الخالق
كلمة (خالق) في اللغة هي اسمُ فاعلٍ من (الخَلْقِ)، وهو يَرجِع إلى...
ضد الفقر، وهو عدم الحاجة للآخرين . ومن أمثلته تؤخذ الزكاة من الغني، وتعطى الفقير . ومن شواهده عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهمَا : أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - بَعَثَ مُعَاذًا -رَضِيَ اللهُ عَنْه - إِلَى اليَمَنِ، فَقَالَ : "ادْعُهُمْ إِلَى شَهَادَةِ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لِذَلِكَ، فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللَّهَ قَدِ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لِذَلِكَ، فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللَّهَ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً فِي أَمْوَالِهِمْ تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ، وَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ ." البخاري :1395.
التَّعْرِيفُ:
1 - الْغِنَى بِالْكَسْرِ وَبِالْقَصْرِ: الْيَسَارُ، قَال أَبُو عُبَيْدٍ: أَغْنَى اللَّهُ الرَّجُل حَتَّى غَنِيَ غِنًى، أَيْ صَارَ لَهُ مَالٌ.
وَالْغَنِيُّ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ ﷿، وَهُوَ الَّذِي لاَ يَحْتَاجُ إِلَى أَحَدٍ فِي شَيْءٍ، وَكُل أَحَدٍ مُحْتَاجٌ إِلَيْهِ، وَهَذَا هُوَ الْغِنَى الْمُطْلَقُ.
وَفِي الْحَدِيثِ: خَيْرُ الصَّدَقَةِ مَا كَانَ عَنْ ظَهْرِ غِنًى (1) أَيْ مَا فَضَل عَنْ قُوتِ الْعِيَال وَكِفَايَتِهِمْ. (2)
وَالْغِنَى يَكُونُ بِالْمَال وَغَيْرِهِ، مِنَ الْقُوَّةِ وَالْمَعُونَةِ، وَكُل مَا يُنَافِي الْحَاجَةَ. (3)
وَلاَ يَخْرُجُ مَعْنَى الْغِنَى فِي اصْطِلاَحِ الْفُقَهَاءِ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ، إِلاَّ أَنَّهُمْ يَخْتَلِفُونَ فِي الْغِنَى الْمُعْتَبَرِ بِاخْتِلاَفِ الْمَوَاضِعِ الَّتِي يَكُونُ الْغِنَى فِيهَا أَسَاسًا فِي الْحُكْمِ: فَالْغِنَى الْمُعْتَبَرُ فِي الْكَفَاءَةِ فِي النِّكَاحِ مَثَلاً غَيْرُ الْغِنَى الْمُعْتَبَرِ فِي إِيجَابِ الزَّكَاةِ، يَقُول الْكَاسَانِيُّ: الْغِنَى أَنْوَاعٌ ثَلاَثَةٌ: غِنًى تَجِبُ بِهِ الزَّكَاةُ، وَغِنًى يَحْرُمُ بِهِ أَخْذُ الزَّكَاةِ وَقَبُولُهَا، وَغِنًى يَحْرُمُ بِهِ السُّؤَال وَلاَ يَحْرُمُ بِهِ الأَْخْذُ. (4)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْمَال:
2 - الْمَال لُغَةً: مَا مَلَكْته مِنْ جَمِيعِ الأَْشْيَاءِ، قَال ابْنُ الأَْثِيرِ: الْمَال فِي الأَْصْل مَا يُمْلَكُ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، ثُمَّ أُطْلِقَ عَلَى كُل مَا يُقْتَنَى وَيُمْلَكُ مِنَ الأَْعْيَانِ، وَمَال الرَّجُل يَمُول وَيُمَال: إِذَا صَارَ ذَا مَالٍ. (5)
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: الْمَال مَا يَمِيل إِلَيْهِ الطَّبْعُ وَيُمْكِنُ ادِّخَارُهُ لِوَقْتِ الْحَاجَةِ. (6)
وَالْمَال مِنْ أُسُسِ الْغِنَى، وَالْغِنَى أَعَمُّ مِنَ الْمَال، لأَِنَّهُ يَكُونُ بِالْمَال وَغَيْرِهِ مِنَ الْقُوَّةِ وَالْمَعُونَةِ وَكُل مَا يُنَافِي الْحَاجَةَ. (7) ب - الاِكْتِسَابُ:
3 - الاِكْتِسَابُ: طَلَبُ الرِّزْقِ وَتَحْصِيل الْمَال عَلَى الْعُمُومِ.
وَأَضَافَ الْفُقَهَاءُ إِلَى ذَلِكَ مَا يُفْصِحُ عَنِ الْحُكْمِ فَقَالُوا: الاِكْتِسَابُ هُوَ تَحْصِيل الْمَال بِمَا حَل مِنَ الأَْسْبَابِ. (8)
وَالصِّلَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْغِنَى، أَنَّ الاِكْتِسَابَ وَسِيلَةٌ مِنْ وَسَائِل الْغِنَى.
ج - النِّعْمَةُ:
4 - النَّعِيمُ وَالنُّعْمَى وَالنِّعْمَةُ فِي اللُّغَةِ: الْخَفْضُ وَالدَّعَةُ وَالْمَال، وَهُوَ ضِدُّ الْبَأْسَاءِ وَالْبُؤْسِ، وَالْجَمْعُ: نِعَمٌ، وَالنِّعْمَةُ: الْيَدُ الْبَيْضَاءُ الصَّالِحَةُ، وَالصَّنِيعَةُ، وَالْمِنَّةُ.
وَنِعْمَةُ اللَّهِ: مَنُّهُ وَمَا أَعْطَاهُ اللَّهُ الْعَبْدَ مِمَّا لاَ يُمْكِنُ غَيْرُهُ أَنْ يُعْطِيَهُ كَالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ. (9)
وَلاَ يَخْرُجُ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ لَهُ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ. (10)
وَعَلَى ذَلِكَ تَكُونُ النِّعْمَةُ أَعَمَّ مِنَ الْغِنَى؛ لأَِنَّهَا تَشْمَل الْغِنَى وَغَيْرَهُ. د - الْفَقْرُ.
5 - الْفَقْرُ: الْعَوَزُ، وَالْحَاجَةُ، وَالْهَمُّ، وَالْحِرْصُ. وَالْفَقْرُ ضِدُّ الْغِنَى.
قَال ابْنُ السِّكِّيتِ: الْفَقِيرُ الَّذِي لَهُ بُلْغَةٌ مِنَ الْعَيْشِ، وَالْمِسْكِينُ: الَّذِي لاَ شَيْءَ لَهُ، وَقَال ابْنُ الأَْعْرَابِيِّ: الْفَقِيرُ الَّذِي لاَ شَيْءَ لَهُ، وَالْمِسْكِينُ مِثْلُهُ (11) .
وَيَقُول ابْنُ قُدَامَةَ: الْفَقِيرُ وَالْمِسْكِينُ كِلاَهُمَا يَشْعُرُ بِالْحَاجَةِ وَالْفَاقَةِ وَعَدَمِ الْغِنَى، إِلاَّ أَنَّ الْفَقِيرَ أَشَدُّ حَاجَةً مِنَ الْمِسْكِينِ، لأَِنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَدَأَ بِهِ فِي قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} ، (12) وَإِنَّمَا يُبْدَأُ بِالأَْهَمِّ فَالأَْهَمِّ، وَقِيل: الْعَكْسُ. (13)
حُكْمُ طَلَبِ الْغِنَى:
6 - طَلَبُ الْغِنَى أَمْرٌ مَشْرُوعٌ فِي الإِْسْلاَمِ، وَفِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ الْكَثِيرُ مِنَ الآْيَاتِ الَّتِي تَدْعُو إِلَى طَلَبِ الرِّزْقِ وَالسَّعْيِ فِي الأَْرْضِ، يَقُول اللَّهُ تَعَالَى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاَةُ فَانْتَشِرُوا فِي الأَْرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْل اللَّهِ} (14) ، وَيَقُول سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {هُوَ الَّذِي جَعَل لَكُمُ الأَْرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ} (15) ، يَقُول ابْنُ كَثِيرٍ: أَيْ فَسَافِرُوا حَيْثُ شِئْتُمْ مِنْ أَقْطَارِ الأَْرْضِ، وَتَرَدَّدُوا فِي أَقَالِيمِهَا وَأَرْجَائِهَا فِي أَنْوَاعِ الْمَكَاسِبِ وَالتِّجَارَاتِ (16) .
وَطَلَبُ الْغِنَى قَدْ يَكُونُ فَرْضًا، وَذَلِكَ بِأَنْ يَسْعَى الإِْنْسَانُ لِيَكْسِبَ مَا تَحْصُل بِهِ كِفَايَةُ نَفْسِهِ وَعِيَالِهِ وَيُغْنِيهِ عَنِ السُّؤَال (17) .
وَقَدْ يَكُونُ طَلَبُ الْغِنَى مُسْتَحَبًّا، وَذَلِكَ بِأَنْ يَسْعَى الإِْنْسَانُ لِيَكْسِبَ مَا يَزِيدُ عَلَى نَفَقَتِهِ وَنَفَقَةِ مَنْ يَعُولُهُ، بِقَصْدِ مُوَاسَاةِ الْفُقَرَاءِ وَصِلَةِ الأَْرْحَامِ وَمُجَازَاةِ الأَْقَارِبِ، وَطَلَبُ الْغِنَى بِهَذِهِ النِّيَّةِ أَفْضَل مِنَ التَّفَرُّغِ لِلْعِبَادَةِ (18) .
وَقَدْ يَكُونُ طَلَبُ الْغِنَى مُبَاحًا، وَهُوَ مَا كَانَ زَائِدًا عَلَى الْحَاجَةِ وَقَصَدَ بِطَلَبِهِ التَّجَمُّل وَالتَّنَعُّمَ.
وَيُكْرَهُ طَلَبُ الْغِنَى بِجَمْعِ الْمَال لِلتَّفَاخُرِ وَالتَّكَاثُرِ وَالْبَطَرِ وَالأَْشَرِ، وَلَوْ كَانَ مِنْ طَرِيقٍ حَلاَلٍ (19) ، فَقَدْ قَال النَّبِيُّ ﷺ: مَنْ طَلَبَ الدُّنْيَا حَلاَلاً مُكَاثِرًا مُفَاخِرًا مُرَائِيًا لَقِيَ اللَّهَ تَعَالَى وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ (20)
وَيَحْرُمُ طَلَبُ الْغِنَى إِذَا كَانَ الطَّرِيقُ إِلَيْهِ حَرَامًا كَالرِّبَا وَالرِّشْوَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.
قَال ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِ قَوْله تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِل إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} (21) الاِسْتِثْنَاءُ مُنْقَطِعٌ، كَأَنَّهُ يَقُول: لاَ تَتَعَاطَوُا الأَْسْبَابَ الْمُحَرَّمَةَ فِي اكْتِسَابِ الأَْمْوَال (22) .
الْغِنَى الْمَحْمُودُ وَفَضْلُهُ:
يَكُونُ الْغِنَى مَحْمُودًا إِذَا تَحَقَّقَ فِيهِ مَا يَأْتِي:
7 - أَوَّلاً: أَنْ تَكُونَ السُّبُل الْمُؤَدِّيَةُ إِلَى كَسْبِ الْمَال مَشْرُوعَةً وَجَائِزَةً، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يَدْعُو إِلَى الْكَسْبِ الْحَلاَل الطَّيِّبِ، يَقُول اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الأَْرْضِ حَلاَلاً طَيِّبًا} (23) ، يَقُول الْقُرْطُبِيُّ: وَذَلِكَ بِخُلُوِّهِ مِنَ الرِّبَا وَالْحَرَامِ وَالسُّحْتِ (24) . وَيَقُول النَّبِيُّ ﷺ : أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ اللَّهَ طَيِّبٌ لاَ يَقْبَل إِلاَّ طَيِّبًا، وَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ الْمُرْسَلِينَ، فَقَال: {يَا أَيُّهَا الرُّسُل كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} (25) ، وَقَال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} (26) ، ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُل يُطِيل السَّفَرَ أَشْعَث أَغْبَر يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ: يَا رَبِّ، يَا رَبِّ، وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ، وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ، وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ، وَغُذِّيَ بِالْحَرَامِ، فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ؟ (27)
وَنَهَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَنْ أَكْل أَمْوَال النَّاسِ بِالْبَاطِل، فَقَال ﷿: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِل إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} . (28)
وَالْبَاطِل يَشْمَل مَا كَانَ غَيْرَ مَشْرُوعٍ، كَالْغِشِّ وَالرِّشْوَةِ وَالْغَصْبِ وَالْقِمَارِ وَالاِسْتِغْلاَل وَالرِّبَا، وَمَا جَرَى مَجْرَى ذَلِكَ. وَيَقُول الْقُرْطُبِيُّ فِي قَوْله تَعَالَى {وَلاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِل وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ} (29) : يَدْخُل فِي هَذَا الْقِمَارُ وَالْخِدَاعُ وَالْغُصُوبُ وَجَحْدُ الْحُقُوقِ وَمَا لاَ تَطِيبُ بِهِ نَفْسُ مَالِكِهِ (30) .
8 - ثَانِيًا: مِمَّا يَجْعَل الْغِنَى مَحْمُودًا أَنْ يُؤَدِّيَ شُكْرَ اللَّهِ فِي هَذِهِ النِّعْمَةِ، وَشُكْرُ اللَّهِ فِي النِّعْمَةِ كَمَا يَقُول الْفُقَهَاءُ هُوَ: صَرْفُ الْعَبْدِ جَمِيعَ مَا أَنْعَمَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ عَلَيْهِ إِلَى مَا خُلِقَ لأَِجْلِهِ (31) . وَقَال الْحَلِيمِيُّ: شُكْرُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى نِعَمِهِ وَاجِبٌ شَرْعًا مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ (32) . قَال تَعَالَى: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ} (33) ، وَقَال تَعَالَى: {كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ} (34)
وَفِي الآْدَابِ الشَّرْعِيَّةِ لاِبْنِ مُفْلِحٍ: الشُّكْرُ زِينَةُ الْغِنَى، وَالْعَفَافُ زِينَةُ الْفَقْرِ (35) ، وَيَكُونُ ذَلِكَ بِإِنْفَاقِ الْمَال فِي الأُْمُورِ الْمَشْرُوعَةِ، وَعَدَمِ إِنْفَاقِهِ فِيمَا حَرَّمَهُ اللَّهُ، يَقُول ابْنُ جُزَيٍّ: الْحُقُوقُ فِي الْغِنَى هِيَ: أَدَاءُ الْوَاجِبَاتِ، وَالتَّطَوُّعُ بِالْمَنْدُوبَاتِ، وَالشُّكْرُ لِلَّهِ تَعَالَى، وَعَدَمُ الطُّغْيَانِ بِالْمَال (36) . وَيَقُول ابْنُ كَثِيرٍ: حُبُّ الْمَال تَارَةً يَكُونُ لِلْفَخْرِ وَالْخُيَلاَءِ، وَالتَّكَبُّرِ عَلَى الضُّعَفَاءِ، وَالتَّجَبُّرِ عَلَى الْفُقَرَاءِ، فَهَذَا مَذْمُومٌ، وَتَارَةً يَكُونُ لِلنَّفَقَةِ فِي الْقُرُبَاتِ وَصِلَةِ الأَْرْحَامِ وَالْقَرَابَاتِ، وَوُجُوهِ الْبِرِّ وَالطَّاعَاتِ، فَهَذَا مَمْدُوحٌ مَحْمُودٌ شَرْعًا (37) .
9 - وَقَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي الْمُفَاضَلَةِ بَيْنَ الْفَقْرِ وَالْغِنَى، فَذَهَبَ أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الْغِنَى أَفْضَل، قَالُوا: لأَِنَّ الْغَنِيَّ يَقْدِرُ عَلَى أَعْمَالٍ صَالِحَةٍ لاَ يَقْدِرُ عَلَيْهَا الْفَقِيرُ، كَالصَّدَقَةِ وَالْعِتْقِ وَبِنَاءِ الْمَسَاجِدِ (38) ، وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ الْغِنَى نِعْمَةٌ، وَالْفَقْرَ بُؤْسٌ وَنِقْمَةٌ وَمِحْنَةٌ، وَلاَ يَخْفَى عَلَى عَاقِلٍ أَنَّ النِّعْمَةَ أَفْضَل مِنَ النِّقْمَةِ وَالْمِحْنَةِ، وَالدَّلِيل عَلَى ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَمَّى الْمَال فَضْلاً، فَقَال ﷿: {وَابْتَغُوا مِنْ فَضْل اللَّهِ} (39) وَقَال تَعَالَى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ} (40) ، وَمَا هُوَ فَضْل اللَّهِ فَهُوَ أَعْلَى الدَّرَجَاتِ، وَسَمَّى اللَّهُ تَعَالَى الْمَال خَيْرًا، فَقَال تَعَالَى: {إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ} (41) ، وَهَذَا اللَّفْظُ يَدُل عَلَى أَنَّهُ خَيْرٌ مِنْ عِنْدِهِ، وَقَال تَعَالَى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُد مِنَّا فَضْلاً} (42) ، يَعْنِي الْمُلْكَ وَالْمَال، وَفِي الْحَدِيثِ الشَّرِيفِ، قَال النَّبِيُّ ﷺ: الْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى (43) وَقَوْلِهِ ﷺ: إِنَّك أَنْ تَذَرَ وَرَثَتَك أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَذَرَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ. (44)
مَا يَتَعَلَّقُ بِالْغِنَى مِنْ أَحْكَامٍ:
10 - يَتَعَلَّقُ بِالْغِنَى أَحْكَامٌ مِنْ حَيْثُ الإِْعْطَاءُ، سَوَاءٌ أَكَانَ وَاجِبًا كَالزَّكَاةِ وَالْكَفَّارَةِ وَالنَّفَقَةِ الْوَاجِبَةِ، أَوْ كَانَ الإِْعْطَاءُ مُسْتَحَبًّا كَالتَّبَرُّعَاتِ، أَوْ كَانَ الإِْعْطَاءُ حَرَامًا كَالإِْنْفَاقِ فِي الْمُحَرَّمَاتِ.
كَمَا يَتَعَلَّقُ بِالْغِنَى أَحْكَامٌ مِنْ حَيْثُ الأَْخْذُ، فَيَحْرُمُ عَلَى الْغَنِيِّ الأَْخْذُ مِنَ الزَّكَاةِ الْمَفْرُوضَةِ وَالْكَفَّارَاتِ، بَيْنَمَا يَحِل لَهُ الأَْخْذُ مِنَ التَّبَرُّعَاتِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.
وَيَتَعَلَّقُ بِالْغِنَى كَذَلِكَ أَحْكَامٌ مِنْ حَيْثُ الْعَلاَقَةُ مَعَ الْغَيْرِ، كَاعْتِبَارِ غِنَى الزَّوْجِ فِي الْكَفَاءَةِ فِي النِّكَاحِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِالْغِنَى. وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَأْتِي:
أَثَرُ الْغِنَى فِي أَدَاءِ الدَّيْنِ:
11 - مَنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ حَالٌّ وَكَانَ غَنِيًّا قَادِرًا عَلَى الْوَفَاءِ، وَجَبَ عَلَيْهِ أَدَاؤُهُ عِنْدَ طَلَبِهِ، فَإِنْ مَاطَل كَانَ آثِمًا ظَالِمًا، لِقَوْل النَّبِيِّ ﷺ: مَطْل الْغَنِيِّ ظُلْمٌ (45) وَلِلْحَاكِمِ أَنْ يُلْزِمَهُ بِالأَْدَاءِ بَعْدَ طَلَبِ الْغُرَمَاءِ، فَإِنِ امْتَنَعَ حَبَسَهُ الْقَاضِي لِظُلْمِهِ بِتَأْخِيرِ الْحَقِّ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ، وَقَدْ قَال النَّبِيُّ ﷺ: لَيُّ الْوَاجِدِ يُحِل عِرْضَهُ وَعُقُوبَتَهُ (46) ، وَالْحَبْسُ عُقُوبَةٌ، فَإِنِ امْتَنَعَ بَعْدَ ذَلِكَ وَكَانَ لَهُ مَالٌ ظَاهِرٌ وَهُوَ مِنْ جِنْسِ الدَّيْنِ وَفَّى الْقَاضِي مِنْهُ غُرَمَاءَهُ، وَإِنْ كَانَ الْمَال مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ بَاعَ الْقَاضِي عَلَيْهِ هَذَا الْمَال، أَوْ أَكْرَهَهُ عَلَى الْبَيْعِ لأَِدَاءِ الدَّيْنِ، لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ بَاعَ عَلَى مُعَاذٍ مَالَهُ، وَقَضَى دُيُونَهُ (47) ، وَكَذَلِكَ رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ بَاعَ مَال أُسَيْفِعَ وَقَسَمَهُ بَيْنَ غُرَمَائِهِ (48) .
