِّ (93) .
أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَقَدْ قَال الْقَرَافِيُّ: إِذَا وَكَّل وَكِيلاً بِالْقِصَاصِ ثُمَّ عَفَا وَلَمْ يَعْلَمِ الْوَكِيل فَلِكُل مَنْ عَلِمَ بِالْعَفْوِ - وَلَوْ فَاسِقًا أَوْ مُتَّهَمًا - مَنْعُهُ إِذَا أَرَادَ الْقِصَاصَ وَلَوْ بِالْقَتْل دَفْعًا لِمَفْسَدَةِ الْقَتْل بِغَيْرِ حَقٍّ (94)
ثَانِيًا - الْعَفْوُ فِي الْحُدُودِ:
31 - يَرَى الْفُقَهَاءُ أَنَّ الْحَدَّ الْوَاجِبَ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى لاَ عَفْوَ فِيهِ وَلاَ شَفَاعَةَ وَلاَ إِسْقَاطَ إِذَا وَصَل إِلَى الْحَاكِمِ وَثَبَتَ بِالْبَيِّنَةِ.
وَلِلتَّفْصِيل انْظُرْ مُصْطَلَحَيْ: (حَدّ وَتَعْزِير) .
وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ حَدَّ الزِّنَا وَالسَّرِقَةِ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى وَاخْتَلَفُوا فِي حَدِّ الْقَذْفِ.
وَذَكَرَ الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ حَدَّ الزِّنَا وَالسُّكْرِ وَالسَّرِقَةِ لاَ يَحْتَمِل الْعَفْوَ أَوِ الصُّلْحَ أَوِ الإِْبْرَاءَ بَعْدَمَا ثَبَتَ بِالْحُجَّةِ؛ لأَِنَّهُ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى خَالِصًا، لاَ حَقَّ لِلْعَبْدِ فِيهِ فَلاَ يَمْلِكُ إِسْقَاطَهُ، وَأَمَّا حَدُّ الْقَذْفِ إِذَا ثَبَتَ بِالْحُجَّةِ فَكَذَلِكَ لاَ يَجُوزُ الْعَفْوُ عَنْهُ أَوِ الإِْبْرَاءُ أَوِ الصُّلْحُ، وَكَذَلِكَ إِذَا عَفَا الْمَقْذُوفُ قَبْل الْمُرَافَعَةِ أَوْ صَالَحَ عَلَى مَالٍ فَذَلِكَ بَاطِلٌ وَيَرُدُّ بَدَل الصُّلْحِ (95) .
وَمَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ فِي حَدِّ الْقَذْفِ كَمَا قَال أَصْبَغُ: سَمِعْتُ ابْنَ الْقَاسِمِ يَقُول: لاَ يَجُوزُ عَفْوُ أَحَدٍ عَنْ أَحَدٍ بَعْدَ أَنْ يَبْلُغَ الإِْمَامَ إِلاَّ ابْنٌ فِي أَبِيهِ وَالَّذِي يُرِيدُ سَتْرًا، وَقَدْ قَال مَالِكٌ: إِذَا زَعَمَ الْمَقْذُوفُ أَنَّهُ يُرِيدُ سَتْرًا فَعَفَا إِنْ بَلَغَ الإِْمَامَ لَمْ يُقْبَل ذَلِكَ حَتَّى يَسْأَل عَنْهُ سِرًّا، فَإِنْ خَشِيَ أَنْ يُثْبِتَ الْقَاذِفُ ذَلِكَ عَلَيْهِ أَجَازَ عَفْوَهُ، وَإِنْ أُمِنَ ذَلِكَ عَلَيْهِ لَمْ يَجُزْ عَفْوُهُ (96) ، أَمَّا قَبْل بُلُوغِ الإِْمَامِ فَجَائِزٌ عِنْدَ مَالِكٍ الْعَفْوُ فِي رِوَايَةِ ابْنِ الْقَاسِمِ عَنْهُ وَابْنِ وَهْبٍ وَابْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ، وَرَوَى أَشْهَبُ أَنَّهُ لَيْسَ بِلاَزِمٍ (97) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ وَكَذَلِكَ الْحَنَابِلَةُ فِي حَدِّ الْقَذْفِ بِصِحَّةِ الْعَفْوِ فِيهِ؛ لأَِنَّ الْغَالِبَ فِيهِ حَقُّ الْعَبْدِ فَيَسْقُطُ بِالْعَفْوِ عَنْهُ، لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَال: أَيَعْجِزُ أَحَدُكُمْ أَنْ يَكُونَ مِثْل أَبِي ضَمْضَمٍ كَانَ إِذَا أَصْبَحَ قَال: تَصَدَّقْتُ بِعِرْضِي (98) وَالتَّصَدُّقُ بِالْعِرْضِ لاَ يَكُونُ إِلاَّ بِالْعَفْوِ عَمَّا يَجِبُ لَهُ؛ وَلأَِنَّهُ لاَ خِلاَفَ أَنَّهُ لاَ يُسْتَوْفَى إِلاَّ بِمُطَالَبَتِهِ فَكَانَ لَهُ الْعَفْوُ كَالْقِصَاصِ (99)
ثَالِثًا - الْعَفْوُ فِي التَّعْزِيرِ:
32 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْعَفْوِ فِي التَّعْزِيرِ، فَقَال الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّ لِلإِْمَامِ الْعَفْوَ فِي التَّعْزِيرِ الْوَاجِبِ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى، بِخِلاَفِ مَا كَانَ لِجِنَايَةٍ عَلَى الْعَبْدِ فَإِنَّ الْعَفْوَ فِيهِ لِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ (100) ، وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِنْ كَانَ الْحَقُّ لِلَّهِ وَجَبَ كَالْحُدُودِ، إِلاَّ أَنْ يَغْلِبَ عَلَى ظَنِّ الإِْمَامِ أَنَّ غَيْرَ الضَّرْبِ مِنَ الْمَلاَمَةِ وَالْكَلاَمِ مَصْلَحَةٌ، وَقَال الْقَرَافِيُّ: يَجُوزُ الْعَفْوُ عَنِ التَّعْزِيرِ وَالشَّفَاعَةِ فِيهَا إِذَا كَانَ لِحَقِّ آدَمِيٍّ، فَإِنْ تَجَرَّدَ عَنْ حَقِّ الآْدَمِيِّ وَانْفَرَدَ بِهِ حَقُّ السَّلْطَنَةِ كَانَ لِوَلِيِّ الأَْمْرِ مُرَاعَاةُ حُكْمِ الأَْصْلَحِ فِي الْعَفْوِ وَالتَّعْزِيرِ (101) .
وَقَال الْمَاوَرْدِيُّ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الْحَدِّ وَالتَّعْزِيرِ: إِنَّ الْحَدَّ لاَ يَجُوزُ فِيهِ الْعَفْوُ وَالشَّفَاعَةُ، لَكِنْ يَجُوزُ فِي التَّعْزِيرِ الْعَفْوُ عَنْهُ وَتَسُوغُ الشَّفَاعَةُ فِيهِ، فَإِنْ تَفَرَّدَ التَّعْزِيرُ بِحَقِّ السَّلْطَنَةِ وَحُكْمِ التَّقْوِيمِ وَلَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ حَقٌّ لآِدَمِيٍّ جَازَ لِوَلِيِّ الأَْمْرِ أَنْ يُرَاعِيَ الأَْصْلَحَ فِي الْعَفْوِ أَوِ التَّعْزِيرِ، وَجَازَ أَنْ يَشْفَعَ فِيهِ مَنْ سَأَل الْعَفْوَ عَنِ الذَّنْبِ، رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَال: اشْفَعُوا تُؤْجَرُوا، وَيَقْضِي اللَّهُ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ مَا شَاءَ (102) وَلَوْ تَعَلَّقَ بِالتَّعْزِيرِ حَقٌّ لآِدَمِيٍّ كَالتَّعْزِيرِ فِي الشَّتْمِ وَالْمُوَاثَبَةِ فَفِيهِ حَقٌّ لِلْمَشْتُومِ وَالْمَضْرُوبِ، وَحَقُّ السَّلْطَنَةِ لِلتَّقْوِيمِ وَالتَّهْذِيبِ فَلاَ يَجُوزُ لِوَلِيِّ الأَْمْرِ أَنْ يُسْقِطَ بِعَفْوٍ حَقَّ الْمَشْتُومِ وَالْمَضْرُوبِ، وَعَلَيْهِ أَنْ يَسْتَوْفِيَ لَهُ حَقَّهُ مِنْ تَعْزِيرِ الشَّاتِمِ وَالضَّارِبِ، فَإِنْ عَفَا الْمَضْرُوبُ وَالْمَشْتُومُ كَانَ وَلِيُّ الأَْمْرِ بَعْدَ عَفْوِهِمَا عَلَى خِيَارِهِ فِي فِعْل الأَْصْلَحِ مِنَ التَّعْزِيرِ تَقْوِيمًا وَالصَّفْحِ عَنْهُ عَفْوًا، فَإِنْ تَعَافَوْا عَنِ الشَّتْمِ وَالضَّرْبِ قَبْل التَّرَافُعِ إِلَيْهِ سَقَطَ التَّعْزِيرُ لآِدَمِيٍّ، وَاخْتُلِفَ فِي سُقُوطِ حَقِّ السَّلْطَنَةِ عَنْهُ وَالتَّقْوِيمِ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَسْقُطُ، وَلَيْسَ لِوَلِيِّ الأَْمْرِ أَنْ يُعَزِّرَ فِيهِ قِيَاسًا عَلَى حَدِّ الْقَذْفِ وَهُوَ يَسْقُطُ بِالْعَفْوِ.
وَالثَّانِي، وَهُوَ الأَْظْهَرُ أَنَّ لِوَلِيِّ الأَْمْرِ أَنْ يُعَزِّرَ فِيهِ قَبْل التَّرَافُعِ إِلَيْهِ، كَمَا يَجُوزُ فِيهِ مَعَ الْعَفْوِ بَعْدَ التَّرَافُعِ إِلَيْهِ، وَنَحْوُهُ عَنْ أَبِي يَعْلَى الْفَرَّاءِ (1) .
وَلِلتَّفْصِيل يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (تَعْزِير ف 57)
__________
(1) سورة البقرة / 286.
(2) سورة الأعراف / 95.
(3) اللسان، أحكام القرآن لابن العربي 1 / 66، والنهاية في غريب الحديث والأثر 3 / 265.
(4) سورة الحجر / 85.
(5) سورة البقرة / 109.
(6) الذريعة ص 234، والمفردات للراغب.
(7) المصباح المنير، والتعريفات، والفروق في اللغة ص 230.
(8) الاختيار 3 / 121، 4 / 17، دار المعرفة.
(9) تبيين الحقائق 5 / 29.
(10) بدائع الصنائع 1 / 80.
(11) البناية شرح الهداية 1 / 733 - 734.
(12) البناية مع الهداية 1 / 739.
(13) بدائع الصنائع 1 / 80.
(14) القوانين الفقهية ص 39 نشر الدار العربية للكتاب، الشرح الصغير 1 / 74، حاشية الصاوي على الشرح الصغير 1 / 75.
(15) حاشية البيجوري على ابن قاسم 1 / 170، وروضة الطالبين 1 / 280.
(16) كشاف القناع 1 / 190 - 191، والمغني 2 / 78 - 79.
(17) البناية شرح الهداية 1 / 733، الشرح الصغير 1 / 74، والأشباه والنظائر للسيوطي 78، المغني 2 / 78.