أَثَرُ الْغِنَى فِي تَحْرِيمِ السُّؤَال:
12 - بَيَّنَ الرَّسُول ﷺ مَنْ تَحِل لَهُ الْمَسْأَلَةُ، فَقَال لِقَبِيصَةَ بْنِ الْمُخَارِقِ: يَا قَبِيصَةُ، إِنَّ الْمَسْأَلَةَ لاَ تَحِل إِلاَّ لأَِحَدِ ثَلاَثَةٍ: رَجُلٌ تَحَمَّل حَمَالَةً فَحَلَّتْ لَهُ الْمَسْأَلَةُ حَتَّى يُصِيبَهَا ثُمَّ يُمْسِكَ، وَرَجُلٌ أَصَابَتْهُ جَائِحَةٌ اجْتَاحَتْ مَالَهُ فَحَلَّتْ لَهُ الْمَسْأَلَةُ حَتَّى يُصِيبَ قِوَامًا مِنْ عَيْشٍ، أَوْ قَال: سِدَادًا مِنْ عَيْشٍ، وَرَجُلٌ أَصَابَتْهُ فَاقَةٌ حَتَّى يَقُومَ ثَلاَثَةٌ مِنْ ذَوِي الْحِجَا مِنْ قَوْمِهِ: لَقَدْ أَصَابَتْ فُلاَنًا فَاقَةٌ فَحَلَّتْ لَهُ الْمَسْأَلَةُ، حَتَّى يُصِيبَ قِوَامًا مِنْ عَيْشٍ أَوْ قَال: سِدَادًا مِنْ عَيْشٍ فَمَا سِوَاهُنَّ مِنَ الْمَسْأَلَةِ - يَا قَبِيصَةُ - سُحْتًا يَأْكُلُهَا صَاحِبُهَا سُحْتًا (49)
قَال ابْنُ قُدَامَةَ: فَمَدَّ إِبَاحَةِ الْمَسْأَلَةِ إِلَى وُجُودِ إِصَابَةِ الْقِوَامِ أَوِ السِّدَادِ؛ وَلأَِنَّ الْحَاجَةَ هِيَ الْفَقْرُ، وَالْغِنَى ضِدُّهَا، فَمَنْ كَانَ مُحْتَاجًا فَهُوَ فَقِيرٌ يَدْخُل فِي عُمُومِ النَّصِّ، وَمَنِ اسْتَغْنَى دَخَل فِي عُمُومِ النُّصُوصِ الْمُحَرِّمَةِ لِلسُّؤَال.
وَيَتَّفِقُ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْغَنِيَّ يَحْرُمُ عَلَيْهِ سُؤَال الصَّدَقَةِ، وَلَكِنَّهُمْ يَخْتَلِفُونَ فِي تَقْدِيرِ الْغِنَى الَّذِي يَحْرُمُ مَعَهُ السُّؤَال (50) .
يَقُول الْكَاسَانِيُّ: الْغِنَى الَّذِي يَحْرُمُ بِهِ السُّؤَال هُوَ: أَنْ يَكُونَ لِلإِْنْسَانِ سِدَادُ عَيْشٍ، بِأَنْ كَانَ لَهُ قُوتُ يَوْمِهِ (51) ، لِمَا رُوِيَ عَنْ رَسُول اللَّهِ ﷺ أَنَّهُ قَال: مَنْ سَأَل وَعِنْدَهُ مَا يُغْنِيهِ فَإِنَّمَا يَسْتَكْثِرُ مِنَ النَّارِ، فَقَالُوا: يَا رَسُول اللَّهِ وَمَا يُغْنِيهِ؟ قَال: قَدْرُ مَا يُغَدِّيهِ وَيُعَشِّيهِ (52)
وَذَكَرَ الْحَطَّابُ نَقْلاً عَنْ التَّمْهِيدِ فِي قَوْلِهِ ﷺ: مَنْ سَأَل وَلَهُ قِيمَةُ أُوقِيَّةٍ فَقَدْ أَلْحَفَ (53) الْحَدِيثُ فِيهِ أَنَّ السُّؤَال مَكْرُوهٌ لِمَنْ لَهُ أُوقِيَّةٌ مِنْ فِضَّةٍ (54) .
وَفَرَّقَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ بَيْنَ الْغِنَى بِالنِّسْبَةِ إِلَى سُؤَال صَدَقَةِ التَّطَوُّعِ، وَبَيْنَ سُؤَال الزَّكَاةِ الْوَاجِبَةِ، فَقَالُوا: غَيْرُ الْمُحْتَاجِ مَنْ عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى طَلَبِ صَدَقَةِ التَّطَوُّعِ، أَوْ قُوتُ سَنَةٍ بِالنِّسْبَةِ إِلَى سُؤَال الزَّكَاةِ الْوَاجِبَةِ، فَمَنْ كَانَ عِنْدَهُ ذَلِكَ حَرُمَ عَلَيْهِ الأَْخْذُ مُطْلَقًا، أَيْ سَوَاءٌ كَانَ مَا يَأْخُذُهُ مِنَ الْمُتَصَدِّقِ وَاجِبًا عَلَيْهِ كَالزَّكَاةِ، أَوْ كَانَ تَطَوُّعًا (55) .
وَفِي نِهَايَةِ الْمُحْتَاجِ: يُكْرَهُ التَّعَرُّضُ لأَِخْذِ صَدَقَةِ التَّطَوُّعِ وَإِنْ لَمْ يَكْفِهِ مَالُهُ أَوْ كَسْبُهُ إِلاَّ يَوْمًا وَلَيْلَةً، وَسُؤَال الْغَنِيِّ حَرَامٌ إِنْ وَجَدَ مَا يَكْفِيهِ هُوَ وَمَنْ يَمُونُهُ يَوْمَهُمْ وَلَيْلَتَهُمْ، وَسُتْرَتَهُ، وَآنِيَةٌ يَحْتَاجُونَ إِلَيْهَا، وَالأَْوْجَهُ جَوَازُ سُؤَال مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ بَعْدَ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ إِنْ كَانَ السُّؤَال عِنْدَ نَفَادِ ذَلِكَ غَيْرَ مُتَيَسِّرٍ، وَإِلاَّ امْتَنَعَ، وَقَيَّدَ بَعْضُهُمْ غَايَةَ ذَلِكَ بِسَنَةٍ، وَنَازَعَ الأَْذْرَعِيُّ فِي التَّحْدِيدِ بِهَا، ثُمَّ قَال فِي النِّهَايَةِ: وَمَعْلُومٌ أَنَّ سُؤَال مَا اعْتِيدَ سُؤَالُهُ - مِنْ قَلَمٍ وَسِوَاكٍ - مِنَ الأَْصْدِقَاءِ وَنَحْوِهِمْ مِمَّا لاَ يُشَكُّ فِي رِضَا بَاذِلِهِ وَإِنْ عَلِمَ غِنَى آخِذِهِ لاَ حُرْمَةَ فِيهِ وَلَوْ عَلَى الْغَنِيِّ، لاِعْتِيَادِ الْمُسَامَحَةِ بِهِ، ثُمَّ قَال أَيْضًا فِي النِّهَايَةِ: وَفِي شَرْحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ: مَتَى أَذَلّ نَفْسَهُ أَوْ أَلَحَّ فِي السُّؤَال أَوْ آذَى الْمَسْئُول حَرُمَ اتِّفَاقًا وَإِنْ كَانَ مُحْتَاجًا، كَمَا أَفْتَى بِهِ ابْنُ الصَّلاَحِ (56) .
وَفِي شَرْحِ الْمِنْهَاجِ نَقْلاً عَنْ الْحَاوِي: الْغَنِيُّ بِمَالٍ أَوْ بِصَنْعَةٍ سُؤَالُهُ حَرَامٌ، وَمَا يَأْخُذُهُ حَرَامٌ عَلَيْهِ (57) .