(18) البيجوري على ابن قاسم 1 / 107.
(19) البيجوري 1 / 107.
(20) الحطاب 1 / 146.
(21) القوانين الفقهية ص 38.
(22) نيل المآرب 1 / 14، وتصحيح الفروع 1 / 254.
(23) تصحيح الفروع 1 / 254.
(24) حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح ص81 والشرح الصغير 1 / 71، 72 روضة الطالبين 1 / 21 - 281، والمغني 2 / 78، 80، وكشاف القناع 1 / 192.
(25) أسنى المطالب 1 / 175، والأشباه والنظائر للسيوطي ص78، وكشاف القناع 1 / 192.
(26) مراقي الفلاح ص85.
(27) الحموي على الأشباه والنظائر لابن نجيم 1 / 248.
(28) حاشية الصاوي على الشرح الصغير 1 / 77.
(29) الأشباه والنظائر للسيوطي ص 78، وروضة الطالبين 1 / 282.
(30) كشاف القناع 1 / 190.
(31) سورة المدثر / 4.
(32) الحموي على الأشباه والنظائر 1 / 248، والقوانين الفقهية، ص38، وكشاف القناع 1 / 191.
(33) روضة الطالبين 1 / 280.
(34) حاشية رد المحتار 2 / 283، وفتح القدير 2 / 197، والمنتقى للباجي 2 / 127، ومواهب الجليل 2 / 257، والمجموع 5 / 390 - 393، وكشاف القناع 2 / 89.
(35) المراجع السابقة.
(36) حاشية رد المحتار 2 / 283، وبداية المجتهد 1 / 247، والمجموع 5 / 457، وكشاف القناع 2 / 170.
(37) حاشية رد المحتار 2 / 283، وبداية المجتهد 1 / 248، وعارضة الأحوذي 3 / 102.
(38) حاشية رد المحتار 2 / 395، والدردير بالشرح الصغير 1 / 700، والقليوبي 2 / 56، وقواعد الأحكام 2 / 10.
(39) حاشية رد المحتار 2 / 796، والشرح الصغير 1 / 715، وحاشية القليوبي على منهاج الطالبين / 57، والمغني لابن قدامة 3 / 97.
(40) حديث: " إن الله وضع عن أمتي. . . ". أخرجه ابن ماجه (1 / 659) من حديث ابن عباس، وحسنه النووي في روضة الطالبين (8 / 193) .
(41) بدائع الصنائع 2 / 188، و189 وحاشية رد المحتار 2 / 543، 545، والقوانين الفقهية ص 91 - 93، وحاشية القليوبي وعميرة المنهاج 2 / 133 - 135، وكشاف القناع 2 / 458.
(42) البدائع 6 / 2715، والبهجة شرح التحفة 2 / 122، 123، ومنح الجليل 3 / 591، والجمل على المنهج 123، والقواعد لابن رجب ص199، وكشاف القناع 4 / 158.
(43) الأشباه والنظائر لابن نجيم ص263 - 265، 317، والخرشي على خليل 7 / 102، 103، والأشباه والنظائر للسيوطي ص171، والمنثور في القواعد للزركشي 1 / 81 - 86، وكشاف القناع 4 / 304.
(44) سورة النساء / 4.
(45) سورة البقرة / 237.
(46) سورة البقرة / 178.
(47) سورة المائدة / 45.
(48) حديث أنس " ما رأيت النبي ﷺ رفع إليه شيء. . . ". أخرجه أبو داود (4 / 637) وسكت عنه، وقال الشوكاني في نيل الأوطار (7 / 178) : وإسناده لا بأس به.
(49) بدائع الصنائع 7 / 241، وأحكام القرآن للجصاص 1 / 186، والفواكه الدواني 2 / 255، وروضة الطالبين 1 9 / 239، وكشاف القناع 5 / 543.
(50) بدائع الصنائع 10 / 4646، وحاشية الدسوقي 4 / 240، وبداية المجتهد 2 / 393، 394، روضة الطالبين 9 / 239، وكشاف القناع 5 / 543، والمغني 8 / 336.