وَفِي الْفُرُوعِ مِنْ كُتُبِ الْحَنَابِلَةِ: مَنْ أُبِيحَ لَهُ أَخْذُ شَيْءٍ أُبِيحَ لَهُ سُؤَالُهُ، وَعَنِ الإِْمَامِ أَحْمَدَ: يَحْرُمُ السُّؤَال لاَ الأَْخْذُ عَلَى مَنْ لَهُ قُوتُ يَوْمِهِ غَدَاءً وَعَشَاءً، ذَكَرَ ابْنُ عَقِيلٍ أَنَّهُ اخْتَارَهُ جَمَاعَةٌ، وَيَكُونُ هَذَا هُوَ الْغِنَى الَّذِي يَمْنَعُ السُّؤَال، وَعَنْ أَحْمَدَ: غَدَاءً أَوْ عَشَاءً، وَعَنْهُ: إِذَا كَانَ عِنْدَهُ خَمْسُونَ دِرْهَمًا، ذَكَرَ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ الْخَلاَّل، وَذَكَرَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي الْمِنْهَاجِ: إِنْ عَلِمَ أَنَّهُ يَجِدُ مَنْ يَسْأَلُهُ كُل يَوْمٍ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَسْأَل أَكْثَر مِنْ قُوتِ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، وَإِنْ خَافَ أَنْ لاَ يَجِدَ مَنْ يُعْطِيهِ أَوْ خَافَ أَنْ يَعْجِزَ عَنِ السُّؤَال أُبِيحَ لَهُ السُّؤَال أَكْثَر مِنْ ذَلِكَ، وَلاَ يَجُوزُ لَهُ فِي الْجُمْلَةِ أَنْ يَسْأَل فَوْقَ مَا يَكْفِيهِ لِسَنَةٍ، وَعَلَى هَذَا يَنْزِل الْحَدِيثُ فِي الْغِنَى بِخَمْسِينَ دِرْهَمًا، فَإِنَّهَا تَكْفِي الْمُنْفَرِدَ الْمُقْتَصِدَ لِسَنَتِهِ (58) . الْحَجْرُ عَلَى الْغَنِيِّ بِسَبَبِ إِسْرَافِهِ وَتَبْذِيرِهِ:
13 - مِنَ الْمُقَرَّرِ شَرْعًا أَنَّ الْحِفَاظَ عَلَى الْمَال مِنْ مَقَاصِدِ الشَّرِيعَةِ، وَمِنَ الْحِفَاظِ عَلَيْهِ عَدَمُ الإِْسْرَافِ وَالتَّبْذِيرِ فِيهِ، كَصَرْفِهِ فِيمَا لَيْسَ فِيهِ نَفْعٌ، أَوْ فِيمَا فِيهِ مَعْصِيَةٌ وَضَرَرٌ، كَالصَّرْفِ فِي شِرَاءِ الْخَمْرِ، وَآلاَتِ اللَّهْوِ وَالْقِمَارِ، وَمَا شَابَهَ ذَلِكَ، وَمَنْ يَفْعَل ذَلِكَ فَهُوَ سَفِيهٌ يَسْتَحِقُّ الْحَجْرَ عَلَيْهِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، كَمَا يُحْجَرُ عَلَى الصَّبِيِّ فِي مَالِهِ؛ لأَِنَّهُ لاَ يُحْسِنُ التَّصَرُّفَ فِيهِ.
وَقَدْ نَهَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَنْ إِيتَاءِ السُّفَهَاءِ أَمْوَالَهُمْ، يَقُول اللَّهُ تَعَالَى {وَلاَ تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَل اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا} (59) وَهِيَ وَإِنْ كَانَتْ أَمْوَال الْيَتَامَى إِلاَّ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَضَافَهَا إِلَى الأَْوْلِيَاءِ لأَِنَّهُمْ قُوَّامُهَا وَمُدَبِّرُوهَا، فَنَهَاهُمُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَنْ أَنْ يُؤْتَوْهَا الْيَتَامَى حَتَّى يَبْلُغُوا الرُّشْدَ فَقَال تَعَالَى {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} (60) ، أَيْ إِنْ أَبْصَرْتُمْ وَعَلِمْتُمْ مِنْهُمْ حِفْظًا لأَِمْوَالِهِمْ وَصَلاَحِهِمْ فِي تَدْبِيرِ مَعَايِشِهِمْ فَادْفَعُوهَا إِلَيْهِمْ. قَال ابْنُ قُدَامَةَ: قَال أَكْثَرُ أَهْل الْعِلْمِ: الرُّشْدُ الصَّلاَحُ فِي الْمَال، وَالإِْنْسَانُ إِذَا كَانَ يُنْفِقُ مَالَهُ فِي الْمَعَاصِي كَشِرَاءِ الْخَمْرِ وَآلاَتِ اللَّهْوِ، أَوْ يَتَوَصَّل بِهِ إِلَى الْفَسَادِ، فَهُوَ غَيْرُ رَشِيدٍ؛ لِتَبْذِيرِهِ مَالَهُ وَتَضْيِيعِهِ إِيَّاهُ فِي غَيْرِ فَائِدَةٍ.
وَلِهَذَا فَإِنَّهُ يَحْجُرُ عَلَى السَّفِيهِ حِفَاظًا عَلَى مَالِهِ، وَكَذَلِكَ فَإِنَّ الصَّغِيرَ الْمَحْجُورَ عَلَيْهِ إِذَا فُكَّ عَنْهُ الْحَجْرُ لِرُشْدِهِ وَبُلُوغِهِ وَدَفَعَ إِلَيْهِ مَالَهُ ثُمَّ عَادَ إِلَى السَّفَهِ أُعِيدَ عَلَيْهِ الْحَجْرُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ: الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ. وَذَلِكَ فِي الْجُمْلَةِ (61) . وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي (حَجْرٍ ف 11، 12، 13)
الْغِنَى الَّذِي تَتَعَلَّقُ بِهِ الزَّكَاةُ:
14 - الْغِنَى الَّذِي تَتَعَلَّقُ بِهِ الزَّكَاةُ نَوْعَانِ: غِنًى تَجِبُ بِهِ الزَّكَاةُ، وَغِنًى مَانِعٌ مِنْ أَخْذِ الزَّكَاةِ.
وَالْغِنَى الْمُعْتَبَرُ فِي إِيجَابِ الزَّكَاةِ هُوَ كَوْنُ الْمَال الَّذِي فِيهِ الزَّكَاةُ فَاضِلاً عَنْ الْحَاجَةِ الأَْصْلِيَّةِ لأََنْ بِهِ يَتَحَقَّقُ مَعْنَى الْغِنَى (62) . وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي (زَكَاةٍ ف 28، 31)
وَالْغِنَى أَيْضًا هُوَ الأَْصْل فِي الْمَنْعِ مِنْ أَخْذِ الزَّكَاةِ، فَلاَ يَجُوزُ أَنْ تُعْطَى الزَّكَاةُ لِغَنِيٍّ، لِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} (63) ، وَقَوْل النَّبِيِّ ﷺ: لاَ حَظَّ فِيهَا لِغَنِيٍّ، وَلاَ لِقَوِيٍّ مُكْتَسِبٍ (64) وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْغِنَى الْمَانِعِ مِنْ أَخْذِ الزَّكَاةِ عَلَى مَذَاهِبَ، وَالتَّفْصِيل فِي (زَكَاةٍ ف 159) .
أَثَرُ الْغِنَى فِي أَدَاءِ الْكَفَّارَاتِ:
15 - لِلْغِنَى أَثَرٌ فِي أَدَاءِ الْكَفَّارَاتِ، سَوَاءٌ أَكَانَتِ الْكَفَّارَةُ عَنْ ظِهَارٍ، أَمْ قَتْلٍ، أَمْ إِفْطَارٍ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ، أَمْ حِنْثٍ فِي يَمِينٍ، وَسَوَاءٌ أَكَانَ الْوَاجِبُ فِي الأَْدَاءِ عَلَى التَّعْيِينِ فِي أَنْوَاعِ الْكَفَّارَةِ كَمَا فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ وَالْقَتْل، أَمْ كَانَ الْوَاجِبُ عَلَى التَّخْيِيرِ فِي أَنْوَاعِهَا كَمَا فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ.
وَالْغِنَى الْمُعْتَبَرُ فِي أَدَاءِ الْكَفَّارَةِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ هُوَ: أَنْ يَكُونَ عِنْدَ الإِْنْسَانِ مَا يُؤَدِّي بِهِ النَّوْعَ الَّذِي وَجَبَ عَلَيْهِ مِنْ أَنْوَاعِ الْكَفَّارَةِ فَاضِلاً عَنْ كِفَايَتِهِ وَكِفَايَةِ مَنْ يَمُونُهُ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ حَوَائِجِهِ الأَْصْلِيَّةِ؛ لأَِنَّ مَا اسْتَغْرَقَتْهُ حَاجَةُ الإِْنْسَانِ كَالْمَعْدُومِ فِي جَوَازِ الاِنْتِقَال إِلَى الْبَدَل.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْقُدْرَةَ تُعْتَبَرُ بِمِلْكِ مَا يُكَفِّرُ بِهِ، وَلَوْ كَانَ مُحْتَاجًا إِلَيْهِ لِعِلاَجِ مَرَضٍ، وَسَكَنٍ لاَ فَضْل فِيهِ عَلَى مَا يَسْكُنُهُ، فَإِنَّهُ يَبِيعُهُ وَيُكَفِّرُ بِهِ، وَكَذَلِكَ تُعْتَبَرُ الْقُدْرَةُ بِمَا يَمْلِكُهُ مِنْ كُتُبِ فِقْهٍ وَحَدِيثٍ مُحْتَاجٍ لَهَا، وَلِلْمُرَاجَعَةِ فِيهَا، فَيُبَاعُ ذَلِكَ وَيُكَفِّرُ بِثَمَنِهِ، قَال الْعَدَوِيُّ فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ: وَلاَ يُتْرَكُ لَهُ قُوتُهُ، وَلاَ النَّفَقَةُ الْوَاجِبَةُ عَلَيْهِ، لإِِتْيَانِهِ بِمُنْكَرٍ مِنَ الْقَوْل (65) .
وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وَقْتِ اعْتِبَارِ الْغِنَى بِالنِّسْبَةِ لأَِدَاءِ الْكَفَّارَةِ، هَل هُوَ وَقْتُ الْوُجُوبِ، أَوْ وَقْتُ الأَْدَاءِ؟ فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَهُوَ الأَْظْهَرُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: الْمُعْتَبَرُ وَقْتُ الأَْدَاءِ؛ لأَِنَّهَا عِبَادَةٌ لَهَا بَدَلٌ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهَا، فَاعْتُبِرَ حَال أَدَائِهَا، وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَفِي قَوْلٍ لِلشَّافِعِيَّةِ: الْمُعْتَبَرُ وَقْتُ الْوُجُوبِ، وَلاَ يُعْطَى مِنَ الْكَفَّارَاتِ لِغَنِيٍّ يُمْنَعُ مِنْ أَخْذِ الزَّكَاةِ (66) . وَفِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (كَفَّارَة) .
أَثَرُ الْغِنَى فِي النَّفَقَةِ الْوَاجِبَةِ لِلزَّوْجَةِ:
16 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ النَّفَقَةَ الْوَاجِبَةَ لِلزَّوْجَةِ تَخْتَلِفُ بِالْيَسَارِ وَالإِْعْسَارِ، وَالأَْصْل فِي هَذَا قَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ} (67) وقَوْله تَعَالَى: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ} (68) وَقَدْ قَال النَّبِيُّ ﷺ لِهِنْدِ امْرَأَةِ أَبِي سُفْيَانَ: خُذِي مِنْ مَالِهِ مَا يَكْفِيك وَوَلَدَك بِالْمَعْرُوفِ. (69)
لَكِنَّ الْفُقَهَاءَ يَخْتَلِفُونَ: هَل الْعِبْرَةُ فِي الإِْنْفَاقِ بِيَسَارِ الزَّوْجِ فَقَطْ، أَمِ الْعِبْرَةُ بِيَسَارِ الزَّوْجِ وَالزَّوْجَةِ مَعًا؟
فَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَالْخَصَّافِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ تَكُونُ الْعِبْرَةُ فِي النَّفَقَةِ بِحَال الزَّوْجِ وَالزَّوْجَةِ مَعًا فِي الْيَسَارِ وَالإِْعْسَارِ، وَدَلِيلُهُمْ قَوْل النَّبِيِّ ﷺ لِهِنْدٍ: خُذِي مِنْ مَالِهِ مَا يَكْفِيك وَوَلَدَك بِالْمَعْرُوفِ. فَاعْتَبَرَ حَالَهَا، فَإِنَّ النَّفَقَةَ تَجِبُ بِطَرِيقِ الْكِفَايَةِ، وَالْفَقِيرَةُ لاَ تَفْتَقِرُ إِلَى كِفَايَةِ الْمُوسِرَاتِ، فَلاَ مَعْنَى لِلزِّيَادَةِ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْكَرْخِيُّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّ الْعِبْرَةَ فِي النَّفَقَةِ تَكُونُ بِحَال الزَّوْجِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ} (70) فَفَرَّقَ بَيْنَ الْمُوسِرِ وَالْمُعْسِرِ.
وَالْيَسَارُ الْمُعْتَبَرُ فِي النَّفَقَةِ الْوَاجِبَةِ لِلزَّوْجَةِ هُوَ الْقُدْرَةُ عَلَى النَّفَقَةِ بِالْمَال أَوْ بِالْكَسْبِ (71) .
وَفِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي (نَفَقَةٍ) .
اعْتِبَارُ الْغِنَى فِي نَفَقَةِ الأَْقَارِبِ:
17 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى اشْتِرَاطِ الْغِنَى وَالْيَسَارِ فِيمَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ نَفَقَةُ الأَْقَارِبِ، وَاسْتَثْنَى الْحَنَفِيَّةُ الأَْبَ فِي وُجُوبِ نَفَقَةِ أَوْلاَدِهِ الصِّغَارِ الْفُقَرَاءِ عَلَيْهِ، فَقَالُوا: تَجِبُ نَفَقَتُهُمْ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا مَا دَامَ قَادِرًا عَلَى الْكَسْبِ.
وَحَدُّ الْغِنَى عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ مِلْكُ نِصَابِ الزَّكَاةِ زَائِدًا عَنْ حَاجَتِهِ الأَْصْلِيَّةِ وَحَاجَاتِ عِيَالِهِ فِي قَوْل أَبِي يُوسُفَ، وَقَال مُحَمَّدٌ: إِذَا كَانَ لَهُ نَفَقَةُ شَهْرٍ وَعِنْدَهُ فَضْلٌ عَنْ نَفَقَةِ شَهْرٍ لَهُ وَلِعِيَالِهِ، أُجْبِرَ عَلَى نَفَقَةِ ذِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ، وَأَمَّا مَنْ لاَ شَيْءَ لَهُ وَهُوَ يَكْتَسِبُ كُل يَوْمٍ دِرْهَمًا وَيَكْتَفِي مِنْهُ بِجُزْءٍ مِنْهُ، فَإِنَّهُ يَرْفَعُ لِنَفْسِهِ وَلِعِيَالِهِ مَا يَتَّسِعُ بِهِ، وَيُنْفِقُ فَضْلَهُ عَلَى مَنْ تَجِبُ نَفَقَتُهُ عَلَيْهِ، وَقَوْل مُحَمَّدٍ هُوَ الأَْوْفَقُ كَمَا قَال الْكَاسَانِيُّ.
وَأَطْلَقَ الْمَالِكِيَّةُ اشْتِرَاطَ الْيَسَارِ دُونَ تَحْدِيدٍ، وَنَصُّوا عَلَى أَنَّهُ لاَ يَجِبُ عَلَى الْوَلَدِ الْمُعْسِرِ لِوَالِدَيْهِ تَكَسُّبٌ لِيُنْفِقَ عَلَيْهِمَا وَلَوْ قَدَرَ عَلَى التَّكَسُّبِ (72) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ تَجِبُ نَفَقَةُ الْقَرِيبِ إِلاَّ عَلَى مُوسِرٍ أَوْ مُكْتَسِبٍ يَفْضُل عَنْ حَاجَتِهِ مَا يُنْفِقُ عَلَى قَرِيبِهِ، وَأَمَّا مَنْ لاَ يَفْضُل عَنْ نَفَقَتِهِ شَيْءٌ فَلاَ تَجِبُ عَلَيْهِ، لِمَا رَوَى جَابِرٌ ﵁ أَنَّ رَسُول اللَّهِ ﷺ قَال: إِذَا كَانَ أَحَدُكُمْ فَقِيرًا فَلْيَبْدَأْ بِنَفْسِهِ، فَإِنْ كَانَ فِيهَا فَضْلٌ فَعَلَى عِيَالِهِ، فَإِنْ كَانَ فِيهَا فَضْلٌ فَعَلَى ذِي قَرَابَتِهِ (73) فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَضْلٌ غَيْرَ مَا يُنْفِقُ عَلَى زَوْجَتِهِ لَمْ يَلْزَمْهُ نَفَقَةُ الْقَرِيبِ، لِحَدِيثِ جَابِرٍ ﵁؛ وَلأَِنَّ نَفَقَةَ الْقَرِيبِ مُوَاسَاةٌ وَنَفَقَةَ الزَّوْجَةِ عِوَضٌ، فَقُدِّمَتْ عَلَى الْمُوَاسَاةِ؛ وَلأَِنَّ نَفَقَةَ الزَّوْجَةِ تَجِبُ لِحَاجَتِهِ فَقُدِّمَتْ عَلَى نَفَقَةِ الْقَرِيبِ، كَنَفَقَةِ نَفْسِهِ.
وَقَالُوا إِنَّهُ يَلْزَمُ كَسُوبًا - إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ - كَسْبُهَا فِي الأَْصَحِّ، لِقَوْلِهِ ﷺ: كَفَى بِالْمَرْءِ إِثْمًا أَنْ يَحْبِسَ عَمَّنْ يَمْلِكُ قُوتَهُ (74) وَلأَِنَّ الْقُدْرَةَ بِالْكَسْبِ كَالْقُدْرَةِ بِالْمَال (75) .
اعْتِبَارُ الْغِنَى فِيمَنْ يَتَحَمَّل الدِّيَةَ:
18 - يُشْتَرَطُ فِيمَنْ يَتَحَمَّل الدِّيَةَ مِنَ الْعَاقِلَةِ أَنْ يَكُونَ غَنِيًّا قَادِرًا عَلَى دَفْعِ مَا يَتَقَرَّرُ عَلَيْهِ مِنَ الدِّيَةِ. وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَقْدِيرِ الْغِنَى الَّذِي يُوجِبُ التَّحَمُّل:
فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى عَدَمِ التَّحْدِيدِ، وَإِنَّمَا قَالُوا: يَضْرِبُ عَلَى كُل شَخْصٍ مِنَ الْعَاقِلَةِ بِحَسَبِ غِنَاهُ، بِحَيْثُ لاَ يُجْحِفُ بِمَالِهِ، فَلاَ يُسَاوِي مَا يُجْعَل عَلَى قَلِيل الْمَال مَا يُجْعَل عَلَى كَثِيرِهِ. وَذَلِكَ عَلَى قَدْرِ طَاقَةِ النَّاسِ فِي يُسْرِهِمْ، وَلَمْ يَحُدَّ مَالِكٌ فِي ذَلِكَ حَدًّا.
وَحَدَّدَ الشَّافِعِيَّةُ الْغَنِيَّ الَّذِي يَتَحَمَّل فِي الدِّيَةِ بِأَنَّهُ مَنْ يَمْلِكُ آخِرَ السَّنَةِ فَاضِلاً عَنْ حَاجَتِهِ عِشْرِينَ دِينَارًا ذَهَبًا أَوْ قَدْرَهَا، اعْتِبَارًا بِالزَّكَاةِ.
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: لاَ يَتَحَمَّل الدِّيَةَ فَقِيرٌ، وَهُوَ مَنْ لاَ يَمْلِكُ نِصَابًا عِنْدَ حُلُول الْحَوْل فَاضِلاً عَنْهُ (76) .
أَثَرُ الْغِنَى فِي دَفْعِ الضَّرَرِ:
19 - تَبَرُّعُ الْغَنِيِّ بِجُزْءٍ مِنْ مَالِهِ مُسْتَحَبٌّ، سَوَاءٌ أَكَانَ ذَلِكَ عَنْ طَرِيقِ الصَّدَقَةِ الْمُطْلَقَةِ، أَمِ الْوَصِيَّةِ، أَمِ الْوَقْفِ، أَمْ مَا شَابَهَ ذَلِكَ.