(51) مغني المحتاج 4 / 48، وروضة الطالبين 9 / 239.
(52) سورة البقرة / 178.
(53) حديث: " كتاب الله القصاص ". أخرجه البخاري (8 / 117) ، ومسلم (3 / 1302) من حديث أنس، واللفظ للبخاري.
(54) تفسير القرطبي 2 / 252، 253، وأحكام القرآن للجصاص 1 / 185، وأحكام القرآن لابن العربي 1 / 66 - 69، وأحكام القرآن للكيا الهراس 1 / 87 - 91، وبدائع الصنائع 10 / 4633 - 4635، وبداية المجتهد 2 / 394، ومواهب الجليل 6 / 234، وروضة الطالبين 9 / 239 - 241، والقليوبي 4 / 126، والمغني لابن قدامة 8 / 344، 345.
(55) سورة البقرة / 178.
(56) حديث: " من قتل له قتيل. . " أخرجه البخاري (فتح الباري 1 / 205) ومسلم (2 / 989) .
(57) مغني المحتاج 4 / 48، وكشاف القناع 5 / 542.
(58) أسنى المطالب 4 / 43.
(59) الفواكه الدواني 2 / 257، والقوانين الفقهية ص227، والمغني 8 / 339.
(60) بدائع الصنائع 7 / 247، وحاشية الدسوقي 4 / 240، ومغني المحتاج 4 / 48، و49، وكشاف القناع 5 / 544 و545.
(61) بدائع الصنائع 10 / 4648، 4649، والفواكه الدواني 2 / 256، روضة الطالبين 9 / 239، وكشاف القناع 5 / 534، والمغني 8 / 336.
(62)
(63) حاشية رد المحتار 6 / 568، ومغني المحتاج 4 / 39، 40، والقليوبي 4 / 122، 122.
(64) الفواكه الدواني 2 / 256، والشرح الصغير 4 / 361، 362، وبداية المجتهد 2 / 395.
(65) درر الحكام شرح غرر الأحكام لمنلا خسرو 2 / 95، وبدائع الصنائع 7 / 248 و249.
(66) الفواكه الدواني 2 / 255، وشرح منجل الجليل 4 / 346، والشرح الصغير 4 / 335 و336.
(67) مغني المحتاج 4 / 50 و51، وشرح المحلى على منهاج الطالبين 4 / 127.
(68) شرح منح الجليل لعليش 4 / 346، بداية المجتهد 2 / 395.
(69) كشاف القناع 5 / 546.
(70) بدائع الصنائع 1 / 4651، وشرح منح الجليل للشيخ عليش 4 / 347، وروضة الطالبين 9 / 242، 243، والمهذب 2 / 189، وكشاف القناع 5 / 246.
(71) بدائع الصنائع 10 / 4651، 4652.
(72) مواهب الجليل 6 / 255، 256.
(73) مواهب الجليل للحطاب، والتاج والإكليل للمواق على هامش الحطاب 5 / 86.
(74) روضة الطالبين 9 / 243، 244.
(75) كشاف القناع 5 / 546.
(76) بدائع الصنائع 10 / 4650.
(77) بدائع الصنائع 10 / 4652.
(78) الفواكه الدواني 2 / 255، 256.
(79) روضة الطالبين 9 / 245.
(80) كشاف القناع 5 / 546.
(81) درر الحكام لمنلا خسرو 2 / 94، البدائع 10 / 4646، ومواهب الجليل للحطاب 6 / 252، وروضة الطالبين 9 / 242، والمغني 8 / 346.
(82) مواهب الجليل 6 / 252.
(83) درر الحكام 2 / 94، والهداية مع نتائج الأفكار 8 / 262، 263.
(84) روضة الطالبين 9 / 241.
(85) روضة الطالبين 9 / 242.
(86) كشاف القناع 5 / 533.