إِلاَّ أَنَّ التَّبَرُّعَ قَدْ يَجِبُ عَلَى الأَْغْنِيَاءِ، وَذَلِكَ إِذَا كَانَ لِدَفْعِ حَاجَةِ الْمُضْطَرِّينَ. فَقَدْ ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ أَنَّ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ عَلَى الأَْغْنِيَاءِ دَفْعَ ضَرَرِ الْمُسْلِمِ، كَكِسْوَةِ الْعَارِي، وَإِطْعَامِ الْجَائِعِ، وَفَكِّ الأَْسِيرِ، وَذَلِكَ إِذَا لَمْ يَنْدَفِعِ الضَّرَرُ بِزَكَاةٍ وَلاَ بَيْتِ مَالٍ وَنَحْوِهِمَا، وَإِذَا فَعَل وَاحِدٌ ذَلِكَ سَقَطَ الْفَرْضُ عَنِ الْبَاقِينَ، فَإِنِ امْتَنَعُوا أَثِمُوا جَمِيعًا (77) ، قَال النَّبِيُّ ﷺ: مَا آمَنَ بِي مَنْ بَاتَ شَبْعَانَ وَجَارُهُ جَائِعٌ إِلَى جَنْبِهِ وَهُوَ يَعْلَمُ (78) وَإِذَا امْتَنَعَ الْغَنِيُّ عَنْ دَفْعِ حَاجَةِ الْمُضْطَرِّ إِلَى الطَّعَامِ أَوِ الشَّرَابِ، كَانَ مِنْ حَقِّ الْمُضْطَرِّ أَخْذُ مَا يَسُدُّ رَمَقَهُ مِنْ صَاحِبِهِ قَهْرًا.
قَال الْمَالِكِيَّةُ: إِذَا كَانَ عِنْدَ الشَّخْصِ مِنَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ زِيَادَةٌ عَلَى مَا يُمْسِكُ صِحَّتَهُ حَالاً وَمَآلاً إِلَى مَحَلٍّ يُوجَدُ فِيهِ الطَّعَامُ، وَكَانَ مَعَهُ مُضْطَرٌّ، فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ مُوَاسَاتُهُ بِذَلِكَ الزَّائِدِ، فَإِنْ مَنَعَ وَلَمْ يَدْفَعْ حَتَّى مَاتَ ضَمِنَ دِيَتَهُ.
وَالْغِنَى الْمُعْتَبَرُ هُنَا فِي الأَْصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ هُوَ الزِّيَادَةُ عَلَى كِفَايَةِ سَنَةٍ لِلْغَنِيِّ وَلِمَنْ يَمُونُهُمْ، لَكِنْ يَكْفِي فِي وُجُوبِ الْمُوَاسَاةِ أَنْ يَكُونَ لَهُ نَحْوُ وَظَائِفَ يَتَحَصَّل مِنْهَا مَا يَكْفِيهِ عَادَةً جَمِيعَ السَّنَةِ، وَيَتَحَصَّل عِنْدَهُ زِيَادَةٌ عَلَى ذَلِكَ مَا يُمْكِنُ مِنْهُ الْمُوَاسَاةُ. قَال الشَّافِعِيَّةُ: هَذَا فِي الْمُحْتَاجِ غَيْرِ الْمُضْطَرِّ، أَمَّا الْمُضْطَرُّ فَإِنَّهُ يَجِبُ إِطْعَامُهُ وَلَوْ كَانَ مَنْ مَعَهُ الطَّعَامُ يَحْتَاجُهُ فِي ثَانِي الْحَال عَلَى الأَْصَحِّ، لِلضَّرُورَةِ النَّاجِزَةِ.
وَلَمْ يُحَدِّدِ الْحَنَابِلَةُ تَقْدِيرًا لِلْغِنَى، لَكِنَّهُمْ قَالُوا: مَنْ كَانَ مَعَهُ طَعَامٌ وَكَانَ مُضْطَرًّا إِلَيْهِ وَلَوْ فِي الْمُسْتَقْبَل، بِأَنْ كَانَ خَائِفًا أَنْ يَضْطَرَّ إِلَيْهِ، فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ، وَقَالُوا: إِذَا اشْتَدَّتِ الْمَخْمَصَةُ فِي سَنَةِ مَجَاعَةٍ وَأَصَابَتِ الضَّرُورَةُ خَلْقًا كَثِيرًا، وَكَانَ عِنْدَ بَعْضِ النَّاسِ قَدْرُ كِفَايَتِهِ وَكِفَايَةِ عِيَالِهِ، لَمْ يَلْزَمْهُ بَذْلُهُ لِلْمُضْطَرِّينَ، وَلَيْسَ لَهُمْ أَخْذُهُ مِنْهُ، لأَِنَّ الضَّرَرَ لاَ يُزَال بِالضَّرَرِ، وَكَذَلِكَ إِذَا كَانُوا فِي سَفَرٍ وَمَعَهُ قَدْرُ كِفَايَتِهِ مِنْ غَيْرِ فَضْلَةٍ لَمْ يَلْزَمْهُ بَذْل مَا مَعَهُ لِلْمُضْطَرِّ (79)
اعْتِبَارُ الْغِنَى فِي صَدَقَةِ التَّطَوُّعِ:
20 - الْغِنَى الْمُعْتَبَرُ فِي صَدَقَةِ التَّطَوُّعِ هُوَ أَنْ يَكُونَ عِنْدَ الإِْنْسَانِ فَائِضٌ عَنْ كِفَايَتِهِ وَكِفَايَةِ مَنْ يَمُونُهُ، فَيَتَصَدَّقُ مِنْهُ، فَإِنْ تَصَدَّقَ الإِْنْسَانُ بِمَا يُنْقِصُ مُؤْنَتَهُ أَوْ مُؤْنَةَ مَنْ يَمُونُهُ كَانَ آثِمًا، فَقَدْ رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنَّ رَجُلاً أَتَى النَّبِيَّ ﷺ فَقَال: يَا رَسُول اللَّهِ، عِنْدِي دِينَارٌ، قَال: أَنْفِقْهُ عَلَى نَفْسِك، قَال: عِنْدِي آخَرُ، قَال: أَنْفِقْهُ عَلَى وَلَدِك، قَال عِنْدِي آخَرُ. قَال: أَنْفِقْهُ عَلَى أَهْلِك، قَال: عِنْدِي آخَرُ، قَال: أَنْفِقْهُ عَلَى خَادِمِك، قَال: عِنْدِي آخَرُ، قَال: أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ (80) وَقَال ﷺ: كَفَى بِالْمَرْءِ إِثْمًا أَنْ يَحْبِسَ عَمَّنْ يَمْلِكُ قُوتَهُ (81) وَتَحِل صَدَقَةُ التَّطَوُّعِ لِلأَْغْنِيَاءِ كَمَا تَحِل لِلْفُقَرَاءِ.
وَالْمُرَادُ بِالْغَنِيِّ هُنَا مَنْ مُنِعَ مِنْ أَخْذِ الزَّكَاةِ لِغِنَاهُ، فَيَحِل لَهُ الأَْخْذُ مِنْ صَدَقَةِ التَّطَوُّعِ، إِلاَّ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لَهُ التَّنَزُّهُ عَنْهَا وَالتَّعَفُّفُ، فَلاَ يَأْخُذْهَا وَلاَ يَتَعَرَّضُ لَهَا، فَإِنْ أَظْهَرَ الْفَاقَةَ وَأَخَذَهَا حَرُمَ عَلَيْهِ ذَلِكَ (82) . اعْتِبَارُ الْغِنَى فِي الأُْضْحِيَّةِ:
21 - الأُْضْحِيَّةُ سَوَاءٌ أَكَانَتْ سُنَّةً كَمَا يَقُول جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ، أَمْ وَاجِبَةً كَمَا يَقُول أَبُو حَنِيفَةَ، يُشْتَرَطُ فِيهَا الْغِنَى بِالنِّسْبَةِ لِلْمُضَحِّي، وَذَلِكَ لِقَوْل النَّبِيِّ ﷺ: مَنْ كَانَ لَهُ سَعَةٌ وَلَمْ يُضَحِّ فَلاَ يَقْرَبَنَّ مُصَلاَّنَا (83) وَالسَّعَةُ هِيَ الْغِنَى.
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْغِنَى الْمُعْتَبَرِ بِالنِّسْبَةِ لِلأُْضْحِيَّةِ.
فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ هُوَ أَنْ يَكُونَ فِي مِلْكِ الإِْنْسَانِ مِائَتَا دِرْهَمٍ أَوْ عِشْرُونَ دِينَارًا أَوْ شَيْءٌ تَبْلُغُ قِيمَتُهُ ذَلِكَ، سِوَى مَسْكَنِهِ وَحَوَائِجِهِ الأَْصْلِيَّةِ وَدُيُونِهِ.
وَلَمْ يُحَدِّدِ الْمَالِكِيَّةُ تَقْدِيرَ الْغِنَى وَإِنَّمَا قَالُوا: يُشْتَرَطُ أَنْ لاَ يَحْتَاجَ لِثَمَنِهَا فِي الأُْمُورِ الضَّرُورِيَّةِ فِي عَامِهِ، فَإِنِ احْتَاجَ لَهُ فِيهِ فَلاَ تُسَنُّ لَهُ.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: يُشْتَرَطُ أَنْ تَكُونَ الأُْضْحِيَّةُ فَاضِلَةً عَنْ حَاجَةِ الْمُضَحِّي وَحَاجَةِ مَنْ يَمُونُهُ وَكِسْوَةِ فَصْلِهِ يَوْمَ الْعِيدِ وَأَيَّامَ التَّشْرِيقِ فَإِنَّهُ وَقْتُهَا.
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: يُكْرَهُ تَرْكُ الأُْضْحِيَّةِ لِقَادِرٍ عَلَيْهَا، وَمَنْ عَدِمَ مَا يُضَحِّي بِهِ اقْتَرَضَ وَضَحَّى مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْوَفَاءِ (84)
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (أُضْحِيَّةٍ ف 16، 59)
أَثَرُ الْغِنَى بِالنِّسْبَةِ لِلْوَصِيَّةِ:
22 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ مَنْ كَانَ غَنِيًّا فَإِنَّهُ يُسْتَحَبُّ لَهُ الْوَصِيَّةُ بِجُزْءٍ مِنْ مَالِهِ، أَمَّا الْفَقِيرُ فَلاَ يُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يُوصِيَ (85) . لأَِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَال: {إِنْ تَرَكَ خَيْرًا} (86) وَقَال النَّبِيُّ ﷺ لِسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ: إِنَّك أَنْ تَذَرَ وَرَثَتَك أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَذَرَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ. (87)
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ قَلِيل الْمَال الَّذِي لَهُ وَرَثَةٌ فُقَرَاءُ لاَ يُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يُوصِيَ، وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ إِذَا تَرَكَ دُونَ الأَْلْفِ لاَ تُسْتَحَبُّ الْوَصِيَّةُ، قَال ابْنُ قُدَامَةَ: وَالَّذِي يَقْوَى عِنْدِي أَنَّهُ مَتَى كَانَ الْمَتْرُوكُ لاَ يَفْضُل عَنْ غِنَى الْوَرَثَةِ فَلاَ تُسْتَحَبُّ الْوَصِيَّةُ، لأَِنَّ النَّبِيَّ ﷺ عَلَّل الْمَنْعَ مِنَ الْوَصِيَّةِ بِقَوْلِهِ: أَنْ تَذَرَ وَرَثَتَك أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَذَرَهُمْ عَالَةً وَلأَِنَّ إِعْطَاءَ الْقَرِيبِ الْمُحْتَاجِ خَيْرٌ مِنْ إِعْطَاءِ الأَْجْنَبِيِّ، فَمَتَى لَمْ يَبْلُغِ الْمِيرَاثُ غِنَاهُمْ كَانَ تَرْكُهُ لَهُمْ كَعَطِيَّتِهِمْ إِيَّاهُ، فَيَكُونُ ذَلِكَ أَفْضَل مِنَ الْوَصِيَّةِ بِهِ لِغَيْرِهِمْ، فَعِنْدَ هَذَا يَخْتَلِفُ الْحَال بِاخْتِلاَفِ الْوَرَثَةِ، فَلاَ يَتَقَيَّدُ بِقَدْرٍ مِنَ الْمَال (88) .
اعْتِبَارُ الْغِنَى فِي الْكَفَاءَةِ فِي النِّكَاحِ:
23 - لِلْفُقَهَاءِ اتِّجَاهَانِ فِي اعْتِبَارِ الْغِنَى فِي الْكَفَاءَةِ فِي النِّكَاحِ:
أ - الاِتِّجَاهُ الأَْوَّل: هُوَ أَنَّ الْغِنَى مُعْتَبَرٌ فِي النِّكَاحِ فِي حَقِّ الزَّوْجِ، فَلاَ يَكُونُ الْفَقِيرُ كُفْئًا لِلْغَنِيَّةِ؛ لأَِنَّ التَّفَاخُرَ بِالْمَال أَكْثَرُ مِنَ التَّفَاخُرِ بِغَيْرِهِ عَادَةً؛ وَلأَِنَّ لِلنِّكَاحِ تَعَلُّقًا لاَزِمًا بِالْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ، وَقَدْ قَال النَّبِيُّ ﷺ: الْحَسَبُ: الْمَال (89) وَقَال: إِنَّ أَحْسَابَ أَهْل الدُّنْيَا الَّذِي يَذْهَبُونَ إِلَيْهِ هَذَا الْمَال (90) وَقَال لَفَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ حِينَ أَخْبَرَتْهُ أَنَّ مُعَاوِيَةَ خَطَبَهَا: أَمَّا مُعَاوِيَةُ فَصُعْلُوكٌ لاَ مَال لَهُ (91) ، وَلأَِنَّ عَلَى الْمُوسِرَةِ ضَرَرًا فِي إِعْسَارِ زَوْجِهَا، وَلِهَذَا مَلَكَتِ الْفَسْخَ بِإِخْلاَلِهِ بِالنَّفَقَةِ فَكَذَلِكَ إِذَا كَانَ مُقَارَنًا؛ وَلأَِنَّ ذَلِكَ مَعْدُودٌ نَقْصًا فِي عُرْفِ النَّاسِ.
وَهَذَا مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، قَال الأَْذْرَعِيُّ عَنْهُ إِنَّهُ الْمَذْهَبُ الْمَنْصُوصُ الأَْرْجَحُ دَلِيلاً وَنَقْلاً، وَهُوَ كَذَلِكَ قَوْلٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَرِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ ذَكَرَهَا ابْنُ قُدَامَةَ، فِي حِينِ أَنَّ أَكْثَر كُتُبِ الْحَنَابِلَةِ لَمْ يَرْوِ غَيْرَهَا فِي الْمَذْهَبِ (92) .
ب - وَالاِتِّجَاهُ الثَّانِي: هُوَ عَدَمُ اعْتِبَارِ الْغِنَى فِي الْكَفَاءَةِ؛ لأَِنَّ الْمَال ظِلٌّ زَائِلٌ، وَهُوَ يَرُوحُ وَيَغْدُو، وَلاَ يَفْتَخِرُ بِهِ أَهْل الْمُرُوءَاتِ وَالْبَصَائِرِ. وَهَذَا قَوْلٌ لِلْمَالِكِيَّةِ، وَعَلَى هَذَا الْقَوْل: إِنَّهُ لَيْسَ لِلأُْمِّ الاِعْتِرَاضُ عَلَى الأَْبِ إِذَا زَوَّجَ ابْنَتَهُ مِنْ رَجُلٍ فَقِيرٍ، خِلاَفًا لِمَنْ قَال - بِاعْتِبَارِ الْغِنَى - بِأَنَّ لَهَا الاِعْتِرَاضَ، وَعَدَمُ اعْتِبَارِ الْغِنَى هُوَ الأَْصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ كَمَا قَال النَّوَوِيُّ وَالشِّرْبِينِيُّ الْخَطِيبُ، وَهُوَ الرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ ذَكَرَهَا ابْنُ قُدَامَةَ (93) .
وَالْغِنَى الْمُعْتَبَرُ فِي الْكَفَاءَةِ هُوَ الْقُدْرَةُ عَلَى مَهْرِ مِثْلِهَا وَالنَّفَقَةِ، وَلاَ تُعْتَبَرُ الزِّيَادَةُ عَلَى ذَلِكَ، حَتَّى إِنَّ الزَّوْجَ إِذَا كَانَ قَادِرًا عَلَى مَهْرِ مِثْلِهَا وَنَفَقَتِهَا يَكُونُ كُفْئًا لَهَا، وَإِنْ كَانَ لاَ يُسَاوِيهَا فِي الْمَال، وَمَنْ لاَ يَمْلِكُ مَهْرًا وَلاَ نَفَقَةً فَلاَ يَكُونُ كُفْئًا لِلْغَنِيَّةِ، وَلاَ تُعْتَبَرُ الْمُسَاوَاةُ فِي الْغِنَى؛ لأَِنَّ الْغِنَى لاَ ثَبَاتَ لَهُ؛ لأَِنَّ الْمَال غَادٍ وَرَائِحٌ، وَهَذَا مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَاتِ، وَهُوَ مُوَافِقٌ لِمَا ذَكَرَهُ الْقَائِلُونَ بِاعْتِبَارِ الْغِنَى فِي الْكَفَاءَةِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ فِي غَيْرِ رِوَايَةِ الأُْصُول: أَنْ تُسَاوِيَ الزَّوْجَ وَالزَّوْجَةَ فِي الْغِنَى شَرْطُ تَحَقُّقِ الْكَفَاءَةِ؛ لأَِنَّ التَّفَاخُرَ يَقَعُ فِي الْغِنَى عَادَةً (94) .
__________
(1) حديث: " خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى ". أخرجه البخاري (فتح الباري 3 / 294) من حديث أبي هريرة.
(2) لسان العرب، والمصباح المنير.
(3) الفروق اللغوية لأبي هلال العسكري ص144.
(4) البدائع 2 / 47 - 48 - 319، والمغني 6 / 484، والمهذب 2 / 40، والمواق 2 / 342.
(5) لسان العرب.
(6) حاشية ابن عابدين 4 / 3.
(7) الفروق اللغوية لأبي هلال العسكري ص144، والمواق 2 / 342.
(8) القاموس المحيط، والمصباح المنير، ولسان العرب، والمبسوط للسرخسي 30 / 244.
(9) لسان العرب، والمصباح المنير، والمغرب، والمعجم الوسيط.
(10) نهاية المحتاج 1 / 22، 24، والبدائع 2 / 11.
(11) لسان العرب، والمصباح المنير، والمعجم الوسيط.
(12) سورة التوبة / 60.
(13) المغني 6 / 420.
(14) سورة الجمعة / 10.
(15) سورة الملك / 15.
(16) مختصر تفسير ابن كثير 3 / 528.
(17) المبسوط 30 / 250، والاختيار 4 / 172، والآداب الشرعية 3 / 278، 282.
(18) المبسوط 30 / 250، والاختيار 4 / 172.
(19) الاختيار 4 / 172.
(20) حديث: " من طلب الدنيا حلالاً مكاثرًا. . . ". أخرجه أبو نعيم في الحلية (3 / 110) من حديث أبي هريرة، وضعف إسناده العراقي (3 / 217 - بهامش الإحياء) .
(21) سورة النساء / 29.
(22) مختصر تفسير ابن كثير 1 / 378.
(23) سورة البقرة / 168.
(24) القرطبي 2 / 8.
(25) سورة المؤمنون / 51.
(26) سورة البقرة / 172.
(27) القرطبي 2 / 215، ومختصر تفسير ابن كثير 1 / 149، 150، وِأسهل المدارك 3 / 346. وحديث: " أيها الناس، إن الله طيب. . . ". أخرجه مسلم (2 / 703) من حديث أبي هريرة.
(28) سورة النساء / 29.
(29) سورة البقرة / 188.
(30) القرطبي 2 / 338.
(31) مغني المحتاج 1 / 4، 5، والحطاب 1 / 5.
(32) المنهاج في شعب الإيمان 2 / 545، 555.
(33) سورة البقرة / 152.
(34) سورة سبأ / 15.
(35) الآداب الشرعية 3 / 325.
(36) القوانين الفقهية ص 427 - 428 ط دار الكتاب العربي.
(37) مختصر ابن كثير 1 / 270.
(38) القوانين الفقهية ص427 - 428.
(39) سورة الجمعة / 10.
(40) سورة البقرة / 198.
(41) سورة البقرة / 180.
(42) سورة سبأ / 10.
(43) حديث: " اليد العليا خير من اليد السفلى ". أخرجه البخاري (فتح الباري 3 / 335) ومسلم (2 / 717) من حديث حكيم بن حزام.
(44) حديث: " إنك إن تذر ورثتك. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 7 / 269) ، ومسلم (3 / 1251) من حديث سعد بن أبي وقاص، وانظر المبسوط 30 / 251 - 252، وفتح الباري 11 / 274 - 275.