(87) كشاف القناع 5 / 544، والمغني 8 / 346، 347.
(88) سورة البقرة / 178.
(89) بدائع الصنائع 10 / 4655، والشرح الصغير 3 / 418، 4 / 368، 369، والمغني 4 / 442.
(90) شرح الجلال المحلى على منهاج الطالبين 4 / 127، وروضة الطالبين 9 / 240 - 242.
(91) بدائع الصنائع 10 / 4655، والشرح الصغير 4 / 369، والمغني 4 / 442.
(92) شرح المحلى على منهاج الطالبين 4 / 129، وكشاف القناع 4 / 545، 546.
(93) درر الحكام شرح غرر الأحكام 2 / 94، وحاشية الشرنبلالي على درر الحكام الموسوم غنية ذوي الأحكام في بغية درر الحكام 2 / 94.
(94) الفروق 4 / 256، 257.
(95) بدائع الصنائع 9 / 4201، 4203.
(96) المنتقى للباجي 7 / 146 - 148، 164، 165، وتهذيب الفروق 4 / 204 - 208، والفواكه الدواني 2 / 295.
(97) المنتقى 7 / 148.
(98) حديث: " أيعجز أحدكم أن يكون مثل أبي ضمضم. . . ". أخرجه أبو داود (5 / 199) ، وذكر الذهبي في الميزان (2 / 275) تضعيف أحد رواته.
(99) المهذب 2 / 274، وكشاف القناع 6 / 105، والأحكام السلطانية للماوردي ص 237، والأحكام السلطانية لأبي يعلى 266.
(100) ابن عابدين 4 / 53 - 54.
(101) مواهب الجليل 6 / 320.
(102) حديث: " اشفعوا تؤجروا ويقضي الله على لسان نبيه ما شاء ". أخرجه البخاري (فتح الباري 3 / 299) من حديث أبي موسى.
الموسوعة الفقهية الكويتية: 167/ 30
رمضانُ شهرُ الانتصاراتِ الإسلاميةِ العظيمةِ، والفتوحاتِ الخالدةِ في قديمِ التاريخِ وحديثِهِ.
ومنْ أعظمِ تلكَ الفتوحاتِ: فتحُ مكةَ، وكان في العشرينَ من شهرِ رمضانَ في العامِ الثامنِ منَ الهجرةِ المُشَرّفةِ.
فِي هذهِ الغزوةِ دخلَ رسولُ اللهِ صلّى اللهُ عليهِ وسلمَ مكةَ في جيشٍ قِوامُه عشرةُ آلافِ مقاتلٍ، على إثْرِ نقضِ قريشٍ للعهدِ الذي أُبرمَ بينها وبينَهُ في صُلحِ الحُدَيْبِيَةِ، وبعدَ دخولِهِ مكةَ أخذَ صلىَ اللهُ عليهِ وسلمَ يطوفُ بالكعبةِ المُشرفةِ، ويَطعنُ الأصنامَ التي كانتْ حولَها بقَوسٍ في يدِهِ، وهوَ يُرددُ: «جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا» (81)الإسراء، وأمرَ بتلكَ الأصنامِ فكُسِرَتْ، ولما رأى الرسولُ صناديدَ قريشٍ وقدْ طأطأوا رؤوسَهمْ ذُلاً وانكساراً سألهُم " ما تظنونَ أني فاعلٌ بكُم؟" قالوا: "خيراً، أخٌ كريمٌ وابنُ أخٍ كريمٍ"، فأعلنَ جوهرَ الرسالةِ المحمديةِ، رسالةِ الرأفةِ والرحمةِ، والعفوِ عندَ المَقدُرَةِ، بقولِه:" اليومَ أقولُ لكمْ ما قالَ أخِي يوسفُ من قبلُ: "لا تثريبَ عليكمْ اليومَ يغفرُ اللهُ لكمْ، وهو أرحمُ الراحمينْ، اذهبوا فأنتمُ الطُلَقَاءُ".