(45) حديث: " مطل الغنى ظلم ". أخرجه البخاري (فتح الباري 5 / 61) ، ومسلم (3 / 1197) من حديث أبي هريرة.
(46) حديث: " لي الواجد يحل عرضه وعقوبته ". أخرجه أبو داود (4 / 45 - 46) من حديث الشريد بن سويد، وحسنه ابن حجر في الفتح (5 / 62) .
(47) حديث: " أن النبي - ﷺ - باع على معاذ ماله ". أخرجه الحاكم (3 / 273) من حديث كعب بن مالك، وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي.
(48) الاختيار 2 / 89 - 90، والبدائع 7 / 173، والدسوقي 3 / 278 - 279، والمواق بهامش الحطاب 5 / 48، ومغني المحتاج 2 / 157، والمغني 4 / 484 - 485، وكشاف القناع 3 / 418، 420.
(49) حديث: " يا قبيصة إن المسألة لا تحل إلا لأحد ثلاثة. . . ". أخرجه مسلم (2 / 722) .
(50) المغني 2 / 662.
(51) بدائع الصنائع 2 / 49.
(52) حديث: " من سأل وعنده ما يغنيه. . . ". أخرجه أبو داود (2 / 281) من حديث سهل بن الحنظلية.
(53) حديث: " من سأل وله قيمة أوقية فقد ألحف ". أخرجه أبو داود (2 / 279) من حديث أبي سعيد الخدري.
(54) الحطاب 2 / 347، 348.
(55) الحطاب 2 / 348.
(56) نهاية المحتاج 6 / 169، 170.
(57) القليوبي 3 / 204.
(58) الفروع 2 / 594، 595، كشاف القناع 2 / 273.
(59) سورة النساء / 5.
(60) سورة النساء / 6.
(61) البدائع 7 / 169 - 170، والاختيار 2 / 96، وجواهر الإكليل 2 / 98، ومغني المحتاج 2 / 170، والمهذب 1 / 338، ومغني المحتاج 2 / 170، والمهذب 1 / 338، والمغني 4 / 505، 518، وكشاف القناع 3 / 445.
(62) البدائع 2 / 11، 15، 48، والدسوقي 1 / 492، 494، والحطاب 2 / 346 وما بعدها، وحاشية الجمل 4 / 97، ومغني المحتاج 3 / 106، وكشاف القناع 2 / 272، والمغني 2 / 661.
(63) سورة التوبة / 60.
(64) حديث: " لاحظ فيها لغني ولا لقوي مكتسب ". أخرجه أبو داود (2 / 285) من حديث رجلين من الصحابة، ونقل ابن حجر في التلخيص 3 / 108 عن أحمد أنه قال: ما أجوده من حديث.
(65) البدائع 5 / 97 إلى 112، والدسوقي 2 / 450، والمواق 4 / 127، وحاشية العدوي على هامش الخرشي 4 / 116، ومغني المحتاج 3 / 364 - 367، والمهذب 2 / 115 - 116، وكشاف القناع 5 / 377 - 378.
(66) بدائع الصنائع 5 / 97، 2 / 47، والحطاب 2 / 432، والمدونة 2 / 120 - 121، ومغني المحتاج 3 / 365، ونهاية المحتاج 3 / 198 - 199، والمغني 3 / 132، وكشاف القناع 2 / 273.
(67) سورة الطلاق / 7.
(68) سورة الطلاق / 6.
(69) حديث: " خذي من مال. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 9 / 507) ومسلم (3 / 1338) من حديث عائشة، واللفظ لمسلم.
(70) سورة الطلاق / 7.
(71) الهداية 2 / 39 - 40، والاختيار 4 / 4، والبدائع 4 / 24، وجواهر الإكليل 1 / 402، والمهذب 2 / 162، ومغني المحتاج 3 / 426، وشرح منتهى الإرادات 3 / 243 - 244، والمغني 7 / 563 وما بعدها.
(72) الاختيار 4 / 12، والبدائع 4 / 30، وما بعدها، وجواهر الإكليل 1 / 406، والشرح الصغير 1 / 525 - 526 ط الحلبي.
(73) حديث: " إذا كان أحدكم فقيرًا. . . ". أخرجه أبو داود (4 / 266) من حديث جابر بن عبد الله، وأصله في صحيح مسلم (2 / 693) .
(74) حديث: " كفى بالمرء إثمًا أن يحبس عمن يملك قوته ". أخرجه مسلم (2 / 692) من حديث عبد الله بن عمرو.
(75) المهذب 2 / 167، ومغني المحتاج 3 / 448، والمغني 7 / 584، وكشاف القناع 5 / 481، وشرح منتهى الإرادات 3 / 255.
(76) منح الجليل 4 / 427، وجواهر الإكليل 2 / 271، وحاشية الجمل 5 / 95، ومغني المحتاج 4 / 99، وشرح منتهى الإرادات 3 / 328.
(77) الاختيار 4 / 175 والبدائع 6 / 188، وابن عابدين 5 / 215، 283، 284، والدسوقي 2 / 174، وحاشية الجمل 5 / 183، ومغني المحتاج 4 / 212، 308، 309، و3 / 120، وكشاف القناع 6 / 198، 200.
(78) حديث: " ما آمن بي من بات شبعان. . . ". أورده المنذري في الترغيب (3 / 334) وقال: رواه الطبراني والبزار، وإسناده حسن.
(79) ابن عابدين 5 / 215، 283، والاختيار 4 / 175، والدسوقي 2 / 112، 174، ومغني المحتاج 4 / 212، 308 - 309، والمغني 8 / 602 - 603، وكشاف القناع 6 / 198 - 200.
(80) حديث: " أن رجلاً أتى النبي - ﷺ - فقال: عندي دينار. . . ". أخرجه الشافعي في المسند (2 / 64 - ترتيبه) والحاكم (1 / 415) وصححه، ووافقه الذهبي، واللفظ للشافعي.
(81) حديث: " كفى بالمرء إثمًا أن يحبس عمن يملك قوته ". تقدم ف 17.
(82) حاشية ابن عابدين 2 / 67، 71، وبدائع الصنائع 2 / 47، و6 / 133، 221، والحطاب 2 / 347، والفواكه الدواني 2 / 216، 223، والمهذب 1 / 182، ومغني المحتاج 3 / 120، 122، وكشاف القناع 2 / 295، 298، والكافي 1 / 342، والمغني 2 / 659.
(83) حديث: " من كان له سعة ولم يضح. . . ". أخرجه ابن ماجه (2 / 1044) والحاكم (4 / 232) من حديث أبي هريرة، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.
(84) البدائع 5 / 64، وجواهر الإكليل 1 / 219، وأسهل المدارك 2 / 41، ومغني المحتاج 4 / 283، والمغني 8 / 617، وكشاف القناع 3 / 21.
(85) البدائع 7 / 330 - 331، والمهذب 1 / 456 والمغني 6 / 2، 3.
(86) سورة البقرة / 180.
(87) حديث: " إنك إن تذر ورثتك أغنياء. . ". تقدم ف9.
(88) المغني 6 / 3.
(89) حديث: " الحسب: المال ". أخرجه الترمذي (5 / 390) من حديث سمرة بن جندب، وقال: حديث حسن صحيح.
(90) حديث: " إن أحساب أهل الدنيا. . . ". أخرجه النسائي (6 / 64) والحاكم (2 / 163) من حديث بريدة، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.
(91) حديث فاطمة بنت قيس: " أما معاوية فصعلوك. . . ". أخرجه مسلم (2 / 1114) .
(92) البدائع 2 / 319، ومنح الجليل 2 / 46، والقوانين الفقهية 202، ومغني المحتاج 3 / 167، والمهذب 2 / 40، وشرح منتهى الإرادات 3 / 27، والمغني 6 / 484.
(93) منح الجليل 2 / 46، ومغني المحتاج 3 / 167، والمغني 6 / 485.
(94) البدائع 2 / 319، والقوانين الفقهية / 202، والمهذب 2 / 40، ومغني المحتاج 3 / 167، والمغني 6 / 484.
الموسوعة الفقهية الكويتية: 278/ 31
رمضانُ شهرُ الانتصاراتِ الإسلاميةِ العظيمةِ، والفتوحاتِ الخالدةِ في قديمِ التاريخِ وحديثِهِ.
ومنْ أعظمِ تلكَ الفتوحاتِ: فتحُ مكةَ، وكان في العشرينَ من شهرِ رمضانَ في العامِ الثامنِ منَ الهجرةِ المُشَرّفةِ.
فِي هذهِ الغزوةِ دخلَ رسولُ اللهِ صلّى اللهُ عليهِ وسلمَ مكةَ في جيشٍ قِوامُه عشرةُ آلافِ مقاتلٍ، على إثْرِ نقضِ قريشٍ للعهدِ الذي أُبرمَ بينها وبينَهُ في صُلحِ الحُدَيْبِيَةِ، وبعدَ دخولِهِ مكةَ أخذَ صلىَ اللهُ عليهِ وسلمَ يطوفُ بالكعبةِ المُشرفةِ، ويَطعنُ الأصنامَ التي كانتْ حولَها بقَوسٍ في يدِهِ، وهوَ يُرددُ: «جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا» (81)الإسراء، وأمرَ بتلكَ الأصنامِ فكُسِرَتْ، ولما رأى الرسولُ صناديدَ قريشٍ وقدْ طأطأوا رؤوسَهمْ ذُلاً وانكساراً سألهُم " ما تظنونَ أني فاعلٌ بكُم؟" قالوا: "خيراً، أخٌ كريمٌ وابنُ أخٍ كريمٍ"، فأعلنَ جوهرَ الرسالةِ المحمديةِ، رسالةِ الرأفةِ والرحمةِ، والعفوِ عندَ المَقدُرَةِ، بقولِه:" اليومَ أقولُ لكمْ ما قالَ أخِي يوسفُ من قبلُ: "لا تثريبَ عليكمْ اليومَ يغفرُ اللهُ لكمْ، وهو أرحمُ الراحمينْ، اذهبوا فأنتمُ الطُلَقَاءُ".